بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أتقدّم بالشكر أولاً لمعهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية ومركز الحضارة للدراسات الإيرانية على هذا الاهتمام بأمر المستقبل الحضاري ونهوض الأمة، فهو الاهتمام الذي يغلب على كل إنسان يتحرر من ذاتيته وأنانيته ويعيش مثلاً أعلى يسمو على مصالحه الشخصية.
والشكر موصول لحجة الإسلام والمسلمين فضيلة الشيخ الميرزائي المستشار الثقافي الايراني في بيروت الذي تفخر به إيران وجهاً حضارياً وفكراً نيّراً ونشاطاً دؤوباً من أجل عودة الحياة والوحدة إلى دائرتنا الحضارية.
وأعرب عن شديد أسفي لعدم استطاعتي المشاركة لأسباب خارجة عن إرادتي.
عنوان الموضوع الذي خصّص لي هو: «معوقات النهوض وأسباب التخلف في فكر الإمام الصدر» وهو عنوان يندرج ضمن تفاصيل العنوانين الآخرين المعيّنين لهذه الجلسة وربّما يكون الباحثان الكريمان قد استوفيا الحديث فيه، لذلك سوف أقتصر على بُعد واحد فقط من عنوان المعوقات وهو غياب الشعور بالكرامة باعتباره أكبر عائق على طريق النهوض الحضاري.

الكرامة والحياة
الإسلام بتعريف موجز هو «الحياة»: «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم» (الانفال/ 24).
وهذه الحياة الإنسانية هي غير حياة سائر الأحياء، لأن الإنسان كائن متطوّر بارادة، وهذه الإرادة هي التي تؤهّله لاستخلاف الله في الأرض، وهي التي تجعل الحياة البشرية متنوعة وتجعل الشعوب والقبائل «متعارفة».
وهذه الإرادة هي تجلٍ لنفخة رب العالمين في هذا الموجود البشري: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي( (الحجر/29)، وهذه النفخة هي تعبير عن تكريم هذا الإنسان، فهو الموجود الوحيد المكرم إلى هذا المستوى بين موجودات الكون.
ولأسباب مختلفة يفقد الإنسان كرامته، عندئذ يتحمل دعاة الإحياء مسؤولية استعادة هذه الكرامة، إذ بدونها يفقد الكائن البشري كل مقومات إنسانيته، ويصبح طوع يد أهوائه وشهواته وأوهامه في الداخل، ومَطية طواغيت الأرض والمتفرعنين في الخارج، وبعبارة موجزة يفقد «الحياة» الإنسانية.

الكرامة والحضارة
الحديث عن الإنسان المتحضّر هو نفسه الحديث عن الإنسان الذي كرّمه الله سبحانه: (ولقدْ كرَّمنا بني آدم( (الاسراء: 70) وذكرنا أن الإنسان مُكرّم بنفخة ربّ العالمين، وهنا أودّ أن أقف عند ارتباط الكرامة بالمسيرة الحضارية للبشرية من خلال النظرية التيموسية التي قدمها فرنسيس فو كوياما في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير».
و«التيموس» (Thymos) يعني نزعة الإنسان الفطرية إلى الاعتراف بكرامته. وهو اصطلاح أفلاطوني، إذ ذكر في «الجمهورية» أن الإنسان بالاضافة إلى رغباته وعقله يمتلك التيموس أو روح الحياة.
واتخذه هيغل أساساً لتفسير حركة التاريخ ورأى أنه محرّك السيرورة التاريخية بكاملها.
فوكوياما طبعاً وظّف هذا المفهوم للانتصار إلى العولمة الأمريكية واعتبار الليبرالية الديمقراطية التي تبشر بها أمريكا هي المشروع الوحيد الذي يحقّق طموح البشرية للكرامة(1).
ولو أعرضنا عن هذا التوظيف الايدلوجي، لوجدنا في النظرية أبعاداً مهمّة، فهي أولاّ تفسّر حركة التاريخ على أساس إرادة إنسانية، ثم تضع الكرامة هدفاً أسمى للانسان يضحي من أجلها بكل شيء حتى بحياته.
والواقع أن الكرامة مقصد إسلامي كبير تتجه إلى تحقيقه كل أصول الدين وفروعه. وهذا المقصد مغيّب إلى حد كبير في حياتنا التي يسودها الركود الحضاري. ولعلّ مظاهر التكفير وتراشق التهم وأعمال العنف وسفك الدماء بين المسلمين هو في معظمه من إفرازات تغييب هذا الأصل.
والتأكيد على كرامة الإنسان تستفيض به النصوص الإسلامية، ابتداءاً من تكريم الجنين إلى الطفل ومروراً بعدم جواز انتهاك حرمة الإنسان في حضوره وغيبته إلى تكريم جسد الميت وعدم جواز المثلة حتى بالكلب العقور.
ولا نبالغ إذا قلنا إن الهدف الأول من الدين هو صيانة كرامة الإنسان، ثم إن التاريخ يشهد أن كرامة الإنسان لا تتحقق إلا في ظل الدين الذي يكشف للإنسان حقيقته ويبعده عن السقوط في الذلّ والهوان.
ولارتباط الكرامة بالحضارة، فثمة ارتباط وثيق بين الحضارة والدين. من هنا نفهم ماذهب إليه مالك بن نبي حيث يقول: «فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم الا في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجاً، أو هي – على الاقل – تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام، فكأنما قُدّر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ماوراء حياته الأرضية أو بعيداً عن حقبته، إذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة، يكتشف معها أسمى معاني الاشياء التي تهيمن عليها عبقريته وتتفاعل معها»(2).

كرامة الإنسان في وعي الامام موسى الصدر
قضية الكرامة حاضرة بقوّة في مشروع الامام موسى الصدر على الصعيد النظري وعلى الصعيد العملي.
على الصعيد النظري، أي على صعيد ما قدمه من فكر في هذا المجال يقول: (3).
«كرامة الإنسان تشكل زاوية مهمة في رأي الإسلام ونظرته إلى الإنسان..
«الخطوة الاولى في طريق تربية الإنسان ورفع مستواه في جميع حقول التكامل هي في جعله يشعر بكرامته، ويهتم بشؤون نفسه ، والاّ فسوف لا يولي لنفسه أي اهتمام ولا يبذل لاصلاح وضعه أي نشاط، مهملاً حاضره ومستقبله وحتى ماضيه»....
«نحن لا ننكر أن حبّ الإنسان لنفسه غريزة ثابتة فيه تفرض عليه الدفاع عنها والسعي لجلب الخير لها، ولكن نقول إن هذه الغريزة تبقى نشيطة حسب مستوى الوعي البشري، فتعمل للخير الذي تجده متناسباً معها، وتصدّ ما تعتبره منافياّ لها. فحب النفس هو القوة الدافعة للانسان، ولكن الشعور بالكرامة فقط يحدّد مقام الإنسان، ويرسم الخطوط العريضة لسيره وتعيين أهدافه السامية، ويميّز الخصوم وطريقة الدفاع».
«ولا ننكر أيضاً إمكانَ رفع مستوى الحياة الانسانية بطريقة الضغط وبفرض السعي والعمل، ولكننا نعتقد أنّ هذه الطريقة ليست هي المفضلة لتكامل الإنسان، بل فيها من النتائج السلبية والعقد النفسية والنقص في النتائج وبقاء المسؤوليات على عائق الأفراد دون الجماعات ما يفرض الإعراض عن هذا الأسلوب»...
ثم يذكر سماحته معالم هذا التكريم بالتفصيل ونلخصها في النقاط التالية:
1ـ الإنسان خليفة الله في الأرض
2- حرية التصرف والإرادة
3- الإنسان صنع على يد الله وفيه روح الله
4- دعوة الإنسان إلى المعرفة
5- الكون مسخر للإنسان
6- قرب الله من الإنسان
7- تأهل الإنسان لحمل الأمانة
8- النبوة مقام خصص بالعنصر البشري

ويفصّل سماحته الحديث في التعاليم التي تحافظ على الكرامة، وهي باختصار:
1ـ الالتزام بدين الفطرة
2- حفظ النفس والآخرين
3- التحرر الجوهري
4- صيانة قدسية الكلمة
5- السعادة والعمل
6- الرأي والعقيدة
ومن الأبعاد النظرية التي تابعها الإمام موسى الصدر في إطار تكريس فكرة الكرامة:
ـ حديثه عن ارتباط حياة المجتمع بالمقاومة(4).
ـ أحاديثه عن القضية الفلسطينية(5).
ـ أحاديثه عن ارتباط الدين بحركات التحرر(6).
ـ أحاديثه بشأن استجلاء صور الروح الثورية في التاريخ الإسلامي(7).

كرامة الإنسان في مشروعه العملي
الإمام موسى الصدر لم يكن رجل تأليف وكتابة، بل كان رجل فكر وعمل، يتعمق بذكاء ووعي وإدراك لمهمة الدين، ويعمل لتحقيق المشروع الإسلامي على أرض الواقع.
كان ينظر في وعيه كما ذكرنا أن الأساس في كل عمل هو صناعة الإنسان الذي يستشعر كرامته، وكل أعماله كانت في هذا الاتجاه.
لقد واجه بالدرجة الاولى مجموعة بشرية «محرومة» من كل مقومات الحياة الكريمة. فجنّد نفسه لتكون هذه المجموعة كريمة عزيزة، وراح يقاوم عوامل الإذلال التي أحاطت بهذه المجموعة.
وكان مشروعه يتضمن توفير كل مستلزمات الكرامة. من توفير حياة اقتصادية كريمة، إلى إعداد ثقافي وعلمي لها، إلى بناء وجود سياسي معترف به في الساحة اللبنانية، وبالتالي إلى تعبئتها في «حركة المحرومين» لكي تمارس دورها في المقاومة والصمود والتصدي.
ولما كان المشروع يقوم على محور «كرامة الإنسان» فقد ابتعد عملياً عن الطائفية والمذهبية والتقوقع والانعزال ورفض الآخر. وانفتح على الرأي الآخر وأزال كل الحواجز النفسية التي كانت قد تركزت عبر الانقسامات الطائفية والدينية والفئوية، وجعل من التعددية وسيلة «تعارف» لاصراع.
وهذا ما نحتاجه اليوم بامتياز في ظروفنا الراهنة. من هنا يأتي الحديث عن مشروع الامام موسى الصدر ليرسم لنا منهجنا في واقعنا وفي مستقبلنا وليس حديثا عن تجربة مضت وانقضت. وبالله التوفيق.

محمد علي آذرشب

1 - نهاية التاريخ والانسان الأخير، ترجمة فؤاد شاهين وآخرون، مركز الانماء العربي، بيروت 1993.
2 - شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبدالصبور شاهين، دار الفكر، ط 4، بيروت 1407هـ ، ص 56.
3 - محاضرة «الإسلام وكرامة الإنسان» محاضرة ألقاها في 8/2/1976، مركز الامام موسى الصدر للابحاث، كانون الثاني/ 2000.
4 - حوارات صحفية/ تأسيساً لمجتمع مقاوم، مقابلات صحفية اجريت معه من 61-75، مركز الامام موسى الصدر للابحاث ايلول/ 2000.
5 - محاضرة القضية الفلسطينية وأطماع اسرائيل في لبنان، 10 آب 1970، مركز الامام موسى الصدر للابحاث، كانون الثاني/ 2000.
6 - محاضرة الدين وحركات التحرر في العالم العربي، 13/2/1975 مركز الامام موسى الصدر للابحاث، كانون الثاني/ 2000.
7 - انظر محاضراته العديدة في أيام محرّم، وفي ذكرى استشهاد الحسين بن علي وفيها يحول عاشوراء من مناسبة يغلب عليها البكائيات إلى مناسبة يغلب عليها روح استنهاض العزّة والكرامة والمقاومة.