سعدي شاعر الإنسانية
|
ثقافة التقريب - العدد 1
محمّد علي آذرشب
1428
• دور المصلحين يتلخّص في إزالة عوامل الوقر على الآذان والحجاب على القلوب لتكون مؤهّلة لتلقي نداء الوحي • نهض سعدي في أدبه بدور هام في إيقاظ الشعور • أول نقلة في حياة سعدي هو انتقاله إلى صف العاشقين • عظمة سعدي ذكرها أهل الشرق والغرب . دور الأدب في حياة الشعوب ذو أهمية بالغة.. فهو يحافظ على الذوق البشري من الانتكاس، وعلى المعنويات الإنسانية من الارتكاس. الجماعة الإنسانية حيّة بما تمتلكه من مقوّمات الحياة. وأهمّ هذه المقومات الذوق الإنساني والمشاعر الإنسانية.. وإذا ضعفت هذه المقومات دبّ الموت في حياة الجماعة، وفقدت دورها على ساحة التاريخ. ويعظُم دور الأديب ويتصاعد حين يعيش بين ظهراني أمة تكالبت عليها عوامل الموت والإبادة، لتحوّلها من أمة متحركة على طريق المستقبل الأفضل إلى مجموعة من الأفراد الذين يعيش كل منهم همومه الخاصة الصغيرة، وليتحرك على طريق أطماعه وأهوائه وأحقاده وحسده وضغينته، عندئذ تتحول هذه الأمة إلى شبح أمة وتفقد هويتها ومقومات حياتها ولا سبيل أمامها عندئذ إلا الفناء. لاشك أن الأمة الإسلامية حيّة بقرآنها، لأنه الكتاب الذي يستطيع أن يضخّ في جسدها دائماً مقوّمات الحياة، ويحافظ على مستوى رفيع من ذوقها ومشاعرها الإنسانية، بما يحمله من إعجاز أدبي ومحتوى تغييري. لكنّ الظروف السيئة إذا تكالبت على الفرد أو على الأمة تخلق على القلوب حجاباً وتضرب على الآذان أسدالاً ووقراً، وتجعل بين الإنسان والخطاب القرآني حجاباً، وهنا يأتي دور المصلحين ليزيلوا هذه العوامل العازلة من وقر وحجاب، وليفتحوا قلوب الناس وآذانهم لتتلقى نداء الروح ولتصغي إلى كلام السماء. وأفضل وسيلة يستطيع أن يمارسها المصلح لتحقيق الهدف هو "الأدب" لأنه الخطاب الذي يحمل من نور الجمال ما يستطيع أن يشقّ به ظلمات كل قبح تسقط البشرية في أوحاله. وشاعرنا "سعدي" الشيرازي من أولئك المصلحين الذين عاشوا في أحلك الظروف الاجتماعية حيث ادلهمّت خطوب الجهل الداخلي والغزو الخارجي في القرن السابع الهجري لتمزّق وجود الأمة، فحمل قيثارة أدبه وظل يعزف عليها في أرجاء العالم الإسلامي، ليكون له الدور الخالد في مخاطبة جيله وكل الأجيال بلغة تنفذ إلى القلب والروح فتوقظ المشاعر الإنسانية من سباتها، وترفع الإنسانية إلى حيثُ أراد لها بارؤها من عزّة وكرامة. من هو سعدي رجل ظهر في القرن السابع الهجري (ولـد سنة 606هـ) بمدينة شيراز من بلاد فارس، يتحدث بلغة تستولي على العقول والقلوب بنثرها وشعرها، وجدَ الناسُ فيه ضالتهم التي تنشدها فطرتهم الإنسانية، في وقت تكالبت فيه الظروف السيئة على العالم الإسلامي لتؤدي إلى هجوم المغول وسقوط الخلافة العباسية. وما كان هجوم المغول إلاّ بعد أن توفّرت في المسلمين قابليّة الغزو، فقد تفشّت أمراض النزاعات الداخلية والجهل، وأدى كل ذلك إلى غياب الأهداف الكبرى والـمُثُل العليا في المجتمع، وما ينجم عن ذلك عادة من حرص وطمع وذلّ واختلال في القيم. والفرق بين الأديب وغيره أن الأديب وهبه الله قدرة رؤية الأشياء بأعمق مما يراه الإنسان الاعتيادي، ومن هذه النظرة العميقة ينطلق لاتخاذ مواقف لا يتخذها الآخرون. وسعدي الأديب رأى ما رآه الآخرون من أمراض عصره، ولكنه لم يقف أمامها موقف الخاضع العاجز المستسلم الذي يبرّرها بأسباب غيبيّة ويعزوها إلى القضاء والقدر، بل نظر إليها نظر طبيب قادر على أن يشخّص أسباب هذه الأمراض ويهبّ لعلاجها. بدأ شرف الدين مصلح بن عبد الله سعدي الشيرازي أول حركته في انتقاله من الطريقة التقليدية السائدة في عصره لتعلّم الدين إلى طريقة العاشقين في فهم الدين والحياة والمجتمع، والعاشق له معناه الكبير لدى العارفين، فهو المتحرّك الذي لا يقرّ له قرار، يشدّه الجمال نحو هدف سام كبير، ويجعله مستعداً لتقديم ألوان التضحيات في سبيل هذا الهدف. يشير إلى هذا الانتقال بقوله: همه قبيله ى من معلمان ديـن بودنــد مـرا معلّم عشق ترا شاعرى آموخت أي: "كل أفراد قبيلتي كانوا معلمين في الدين / ومعلم العشق علّمك أن تنشـد الشعر". هذا التحوّل أثّــر على خطاب الشاعر، فقد أصبح إنسانياً جمالياً عميقاً، كما دفعه هذا التحوّل إلى الخروج من دائرة بيئته الضيقة ليسوح في العالم الإسلامي، ويتعرّف على مختلف الثقافات، في العالم العربي وآسيا الوسطى وشرق آسيا، وليعود وهو محمّل بتجارب إنسانية واسعة، خلّدها في نثره وشعره. جُمعت آثاره في مجموعة سمّيت "كليّات"، والكليّات لأي أديب تعني مجموعة ما تركه من أدب منثور ومنظوم. وتضمّ كليات سعدي: "گلستان" أو روضة الورد، ويضمّ مجموعة من ذكريات الشاعر وقصصه ومواعظه، وهي مزيجة من النثر والشعر. وكتاب "بوستان" أو روضة العطر، و يتضمن حكايات منظومة وقصائد في المديح، وكتاب "غزليات" ويتضمّن الطيبات، والبدائع، والخواتيم، والغزليات القديمة، والترجيعات، والملحقات، والرباعيات. وكتاب "المواعظ" وفيه القصائد الفارسية والعربية، والغزل العرفاني، ونصيحة الملوك ، والمجالس. منزلة الشاعر ومكانته أطلق كثير من الشعراء القدماء ورجال التاريخ والأدب أحكاماً عامة على الشاعر، لا بأس أن نشير إلى بعضها. فمن المعاصرين له، الشاعر "همام التبريزي" وقد كان من مشاهير الغزليين في عصره، يصف نفسه بالإجادة في الشعر، لكنه يستدرك بأنه لم يبلغ في إجادته ما بلغه سعدي يقول: همام را سخن دلفريب وشيرين هست ولى چه سود بيچاره نيســت شيرازى أي: "لهمام أسلوب حلو يخلب الألباب / ولكن ما فائدة ذلك، فالمسكين ليس (سعدي) الشيرازي". ومن معاصريه أيضاً شاعر آخر مُجيد يسمى "مجد همگر" يقول عن شعر "سعدي" إنه كالكعبة يؤمه كل الناس، كما يشبّه فيض قلبه بزمزم. از سعدى مشهور سخن شعـر روان جوى كو كعبه فضلست و دلش چشمه زمزم أي: "اطلب من سعدي المتكلّم شعراً سلسلاً / فهو كعبة الفضل وقلبه زمزم". وقد ظل الذين جاؤوا بعده يفيضون كثيراً من ألوان التقدير له. وحتى "حافظ الشيرازي" شاعر العرفان الكبير – يجعل "سعدي" أستاذاً في جميع فنون الشعر، ليس في نظره – فحسب – بل في نظر جميع الناس. استاد سخن سعديست نزد همه كس اما دارد سخن حافظ طرز سخن خواجو أي: "أستاذ الأدب سعدي باتفاق الجميع / أما لحافظ أدب يحذو فيه حذو خواجو". ويرى "دولتشاه" أن أنبياء الشعر ثلاثة، كل واحد أستاذ في ناحية، لا يجاريه فيها غيره. هم "الفردوسي" في القصص، و "الأنوري" في القصائد، و"سعدي" في الغزل. در شعــر ســه تن پـيمبراننـد هــرچند كــه لا نبــىّ بعــدى أوصاف وقصيـــده وغــزل را فردوسى و انــورى وسعــدى أي: "في الشعر ثلاثة هم أنبياء /وإن كان (لا نبي بعدي)/ في الوصف والقصيدة والغزل / فردوسـي وأنوري وسعدي". يؤيد هذا ما يذكره صاحب "حبيب السير" فيقول: إن أحداً لم يبلغ ما بلغه "سعدي" في فن الغزل. ويورد الأستاذ "الگرگاني" في مقدمته على "الگلستان" أن سعدي بلغ مكانة في الغزل لم يدركها أحد قبله، فقد ألبسه ثوباً جديداً، وكأنما كانت غزلياته دواء للولهى، ولهذا يعدّون ديوانه في الغزل "ملاحة الشعراء". ويذكر "براون" في مقارنة طويلة بين "حافظ وسعدي" كيف أن "حافظاً" استعار كثيراً من المعاني التي تضمنتها أشعار "سعدي" في الگلستان، والطيبات، والغزليات، والبدائع. وينتهي من ذلك بأن "حافظاً" يعدّ مديناً إلى حد كبير للشاعر "سعدي". ويرى الأستاذ "آربري" أن الشاعر الحق، والكاتب المبدع هو الذي يجمع بين سمو الفكرة وطرافتها، مع رقة العبارة وسلاستها، ومن هنا كان السبب في إعجاب الكثيرين من الفرنسيين "بسعدي" فقد أعجب به "ديدرو"، وأطراه "فولتير"، وأشادت به "مدام رولان"، وقال عنه "رينان": إن سعدي في الواقع واحد منا، كما قال عنه "بارييه دي منار": إننا نجد فيه ما يذكرنا ببلاغة "هوراس" ورقة "اوفيد" وفصاحة "دي ريباليه" وإنسانية "لا فونتين". ولهذا أصبح الرجل – ذو الأسلوب البديع – أنموذجاً يحتذيه كل من يتعلم الفارسية.
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية
(بازدید: 2732)
(نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر
(بازدید: 2651)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة
(بازدید: 4194)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة
(بازدید: 6849)
(نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ
(بازدید: 2882)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي
(بازدید: 3253)
(نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان
(بازدید: 4255)
(نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا
(بازدید: 2147)
(نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن
(بازدید: 4151)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي
(بازدید: 1352)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي
(بازدید: 4058)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية
(بازدید: 1214)
(نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين
(بازدید: 2170)
(نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة
(بازدید: 1819)
(نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة
(بازدید: 1639)
(نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة
(بازدید: 1023)
(نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب
(بازدید: 1061)
(نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي
(بازدید: 1540)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها
(بازدید: 843)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان
(بازدید: 888)
(نویسنده: سيد موسى الصدر)
|