في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ
|
ثقافتنا - العدد 16
محمّد علي آذرشب
1429
الحج موسم هام للتوعية وشدّ الارتباط بالله سبحانه وتوحيد صفوف الأمة وشحذ همتها وتصعيد عزيمتها وتوجيه مسيرتها نحو العزّة والكرامة. ومن هنا اهتمّ الدعاة والاحيائيون والمصلحون عبر التاريخ أن يستثمروا هذا الموسم لتحقيق الأهداف الكبرى والمنافع التي قررها الله سبحانه لهذه الفريضة الجماعية السنوية. كان الإمام الخميني (رض) منذ تحركه الأول في الستينات يصدر بيانات توزع في الحج يبثّ فيها شكواه مما يعاني منه المسلمون ويدعو إلى اليقظة والحذر والى الجدّ والاجتهاد من أجل عودة الأمة الشاهدة الوسط إلى ساحة التاريخ. وبعد إقامة دولة الإسلام في إيران أصبح هذا النداء السنوي للإمام الخميني (رض) يشكّل ملفّاً لقضايا الأمة ولمنهج حلول مشاكلها. وتواصلت هذه النداءات السنوية على يد خلفه العبد الصالح الإمام الخامنئي. ولأهمية هذا النداء في المجال الثقافي والحضاري نقف عنده في هذا العدد الذي يصدر بعد موسم الحج. يبدأ النداء، بعد حمد الله والصلاة على رسول الله والآل والصحب، بالسلام على الحجاج مشيرًا في الوقت نفسه إلى الأجواء العظيمة التي يجب أن يستشعرها ضيوف الرحمن وهم يؤمّون البيت العتيق، يقول: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله الأطيبين وصحبه المنتجبين. السلام على حجاج بيت الله، ضيوف بيت الحبيب، والملبين لدعوته.. وتحيات عطرة إلى القلوب الطرية النضرة بذكر الله المفتوحة أبوابها على فيضه العميم ورحمته السابغة. فخلال هذه الأيام والليالي والساعات الإكسيرية، ما أكثر أولئك الذين قدّروا الموقف حق تقديره فسلّموا أنفسهم إلى أجواء الانجذاب الروحي، لينوّروا صحائف قلوبهم وأرواحهم بالإنابة والتوبة؛ ويزيلوا صدأ الذنوب والشرك من وجودهم بالغوص في أمواج الرحمة الإلهية التي ماانفكت تتواصل في هذا الوادي المقدس! فسلام الله على هذه القلوب النبيهة وأصحابها الأطياب. بعد ذلك يؤكد سماحته على ما يجب أن يستثمره الحجاج من هذا الموسم وما ينبغي أن يحذروا منه يقول: يجدر بجميع الإخوة والأخوات أن يفكروا في مثل هذا المكسب، وأن يغتنموا هذه الفرصة الثمينة، فلا يسمحوا لعلائق الحياة المادية ـ التي تشكل همّنا المستمرـ أن تشغل وتُلهي القلوب، وأن يطيروا بقلوبهم المتشوقة في فضاء التوحيد والقيم الروحية الأصيلة، مستعينين بذكر الله وبالإنابة والتضرع إليه، وبالعزيمة الراسخة على الصدق والاستقامة في العمل والتفكير، ليتزوّدوا بذلك، من أجل الصمود والمثابرة في سبيل الله والصراط المستقيم. ويُلفت السيد القائد الأنظار إلى أهمية الساحة التي يتواجد فيها الحجاج، وعظمة المكان بما يحمله من ذكريات ورموز، وبما يمكن أن يفعله من إنعاش ذكريات العزّة والقوّة والمنعة لدى المسلمين يقول: هنا مثابة التوحيد الحقيقي الخالص. هذا هو المكان الذي جاء فيه إبراهيم الخليل عليه السلام بفلذة كبده إلى المذبح، كي يسجل لجميع الموحدين على مرّ تاريخ العالم رمزًا للتوحيد، يتمثل في الغلبة على النفس والتسليم التام لأمر الله. وهنا المكان الذي رفع فيه سيدنا محمد المصطفى ـ صلى الله عليه وآله ـ راية التوحيد أمام المستكبرين وأصحاب المال والسلطة من أهل زمانه؛ واعتبر البراءة من الطاغوت ـ بجانب الإيمان بالله ـ شرطًا للنجاة والفلاح : ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ... ﴾ ثم يوجّه سماحته الحجاج نحو إعادة قراءة الدروس العظيمة للحج مشيرًا إلى أن أهم هذه الدروس يتمثل في إعلان الولاء لله ولأوليائه والبراءة من أعدائه الذين هم أعداء البشرية جمعاء يقول: إن الحج هو إعادة قراءة هذه الدروس العظيمة وتعلّمها. إن البراءة من المشركين ومن الأصنام وصنّاعها، تشكل الروح المسيطر على حج المؤمنين. إن الحج بكل مواقفه ومواقعه، يجسد حقيقة الخضوع لله والعمل في سبيله، والبراءة من الشيطان ورميه ورفضه والتصدي له. كما أن الحج بكل تفاصيله، يشكل رمز الوحدة والتلاحم بين أهل القبلة، وانتفاء فوارقهم الطبيعية والاعتبارية، وتبلور وحدتهم الحقيقية وأخوّتهم الإيمانية. إنها دروس ، علينا ـ معشر المسلمين في كل أرجاء العالم ـ أن نتعلمها ونبرمج حياتنا ومستقبلنا على أساسها. ثلاثية العودة الحضارية بعدها يدخل النداء في صميم أهدافه، ويوجّه الامة نحو ثلاثة أركان من أجل استعادة وجود الأمة وعزّها ومجدها وهي: 1ـ الصمود أمام التحديات 2- التعامل الأخوي بين المسلمين 3- الانقياد لعبودية الله سبحانه . يقول: لقد أكد القرآن الكريم على الوقوف بقوة واقتدار أمام الأعداء، والتعامل بالعطف والمحبة بين المؤمنين، والعبودية والخشوع أمام الله، وذلك كمؤشرات ثلاثة للمجتمع الإسلامي: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ﴾ ... فهذه الأركان الرئيسية الثلاثة هي من أجل بناء كيان الأمة الإسلامية المرتكز على العز والمجد. على ضوء هذه الحقيقة، يمكن للمسلمين بجميع أفرادهم، أن يتعرفوا جيدًا على ما يعانيه العالم الإسلامي وما يعتريه من مشاكل في الوقت الراهن. ثم يفصل سماحته القول في هذه الاركان الثلاثة ويبدأ بالركن الاول فيقول: إن عدو الأمة الإسلامية الغادر، يتمثل اليوم في الرؤوس المديرة للمراكز الاستكبارية والقوى ذات النزعة التوسعية والعدوانية ، ممن يعتبرون الصحوة الإسلامية تهديدًا كبيرًا لمصالحهم اللامشروعة وسيطرتهم الغاشمة على العالم الإسلامي. إنه على جميع الشعوب المسلمة ـ وفي مقدمتهم السياسيون وعلماء الدين والمثقفون والقادة الوطنيون في كل دولة ـ أن يشكلوا الصف الإسلامي الموحد بالمزيد من القوة والصلابة أمام هذا العدو المعتدي. عليهم أن يجمعوا في أنفسهم كل عناصر القوة وأن يجعلوا الأمة الإسلامية قوية فعلا. إن التحلّي بالعلم والمعرفة ، والحكمة والتدبير واليقظة ، والشعور بالمسؤولية والالتزام بها، والاتكال على الله والأمل في الوعد الإلهي، وغض الطرف عن المطالب التافهة الحقيرة أمام نيل رضا الله والعمل بالواجب، ... كل ذلك يعتبر العناصر الرئيسية لقوة الأمة الإسلامية واقتدارها، مما يحقق للأمة ما تصبو إليه من عزّ واستقلال وتقدم في المجالين المادي والمعنوي، ويفشل العدو في محاولاته التوسعية وتطاوله على الدول الإسلامية. ثم يقف أطول عند الركن الثاني (ركن الاخوة الإسلامية) بسبب ما اجتاح الساحة الإسلامية أخيرًا من عاصفة إثارة طائفية أرادت أن تنتقم مما حققته الأمة الإسلامية من مكاسب بدرجة وأخرى في إيران ولبنان وفلسطين والعراق. يقول: إن عنصر العطف والرأفة بين المؤمنين، يشكل الركن الثاني ويعتبر مؤشرًا آخر للحالة المنشودة للأمة الإسلامية. فإن نشوب الفرقة والصراع بين صفوف الأمة ، يعتبر مرضًا خطرًا يجب العمل على علاجه بكل ما هو متوفر من قوة. لقد بذل أعداؤنا ــ ومنذ أمد بعيد ــ جهودًا كبيرة وحثيثة في هذا المجال. وإنهم قد زادوا من جهودهم اليوم، بعد أن أخافتهم الصحوة الإسلامية. كل ما يقوله المشفقون هو أنه يجب ألا تتحول الفوارق إلى تناقضات، ولا التعددية إلى صراع. لقد سمّى الشعب الإيراني هذا العام عام الانسجام الإسلامي . وجاءت هذه التسمية بسبب وعيه بمؤامرات الأعداء المتصاعدة لبثّ الخلاف بين الإخوة والأشقاء. هذه المؤامرات باتت فاعلة في كل من فلسطين ولبنان والعراق وباكستان وأفغانستان؛ حيث شهدنا أن بعض أبناء دولة مسلمة دخلوا في حرب وصراع ضد بعضهم الآخر، ويريقون دماء بعضهم . في جميع هذه الأحداث المُرّة المأساوية، كانت علائم المؤامرة واضحة ، ولم تبق يد العدو خافية من العيون الدقيقة والأبصار الحادة. إن معنى الأمر القرآني المتمثل في : «رحماء بينهم» هو اجتثاث جذور هذه الصراعات. إنكم في هذه الأيام المباركة وخلال جميع مناسك الحج، تشاهدون المسلمين ــ من كل مكان ومن مذاهب مختلفة ـ وهم يطوفون حول بيت واحد، ويصلّون باتجاه كعبة واحدة؛ ويرجمون ـ جنبًا إلى جنب بعضهم ـ رمز الشيطان الرجيم؛ ويتصرفون بنمط واحد عند ذبح الأضاحي كرمز للتضحية بالأماني والأهواء النفسانية؛ ويبتهلون إلى الله جنبًا إلى جنب سواء في عرفات أو في المزدلفة... إن المذاهب الإسلامية متقاربة إلى بعضها بنفس الدرجة في معظم الفرائض والأحكام والعقائد الرئيسية وأهمّها. وطالما الأمر كذلك، فلماذا تأتي العصبيات والأحكام الصادرة مسبقًا لتؤجج نار الفتنة بينهم، وتأتي أيدي العدو الآثمة لتصب الزيت على هذه النار التي تقضي على الأخضر واليابس؟ اليوم، هناك من يتذرع بحجج واهية ،وبدافع من الجهل وقصر النظر، ليرمي جماعة كبيرة من المسلمين بالشرك ويبيح دماءهم. إن هؤلاء يخدمون الشرك والكفر والاستكبار سواء أكان ذلك عن وعي أو من دون وعي. فكم شهدنا الذين اعتبروا احترام روضة النبي الأعظم ـ صلي الله عليه وآله ـ ومشاهد الأولياء وأئمة الدين ـ عليهم السلام ـ شركًا وكفرًا!! رغم كون ذلك تعظيمًا لأمر الدين والتدين؛ لكنهم بدورهم انخرطوا في خدمة الكفرة والظالمين وساعدوهم على تحقيق أهدافهم الخبيثة. على العلماء الحقيقيين والمثقفين الملتزمين والقادة المخلصين أن يقوموا بمكافحة هذه الظواهر الخطرة. إن أمر الوحدة والتلاحم في الصف الإسلامي يشكل اليوم فريضة حتمية يمكن انتهاج الطرق العملية المؤدية إليها بفضل تعاون العقلاء والمشفقين. ثم يؤكد سماحته على ما يمكن أن يحدث لو اقترنت هذه الأركان الثلاثة لدى الأمة. وعلى ما يُحاوله إعلام العدوّ من تفكيك لهذه الأركان وهدم مقوماتها بألوان الاكاذيب والتهم يقول: إن هذين الركنين الذين تقوم العزة عليهما ـ أي تحديد المواقع واتخاذ الموقف القوي الحاسم أمام الاستكبار من جهة، والتراحم والتقارب والتآخي بين المسلمين من جهة أخرى ـ عندما يقترنان بالركن الثالث، وهو الخشوع والتعبد أمام الربّ جل وعلا، فعندئذ ستتقدم الأمة الإسلامية مرحلة تلو الأخرى في نفس الطريق التي أدّت بمسلمي العهد الإسلامي الأول إلى ذروة العزّ والعظمة، وستتخلص الشعوب المسلمة من التخلف المُزري الذي فُرض عليها خلال القرون الأخيرة. لقد بدأت تباشير هذه الحركة العظيمة في الظهور ، وتحركت تيارات الصحوة بشكل أو بآخر في كل أرجاء العالم الإسلامي. وتحاول وسائل إعلام العدو وعملاؤه الإيحاء بأن أي حركة تحررية أو مطالبة بالعدالة في أي بقعة من العالم الإسلامي مرتبطة بإيران أو بالتشيع؛ كما يحاولون أن يحمّلوا إيران الإسلامية الرائدة في حمل راية الصحوة الإسلامية بنجاح، مسؤولية الضربات التي يتلقونها في الساحة السياسية أو الثقافية من قبل غياري الأقطار الإسلامية. إنهم يوجهون تهمًا من قبيل الانتماء لإيران أو التشيع إلى الملحمة البطولية التي سطرها حزب الله بما ينقطع نظيره خلال حرب الــ33 يومًا؛ وإلى صمود الشعب العراقي المصحوب بالتدبير والحكمة والذي أدى إلى تشكيل مجلس وحكومة لم يكن المحتلون يريدونهما بهذه الشاكلة؛ وإلى ما أبدته الحكومة الشرعية في فلسطين والشعب الفلسطيني المضحّي من صبر وصمود يبعثان على الإعجاب؛ وإلى كثير من الحالات التي تمثل إرهاصات تجديد حياة الإسلام في الدول الإسلامية. إنهم يوجهون هذه الاتهامات لإرباك العالم الإسلامي ومنعه من اتخاذ موقف مؤازر موحد. إلا أن هذا الخداع لن ينجح في مواجهة السنة الإلهية القاضية بانتصار المجاهدين في سبيل الله وأنصار دينه. إن المستقبل للأمة الإسلامية . وإن كل واحد منا ـ حسب مقدراته وطاقاته ومسؤوليته ـ يسـتطيع بدوره أن يساهم في تقريب أجل هذا المستقبل. إن مناسك الحج، بالنسبة لكم أيها الحجاج السعداء، يمثل فرصة كبيرة لتستعدّوا أكثر من ذي قبل لأداء هذا الدين.
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية
(بازدید: 2732)
(نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر
(بازدید: 2651)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة
(بازدید: 4194)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة
(بازدید: 6849)
(نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي
(بازدید: 3253)
(نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان
(بازدید: 4255)
(نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا
(بازدید: 2147)
(نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن
(بازدید: 4151)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي
(بازدید: 1352)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي
(بازدید: 4058)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية
(بازدید: 1214)
(نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين
(بازدید: 2170)
(نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة
(بازدید: 1819)
(نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة
(بازدید: 1639)
(نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة
(بازدید: 1023)
(نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب
(بازدید: 1061)
(نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي
(بازدید: 1540)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها
(بازدید: 843)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان
(بازدید: 888)
(نویسنده: سيد موسى الصدر)
• التقريب.. منهج تربوي
(بازدید: 1283)
(نویسنده: السيد محمد حسين فضل اللّه)
|