banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

الاسلام وايران / الاتجاه الحضاري
ثقافتنا - العدد 8
فكر إسلامي
الدکتور محسن الويري
1426

«ملخًص»
المتخصصون في تاريخ الحضارات ذكروا لظهور الحضارات عوامل عديدة. ورغم أن المعتقدات الدينية وآثارها الفاعلة في تكون الحضارة حظيت باهتمام هؤلاء المنظرين نسبيا"، إلا أن عنصر الدين كأساس الحضارة لم يجد مكانته الجديرة به في تلك النظريات. من جهة أخری فإن علماء الدين ومفكري علم الاديان وكذلك علماء علم الاجتماع الديني قد ذهبوا مذاهب مختلفة في دور الدين ورسالته في المجتمع. فلو سلمنا بأنّ رسالة الدين الاساسية في هداية البشر تشمل بناء الحضارة أيضا"، عندئذ نستطيع أن نتكلم عن قدرات الدين والتعاليم الدينية في بناء الحضارة وطريقة تكونها. التعاليم الدينية في مجال بناء الحضارة مهما بلغت من قدرتها، فإنها بمثابة بذرة لايمكن أن تبصر النور إلا إذا زُرعت في بيئة مناسبة. إن دراسة أوضاع إيران والايرانيين قبل الاسلام وبعده، تهدينا الى فهم عام عن التعامل الموجود بين الاسلام وإيران في مجال بناء الحضارة أومن منظور حضاري.
تشير الدراسات التاريخية الى أن إحدى بقاع المعمورة التي استطاع الاسلام أن يبث فيها تعاليمه الحضارية هي أرض إيران. وبنظرة خاطفة يمكننا القول أن أفضل خدمة قدمتها إيران للاسلام هي إعداد الارضية المناسبة لظهور الجانب الحضاري للاسلام وأن ما قدمه الاسلام من خدمات لايران هوتوجيه قدراتها الحضارية وقابلياتها الى المشاركة في بناء حضارة جديدة تفوق كل الحضارات.
يعدّ موضوع الحضارة والعناصر البناءة فيها والعوامل المؤثرة في نشوئها وتطورها وزوالها من أهم المواضيع التي أولى المنظرون المعاصرون اهتمامهم بها. مع أن الدراسات الحضارية اتسعت بشكل واسع، غير أنه لم‌ يتبلور علم الحضارة أو الدراسات الحضارية في جامعات البلدان الاسلامية.
فالدراسات الحضارية تتم حالياً في أجواء علم التاريخ، والباحثون الحضاريون هم الباحثون التاريخيون الذين يتناولون الحضارة باعتبارها فرعاً لعلم التاريخ. والنتيجة المتمخضة عن ذلك هي أن معظم الآثار المتعلقة بالحضارة ترتبط بتاريخ الحضارة. وفي الحقول الاخرى من العلوم تجري أيضاً بعض الدراسات حول الحضارة، وأهم هذه الحقول هي التي ترتبط بالثقافة والتنمية. الثقافة، باعتبارها الجانب المعنوي والروحي للحضارة، من شأنها أن تهيّء المجال لدخول موضوع الحضارة. والتنمية أيضاً باعتبارها خطوة أولی لإبداع الحضارة تدفع الباحثين نحودراسة الحضارة. وفي هذا الاطار المصادر المختصة بموضوع خصائص المجتمع المتکامل والمتنامي لها علاقة بشکل مباشر أوغير مباشر بموضوع الحضارة.
وفي نظرة عامة يمکن تقسيم الدراسات الحضارية الموجودة في حقل علم التاريخ الى فرعين عامين وهما:
1. الدراسات المهتمة بالتقارير حول الحضارات وإنجازاتها وهي تشبه الرواية التاريخية، وتنهج في مرحلة البحث منهج التاريخ الروائي وأسلوب وسياق التاريخ الروائي. وتعتبر الرؤية نحو الحضارة في هذا المنحى رؤية داخلية. هذا النمط من الدراسات لا يخلومن التحليل والدراسة النقدية، لکنه لايبلغ مرحلة التنظير حول مجمل الحضارة. ولعلنا نستطيع أن نقدم دراسات ويل دورانت باعتبارها نموذجاً لمثل هذه الدراسات.
2. الدراسات التي تجري في منحى التنظير حول الحضارة، والتي تشبه بما يطلق عليها اسم التاريخ العقلي، وترتبط بحوثها بدراسات فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع التاريخي. ويمکننا أن نعتبر آثار توين‌بي ويوکيتشي واشبنغلر واتکينسون وحتى هنتيغتون ـ إن اعتبرناه مفکراً ـ في هذه المجموعة من الدراسات الحضارية. ففي هذه الاتجاه تکون الرؤية للحضارة رؤية خارجية. ونظراً للطبيعة الفلسفية لهذه الرؤية يوجد في آثار الفلاسفة ـ مثل آثار هيغل ومارکس ـ ما يشير الى هذا الموضوع بشکل إجمالي أو تفصيلي.
وبالنسبة الى الحضارة الاسلامية أيضاً يمکن التمييز بين هذين النوعين من الدراسات. فهناك مفکرون من المستشرقين مثل آدام متز، هميلتون غيب، وغوستاف ولوبون، وفيليپ حتي، وآندريه ميکل، وجرجي زيدان وغوستاف غرونبام ومن المسلمين علي الخربوطلي وغيره ممن اهتموا في جمع المعلومات عن الحضارة الاسلامية ورواية الجانب التاريخي منها أکثر من اهتمامهم بتنظير الحضارة الاسلامية. ولکن لايمکن إنکار هذا المعنی وهو أن أي تقرير لايخلو من نظريات ومبادئ وأسس نظرية، غير أن بعض المؤرخين اهتموا بتبيين ودراسة هذه الاسس وبعضهم لم يفعل ذلك، بل اتجه مباشرة الى النتائج المتمخضة عن تلك الأسس. ومن الطبيعي أن آثار مؤرخي الحضارة الاسلامية لاتخلو من الأسس النظرية غير المصرح بها، ويمکن اکتشاف هذه الأسس وافتراضاتهم الانثروبولوجية والتاريخية والحضارية من تحليل آثارهم. وفي جانب آخر، هناك بعض الکتاب والمفکرين الذين أولوا اهتمامهم بالمباحث النظرية أکثر مما اهتموا بالرواية‌ التاريخية، من أمثال ابن‌خلدون ، ومالك بن نبي ، والخفاجي ، وسيد قطب ، والامام الخميني ، والعلامة إقبال اللاهوري ، وأنور الجندي وحسين مؤنس . إن هؤلاء المفکرين اهتموا ـ في بعض آثارهم علي الأقل ـ بالأسس والجوانب النظرية للحضارة الإسلامية، وقضاياها العامة، وقضايا تعاملها مع باقي الحضارات، وعوامل صعودها وأفولها، وطرق إعادة حياتها، أکثر من تقديمهم تقارير عن الجوانب المختلفة للحضارة الاسلامية. ومن الطبيعي أن لايکون وجهات نظر هؤلاء من ناحية‌ الإتقان والعمق في مستوى واحد، إذ إن البعض منهم له وجهة نظر جامعة وشاملة حول الموضوع، والبعض الآخر منهم اقتصرت رؤاهم على جانب واحد من الموضوع أوعدد من الجوانب. وهناك من المفکرين ممن جمعوا بين الطريقة التحليلية وطريقة إعداد التقارير، وقدموا آثاراً ذات أهمية في هذين الجانبين.
فإذا ما دارسنا آثار المستشرقين ذوي الرؤية التاريخية للحضارة الاسلامية نجد أن موضوع الدين والمعتقدات الدينية يشكل جانباً لايمکن إنکاره في هذه الحضارة، وذلك يعني أن المؤرخ للحضارة الاسلامية لاسبيل أمامه غير تخصيصه جانباً ملحوظاً من تقاريره التاريخية بالمظاهر السلوکية والفکرية والمؤسسية والرمزية للاسلام. کمثال على ذلك، خصصت معظم کتب تاريخ الحضارة الاسلامية العديد من فصولها بالعلوم الإسلامية والمساجد والآداب والمراسم العبادية الاسلامية کالحج، لکن الأمر يختلف في المصادر المهتمة بالتنظير حول الحضارة الإسلامية، فهي تخلو من رؤية واضحة عن دور الدين والتعاليم الدينية الاسلامية في خلق الحضارة الاسلامية. النظريات العامة للحضارة اهتمت طبعاً بالعنصر الديني، إذ يری أفراد من أمثال توين‌بي أن للدين دوراً محورياً في بناء الحضارة. ولكن هذا الجانب ضعيف في الدراسات المتعلقة بالحضارة الإسلامية. ففي معظم ما کتب عن هذه الحضارة لا نرى اهتماماً بدورها وبعبارة أخرى هذه النظريات لم‌ تبتنِ علی وعي صحيح عن الدين، وقد أدى ذلك الى حصول نوع من الرؤية السطحية في فهم الحضارة الإسلامية. وقد تدنّى فهم الحضارة الاسلامية ومکاسبها الى مستوی عدد من الاعمدة والمباني التاريخية القديمة. وانعكست هذه الطريقة في آثار الکتّاب المسلمين المعاصرين أيضاً، لكننا من جانب آخر نرى توجهاً جديداً في هذا المجال يمكن أن نسميه إعادة النظر في الفکر الديني، فقد أصبح موضوع دور الدين وقدراته في حياة الانسان ومجالات فاعلية الدين في الحياة أحد البحوث التي تهتم بها دراسات فلسفة الدين والکلام الجديد وعلم الاجتماع الديني. وقدطرح هذا التساؤل الأساسي عن مدی الدور الذي يلعبه الدين في حياة البشر، وما هي حدود نفوذه، وتخلتف رؤى المنظرين في هذا الجانب. وطبقاً لرؤية أولئك الذين يقللون من دور الدين فلا يمکن مبدئياً الحديث عن دور الدين في بناء الحضارة، لأنهم يرون أن الدين عامة والدين الاسلامي لا يحدد مسؤوليات دنيوية، بل يتولی الدين مهمة تعيين الاعمال العبادية للانسان وضمان آخرته لا غير. ويرى هؤلاء أن الحضارة ظاهرة ونتاج بشري، ولاتوضع في إطار الدراسات الدينية. ومن جانب آخر يعتقد البعض ممن يتوسعون في دور الدين، ضرورة منح مساحة واسعة لحضور الدين وتدخله في شؤون الانسان حتى في مجال النظريات الطبيعية. ويستندون الی الآية الشريفة: ولا رطب ولا يابس إلا في کتاب مبين فيرون أن الحضارة کأية ظاهرة أخری تنضوي تحت وظايف الدين ودوره الاجتماعي، فيبحثون عن قواعد بناء الحضارة في التعاليم الدينية.
في رأيي أن هاتين الرؤيتين تقعان على جانبي الإفراط والتفريط، وعلينا أن ننتهج منهجاً آخر. وهنا لابد من الاشارة الى ثلاث نقاط:
• الاولی هي أنه لايمکن إنکار دور الدين في بناء الحضارة ، حتی إذا فرضنا أن الهداية هي الرسالة الحقيقية والوحيدة للدين. فبإمکاننا أن نتکلم عن الدور البنّاء للدين في مجال الحضارة.
• الثانية هي أن رسالة الدين هي بناء الفرد والمجتمع وتشمل التعاليم الدينية کلا المجالين . وقدم الدين الاسلامي نموذجاً سامياً للفرد ونموذجاً للمجتمع، يجب على المسلمين أن يجعلوهما نصب أعينهم ويحاولوا أن يدنوا منهما. المثل القدوة في مجال الفرد هوالنبي (ص) الذي يعتبر الانسان الکامل، وعلى جميع المسلمين أن يتأسوا به ويأخذوا ما آتاهم وينتهوا عما نهاهم عنه. وبالنسبة إلى المثل القدوة في مجال المجتمع يمکن أن نشير الى المجتمع الذي شيد قواعده النبي (ص) في المدينة المنورة من السنة الاولى للهجرة إلى بداية السنة الحادية عشرة. ولکن في هذا المجال لايسعنا أن نغض الطرف عن مثل نموذجي آخر سيتحقق على يد مصلح من ذرية النبي(ص) في إطار فكرة المهدي المنتظر، ونشير هنا إلى نصين من القرآن يبشران بالمستقبل الموعود للبشرية:
ـ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ .
ـ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ .
ما ورد في المصادر الاسلامية لبيان خصائص المجتمع الموعود، يمکننا أن نعتبر المجتمع الموعود مجمتعاً متحضراً. فبناءً على ذلك يمکننا القول بأن الدين قد رسم مشهداً حضارياً لعرض المجتمع المطلوب للانسان.
الثالثة هي أنه يمکن القول بأن مجموعة التعاليم الاسلامية حول النظام الاجتماعي وبناء المجتمع تنطوي على طبيعة حضارية، يؤدي الالتزام بها الى إقامة الحضارة. والتجربة التاريخية للمسلمين تؤيد أنه عندما قاد الاسلام الساحة الاجتماعية اتجه المجتمع الاسلامي بالضرورة نحو التحضر، وتبلورت الحضارة الاسلامية في القرون الاسلامية الاولى على أساس هذا الفهم العام للمسلمين للقواعد والانظمة الإسلامية. ويعني ذلك أنه عندما عمل المسلمون بشکل نسبي طبقاً للتوجيهات الدينية في نمط معيشهم وإدارة مجتمعهم فإنهم حظوا بعد فترة بشکل طبيعي بحضارة کبرى.
يمکن اعتبار النقطة الثانية دليلاً عقلياً والنقطة الثالثة دليلاً تاريخياً لإثبات دور الدين الاسلامي في إقامة حضارة، وبناء على ذلك لايمکن تجاهل الدلالات الحضارية للتعاليم الدينية ودور الدين في بناء الحضارة، خاصة وأن الدين قد أثبت عملياً مقدرته على إرساء الحضارة، وقد حمل المسلمون في مقاطع من التاريخ لواء أکبر الحضارات البشرية في العالم.
واليوم يمكن القول بأن التعاليم الدينية المؤسسة للحضارة إذا ما طُبقت في مجالها الاجتماعي والثفافي الملائم، من شأنها أن توجد حضارة. وإذا لم‌تتوفر لديها مثل هذا المجال فإنها لن تتجاوز إطار الکلام والبحث. بتعبير آخر التعاليم الدينية في المجال الحضاري تشبه تلك البذرة المناسبة والمرغوبة، لکن البذرة لاتنمو في کل أرض وفي کل بيئة جغرافية وجوية، بل يستلزم ذلك توفر الظروف المناسبة من التربة والاسمدة والضوء والماء. فالبذرة مهما کانت مرغوبة وجيدة فإنها لن‌تثمر في حالة زرعها في أجواء وبيئة غير مناسبة لها.
وقدتبلورت بذور الحضارة الاسلامية في عهد الرسول الکريم (ص) على أساس من الآيات القرآنية الکريمة والسنة النبوية. إن آيات الوحي ونصوص السنة النبوية بالتعاليم الحضارية؛ لکن هذه التعاليم أخذت طابعاً عملياًً عندما توجه المسلمون في مناطق وأمصار أبعد من حدود الحجاز، ودخلوا أراضي جديدة. يبدو أن أهم ما حدث للمجتمع الاسلامي بعد رحلة الرسول الکريم (ص) هو الفتوحات الاسلامية. فقد أوجدت الفتوحات تحولاً جاداً في المجتمع. وبالرغم من الدراسات والبحوث الکثيرة نسبياً التي أُنجزت حول الفتوحات الاسلامية قلّما نجد تحليلاً جامعاً وشاملاً عن هذا الجانب، ومايزال المجال مفتوحاً أمام إجراء المزيد من هذه الدراسات. فالفتوحات الاسلامية عرّفت العرب المسلمين على عالم جديد کان له تراث حضاري بارز في العلوم والعمارة والنظام الاجتماعي من جانب، ومن جانب آخر جعلت الفتوحات حملة الدين والفکر الاسلامي يواجهون أسئلة وأفکاراً جديدة تتطلب أجوبة دينية. وقد لعب هذان الموضوعان دوراً حاسماً في ظهور العلوم وبلورة نظام ثقافي وسياسي واجتماعي جديد في البلدان الإسلامية، ومن ثم أدی الى الحضارة الإسلامية. وکانت إيران إحدی هذه البلدان التي تم فتحها بشکل کامل في فترة أقل من عشر سنوات تقريباً. صحيح أن إيران کانت قبل الفتح الاسلامي على حافة الانهيار الاجتماعي وفي منحدر السقوط، ولکن ليس هناك من لايعتقد بأن إيران کانت قبل ذلك تتمتع بحضارة مزدهرة. وکانت إيران قد حققت تقدماً في حقول الآداب والعلوم وفن العمارة والاجهزة الحکومية. يعني ذلك أن المسلمين الفاتحين لم‌ يأتوا الى بلد بعيد عن العلم والثقافة والحضارة، بل إنهم جاؤوا الى بلد يعترف الجميع بحضارته ورقيه .
بعد دخول العرب المسلمين واصل الايرانيون تحرکهم الحضاري. واستغرقت عودة الاستقرار السياسي الى إيران بعد الفتوحات وتعرُّفُ الايرانيون على التعاليم الاسلامية وتعلمهم للغة الجديدة مايناهز قرناً ونصف القرن من الزمن، و بعد اجتياز هذه المرحلة استخدم الايرانيون ثانية کفاءاتهم فساروا في مسار جديد للمساهمة في بناء حضارة جديدة. وأوضح دليل على ما نذهب اليه هو الانتماء الايراني لمعظم کبار العلماء في مختلف الفروع العلمية؛ من أمثال ابن‌سينا والفارابي وأبوريحان البيروني وعمر الخيام وسيبويه و الطبري وأبو معشر البلخي والامام البخاري والامام مسلم النيشابوري والامام النسائي والکثير من غيرهم. من جانب آخر لايمکن اعتبار ظهور هؤلاء العلماء نتيجة الاجواء الايرانية فحسب، لأن الخصوصية الأساسية للآثار العلمية لهؤلاء الفطاحل کانت تتمثل في هويتهم الاسلامية.
ولو أمعنا النظر في الوضع الذي کانت تعيشه إيران قبل الانتماء الاسلامي وبعده وننظر الى المجتمع الاسلامي قبل انتماء الايرانيين الى الاسلام نستطيع القول بأن المجتمع الاسلامي الايراني استطاع التحرك نحو مستقبل حضاري، وهذا لايعني الذهاب إلى أن الحضارة الاسلامية هي إيرانية، بل يعني أن الحضارة الاسلامية کانت حضارة لجميع المسلمين ولاتختص بقوم وعنصر خاص کالعرب أوالفرس.
يجدر بنا أن نشير الى أن المستشرقين، محاولةً منهم لالغاء الطابع الالهي للاسلام والحضارة الإسلامية، وإظهار تلك الحضارة الاسلامية بالطابع البشري أضفوا على تلك الحضارة طابعاً قومياً ، ونلاحظ في هذا المنحى الدوافع السياسية والاستعمارية لايجاد التفرقة بين أبناء الامة الاسلامية الواحدة. وبات موضوع الطابع القومي أو الطابع الاسلامي للحضارة الاسلامية يشکل مدار بحث في الکتب المعنية بالحضارة الاسلامية . ولعل بعض الکتّاب قد جمع بين العنوانين حيث سمَّى کتابه باسم الحضارة العربية الإسلامية، أو مدخل الى تاريخ الحضارة العربية الاسلامية، أو الحضارة العربية الاسلامية لا شك أن عدم اعتبار الحضارة الاسلامية حضارة عربية بالمعنى القومي، لايعني إنکار أهمية اللغة العربية ودورها في بلورة الحضارة الاسلامية، إذ بات من الواضح بأن اللغة العربية ليست لغة القرآن فقط بل وإنها اللغة المشترکة لجميع المسلمين، واللغة العلمية للحضارة الإسلامية، حيث لايمکن معرفة التراث الاسلامي إلا عن طريق هذه اللغة.
تشيردراسة التعامل بين الاسلام وإيران في القرون الاسلامية الاولى بشکل جلي إلى مقدرة الاسلام على جعل شعب حضاري في مسار إلهي جديد واستخدام كفاءات هذا الشعب في خدمة تعاليمه الرفيعة. کما استطاعت بلاد فارس توفير الاجواء المناسبة لبناء الانسان الاسلامي والمجمتع الاسلامي أي إنّ إيران إحدی البلدان التي استطاعت إثبات مقدرة الدين الاسلامي علي صنع الحضارة.
الشيهد مرتضى المطهري، وهو أحد المفکرين المعاصرين الکبار دوّن کتاباً اسمه الخدمات المتقابلة بين الاسلام وإيران وشرح فيه مجالات تأثير الاسلام على الثقافة والحضارة الايرانية، وأسمی هذا: خدمة الاسلام الى إيران، ومن جانب آخر أشار الى محاولات العلماء الايرانيين لنشر الاسلام واتساع العلوم المختلفة الاسلامية وسماه خدمة الايرانيين الى الاسلام. وإذا انتهجنا منهجه واستخدمنا مفردة الخدمة بدل التعامل، يجب أن نقول إن أعلی خدمة قدمتها إيران والايرانيون للاسلام، هي تمهيد أرضية بلورة مقدرة الدين لبناء الحضارة، ومن جملة الخدمات التي قدمها الاسلام لإيران والايرانيين هي تعيين الجهة الجديدة الإلهية لها ولهم. من الطبيعي أن هذا لايعني مساواة هاتين الخدمتين قدراً ومنزلةً وشرفاً؛ إن الايرانيين منذ انتمائهم الى الاسلام حتى الآن، لم‌ يجعلوا الاسلام مجموعة من المناسك والعبادات فقط، بل جعلوه قاعدةً وأساساً لکافة حرکاتهم السياسية والاجتماعية والثقافية، کما وأن أبناء إيران ـ کأبناء أي بلد إسلامي آخر ـ حافظوا علي بعض شعائرهم وآدابهم وتقاليدهم الوطنية التي تسمح بها الشريعة الاسلامية السمحاء.
إننا باعتبارنا مسلمين نؤمن بأن البذور الحضارية الاسلامية لاتبلی ولاتبور أبداً، بل وتتمتع بسلامتها وفاعليتها أبداً، وإذا ما أتيح لها المجال المناسب لزرعها فإنها ستتحف البشرية مرة أخری، من خلال تعاليم الوحي والسنة النبوية الشريفة وسيرة الأئمة الصالحين، بشجرة الحضارة الاسلامية للإنسان المعاصر الذي يعاني من أزمة الحضارة المادية المهيمنة.
المصادر:
• القرآن الکريم.
• آرام، أحمد. علم در إسلام، تهران: سروش، 1364ش.
• أبوخليل، شوقي. الحضارة العربية الاسلامية. طرابلس: کلية الدعوة الاسلامية، 1987م.
• ابن‌خلدون، عبدالرحمن محمد. مقدمة ابن‌خلدون. بيروت: الاعلمي للمطبوعات،
بدون تاريخ.
• الويري، محسن. مطالعات إسلامي در غرب ( الدراسات الاسلامية في الغرب). تهران: سمت، 1382ش.
• البوطي، محمد سعيد رمضان. منهج الحضارة الانسانية في القرآن. دمشق: دار الفکر، ط1، 1402ق.
• الحسن، کريم جبر. عملية النهوض الحضاري. بيروت: دار الهادي، 1413هـ./ 1993م.
• خالدي، محمود. الاصول الفکرية للثقافة الاسلامية. عمان:‌دار الفکر، ط 1، 1983م./1403هـ.
• الخربوطلي، علي حسني. الحضارة العربية الاسلامية: حضارة‌ السياسة والادارة والقضاء والحرب والاجتماع والاقتصاد والتربية والتعليم والثقافة والفنون. القاهرة: مکتبة الخانجي، ؟.
• الخطيب، سليمان. أسس مفهوم الحضاره في الاسلام. القاهره: الزهراء للاعلام العربي. ط 1: 1406ق. / 1986م.
• خفاجي، محمد عبدالمنعم. الاسلام والحضارة الانسانية. بيروت: دار الکتاب اللبنانية، ؟.
• سائح، أحمد. أضواء على الحضارة الاسلامية، رياض: دار اللواء، 1401هـ. / 1981م.
• الشريف، أحمد إبراهيم. دراسات في الحضارة الاسلامية. القاهرة: دار الفکر العربي. ط2، 1981م.
• شفيتزر، آلبرت. فلسفة الحضارة. القاهرة: مطبعة‌ مصر، بدون.
• شلبي، أحمد. المجتمع الاسلامي وأسس تکوينه، أسباب ضعفه، وسائل نهضته. قاهرة: مکتبة النهضة المصرية، 1986م.
• شيدر، هانز هينرش. روح الحضارة العربية. بيروت: دار العلم للملايين، 1949م.
• الشکعة. مصطفى. معالم الحضارة الاسلامية. بيروت: دار العلم للملايين، 1987م.
• صبحي، أحمد محمود. في فلسفة الحضارة. الاسکندرية: مؤسسة الثقافية الجامعية، بي‌تا.
• عثمان، محمد فتحي. القيم الحضارية في رسالة الاسلام. رياض:الدار السعودية للنشر، ط 1، 1982م.
• فريحات، حکمت عبدالکريم؛ الخطيب، إبراهيم ياسين. مدخل الى تاريخ الحضارة العربية الاسلامية. عمان (اردن): دار الشروق، 1989م.
• قاسم، عون الشريف. الاسلام والثورة الحضارية. بيروت: دار الجيل؛ الخرطوم: دار المأمون المحدودة، ط3، 1411هـ. / 1991م.
• متز، آدام. الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري أوعصر النهضة في الاسلام. ترجمة: محمد أبوريده ورفعت البداوي. بيروت: دارالکتاب العربي، ؟.
• محمدي، محمد. آداب اللغة العربية وتاريخها، الجزء الاول. طهران: جامعة طهران، 1335ش.
• مطهري، مرتضي. خدمات متقابل إسلام وإيران. قم: صدرا، چاپهاي مکرر.
• مونس، حسين. الحضارة: دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها. الکويت: عالم المعرفة، 1419هـ./1998م.
• نصر، سيد حسين. علم وتمدن در إسلام، تهران: اميرکبير، 1345ش.
• يوکيچي، فوکوتساوا. نظريه تمدن.ترجمة:چنگيز پهلوان. تهران: گيو،1379ش.
• Grunebam,G.E. Von. Islam; Essays in the Nature and Growth of a Cultural Tradition. London: Rutledge & Kegan Paul LTD, 1964.
• Khuda Bakhsh, S. The Arab Civilization. Delhi: Idarah-I Adabiyat – I Delhi, 1980.
• Alviri, Mohsen. Intercultural Communication among the Muslims in the First Islamic Decades. I.S.U. Research Quarterly, No. 16, Winter 2003. pp. 19 – 36.
• Encyclopedia of Islam, New Edition. Leiden: E.J. Brill.1986 _ 2000.
الهوامش:
- للتوسع في هذا المجال، راجع: الخطيب، أسس مفهوم الحضاره في الاسلام، صص 21ـ66؛ الحسن، عملية النهوض الحضاري، الفصل الاول؛ سائح، أضواء على الحضارة الاسلامية، صص 17ـ 20؛ خالدي، الاصول الفکرية للثقافة الاسلامية، ج1، ص 61.
- هذا لايعني أنه لم‌يکتب أولم‌يترجم لحد الآن في هذالمجال، بل يعني أنه أمامنا طريق بعيد الى مرحلة تکون فرع علمي خاص يهتم بدراسات الحضارة. يجدر بالانتباه في هذا المجال کتاب في فلسفة الحضارة لاحمد محمود صبحي وکتاب آخر لآلبرت شفيتزر مترجم الى العربية تحت عنوان فلسفة الحضارة.
- لاأريد أن أذکر المصادر المتعلقة بالموضوع هنا وهي کثيرة، ولکني أشير کنموذج الى کتاب المجتمع الاسلامي وأسس تکوينه لکاتبه أحمد شلبي، ألذي له صلة وثيقة بالبحوث والمواضيع الحضارية،
- من المنظرين الحضاريين في جنوب شرقي‌ آسيا وتعد نظرياته أساس الحضارة اليابانية الحديثة. قدترجم کتابه نظرية الحضارة الى الفارسية.
- في کتابه Islam; Essays in the nature and growth of a cultural tradition خاصه في الفصل الآخير منه الذي طرح فيه نظرية الاقتباس الحضاري: Theory of Cultural Borrowing.
- في کتاب الحضارة العربية الاسلامية.
- في مقدمته المعروفة.
- في کتاب مشکلات الحضارة.
- في کتاب الاسلام والحضارة الانسانية.
- في کتاب الاسلام ومشکلات الحضارة.
- في الکثير من مواقفه وکلماته.
- في کتاب إحياء الفکر الديني وفي أشعاره ايضاً.
- في کتاب الاسلام والحضارة.
- في کتاب الحضارة: دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها.
- أفضل نموذج في هذا المجال هوآثار السيد حسين نصر، مثل کتابه العلم والحضارة في الإسلام والعلم في الاسلام وکلاهما مترجمان من الانجليزية الى الفارسية.
- الانعام / 59.
- بإمکان القارئ العزيز أن يراجع کنموذج في هذا المجال الى مصادره الخاصة مثل ما کتبه الخطيب في الفصل الثاني والثالث من کتابة أسس مفهوم الحضارة في الاسلام تحت عنوان دور الفکرة الدينية في تکوين الحضارة وعقيدة الحضارة الاسلامية.
- يتحدث عن موضوع أصالة الانسان ( الفرد ) أواصالة المجتمع في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع وقد ذهب المفکرون مذاهب مختلفة فيه، وليس الآن مجال الحديث عنهما والرؤية المختارة. عن تأثير هذا الموضوع على نظرية الحضارة، راجع. الشکعة، معالم الحضارة الاسلامية، ص 33 ـ 38.
- القصص / 5.
- الانبياء / 105.
- راجع الشکعة، معالم الحضارة الاسلامية، ص 27 ومايليها، قاسم، الاسلام والثورة الحضارية، ص 64 ـ 70 خاصة في فصل القرآن والحضارة؛ سائج، أضواء على الحضارة الاسلامية، ص 20 ـ 152؛ وقد أکد خاصة على عنصر العلم؛ البوطي، منهج الحضارة الانسانية في القرآن؛ عثمان، القيم الحضارية في الاسلام.
- هناك مصادر عديدة في هذا الجانب وکتب تاريخية مثل تاريخ الطبري ومروج الذهب والکامل في التاريخ وعيون الاخبار لابن‌قتيبة وغيره فهي مشحونة بهذه النماذج التي تثبت هذا الزعم. وقد أجرى محمد محمدي بحوثاً قيمة حول تأثير الآداب الايرانية القديمة على الآدب الاسلامية والعربية. وحاول في الجزء الاول من کتاب آداب اللغة العربية وتاريخها في موضوع تحت عنوان بدء ظهور العناصر الايرانية في الأدب العربي ( ص 143 ومابعدها ) أن يشير الى بدايات هذا التأثير.
- الويري، الدراسات الاسلامية في الغرب، ص 154 ـ 164.
- ومنها في الشکعة، معالم الحضارة الاسلامية، ص 33 ـ 38 وممن نفى الصفة القومية عن الحضارة الاسلامية؛ فريحات والخليل، مدخل الى تاريخ الحضارَة العربية الاسلامية، ص 23 ـ 31.

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• الإمامة   (بازدید: 1736)   (نویسنده: الشيخ مجيد العصفور)
• الامداد الغيبي في حياة البشرية   (بازدید: 1445)   (نویسنده: مرتضى مطهري)
• البرهان والعرفان   (بازدید: 1334)   (نویسنده: الدكتور علي أبو الخير)
• المنطلقات الفكرية للتعددية السياسية   (بازدید: 1877)   (نویسنده: الدكتور حسان عبدالله حسان)
• المنظومة الفكرية للشهرستاني وموقع ابن سينا منها   (بازدید: 2123)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• تأملات في دعاء شهر رجب   (بازدید: 3400)   (نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• قصة الناي في فكر الكواكبي   (بازدید: 1794)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• ما الذي يعنينا في هذا الاستشراق؟   (بازدید: 1289)   (نویسنده: عبدالنبي اصطيف)
• مقاصد الشريعة في المجتمع الإسلامي   (بازدید: 2789)   (نویسنده: الدكتور عمار الطالبي)
• مناهج دراسة مسألة «المهدي»   (بازدید: 1296)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ   (بازدید: 1222)   (نویسنده: مرتضى مطهري)
• التجديد والزمن - رؤية الشهيد الصدر لمؤثرات التجديد   (بازدید: 1254)   (نویسنده: السيد حسين الشامي)
• التحديات التي تواجه الإسلام / في العصر الحديث   (بازدید: 6892)   (نویسنده: الدكتور محمود حمدى زقزوق)
• الحداثة والتجديد / في فكر الإمام الخميني العرفاني   (بازدید: 1723)   (نویسنده: الدكتورة فاطمة الطباطبائي)
• الشهيد مطهري وإحياء الفكر الاسلامي   (بازدید: 2456)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• العلاقات الدولية / واحترام العهود والمواثيق في الإسلام   (بازدید: 2924)   (نویسنده: الدكتور وهبة الزحيلي)
• الغلو والتطرّف والإرهاب / وموقف الإسلام منها   (بازدید: 1333)   (نویسنده: الدكتور مراد ويلفريد هوفمان)
• الغلوُّ والتَّطرف والإرهاب / وموقف الإسلام منها   (بازدید: 1617)   (نویسنده: الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي)
• دور الامام الصدر في التطوير الفقهي / وتحديد المشكلة الاقتصادية   (بازدید: 1078)   (نویسنده: الدكتور عبد الهادي الفضلي)
• سنن التاريخ عندالشهيد الصدر   (بازدید: 1570)   (نویسنده: عبدالإله المسلم)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]