كنّا قرية صغيرة
|
ثقافتنا - العدد ١
دراسات حضارية
محمّد علي آذرشب
1424
تحوّل العالم إلي قرية صغيرة مقولة بدأت تتكرّر على الأفواه بعد ثورة الاتصالات، ورغم أنّ لها رصيداً ممّا شهدته العقود الأخيرة من انتشار الفضائيّات وشبكات الاتصال، غير أنّه يُشـمّ منها رائحة (العولمة (السياسية والاقتصاديّة والعسكريّة والثقافـية…… وبالتالي رائحة الهيمنة الأمريكية بعد انفرادها فـي العالم. ونحن فـي العالم الإسلامي رحنا نردد هذه المقولة ضمن عادتنا فـي ترديد ما يقوله الغرب، دون التفكير فـي خلفـياتها، مكرّسين بذلك روح الهزيمة، ومعرّضين بذلك هويّتنا وأصالتنا لمزيد من الغزو. أقف قليلاً عند القرية الصغيرة هذه لأسترجع ماضينا وأستعرض واقعنا فـي هذا الإطار. لقد كنـّا) قرية صغيرة (حين كانت تجمعنا وحدة حضارية. تجد معلومات تفصيليّة عن شرق العالم الإسلامي فـي رحلة (ابن بطّوطة (المغاربي وعن غرب العالم الإسلامي فـي رحلة (ناصر خسرو) المشرقي. جناحان متباعدان فـي العالم أحدهما فـي المغرب العربي والآخر فـي خراسان، يصبحان قريبين بفضل انتمائهما لمنظومة حضاريّة واحدة. و (المتنبّي) فـي الشام ومصر والعراق يُنشد قصائده، فتصل فـي نفس الوقت إلي أصفهان، فـيتلقّاها الأدباء والشعراء بل وعامّة الناس بشوق بالغ، وتصبح أناشيد على ألسنتهم، ومادّة لمجالس نقدهم، بل ويتناولها أكبر حاكم للمقاطعة وهو الوزير (الصاحب بن عبّاد) فـيكتب رسالة نقديّة على شعر المتنبّي، وفـي نفس عصر المتنبّي تـُكتب أيضاً فـي إيران عشرات الشروح وعشرات الكتب النقديّة حول ديوان المتنبّي وبعضها بعد وفاته بقليل. ويستضيفه ابن العميد فـي أرّجان وعضد الدولة فـي شيراز ويقف عند شِعب بوّان لينشد: مغاني الشِعب طيباً فـي بمنزلة الربيع من الزمان ومن قبله يتّجه أبو تمام إلي خراسان ليزور عبد الله بن طاهر، فـيقف فـي قومس (على حدود خراسان (فـيقول: يقول فـي قومس صحبي وقد أخذت أخذت منّا السُرى وخطا المهريّة القُودِ أمطلع الشمس تبغي أن تؤمّ بنا فقلت كلا ولكن مطلع الجودِ هذا بالنسبة إلي هذين الشاعرين العربيين العملاقين، ولدي غيرهما من الأدباء والشعراء والرحّالة والعلماء والفلاسفة والمتصوّفة آلاف الصور والوثائق التي تشهد بأنّنا كنّا قرية صغيرة، رغم عدم وجود سبُل المواصلات ولا وسائل الاتصالات الحديثة، فقد كان التواصل علي ظهر الخيل والجمال والبغال، وعبر طرق وعرة بين الوديان والجبال، ينعدم فـيها الأمن وكلّ مستلزمات السفر المريح. هذا أبو الفرج الأصفهاني يجمع كلّ وثائق الأدب وأخبار الأدباء وأصوات الغناء منذ الجاهليّة حتّي عصره، ثم يأتي بعده الثعالبي ليسوح فـي العالم ويجمع كلّ أخبار الأدب العربي فـي يتيمته، ويتابع العماد الأصفهاني هذا المشروع ليكتب فـي خريدته عن أدباء عصره ابتداءً من الأندلس وشمال أفريقيا ومروراً بالشام والحجاز والعراق، وانتهاء بأصفهان وشيراز وماوراء النهر. لا يوجد اليوم فـي عصر الانترنت مشروع شامل كهذا يؤرّخ لساحة الأدب العربي فـي غرب العالم وشرقه. وهكذا فعل أصحاب الطبقات الذين أرّخوا للفقهاء وشيوخ المتصوّفة والمفسّرين…… كنّا قرية صغيرة، وأمّا الآن فأترك الحكم للقارئ كي يضع الاسـم المناسب لهذه المجموعة الحضاريّة بعد تمزّقها. ولو التفتّ من الماضي إلي الحاضر لما وجدت فـي واقع العالم شيئاً من مقوّمات القرية الواحدة الصغيرة. فأبناء القرية خلافاً للمدن الكبيرة متعارفون ومتواصلون ومتحابّون ومتعاونون ومتعاضدون، لا يصيب أحدَهم مكروه حتّى يسرع أبناء القرية لإنقاذه، ولا تنزل بساحة أحدهم غاشية من غواشي الدهر حتّي يهبّ الجميع لمواساته ومساعدته، كلّهم غالباً علي قلب واحد، وجميعهم متناصرون فـي حماية الحقّ ودفع العدوان. أين هذا العالم من العالم المعاصر؟ ! عالمنا إن أصبح بفضل وسائط النقل والاتصال الحديثة صغيراً فلم يصبح قرية بل صار مثل بيت العنكبوت الذي وصفه القرآن الكريم بأنّه «أوهن البيوت» لا لضعف فـي قواه الماديّة، فعالمنا قويّ فـي تقنيّته المتطورة، كما أنّ خيط العنكبوت أقوى من مثيله مرات … وأقوى من خيط الحرير وأكثر منه مرونة. فبيت العنكبوت واهٍ لا فـي نسيجه لأنّه قلعة أمينة حصينة بالنسبة لساكنه، بل هو واهٍ فـي التعامل بين من يعيش فـيه. (العنكبوت الأنثي تقتل ذكرها يعد أن يلقّحها وتأكله… والأبناء يأكلون بعضهم بعضاً بعد الخروج من البيض، ولهذا يعمد الذكر إلى الفرار بعد أن يلقّح أنثاه ولا يحاول أن يضع قدمه فـي بيتها. وتغزل أنثي العنكبوت بيتها ليكون فخّاً وكميناً ومقتلاً لكلّ حشرة صغيرة تفكّر أن تقترب منه… وكلّ من يدخل البيت من زوّار وضيوف يُقتل ويُلتهم… إنّه ليس بيتاً إذن، بل مذبحة يخيّم عليها الخوف والتربّص) [١] وما أشبه هذا البيت بواقعنا الدوليّ حيث المذابح والقمع الوحشيّ فـي كلّ مكان، وحيث القويّ يأكل الضعيف وفق قواعد تنازع البقاء، وحيث النزاعات الطائفـية والعنصريّة والإقليميّة والحدوديّة تنتشر فـي ربوع المعمورة، وحيث التهديد الذري والنووي والكيمياوي يطالعنا كلّ يوم فـي عناوين الصُحُف والأخبار. أهذا العالم قرية أم بيت عنكبوت؟ ! نحن أجدر الناس بأن نتحوّل إلي قرية صغيرة حقيقيّة بما لدينا من رصيد حضاري إنساني، وبما وفّرته لنا تقنية الاتصالات اليوم من وسائل تعمّق وحدتنا وارتباطنا وتعارفنا، لنقدّم مرّة أخرى النموذج الأمثل لخير أمّة أُخرجت للناس. ١ - مصطفـي محمود، محاولة لتفسير عصريّ للقرآن، ص ٣٧٣ - ٣٧٤.
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• التغيير الإسلامي في إيران من منظور حضاري
(بازدید: 1098)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• انتشار الرسوم المسيئة لشخصية برؤية ثقافية حضارية رسول الاسلام (ص)
(بازدید: 882)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• تعليم العربية لغير الناطقين بها وسيلة حوار بين الحضارات
(بازدید: 1706)
(نویسنده: محمد الجعيدي)
• دور زينب بنت علي في مسيرة الحضارة الاسلامية
(بازدید: 1727)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• عاشوراء بمنظار حضاري
(بازدید: 1463)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• عبدالرحمن الكواكبي من روّاد الاستنهاض الحضاري
(بازدید: 1350)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مالك بن نبي والإنسان ومسار الحضارة
(بازدید: 1464)
(نویسنده: أسعد السحمراني)
• محمد إقبال وتجديد التفكير الديني في الاسلام
(بازدید: 2349)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• مسألة «المهدي المنتظر» برؤية حضارية
(بازدید: 1137)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مشروع الكواكبي اجتماعياً وتربوياً
(بازدید: 1312)
(نویسنده: محمد قجة)
• نحو فهم حضاري لتاريخنا الإسلامي معركة الطف نموذجًا
(بازدید: 1038)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• الثقافة بين التخلف والتخلق
(بازدید: 1088)
(نویسنده: الدكتور خالد زهري)
• الثقافة والحضارة
(بازدید: 2449)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• الجمع بين الاصالة والمعاصرة
(بازدید: 1840)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• الحضارة والتفاعل الحضاري
(بازدید: 1183)
(نویسنده: عبد الله الفريجي)
• تحديات تأهيل العقل المسلم في المشروع الحضاري
(بازدید: 932)
(نویسنده: الدكتور عبدالناصر موسى أبوالبصل)
• رؤية السيد الشهيد الصدر لمسألة التنمية
(بازدید: 1452)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مستقبل الإسلام في ضوء التحديات الراهنة
(بازدید: 1432)
(نویسنده: حسن حنفي)
• وسطية الحضارة الإسلامية
(بازدید: 847)
(نویسنده: أحمد الطيب)
• ابن المقفع بين حضارتين دراسة فكرية نقدية و أدبية
(بازدید: 2055)
(نویسنده: حسين علي جمعة)
|