banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب
ثقافة التقريب - العدد اول

الدکتور عبدالمتعال الصعيدي
1428

الإمام علي أول واضع لأساس التقريب • الإمام ضرب المثل الأعلى في التسامح لدى الاختلاف في الرأي • المصلحة الإسلامية عند علي فوق كلّ مصلحة • الإمام أنصف من اغتصب خلافته بل أنصف قاتله أيضاً.
هذا فضل كبير لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكرم الله وجهه، أن يكون هو أول واضع لأساس التقريب بين المذاهب، حتى لا يكون الاختلاف في الرأي مما يدعو إلى تفريق كلمة الأمة، وإثارة العداوة بين طوائفها المختلفة، بل تبقى لها وحدتها مع الاختلاف في الرأي، ويعيش فيها المختلفون في الرأي إخوانا متحابين، يترك كل واحد منهم أخاه ورأيه، لأنه أما مصيب مأجور، وإما مخطئ معذور، أو يجادله بالتي هي أحسن، فلا يكون في جدالهما تعصب للرأي، وإنما يكون القصد منه الوصول إلى الحق، لا المغالبة والانتصار.
وإنه لفضل أي فضل لابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم،
لا يقل عن فضله في شرف نسبه وقربه من صاحب الرسالة، ولا عن فضله في سبقه غيره إلى الإيمان به وهو غلام صغير، فكان به أهدى من كل صغير وكبير، ولا عن فضله في جمعه بين الجهاد بالرأي، والجهاد بالمال، والجهاد بالسيف.
كان الخلاف على خلافة النبي صلى الله عليه وسلم أول خلاف وقع بين المسلمين، فإنه لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج، وأرادوا أن يبايعوه بالخلافة، فذهب إليهم أبو بكر الصديق في نفر من المهاجرين، ودار بين الفريقين جدال في هذا الأمر، وكان جدالا عنيفاً كاد يصل إلى إثارة حرب بينهما، حتى أنهم لما قاموا ببيعة أبي بكر قام الحباب ابن المنذر إلى سيفه فأخذه، فبادروا إليه فأخذوا سيفه منه، فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة، فقال: فعلتموها يا معشر الأنصار! أما والله لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم، قد وقفوا يسألونهم بأكفهم ولا يسقون الماء. فقال أبو بكر: أمنّا تخاف يا حباب؟ قال: ليس منك أخاف، ولكن ممن يجيء بعدك. فقال أبوبكر: فاذا كان ذلك كذلك فالأمر إليك وإلى أصحابك، ليس لنا عليكم طاعة. فقال الحباب: هيهات يا أبا بكر، إذا ذهبت أنا وأنت جاءنا بعدك من يسومنا الضيم.
و أبى سعد بن عبادة أن يبايع أبا بكر، فأرسل إليه أن أقبل فبايع، فقد بايع الناس وبايع قومك، فقال: أما والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي، وأخضب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي، ولا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي، وأعلم حسابي. فتركوه حقناً لدماء المسلمين، حتى مات في خلافة عمر ولم يبايع له ولا لأبي بكر.
وقد تخلف جماعة من بني هاشم عن بيعة أبي بكر، وانضم إليهم الزبير بن العوام وخالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وأبوذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبيُّ بن كعب، ومالوا مع علي ابن أبي طالب، وقال عتبة بن أبي لهب:
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن
عــــــن أول الناس إيمـانا وسابقـــــة وأعلـم الناس بالقرآن والسنــــــــــن
وآخـــــــــــر الناس عهداً بالنبي ومـن جبريل عون له في الغسل والكفن
فبعث أبوبكر عمر بن الخطاب إلى علي ومن معه، فخرج علي حتى أتى أبابكر فبايعه، وقيل إنه لم يبايعه حتى ماتت فاطمة، وذلك بعد ستة أشهر لموت النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل علي إلى أبي بكر فأتاه في منـزله فبايعه، وقال له: ما نَفِسنا عليك ما ساقه الله إليك من فضل وخير، ولكنا نرى أن لنا في هذا الأمر شيئاً، فاستبددت به دوننا، وما ننكر فضلك.
وهذا صريح في أن علياً حين بايع أبابكر كان لا يزال على رأيه في أنه أحق بهذا الأمر منه، ولكنه رأى أن يجمع الكلمة بمبايعته له، وألا يجعل رأيه سبباً في الفرقة بين المسلمين، ليضرب بهذا أعلى مثل لهم في التسامح عند الخلاف في الرأي، وفي إيثار المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، إن صحّ أن نذهب إلى أنه كان له في رأيه مصلحة تعود عليه وحده، والحق أنه كان يرى هذا لأنه كان يرى أنه هو وآله أقدر على مصلحة الناس من غيرهم، لقرب صلتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يقوم بها وازع نفسي يجعلهم أقرب إلى إيثار العدل، وأميل إلى إنصاف الناس.
و ما إن بايع علي أبا بكر حتى حبس رأيه في أنه أحق منه بالخلافة في نفسه، فأخلص له في سرّه وجهره، ولم يضمر حقداً عليه ولا ضغناً، ولم يحاول أن يكيد له أو يأتمر به، بل وقف منه في حرب الردة موقفاً يدل على كمال الإخلاص، ويعلن عن تمام الود، فإن أبا بكر حينما خالفه المسلمون في حرب المرتدين وما نعي الزكاة، خرج وحده شاهراً سيفه إلى ذي القصة، فلحقه علي فأخذ بزمام راحلته، وقال له: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ لا تفجعنا في نفسك، فو الله لو أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام، فرجع أبوبكر ومكث بالمدينة وسمع هذه النصيحة الخالصة من علي، هذه النصيحة التي تدل على حرصه على حياته، مع أنه يرى أنه قد اغتصب منه الخلافة، ولو أنه تركه يخرج وحده لكان في خروجه ما يقربه من أمله فيها، ولكن نفس علي كانت أكبر من أن يخالجها هذا الأمل، لأنه بايع وحبس رأيه في نفسه، فليخلص في بيعته كما يخلص كل من بايع قبله، وليخلص في نصيحته، وإن كان في خلافها مصلحة له.
و كذلك كان شأنه مع عمر بن الخطاب حين عهد إليه أبوبكر بالخلافة بعده، فقد حبس معه أيضاً رأيه في نفسه، وعامله كما كان يعامل أبابكر، ولم يظهر في سبيل رأيه فرقة ولا انقساماً، بل طلب عمر منه أن يزوّجه بنته أم كلثوم، وكانت قد ولدت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له علي صغرها معتذراً به، فقيل لعمر، إنه ردّك عنها فعاوده، فقال له علي: ابعث بها إليك، فإن رضيت فهي امرأتك، فأرسل بها إليه فرضيها، فتزوجها فولدت له ولديه زيداً ورقية.
وكذلك كان شأنه مع عثمان بن عفان حين آلت إليه الخلافة بعد عمر في قصة الشورى المعروفة، وكان علي يرى أنه تخطّى فيها عن مؤامرة، ولكنه حبس رأيه في نفسه مع عثمان أيضاً، ولم يحاول أن يحدث فرقة أو انقساماً معه، ولما خرج عليه الخوارج في آخر خلافته لم ينتهز فرصة خروجهم عليه، ولم يحاول أن يستغله لمصلحة نفسه، بل كان يبدي فيه الرأي الصحيح ويحاول أن يهدئ تلك الفتنة لمصلحة عثمان ومصلحة المسلمين، ولما وصلت إلى الحد الذي يخشى منه على عثمان، أرسل ابنيه الحسن والحسين ليدافعا عنه، مع أنه كان يخالف رأيه في تهدئتها، ومع أنه كان من مقتضى رأيه أنه أحق بالخلافة منه: أن يتركه للخارجين عليه، ولكنه أبي إلا أن يمضى إلى النهاية فيما ضربه للمسلمين من المثل الأعلى في الخلاف في الرأي.
و لما أراد الناس أن يبايعوه بعد عثمان، لم يسرع إلى قبول بيعتهم، ولم ير أن الفرصة قد سنحت له لتحقيق رأيه، لأنه لم يكن يراه لمصلحة نفسه، بل كان يراه لمصلحة المسلمين، فامتنع ممن عرض عليه البيعة، ولم يجبهم إلا بعد أن ألحّوا عليه، ورأى أنه لابد أن يقبل ليجمع ما تفرق من كلمة المسلمين، وقد دعا الزبير ابن العوام وطلحة بن عبيد الله، وقال لهما: ان أحببتما بايعتماني، وإن أحببتما باعيت أحدكما، فقالا: بل نبايعك. ثم جيء إليه بسعد بن أبي وقاص ليبايع، فقال له: لا أبايع حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس، فقال لهم: خلّوا سبيله، ثم جيء إليه بعبد الله بن عمر ليبايع. فقال لا أبايع حتى يبايع الناس. فقال له علي: ائتني بحميل (كفيل) فقال: لا أرى حميلا فقال: الأشتر: خلّ عني أضرب عنقه. فقال علي: دعوه، أنا حميله، فلم يحاول في كل هذا أن يفرض ما آل إليه من الخلافة على الناس، بل أراد أن يبايعه من يبايعه عن طواعية واختيار، ومن أبى أن يبايع تركه حراً، حتى لا يحدث انقساماً بين المسلمين. فأما أخذه معاوية بما أخذه به فلأنه أبي أن يقبل ما أمر به من عزله عن ولاية الشام، وهو حق من حقوق الخليفة على معاوية وغيره أن يطيعوه فيه، فإذا لم يطيعوه خرج أمرهم عن حد الخلاف في الرأي إلى حد العصيان، وحكم العصيان غير حكم الخلاف في الرأي، لأن العصيان فرقة بين المسلمين، فيجب أن يؤخذ بما يجمع الكلمة، ولو أدى هذا إلى استعمال الشدة.
و قد كان هذا شأنه أيضاً مع من خالفه من أصحابه في مسألة التحكيم بينه وبين معاوية، وقد اعتزلوه وحكموا بما حكموا به عليه لقبوله ذلك التحكيم، مع أنه لا شيء في قبوله من جهة الدين، ولكنهم كانوا قوماً متنطّعين متشدّدين في دينهم، فلم يحكم علي عليهم بما حكموا به عليه، بل قال لهم: إن لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا.
وليس بعد هذا تسامح في الرأي، بل هو المثل الأعلى في التسامح، ولكنه كان مع قوم متنطّعين في دينهم، لا يعرفون فضل التسامح عند الخلاف في الرأي، بل يأبون إلا أن يجعلوه وسيلة تقاطع وتدابر، فأصروا على تدابرهم وتقاطعهم، وأبوا إلا التمادي في غيّهم، فسلّطوا عليه عبد الرحمن بن ملجم فطعنه غيلة، وقد جمع أولاده قبل أن تفيض روحه، فأمرهم أن يطيّبوا طعام قاتله، ويليّنوا فراشه، فإن يعش فهو وليّ دمه، عفو أو قصاص، وإن يمت ألحقوه به ليخاصمه عند ربه، ثم نهاهم أن يعتدوا عليه أو يمثّلوا به، وإنه ليمضى في ذلك الإنصاف لمن يخالفه مع طعنه له هذه الطعنة القاتلة، فيوصى بتطييب طعامه، ويوصى بإلانة فراشه، ويوصى بعدم التمثيل به عند قتله به، ليكون لنا في حياته ومماته أعلى مثل في الجمع بين الاستمساك بالرأي وإنصاف المخالف، فرحمه الله من إمام للمنصفين في الخلاف، وقدوة للمتسامحين في الدين.

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية   (بازدید: 2732)   (نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر   (بازدید: 2651)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة   (بازدید: 4194)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة   (بازدید: 6849)   (نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ   (بازدید: 2882)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي   (بازدید: 3253)   (نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان   (بازدید: 4255)   (نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا   (بازدید: 2147)   (نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن   (بازدید: 4151)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي   (بازدید: 1352)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي   (بازدید: 4058)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية   (بازدید: 1214)   (نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين   (بازدید: 2170)   (نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة   (بازدید: 1819)   (نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة   (بازدید: 1639)   (نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة   (بازدید: 1023)   (نویسنده: أسعد السحمراني)
• الانسجام الإسلامي   (بازدید: 1540)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها   (بازدید: 843)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان   (بازدید: 888)   (نویسنده: سيد موسى الصدر)
• التقريب.. منهج تربوي   (بازدید: 1283)   (نویسنده: السيد محمد حسين فضل اللّه)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]