banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

قيمة الجمال في تداولها الإسلامي
ثقافتنا - العدد 16

عبد المجيد الصغير
1429

عبدالمجيد الصغير[*]
ملخّص
أصبح ضروريًا اليوم إعادة طرح إشكالية الجمال على بساط البحث قصد تخليصها من أوحال النزعات النرجسية والتوظيف الساقطة والرفع بها إلى مستوى القيم الإنسانية الخالدة، ولعل مفهوم الأنثى أو <المرأة> ومفهوم الفن، من المفاهيم المرتبطة بتلك الإشكالية، وهما اليوم في أمس الحاجة إلى إبراز ذلك البعد الجمالي فيهما والجدير برفعهما أيضًا إلى ذلك المستوى الإنساني المنشود.

ماذا يعني طرح سؤال الجمال في مجتمعنا العربي الإسلامي اليوم؟ وهل بالإمكان تحيين هذا السؤال بحيث يناسب نسيجنا الثقافي ويحيل إلى هويتنا الفكرية؟ ذلك لأن مقصودنا من طرح هذا السؤال ليس مجرد الخوض الفلسفي في ماهية الجمال، على غرار ما خاض فيها أفلاطون في <المأدبة>، وهل الجمال تحقيق <الانسجام> الهندسي في الشكل أو التناسب العددي في الصوت والسماع؟ وهل هو قيمة مطلقة، كما هي قيمة العدل والحق والخير، أم هو محكوم بقيم أخرى...؟ لن نخوض في مثل هذه الإشكالات الفلسفية المعروفة. ولكننا سنحرص في هذا المقام على تحيين سؤال الجمال داخل نسيجنا الثقافي مع الوقوف عند المجالات التي نتفق جميعًا على كونها تمثل صوراً من تجليات الجمال، كي نعيد النظر فيها ونحوّل تلك الصور أو النماذج إلى قضايا إشكالية أخرى، من شأن إعادة طرحها أن تقربنا بشكل ملموس إلى طبيعة الشيء الجميل وتمكننا بشكل أفضل تبيين وظيفة وضوابط الجمال وإشكاليته في مجتمعنا المعاصر، هذا الجمال الذي صار اليوم من المفاهيم الشائعة التي يكثر اللجوء إليها في المجال العمراني والأدبي والفني والإعلامي، وهي مجالات تمس في الصميم حياة الناس اليومية.
ونظرًا لهذا التعدد في حضور مفهوم الجمال وذلك التوسع في معانيه وتجلياته صار، لأسباب متعددة، يشكو من غموض كبير ويخضع لتوظيفات متناقضة، بل صار يقع أحيانًا ضحية إسقاطات إيديولوجية ونزوات شخصية تعود على قيمة الجمال بالنقض والإبطال، وإذن ماذا يعني إعادة طرح سؤال الجمال في ثقافتنا الإسلامية وفي مجتمعنا العربي الإسلامي المعاصر؟ وبالتالي ما العلاقة الجدلية بين مفهوم الجمال ومفهوم الجلال؟
1ـ لا ريب في أن الجمال حكم راجع <إلى إحساس إنساني الطبيعة>، ولأجل صفة <الإنسانية> في هذا الإحساس وجب أن تكون للجمال ضوابط عامة تنأى به عن حضيض الإحساس الحيواني الساذج القائم على محض الإشباع الغريزي، خاصة وأن الجمال كتجربة إنسانية هو ضرب من أضرب اللغة وشكل من أشكال التواصل يستهدف <عودة> الآخرين للمشاركة في نفس الإحساس وتبنّي نفس الحكم المحمول على تلك الصورة الجميلة أو تلك اللغة الإشارية. وعليه، فلا يمكن أن تكون للجمال تلك القيمة إلا في ضوء ضوابط ترفعه إلى مستوى القيم الإنسانية الثابتة، شأن الجمال في هذا الشأن مفهوم الحرية، فلا قيام لهذه الحرية إلا في ضوء الضوابط التي تقننها كي لا تتحول إلى فوضى، وحركة بلا نظام، وتعدٍ على حقوق الآخر، وربما مثلت <الفنون> المجال الذي يتعرف فيه كل مجتمع على ضوابط لتذوقه الجمالي ([1]) وفقًا لتطوره الحضاري ولرؤيته الفلسفية للحياة والكون..
وبالنسبة للحضارة الإسلامية وبالنظر إلى تنوع إنتاجها الثقافي فإن الوعي بالجمال، من حيث هو ظاهرة كلية متعددة الظهور ومتنوعة في التجليات، ومن حيث هو إشكالية تغري بالتعليل وتستدعي التفسير والتبرير، فأمر ساهمت في معالجته العديد من المواقف حتى من اعتبر منها بعيدًا عن الوسط الأدبي والفني كما هو شأن عبد الرحمن بن خلدون الذي لم يمنعه انشغاله بتحليل التاريخ أن يقف في مقدمته محاولا الجواب عن سؤالنا اليوم: ما هو الجمال؟ وعنده أن الشعور بالجمال الإنساني شعور قابل مع ذلك للتربية والتكوين، مثلما أنه من حيث التجلي قابل للتعميم ليشمل الكون الرحب بجملته، إن الجمال في أصله شعور بالتلذذ قائم على إدراك <الملائم أو المناسب في المرئيات والمسموعات أو في الأشكال والأصوات>. وإذا كانت أغلب مواطن رصد مظاهر الجمال والحسن عند الإنسان قائمة في العلاقة بين العاشق والمعشوق، فذلك راجع لكون هذه العلاقة تكرس في العمق شعورًا بأقرب أنواع التناسب والتشابه والتطابق والامتزاج الممكن لدى الإنسان، راجع في حقيقته إلى تناسب عام متجل في جنبات الكون كله، إذ كل ما في الكون يحيل بعضه إلى بعض في نوع من التناغم والانسجام والجمال. هذا وإذا كان ابن خلدون قد أفاض في تفسير وتعليل قواعد وضوابط الجمال الموسيقي ومجال السماع بوجه عام ([2])، فإن الواقع يشهد على تعدد الإنتاج الجمالي في حضارتنا الإسلامية، سواء تعلق الأمر بمجال اللغة والأدب أو العمارة أو الموسيقى أو الأخلاق، بجانب الأنواع الأخرى من الإنتاج الفكري، كما هو شأن الإنتاج الصوفي في الإسلام، وهو الإنتاج الذي لم يوظف مختلف رموزه الإشارية ولم يتجاوز اللغة الطبيعية ويلجأ إلى ضروب التشبيه والتمثيل والاستعارة والمجاز إلا كوسائل لمعانقة تجربة الجمال وتقريبها إلى الأفهام.
2- لا نعدو الصواب إذا أكدنا من جهة ثانية أن العناية التي لقيها سؤال الجمال في الفكر الصوفي طيلة تاريخ الإسلام فاقت تلك العناية التي حظي بها في باقي الاتجاهات الفكرية الأخرى، ولهذا تجد بعض قدماء المستشرقين المهووسين بتجريد الإسلام من أبعاده الروحية وخصائصه الذاتية والتنقيب لها عن أصول خارجية، قد هالهم ما يزخر به الخطاب الصوفي في الإسلام من عناصر جمالية ومن مظاهر الحب والعشق الإلهي، فاستكثروا على الإسلام أن تؤكد نصوصه وتفرز حضارته تلك العلاقة الحميمية بين الخالق والمخلوق علاقة قوامها الحب ومعانقة الجمال المطلق، معتبرين الإسلام دين جلال، لا جمال فيه.. إلى غير ذلك من الدعاوى التي أبطلها كبار المستشرقين أنفسهم وعلى رأسهم <ماسينيون> الذي اعتبر القرآن الكريم بلغته ومصطلحاته وصوره المصدر الأول الذي ألهم الصوفية تلك الرؤى الجمالية التي يزخر بها الخطاب الصوفي.. ([3]).
ويجب أن نؤكد من جهتنا أن الفضل يرجع إلى هذا التراث الصوفي في توسيع مفهوم الجمال ليدل، ليس فقط على التناسب الملاحظ في عالم الأجسام والأشكال والأصوات، وإنما صار جمال كل شيء وحسنه <في أن يحضر كماله اللائق به الممكن له، فإذا كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال> ([4]). وهو التعريف الذي اختاره الغزالي ليعم كما هو واضح الأجسام والأصوات والأفعال والأفكار والقيم، بل ويتسع ليشمل الوجود في جملته.. وإذا كان مفهوم الجمال يكرس معنى المناسبة والمشاكلة والتشابه، ويتضمن إقرارًا به وسعياً إلى طلبه ومعرفته، كان العشق وكانت المحبة المنبع الذي يصدر عنه ذلك النزوع الإنساني لمعانقة الجمال في مختلف تجلياته ([5]). ومن هنا، وخلافًا لمنزلة المرأة أو الأنثى في الأدبيات المسيحية والتقاليد الكنيسة، صارت الأنثى في الفكر الصوفي تمثل رمزًا للنفس الإنسانية المتطلعة إلى التعرف على الله، هذا التعرف الذي لا سبيل إليه إلا بواسطة التعرف على النفس، و<الأنثى> رمز لهذا الطريق الموصل إلى ذلك التعرف الجمالي والجلالي في نفس الآن. ويكاد التراث الصوفي في جملته وصفًا لهذا التعرف وهذا الشعور بالجمال والجلال.
نحن إذن أمام ازدواجية دائمة في التذوق الجمالي تقتضي الجمع بين الإعجاب بالجمال والخضوع للجلال، بحيث يكاد يكون موضوع الجمال هو بعينه موضوع الجلال، حيث تقوم بين المفهومين علاقة جدلية في الفكر الصوفي الذي ولع أكثر من غيره بتفسير هذا النوع من المتقابلات في الوجود <فلكل جمال جلال، ووراء كل جلال جمال> على حد قول القاشاني في مصطلحاته ([6]). ولهذا تجد ابن عربي يربط في علاقة جدلية بين مفاهيم الجمال والحب والخيال والمرآة لينتهي إلى أن العالم في جملته جدير بالحب لكونه جاء في غاية الجمال، وأنه بذلك صار مرآة ينعكس عليها جمال الله تعالى وجلاله وحسن صفاته، وليس كالخيال وسيلة ناجعة للارتقاء من الإحساس بالجمال الإنساني إلى معاينة الجمال الكوني، فإلى مشاهدة الجمال الإلهي الذي هو عين الجلال ([7]) ومن ثم <فمن كاشفه الحق تعالى بوصف جلاله أفناه، ومن كاشفه بوصف جماله أحياه> ([8]).
كل هذا يفيد أمرًا بالغ الأهمية، وهو أن الشعور بالجمال لا يمكن أن يكون مجرد إحساس ساذج أو استجابة عفوية لنزوات حيوانية قريبة يشترك فيها كل البهائم، بل هو شعور يعبر عن تدرج في سلم الإنسانية ويمكّن الإنسان من أن يضفي <معنى> على هذا العالم، وأن يصير الإنسان نفسه <مرآة> ينعكس عليها ذلك الانسجام الساري بين جنبات الوجود.
نستطيع أن تستخلص من هذا الموقف الأخير أن مفهوم الجمال في الفكر الصوفي في الإسلام مرتبط بالضرورة بمفهوم الوجود، إذ الجمال يحيلنا بالضرورة إلى التعرف على <مقام الإنسان> بين سائر الموجودات، فهو بمثابة مرآة عكست خلاصة معاني الجمال بعد أن التمسته من أصله الإلهي الذي أضفى عليها مع ذلك جلالا، وهو ما يعني أن الجمال الإنساني قد تحول من منحة إلهية إلى مسؤولية إنسانية كبرى. ولعل هذا ما يشير إليه ابن عطاء الله في حكمه قائلا: <جعلك (الله) في العالم المتوسط، بين ملكه وملكوته، ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته، وأنك جوهرة تنطوي عليك أصداف مكوناته>، ويعلق الشيخ أحمد رزوق في شرحه لهذه الحكمة بقوله، مخاطبًا كل إنسان <وذلك يقضي لك برفع الهمة عن الدناءة، والجنوح إلى معالي الأمور في جميع الحالات، لأن من كان في أرفع العوالم، لا يصح له أن يبيع نفسه بأبخس منها ثمنًا. فعِلْمُ العبد بجلالة قدره في أصل النشأة، ينهض قواه لطلب الأمور العلية.. وبيان كونك في العالم المتوسط ـ يضيف زروق ـ فمن طريق المعنى: أنك لست ملكيًا محضًا ولا ملكوتيًا صرفاً، وإذا كنت كذلك فلك في كل نسبة، وذلك هو الوسط حقيقة، ومن طريق الحس، فإنك وسط العالم: السماوات تظلك، والأرض تقلك، والجهات تكنفك، والجمادات تدفع عنك، وأنت جوهر مكنون، فافهم> ([9]). ولقد تكرس هذا الموقف المتفائل من الوجود داخل الخطاب الصوفي مع أبي الحسن الشاذلي الذي دافع خلافًا للتصورات المأساوية في الرهبنة المسيحية، عن جمالية الإنسان في هذا الكون وأن نزول هذا الإنسان إلى الأرض <كان نزول كرامة، لا نزول إهانة>([10]) وقد عرف عن هذا الشيخ الصوفي أنه كان <يلبس الفاخر من الثياب ويركب الفاره من الدواب، ويتخذ الخيل الجياد. وكان لا يعجبه الزي المرقع الذي اصطلح عليه الفقراء> ([11]) من الصوفية.
3- تلك مواقف لتأصيل مفهوم الجمال في الخطاب الصوفي اضطررنا لاختزالها بما يسمح به هذا المقام، وقد رافقت ذلك التأصيل، على المستوى الوجودي، محاولات أخرى لتربية الحس الجمالي والفني وتهذيبه على مستوى مدارج السالكين المتلقين لذلك الخطاب، مع دفع مختلف الاعتراضات التي قد توجه لذلك الحس الجمالي، خاصة في مجال الموسيقى والسماع، لكونها اعتراضات لا تخص قيمة الجمال بحد ذاته، وإنما هي بالأحرى تتوجه بالنقد لبعض الممارسين الهابطين بذلك الفن إلى المستوى البهيمي، إذ <كل إناء بالذي فيه يرشح>، ولعل هذا ما حمل الصوفية على العناية الشديدة بتفصيل شروط وآداب <فن السماع>. إبقاء على تلك الضوابط المشار إليها آنفا بين مفهوم الجمال ومفهوم الجلال، وحفاظًا على القصد الإيجابي المعلق على هذا النوع من الذوق الفني حتى في الجانب التربوي والخلقي.
وبهذا الصدد فإن الموقف الصوفي العام من الفن، وبالتحديد من فن السماع والشعر والموسيقى، يتلّخص في أنه بالرغم من إمكانية تفهّم الدوافع الأخلاقية والمجتمعية لاعتراضات بعض الفقهاء ضد ممارسة السماع الذي ما حرم لديهم <حتى أخذه أهل اللهو ونقلوه إلى لهوهم وقارنوه بشرب الخمر والزنى، فحرم حينئذ سدًا للذريعة> ([12]) ; بالرغم من ذلك فإن صيغة القطع والإطلاق في تلك الاعتراضات قد تعتبر غفلة عن إمكانية ترشيد وتهذيب الحس الموسيقي وتوظيفه، ليس بقصد ترقية الذوق الفني فحسب، ولكن أيضا لأجل الرفع بالإنسان إلى مستوى قيم أخرى أعلى وأهم كقيمة الحق والخير. وعليه فدفاع صوفية الإسلام عن مشروعية جمالية هذا الفن قائم على أساس إمكانية توظيف الحس الموسيقي لدى الإنسان لأجل تهذيب العواطف وترسيخ الفضائل الجمالية والجلالية،خاصة في زمن التياث الظلم وضعف الحس الديني والأخلاقي، إذ في ظل ذلك التراجع الحضاري لجأ صوفية المغرب خاصة إلى ابتكار طرق في التربية الخلقية، واغتنموا لذلك بعض المناسبات، تمامًا كما فعل العزفيون بسبتة حينما اتخذوا من ذكرى المولد النبوي الشريف مناسبة لشحذ وعي الجمهور بمختلف القيم اللازمة لمواجهة الهجومات الصليبية على المغرب، وقد وظف فن السماع في تلك المناسبات توظيفًا واسعًا. وإنا لنزعم أن العديد من المظاهر الفنية المغربية المعاصرة لازالت تحتفظ ببصمات واضحة أصّلتها التقاليد الصوفية في هذا الميدان.
4- بعد هذا يجب التأكيد أن تلك العناية التي أولاها المسلمون لرصد مظاهر الجمال ومعالجة إشكالية العلاقة الجدلية القائمة بينه وبين مفهوم الجلال، تجد مصدرها الأول في ذلك التأصيل الإسلامي الخالص لمفهوم الجمال والذي نقف عليه سواء في القرآن الكريم أو في السنة النبوية. ويكفي هنا أن نقرأ كيف واجه القرآن الكريم ذلك الفحش الجاهلي الذي فرض على غير القرشيين ألا يطوفوا متعبدين بالمسجد الحرام إلا عراة! حيث اعتبر ذلك <قبحًا> وتجريدًا للإنسان من حيائه الفطري أولا، ثم حرمانًا في نفس الآن من التمتع بمختلف مظاهر الزينة، فقال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ([13]).
في هذه الآيات تنديد واضح بمحاولة تحريم الزينة أو الجمال لكونه زينة وجمالاً، ثم فيها إقرار هذه الزينة وربطها بالمسجد أو بالعبادة مطلقًا، وفي هذا ما يجعل العلاقة بين مفهوم الجمال ومفهوم الجلال علاقة وثيقة لا تعارض فيها ولا تنافر، هذا الجلال الذي يجعل من ذلك الجمال مطلبًا مشروعًا مثلما يجعل له ضابطًا واضحًا يتمثل في الابتعاد عن الإسراف في الزينة وما تعلق بها من المأكل والمشرب، ثم في الابتعاد عن الفحش الذي يذهب بالحياء، وقرن ذلك الفحش الأخلاقي بكل أنواعه الأخرى من الإثم والظلم والبغي; والملاحظ أن الجمال كمفهوم وكواقع يدخل كعنصر أصيل في تصوير القرآن الكريم للعالم وتقريبه إلى وعي الإنسان، خاصة ما كان من ذلك العالم قريبًا إلى حياته اليومية ; ففي معرض امتنان الله تعالى على الإنسان بما وهب له من بهيمة الأنعام ليتخذ منها مطية لمختلف أغراضه المادية، يحرص أن ينبه إلى ما ينطوي عليه هذا العالم القريب والمألوف للإنسان من جمال وزينة تعبر عن حاجة روحية لدى كل الناس: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ،وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ،وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ([14]).
ومن العجيب أن تكرس السنة الشريفة القولية والفعلية، وفي أكثر من مناسبة، هذه العلاقة المنسجمة بين حق العبد في التمتع بالجمال وحق الله في إفراده بالعبادة والتملي في جلاله، حيث روي عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: <حُبّب إليّ من الدنيا ثلاث: الطيب، والنساء (وهما رمز الجمال) وجعلت قرة عيني في الصلاة>([15]). وهي رمز للجلال. كما يعلّل صلى الله عليه وسلم سبب عنايته بمظهره حين سألته عن ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها وقد تهيأ للخروج إلى بعض أصحابه، فقال عليه السلام: <نعم! إذا خرج الرجل على إخوانه فليهيّء من نفسه، فإن الله جميل يحب الجمال>([16]). ولا شك أن السنة مليئة بالإشارات المنبهة إلى ضرورة التماس الإنسان في هذا الدين الخاتم مواضع الرفق والتيسير والتبشير وإسقاط الأغلال، والابتعاد عن مواطن التشديد والتعسير والتنفير. وهي في نفس الآن مليئة بالمواقف التي تدفع الإنسان للاعتناء بمظاهر الجمال والتمتع به مع ضبط ذلك بقواعد تليق بالإنسان وترفع من قدره.
ولعل علماء الأصول لم يبتعدوا عن هذه المقاصد حينما أكدوا على لسان الإمام الجويني أن من حق الإنسان أن يمكن في ظل سماحة الإسلام ليس فحسب من الضروريات والحاجيات، بل لابد أن تلحق التحسينات والكماليات بتلك الضروريات لحاجة الناس إليها، لأنه <ما من صنف إلا ويسد مسدًا> في الحياة([17])، وفي ذلك ما يجعل هذه الحياة جميلة وجديرة بأن يحياها الإنسان.
وإذا أردت بهذا الصدد أن أفسح المجال لأصحاب الشأن فلن أجد خيرًا من العالم والداعية الكبير المرحوم الشيخ محمد الغزالي، حين تصدًى لتصحيح مفاهيم بعض أصناف المتعلمين في عصرنا هذا، والذين صاروا على حد قوله ينشرون فقهًا بدويًا وتصوراً طفوليًا للعقائد والشرائع، ويحاربون الفقه المذهبي لحساب سلفية مزعومة عرفت من الإسلام قشوره ونسيت جذوره([18])! وبعد أن أورد مواقف ابن حزم ـ رغم تشدده المعروف ـ الرافضة لكل الأحاديث الواردة في تحريم فن السماع والغناء، معتبرًا إياها غير صحيحة أو ضعيفة أو موضوعة، نقل محمد الغزالي واقعة جرت له بمكة المكرمة حينما دخل عليه طالب له وسمعه يردد مع المذياع أغنية كان يحبها، فاستنكر الطالب ذلك من شيخه فما كان من هذا الأخير إلا أن قال له بصراحته المعهودة <إن الإسلام ليس دينًا إقليميًا لكم وحدكم، إن لكم فقهًا بدويًا ضيق النطاق! وعندما تضعونه مع الإسلام في كفة واحدة، وتقولون: هذه الصفة لا ينفصل أحدها عن الآخر، فستطيش كفة الإسلام وينصرف الناس عنه>([19]). إننا لسنا مكلّفين بنقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا وأستراليا، إننا مكلفون بنقل الإسلام وحسب>([20]).
ويستخلص المرحوم الغزالي الدرس من ذلك الموقف قائلا: <ومن ثم فالأصل في الأشياء الإباحة، ولا تحريم إلا بنص قاطع، والواقع أن نفرًا من سوداويي المزاج أولعوا بالتحريم ومنهجهم في الحكم على الأشياء يخالف منهج نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه. روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: <لا تشدّدوا على أنفسكم فيُشدّد عليكم، فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشُدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والأديرة، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم> ([21]).
5- هكذا نتبين كيف حضر سؤال الجمال في فكرنا الإسلامي، حيث إن العناية ببسط إشكالاته تراوحت بين المقاربة الفلسفية الوجودية والأخلاقية والدينية، وإن مفهوم الجمال كقيمة إنسانية كسب مشروعيته داخل ذلك الفكر، بل قد أنيطت به مهمة التكميل الخلقي وترشيد الحس الإنساني، ولم يتعرض الحس الجمالي للمساءلة حول مشروعيته ووظيفته إلا عندما اقترن به لدى بعض الأوساط من مظاهر الفحش والفسق والرذائل النازلة بقدر الإنسان.
وهنا لابد من الاعتراف مجددًا بأن التسيّب الذي يطال لسنوات عديدة مفاهيمنا ومصطلحاتنا لم ينج منه مفهوم الجمال الذي تحول من قيمة يناط بها مهمة رفع الإنسان فوق درك الحيوانية والبهيمية، إلى مناسبة لإحياء <سوق النخاسة> ومصيدة للإشباع الغريزي وللتغرير بالراشدين والقاصرين على السواء. كل ذلك تحت شعار الحداثة والإبداع والجمال و<الموضة> أيضا; مع أن هذه المصطلحات ليست قيمًا مقدسة، بل إنها لتشكو من غموض وتسيب فكري خطير..
ومع ذلك فإن ما يثلج الصدر في مغربنا اليوم أن ناشطات في المجتمع المدني قد انتبهن في المدة الأخيرة فقط إلى خطورة انخراط الإعلام عندنا في نشر تلك الصور النمطية للمرأة <كبضاعة> أو مجرد وسيلة للاستغلال في ترويج البضائع التجارية وتحقيق مزيد من الربح السريع، حيث يتخذ من جسد وجمال المرأة مادة صالحة للبيع وجذب الزبائن.. وذلك وعي جديد لا نملك إلا أن نحييه، خاصة وهو يواجه منطقًا ليبراليًا عاتيًا لا يعرف حدودًا ولا ضوابط لاستغلال الجنس واستغلال الفن والجمال، بوجه عام، في سبيل الربح المادي ولو كان على حساب الكرامة الإنسانية للمرأة.
لكن مايجب إضافته هنا أن خطورة استغلال المرأة جنسيًا أو جماليًا لا يقتصر على ذلك المجال الإعلامي الإشهاري والتجاري، بل هناك مجال اقتصادي آخر يعرف تنافسًا شرسًا بين أصحابه، ألا وهو مجال دور صناعة الألبسة والتصميم التي ربما فاقت المجال الإشهاري والاستهلاكي استغلالا لموضوع الجمال، ولو كان على حساب كرامة المرأة وإنسانيتها، ما دامت تلك الأنواع المتجددة من التصاميم و<الموضا> تتنافس كل سنة بل كل يوم، باسم الجمال والفن، في تجريد المرأة من ثوب حيائها حتى كادوا يصممون ويفصلون لجسدها قطعة قماش تلف في كف واحدة! ولا أدري بعد هذا كيف يشرع عندنا مؤخرًا لتجريم التحرش الجنسي، ثم لا يعدّ هذا النوع من الاستغلال لجسد المرأة تشجيعًا على ذلك التحرش نفسه!!
لا ريب أن هذا الموضوع يحيلنا على سؤال كبير حول المشكلة الجنسية في مجتمعنا المغربي المعاصر، وهي مشكلة أخرى قائمة الذات، حري بنا أن نطرحها على بساط البحث العلمي لكونها تمثل مضمرًا من المضمرات التي لا يصرح به في كثير من الصراعات والاختلافات، ولا سبيل إلى فض هذه الاختلافات الإيديولوجية إلا بإبراز المشاكل العالقة وإعادة طرحها علميًا([22]).

الهوامش:
--------------------------------------------------------------------------------
[*] - كلية الآداب - الرباط.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]- من محاضرة ألقاها في <منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين> الذي يرأسه الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن.
[2]- قارن: العقاد (عامر)، آخر كلمات العقاد، دار المعارف بمصر، سلسلة اقرأ، 1965، ص 59 - 60 .
[3]- انظر: ابن خلدون (عبدالرحمان)، المقدمة، الفصل الثاني والثلاثون. .
[4]- قارن: بدوي (عبد الرحمان) ، إحياء علوم الدين، ص 299 - 298 .
[5]- الغزالي (أبو حامد)، إحياء علوم الدين، ص 299 - 298 .
[6]- نفسه، ج 4، ص 306 - 304 .
[7]- القاشاني (عبدالرزاق)، اصطلاحات الصوفية، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1981، ص 40 .
[8]- قارن قاسم (محمود)، الخيال في مذهب محيي الدين ابن عربي، القاهرة، جامعة الدول العربية، معهد البحوث والدراسات العربية، 1969، 48-42.
[9]- ابن عجيبة (أحمد)، شرح الفاتحة الكبير، أبو ظبي: منشورات المجمع الثقافي، ط 1999، ص 364 - 363 (تحقيق بسام محمد بارود).
[10]- زروق (أحمد)، شرح الحكم العطائية، المنشورات الجامعية للبيئة، كلية الآداب، طبع الهيئة المصرية العامة للـتأليف والنشر، 1971، 1391، ص 360 .
[11]- عمار (علي سالم)، أبو الحسن الشاذلي، دار التأليف بمصر، ج 1، 1951، ص 106 .
[12]- نفسه، ص 34.
[13]- ابن عجيبة، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1331هـ ، ص 107 .
[14]- قرآن كريم، الأعراف، 33 - 31 .
[15]- قرآن كريم، النحل، 8-6 .
[16]- انظر شرح الشيخ أحمد زروق لهذا الحديث في شرحه للحكم العطائية، مصدر سابق ذكره، ص 417 - 413 .
[17]- ابن القيم، روضة المحبين.
[18]- قارن: بكتابنا: الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، بيروت: دار المنتخب العربي ط 1، 1999 ص 413 - 420.
[19]- الغزالي (محمد)، السنة النبوية بين أهل الفقه.. وأهل الحديث، بيروت: الشروق، ط ، يناير 1990، ص 15.
[20]- نفسه، ص 91 .
[21]- نفسه، ص 59 .
[22]- نفسه، ص 96 - 97.

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية   (بازدید: 2732)   (نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر   (بازدید: 2651)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة   (بازدید: 4194)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة   (بازدید: 6849)   (نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ   (بازدید: 2882)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• منهج البيروني في دراسة الأديان   (بازدید: 4255)   (نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا   (بازدید: 2147)   (نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن   (بازدید: 4151)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي   (بازدید: 1352)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي   (بازدید: 4058)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية   (بازدید: 1214)   (نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين   (بازدید: 2170)   (نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة   (بازدید: 1819)   (نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة   (بازدید: 1639)   (نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة   (بازدید: 1023)   (نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب   (بازدید: 1061)   (نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي   (بازدید: 1540)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها   (بازدید: 843)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان   (بازدید: 888)   (نویسنده: سيد موسى الصدر)
• التقريب.. منهج تربوي   (بازدید: 1283)   (نویسنده: السيد محمد حسين فضل اللّه)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]