banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

التشريع وكرامة الإنسان
ثقافة التقريب - العدد اول

سيد موسى الصدر
1428

• حرمة حياة الإنسان شدّد عليها الإسلام تقريراً لكرامته • الإسلام يرى أن الإنسان أكرم من أن يعبد غير الله • وجوب الوفاء بالعقود يعني تكريم عهود الإنسان وكلمته • الإنسان هو الذي يخلق مسيرة المجتمع، وتطور التاريخ هو تفاعل بين الإنسان والكون • الآلة ليست لها حصة من الأرباح وحصة العامل مصونة من الخسائر في المضاربة .
يعتمد الإسلام في تشريع أحكامه وسنّ قوانينه، على قاعدة تكريم الإنسان، ويعتبر هذا المبدأ، هدفاً رئيسياً من أهداف الدين ومن غايات الرسالة.
وهذه نبذة من تلك التعاليم:
أ- فطرة الله:
الدين بصورة موجزة، فطرة الله التي فطر الناس عليها. والدين تعبيرٌ صحيح عن هذه الفطرة وإبرازٌ لها إبرازاً غير متأثر بالعوالم المختلفة الخارجة عن طبيعة الإنسان: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.
والحديث الشريف الوارد في تفسير الآية الكريمة هو: «إن كل مولود يولد على الفطرة». فالدين بموجب هذه التعاليم، هو فطرة الإنسان. ولكن الإنسان نفسه لا يتمكن أن يعبر عنها، لأنه يتأثر بالعوامل الخارجية التي تكسبه لوناً خاصاً.
فالصحيح أن يعبّر عن هذه الفطرة الإنسانية مقامٌ آخر، لا يتأثّر بالعوامل الخارجية.. مقامٌ هو فوق كل عامل وخالق كل مؤثّر.. مقامُ الله، الذي شرع الدين وخلق الفطرة.
ب- حفظ النفس والآخرين:
احترم الإسلام حياة الإنسان، واعتبر من أحياها كأنه أحيى الناس جميعاً، ومن قتلها متعمداً كأنه قتل الناس جميعاً وجزاؤه جهنم: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
ويشمل قتل النفس حسب التعاليم الإسلامية، قتل الجنين ولم يسمح الإسلام بأن يتصرف الإنسان بنفسه بالانتحار اعتباراً منه بأن حياته ملك له، وحرّم هذا تحريماً قاطعاً فقال تعالى:
﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾.
وجعل في قتل الخطأ دية لولي الدم وقد أصبح اليوم قانوناً عاماً، مع العلم أنه من التشريعات الإسلامية.
ويبالغ الإسلام في وجوب حفظ نفس الآخرين، ويهدّد الذين يهملون شؤون فقرائهم وأيتامهم، بحيث يؤدي إلى موت أحدهم فقراً وعجزاً: ﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة/ 195)، ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا﴾.
"لأنْ أعالَ أحدٌ أهلَ بيت من المسلمين فأكسي عريهم وأشبع جياعهم، أحبّ عند الله من حِجّة وحِجّة إلى سبعين حجة" (الإمام الصادق عليه السلام).
ج – التحرر الجوهري:
ونزّه الإسلام مقام الإنسان، فحرّم عليه عبادة الأصنام، وعبادة البشر وعبادة كل شخص أو شيء، واعتبر الإنسان أرفع من أن يعبد غير الله، ويخضع أمام محدود مثله. وفي كثير من التعاليم، نجد تحذيراً ومنعاً من طلب الحاجة من غير الله.
د- قدسية الكلمة:
ووردت تعاليم كثيرة تؤكد على تكريم ما يتلفّظ به الإنسان باعتباره جزء منه، ولذا أوجب صيانة القول، وجعل تسديده مفتاحاً لجلب كل خير ولدفع كل شر: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾.
وقد فسر تسديد القول في مواضع شتى من التعاليم أنه منع عن: الكذب والاغتياب والتهمة والنميمة والبذاءة والفحش واللهو وحتى اللغو في القول.
أما الشهادة فقد أعطيت عناية خاصة في الإسلام فقد وجب تحمّلها أو أداؤها، وبها تثبت الدعاوى وتستقر الحقوق وتتحقق العقوبات، ولكنها لا تقبل إلا من الإنسان العدل، واعتبرت شهادة الزور من المعاصي الكبيرة ويستحق مؤديها عقوبة كبرى في بعض الأمور الجزائية. والعهد: وهو الالتزام اللفظي، محترم في الإسلام: ﴿إن العهدَ كان عنه مسؤولا﴾.
والالتزامات اللفظية المتبادلة التي يعبّر عنها بالعقود، أوجب الوفاء بها، ونهى عن التخلّف عنها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾. ﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾.
وحتى الوعد اللفظي، يعتبر محترماً، وقد عبّر عنه الحديث الشريف "عدة المؤمن دينه". والالتزامات اللفظية التي تدخل ضمن العقود، تصبح واجبة الوفاء، ويعبر عنها بالشروط: «المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً» (حديث شريف).
والشروط هذه تعتبر وسيلة كافية لجعل العقود والمعاملات، تنطبق على الحاجات المختلفة، وتؤدي المتطلبات المتزايدة من الالتزامات.
واللفظ يحترمه الإسلام إلى حدّ جعله سبيلاً للدخول في الدين، فيكفي الإدلاء بالشهادة لله بالوحدانية، ولمحمد بالرسالة، ليتحقّق الانتماء إلى الإسلام، وقد نهى عن التنكر لمثل هذا الاعتراف: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
وقد جعل للكتابة ما للفظ في أكثر الأحيان، وأعتقد بأن التأكيد الشديد الصادر عن الإسلام، حول محاسبة الإنسان على كلّ كلمة يتلفّظ بها، وأن الله يسجّلها بواسطة كرام كاتبين. هذا التأكيد أيضاً من نوع الصيانة والتكريم، فالألفاظ الصادرة عن المكرمين، هي التي يعتني بها دون سواها والاهتمام بتسجيل كلمات الإنسان معناه الاهتمام بأمره والاعتراف بتكريمه:
﴿ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾.
هـ : السعادة والعمل:
أما عمل الإنسان، فقد أعطى له الإسلام بصورة صريحة، جوانب بالغة من الاهتمام والتكريم.
ففي حقل السعادة والشقاء الحقيقيين الشخصيين، يرفض الإسلام كل عامل خارجي، ويجعل السبيل الوحيد إليهما العمل فقط: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾. ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾.
وقد صرح القرآن الكريم بأن الفكرة التي كانت موجودة عند بعض الأمم، بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وكانت السبب الرئيسي في تقسيم المجتمعات، صرّح بخطأ هذه الفكرة، وإنها تتنافى مع التوحيد الحقيقي، ولا تُغني عن عمل الإنسان:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾.
وقد بلغ النبي محمد(ص) بجديّة المبدأ هذا نهايته، حينما قال مخاطباً ابنته فاطمة: «يا فاطمة اعملي لنفسك فإني لا أغني عنك من الله شيئاً».
وفي حقل تكوين المجتمعات وصورها وتنظيماتها ومستوياتها ومشاكلها، يحمّل الإسلام جميع هذه المسؤوليات الإنسان فقط، فهو الذي يخلق المجتمعات، وعمله هو الذي يرسم الخطط، ويحدد المسؤوليات، ويسبب المشاكل والصعوبات: ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾. ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
«كيفما تكونوا يُولّي عليكم» (حديث شريف) .
فعمل الإنسان هو القوة الوحيدة لتكوين التاريخ ولتحريكه وتطويره دون سواه، فلا دخل للعوامل الخارجة عن سعي الإنسان، في تكوين المجتمعات، وتحديد معالمها، كائناً ما كان، بل الإنسان بعمله عن معرفة، أو عن جهل، أو عن إهمال، يختار طريقاً، ويفضّل خطّاً، ويكون الأمر كما اختار هو لمجتمعه.
وتطور التاريخ أيضاً ليس إلا تفاعلاً بين الإنسان والكون، فالإنسان يحاول حسب رغبته وحاجته، أن يطّلع على العالم الذي يعيش فيه، فيقرأ منه سطراً، فتؤثر هذه القراءة على حياته، وترفع وعيه، وتطوّر معيشته، وتغيّر معالم بيئته، ثم يقرأ سطراً ثانياً وهكذا.
فالبطل الوحيد على مسرح التاريخ هو الإنسان، يكوّنه ويطوّره ويحرّكه، فيتطور هو ويتحرك ويتفاعل هكذا باستمرار. فعمل الإنسان هو صانع هذه الأحداث كلها، ليس إلا، فهل تجدون فوق هذا المقام تكريماً؟!
في حقل الاقتصاد، يعتبر الإسلام لأول مرة في التاريخ أن عمل الإنسان هو أمر أساسي ذو قيمة يحرم اغتصابه ويضمن المتعدي عليه، مثل المغتصب للأموال، ويعتبر المانع للأجير أجرته من المرتكبين لأكبر المعاصي، وأنه لا يشم رائحة الجنة.
ثم إذا لاحظنا مجموعة التعاليم الإسلامية في أبواب المعاملات في الفقه، نصل إلى نتائج مهمة، تثبت ان العمل هو العنصر الأول بين عناصر الإنتاج الثلاثة (العمل والآلة ورأس المال) وهذه النتائج قد تبدو غريبة إلا أنها حقيقة. ونحاول أن نعرض هذه التعاليم وتلك النتائج عرضاً موجزاً:
1- حرّم الإسلام الربا تحريماً قاطعاً، والربا هو وضع ربح ثابت لرأس المال مصون من خطر الخسائر المحتملة.
2- إذا استُعمل المال بواسطة غير مالكه في عقد يسميه الفقه بالمضاربة، فالأرباح تنقسم بالنسبة المحدودة بين العامل ورأس المال، والعمل. و«العمل» أي سعي العامل المضارب، مصون من الخسائر، وتقتصر الخسائر على رأس المال.
3- لا يجوز اعتبار حصة من الأرباح للآلة، كما هو صريح عبارات الفقهاء في باب المزارعة والمساقاة بل يمكن احتساب أجرة فقط للآلة.
4- تقويم العمل قد يكون بصورة أجرة العامل، وقد يتحقق بإشراك العامل في الأرباح مثل المضاربة.
من هذه الأحكام نستخرج أن عنصر العمل، له في الفقه الإسلامي ثلاثة امتيازات:
الأجر الثابت، والمشاركة في الأرباح، والصيانة عن الخسائر.
أما عنصر رأس المال وعنصر الآلة، فلكل منها امتياز واحد، فرأس المال يشترك بالأرباح دون الثابت من الصيانة والأجر. والآلة لها الأجر الثابت دون المشاركة في الأرباح، وأعتقد أن هذا الموجز من العرض يقنع القارئ الكريم بوجهة نظر الإسلام إلى عمل الإنسان، وبمقدار تكريمة له منذ البدء، وقبل التطورات الحديثة.

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• كرامة الإنسان الأسس العامة   (بازدید: 3193)   (موضوع: )
• كرامة الإنسان الفردية والاجتماعية   (بازدید: 1620)   (موضوع: )

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية   (بازدید: 2732)   (نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر   (بازدید: 2651)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة   (بازدید: 4194)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة   (بازدید: 6849)   (نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ   (بازدید: 2882)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي   (بازدید: 3253)   (نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان   (بازدید: 4255)   (نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا   (بازدید: 2147)   (نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن   (بازدید: 4151)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي   (بازدید: 1352)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي   (بازدید: 4058)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية   (بازدید: 1214)   (نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين   (بازدید: 2170)   (نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة   (بازدید: 1819)   (نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة   (بازدید: 1639)   (نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة   (بازدید: 1023)   (نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب   (بازدید: 1061)   (نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي   (بازدید: 1540)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها   (بازدید: 843)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التقريب.. منهج تربوي   (بازدید: 1283)   (نویسنده: السيد محمد حسين فضل اللّه)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]