من الطبيعي أن تعير «ثقافتنا» اهتماماً خاصاً بالعواصم الثقافية التي تعلنها منظمة الايسيسكو كل عام، لا للحديث عن معالمها الحضارية وعن تاريخها فحسب، إذ إن ذلك يرتبط بالماضي، بل عن الدور الذي يمكن أن تنهض به تلك العاصمة في الحركة الثقافية المرتقبة لأمتنا وحضارتها المنشودة.
إصفهان تملك رصيداً كبيراً من العطاء الذي يمكن أن تقدمه للثقافة الإسلامية، شرط أن يُنفض الغبار عن هذا الرصيد وأن يُفعّل بشكل يتناسب مع لغة العصر واحتياجات العصر.
هذه المدينة تمتلك ذخائر عظيمة في الفكر والادب والفن والعلوم تحتاج إلى كشف وإعادة صياغة وتقديم.
فقد شهدت هذه المدينة على مرّ التاريخ مدارس ضخمة في الفلسفة والعرفان والحديث والفقه، ومحاولات كبيرة للتطوير الفكري والفقهي، ومبادرات لتركيز مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة، لكنها لم تتواصل بسبب ما واجه حركتنا الثقافية من انتكاس.
وشهدت هذه المدينة تطوراً في تخطيط المدن وبناء المساجد والاسواق والجسور وكري الانهار واستصلاح الأرض الزراعية، وهي معلومات تستطيع أن تكون منطلقاً لحركة علمية قائمة على أساس التجارب المحليّة.
وهذه المدينة قدّمت صوراً هامّة من صور وحدة الدائرة الحضارية الإسلامية عبر شخصياتها الذين اهتمّوا بالتراث العلمي والأدبي لكل العالم الإسلامي أمثال أبي نُعيم، والعماد، وأبي الفرج.
ويبلغ تفاعل هذه المدينة مع سائر أجزاء العالم الإسلامي أنّ الصاحب بن عبّاد الوزير البويهي في هذه المدينة يكتب رسالة نقدية على شعر المتنبي في زمن حياة الشاعر. وهذا له دلالة على القرية الكبيرة التي كانت تجمع العالم الإسلامي يومئذ، وعلى وجود كلّ المقوّمات اللازمة لعودة هذه القرية إلى عالمنا الإسلامي.
إصفهان تقدّم لنا أيضاً ملفّاً قيّماً ناصعاً عن الانفتاح على الآخر، والتعايش السلمي مع الآخر في إطار المواطنة، وهذا مظهر آخر من مظاهر الحياة الإسلامية المتحضّرة.
هذه المدينة عاش فيها المسلمون مع المسيحيين (وهم غير الصليبيين) ومع اليهود (وهم غير الصهاينة) ومع الزرادشتيين، ومع الصابئة جنباً إلى جنب متعاونين متآلفين، تجمعهم الروح الحضارية الاسلاميّة.
وهذه المدينة كانت على مرّ العصور مركز إشعاع علمي وحركة ثقافية صبّت روافدها في ساحة الحضارة الإسلامية، وتألقت بذلك بين المدن.
من هنا فإننا بهذا العدد وبالاعداد القادمة التي ستصدر بإذن الله عام 1427/2006 سنخصص ملفاً لاصفهان، عسى أن نكون بذلك قد أسهمنا بخطوة متواضعة على طريق استثمار هذه الفرصة.