وحدة المسلمين فريضة
|
ثقافة التقريب - العدد 2
محمّد علي آذرشب
1428
• لا يمكن أن تكون ثمة أمة دون وجود وحدة عضوية تربط بين أجزائها • الأمة المسلمة الحيّة لا تخلو من اختلاف، لكنّ هذا الاختلاف يؤدي إلى "تعارف" • اهتم الرسول(ص) بالوحدة قدر اهتمامه بالتوحيد • السبيل الوحيد لاستعادة الوحدة هو استعادة الصحوة واليقظة . فرائضُ الإسلام على قسمين: منها ما يربطُ الإنسان بربّه، ومنها ما يربطه بأخيه الإنسان. الصلاةُ والصومُ مثلا من الفرائض التي يؤدّيها الإنسان ليُوثّقَ علاقتَه برَبّ العالمين. بينما تتجّه الأحكامُ الاجتماعيَّةُ والاقتصادية والسياسية لتنظّم العلاقات بين أفراد المجتمع. وبين القسمين من الأحكام تأثير متبادل. فالأحكام الفرديّةُ، إن أدّاها الإنسان على النحو المطلوب تخلق في قلبه الرحمة والعواطفَ الإنسانية، وتجعله موجوداً ذا عطاء اجتماعي. والأحكام الاجتماعية كأحكام التكافُل إن أدّاها الإنسان المسلم قربةً إلى الله تعالى تشدُّهُ بالله، وتقرّبه منه. ويلاحظ أنّ الإسلام وجّه العبادات الفرديّة أيضاً توجيها اجتماعياً من أجل أن تكون عاملاً على تماسُك أبناء الأمّة. ولذلك حثّ على الصلاة جماعةً، ووجّه الصائم إلى أن يتحسّس ما يعانيه الجياع. أما الحجّ فرحلة جماعيّة إلى ربّ العالمين. من الأحكام التي غَفَل عنها المسلمون، في العصور الأخيرة خاصة، الوحدةُ والتماسُكُ الاجتماعي بين أبناء الأمّة الإسلامية. والواقعُ أنه لا يمكن أن تكون ثمة "أمة" دون وجود وحدة عضوية تربط بين أجزائها، وإلاّ فليست هي بأمّة بل شبح أمة. ولذلك قرّر الإسلام مبدأ "الأخوّة" بين المؤمنين، فقال سبحانه: ﴿إنّما المؤمنون إخوةٌ﴾. وهذا المبدأ يعني أنّ الإيمان والأخوّة متلازمان قوة وضعفاً. وصف رسول الله(ص) المؤمنين بأنهم كالجسد الواحد "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، وهذا تقرير آخر لنفس مبدأ الأخوّة. فالجسد الواحد مترابط في أجزائه ترابطاً عضوياً. إذا أصيب عضو بألم تتجاوب معه سائر أجزاء الجسد، وإلاّ فليس هذا الجسد بحيّ. وهكذا الأمةُ "الحيّة" إذا ألمَّ بأحد أجزائها خطب تتحسّس سائر الأجزاء، وتهبُّ متجاوبةً مواسية. من هنا لا يُمكن أن نتصوّر انفصالا بين الإيمان والوحدة. كلاهما مبدآن أساسيان يقوم عليهما الإسلام. وما أجمل قول القائل: "بُني الإسلام على كلمتين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة". ولا يعني ذلك طبعاً أنّ الأمة المسلمة الحيّة تخلو من اختلاف في وجهات النظر والعادات والتقاليد والأذواق. فهو اختلاف طبيعي بين أبناء البشر، بل بين أبناء الأسرة الواحدة أحياناً. غير أنّ هذا الاختلاف لا يؤدّي إلى نزاع وشقاق بين أبناء الأمة الحيّة. بل إلى "التعارف" وتبادل التجارب والتعاون وإثراء المسيرة الحضاريّة، فالاختلاف غير الخلاف. كلُّ شقاق بين أبناء الأمة الواحدة يعني أنّ هذه الأمة ابتعدت عن مسيرتها الرسالية، وضعفت معالمُ "الحياة" فيها، ولذلك قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾... لا يمكن أن تدّعي الفئة المتفرّقة المبعثرةُ المشرذمة المتنازعة أنها تنتمي إلى الإسلام والى رسول الإسلام، فرسول الله ليس منها، وليست هي منه. وهي أقربُ إلى الكفر منه إلى الإسلام، ففي الحديث: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضربُ بعضكم رقاب بعض". الأمّة المسلمة الرساليّة بطبيعتها أمة واحدة: "إن هذه أمتكم أمة واحدةً، وأنا ربّكم فاعبدون". الإسلام حذّر بشدّة من أية عصبية قومية أو قبلية أو فئويّة أو حزبيّة.. فوجود هذه العصبيات لا ينسجم وروح الأمة الواحدة.. ونهى عن أيّ تفرّق وتنازع. قال سبحانه: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾. نبيّ الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام اهتمّ بترسيخ روح "الوحدة" في المشاعر والقلوب قدَرَ اهتمامه بغرس كلمة "التوحيد" في الأفكار والعقول. والصعاب والعقبات التي واجهها على طريق إقامة الأمة الواحدة لم تكن قليلة. فالمجتمع الإسلامي في عصر رسول الله كان قد ورث مخلفات الجاهلية من عصبيات قومية وعرقية وقبلية، كما ورث ذكريات الحروب والنزاعات الدموية التي كانت قد نشبت بين القبائل في الجاهليّة، وورث أيضا التقسيم الفئوي بين أبناء المجتمع بين سادة وعبيد، وأغنياء وفقراء، وأشراف وعاديين. وخلال حوادث تاريخ الدعوة النبوية المباركة ظهر المهاجرون والأنصار، ومن أسلم قبل فتح مكة ومن أسلم بعدها. ورسول الله لم يدع تلك التركة البغيضة الجاهلية وهذه التقسيمات الجديدة أن تفتح ثغرة في صفوف المسلمين. بل ربط جميع أفراد المجتمع برباط الإسلام، ودفعهم نحو حركة مستمرة لتغيير النفس وتغيير العالم. وإذا ظهر من يتعزى بعزاء الجاهلية ويثير النعرات العصبية والقبلية يتخذ منه أشد موقف ويؤنّبه أعنف تأنيب. العصور الإسلامية التي تلت عصر الرسالة الأول شهدت اختلافات بين المسلمين أدّت إلى ظهور فرق ومذاهب داخل إطار العقيدة الإسلامية والدين الإسلامي. غير أن هذه الاختلافات المذهبية ما كانت تحول دون شعور المسلمين بأنهم أمة واحدة. فوقفوا بوجه كلّ تهديد خارجي موقفاً واحداً، ولا أدلّ على ذلك من موقفهم تجاه الحروب الصليبية. وكانوا على الصعيد الداخلي متعاونين متواصلين خاصة في الحقل العلمي. فالعلماء يجوبون حواضر العالم الإسلامي، ويُلقون الدروس في كلّ مكان يحلّون فيه، وتنتقل الكتب في زمن تأليفها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب مع سعة الرقعة الجغرافية، وصعوبة الاستنساخ، ومشاقّ السفر وأخطاره. هذا التعاون العلمي بين خوارزم وهرات ونيشابور ومرو وجرجان واصفهان والريّ وهمدان وبغداد والشام والحجاز واليمن ومصر والمغرب والأندلس أدى إلى ظهور نهضة علمية في جميع ما يحتاجه العالم الإسلامي من معارف دينية وعقلية وطبيعية وعمرانيّة وفنيّة. وخلال العصور الإسلامية حدثت انقسامات سياسية أيضاً نتيجة غياب القيادة الإسلامية الواعية المخلصة، ونشب بين القيادات السياسية صراع حاول أن يستخدم الدين لتحقيق أهدافه، وأدّى ذلك في كثير من الأحيان إلى نزاعات دمويّة باسم الدين، والدين منها بُراء. ولكنّ كلّ ذلك أيضا لم يستطع أن يقضي على وجود الأمة الموحدة في ثقافتها وعلومها وآلامها وآمالها. فالشعلة التي أوقدها رسول الله في ضمير هذه الأمة ظلّت متوهجة على مر العصور، والبذرة التي غرسها في روحها آتت أكلها على مدى قرون طويلة رغم كلّ ما عصف بالمجتمعات الإسلامية من أهواء وانحرافات جاهلة أو مغرضة. وفي القرون الأخيرة حدث انعطاف كبير في مسيرة أمتنا، بعد أن انتكست ومُزقت شرّ ممزّق . وكان هذا التمزق شديداً بحيث ما عادَ المسلمون في أرجاء الأرض يشعرون أنهم أمة واحدة. التقسيمات الجغرافية السياسية، والتقسيمات القوميّة، بل والانقسامات الإقليمية داخل القومية الواحدة، والتشرذمات الحزبية والطائفية والمصلحية تعمّقت وتجذّرت حتى أصبحنا شعوباً وقبائل متناحرةً متصارعة لا يعرف بعض عن بعض شيئاً، ولا يهتم عضو بآخر. وهذه هي علامات الموت في الأمة.. وهذه من أكبر المآسي التي نزلت بأمة خاتم الرسل والأنبياء. ومع كلّ هذه المآسي وما سبقها ورافقها من سيطرة استعمارية ومن نهب لثروات المسلمين وسحق لكرامتهم وانتهاك لمقدّساتهم، لم تنطفئ شعلة الإسلام في النفوس. فقد هبّ مَنْ سعى على طريق إعادة "الروح" الإسلامية إلى جسد الأمة وإيقاظها من سباتها، وإعادة الترابط والتواصل بين أجزائها، وكانت نتيجة هذه الجهود أن عمّت صحوة إسلامية في بلدان المسلمين، ويتحمل كلّ المسلمين اليوم مسؤولية العمل على نموّ هذه الصحوة وترشيدها ونشرها حتى نعود كما أراد الله لنا "خير أمة أخرجت للناس".
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية
(بازدید: 2732)
(نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر
(بازدید: 2651)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة
(بازدید: 4194)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة
(بازدید: 6849)
(نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ
(بازدید: 2882)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي
(بازدید: 3253)
(نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان
(بازدید: 4255)
(نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا
(بازدید: 2147)
(نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن
(بازدید: 4151)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي
(بازدید: 1352)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي
(بازدید: 4058)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية
(بازدید: 1214)
(نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين
(بازدید: 2170)
(نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة
(بازدید: 1819)
(نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة
(بازدید: 1639)
(نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة
(بازدید: 1023)
(نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب
(بازدید: 1061)
(نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي
(بازدید: 1540)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها
(بازدید: 843)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان
(بازدید: 888)
(نویسنده: سيد موسى الصدر)
|