banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا
ثقافتنا - العدد 16

محمود حيدر
1429

ميتا ـ استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا
محمود حيدر[*]
ملخّص
تميّزت إستراتيجية المقاومة اللبنانية في مواجهة العدوّ الصهيوني باستعادة الأُسس الأخلاقية لمفهوم الحرب. وهذه الأسس مستمدة من مقتضيات الحقيقة الدينية. وتتبلور أخلاقية المقاومة في البصيرة وتجاوز الذات والتضحية والصبر واجتناب الغرور والصدق والثقة بالنصر الإلهي.

لو كان لنا من توصيف إجمالي لمعنى المواجهة بين العدو الإسرائيلي والمقاومة، لجاز القول إنّها في أحد تعبيراتها مواجهة تستعيد الأسس الأخلاقية لمفهوم الحرب. ففي الأعم الأغلب دلَّ تاريخ الحروب، وحروب منطقتنا بوجه مخصوص على احتجاب هذه الأسس لدواعٍ شتّى.
ومن معاينة إجمالية لتجربتها، وجدنا أنّ المقاومة أفلحت في تظهير العامل الأخلاقي على غير مستوى: في المواجهات العسكرية والسياسية، وفي إدارة المجتمع الأهلي، وفي إعادة الاعتبار إليه كعامل مركزي في استراتيجيات الحرب.
حين يجري الكلام على مثل هذا التظهير، فذلك لايعني أنّ الأخلاقية هي مجرد قيمة مضافة إلى الممارسة العامّة للفعل المقاوم. إنّها تدخل دخولاً بيِّنًا في أصل الفعل. أي بصفة كونها فعالية سارية في الطبقات الفكرية، والمعرفية، والعلمية المكوّنة لمشروع المقاومة.
تدخل الأخلاقية إذًا، كأصل تكويني للمقاومة. وعلى هذا النحو، هي حالة معرفية تتجلى في السلوك، عبر سيْريّة تربوية عادة ما تترسخ من خلال اتحاد النظر والعمل. وهنا يصُّح القول: إن مثل هذا الاتحاد، لم يكن ليُحصّل في الواقع، لولا الحضور المبين للتبصر الخُلقي. إذ من هذا الحضور بالذات يمكن الكلام على أصالة الأخلاق وفعليتها في إنتاج وتوليد التبّصر الخلقي. ولسوف نتبيّن مثل هذه السَّيْرية، متى اتضح لنا أن الأصالة الأخلاقية لدى المقاومة الإسلامية اللبنانية، هي من مقتضيات الحقيقة الدينية. وهي مقتضيات تحتل المقام الأول لمرجعية المقاومة. إذ من داخل هذه المرجعية بالذات، سوف تتشكل ثلاثة أحياز معرفية تؤلف عمارة وجودها:
ـ الحيّز الأول: المعرفة الإيمانية (التوحيد).
ـ الحيّز الثاني: المعرفة الدينية (الشريعة وفروعها).
ـ الحيّز الثالث: المعرفة السياسية، المؤيَّدة بالحيّزين المعرفييّن السابقين.
مع توفّر هذه الأحياز ضمن بنيان مرصوص، تغدو الحقيقة الدينية سارية في الزمان والمكان، وتمسي أخلاقيّاتها راسخة في مجال الظهور والتمّثل. ففي الترسيخ الجامع بين الأحياز المعرفية الثلاثة لا يعود يكفي مجرد الاقتران بين النظر والعمل، بل ينبغي أن يبلغ العمل، درجة يصبح معها عامل إمداد وتفعيل للنظر. بل ويشكّل عامل تجديد، وإبداع للمفاهيم والأفكار والإستراتيجيات، مثلما يشكّل تسديدًا للممارسة، بأسبابها، وآلياتها، وطرائقها المتعددة.
على هذه الأحيازـ المتصلة برباط وثيق فيما بينهاـ يستوي البعد الأخلاقي للمقاومة. بما هو بعدٌ مُتَّخذٌ من القرآن الكريم بواقع اختزانه حقيقة الشريعة؛ وكذلك من الميراث اللاّمتناهي للحقيقة المحمدية الممتدة عبر الزمن؛ وتاليًا من السيرة التاريخية للأنبياء والرسل، والأولياء، وأئمة أهل بيت الرسول وصحابته.
أمّا الحديث عن مذهب أخلاقي للمقاومة، فلزومُه رسم خارطة إجمالية لمجالات سلوك المقاومين في الحرب، والسياسة، والاجتماع الأهلي. فالأخلاقية ـ كما سنبيِّن ـ تبقى مجرد أحكام اعتبارية مخرّجة بكلمات صمّاء، ما لم تتحيّز في حقول الممارسة. وعند التحيّز لا يعود السؤال عن معنى الأخلاق منفصلاً عن مجال العمل. حيث يتحدد المعنى من خلال الطريقة، أو المذهب، اللذَّين يستعملانه في الواقع. ولنا هنا أن نلاحظ طائفة من المجالات، تظهر فيها أخلاقيات المقاومة كتجلٍ لتكامل النظر والعمل، ولاتحاد النظرية والممارسة، وللموازنة بين أضلاع القدرة والعقلانية، والبعد المعنوي والحضاري لمشروع المقاومة. غير أن هذه <الحزمة المعرفية> ستؤول في الطواف الأخير الى ما يمكن أن نسميه <ميتاـ ستراتيجيا المقاومة>، حيث يندرج التبصّر الخُلقي كقيمة عليا ضمن مراتبها المتعددة.
وللتوضيح نذكر ملاحظتين تتصلان بالمفهوم وتسوِّغان له:
الأولى: إنّ حرب المقاومة على إسرائيل، وحرب إسرائيل على المقاومة، تفارقان من وجهٍٍ أساسي منطق الحروب المألوفة. ذلك لأنّهما تدخلان في منطقــة احتـدام ذات سمة فوق سياسية. وهو مـا نعني به <الاحتدام الميتـاـ ستراتيجي> إذ عندما يُِستعمل هذا المفهوم، أو ما يوازيه في علم الحروب والصراعات الكبرى، سوف يتبين لمن يأخذ به، مركزية الإيمان الديني، وحضور الاعتقادات الغيبية في الزمن السياسي. وهذا يعني أن نشوء المفهوم ما كان ليتحصَّل خارج نطاق الحراك العام. وبالتالي فإنّ <الميتاـ ستراتيجيا> هي وليد موضوعي واقعي، ينمو، ويتطور ، ويتكامل، ضمن سيْريَّة الالتقاء الحميم بين الإيمان الديني، ومنظومة، الأفكار، والخطط التي تعكس المصالح السيادية العليا للأمة. وعلى هذا النحو من الالتقاء بين الغيبي والسياسي تتأسس وظيفة الفكر في الحقل الميتا ستراتيجي.
وهكذا فإن وظيفة الفكر، كما يقال، تتضاعف عندما تبلغ الأوضاع حافة الهاوية بين السلام والحرب. وهذا ما يحصل في مشهدية الحرب بين الأطروحتين المعاصرتين إسرائيل والمقاومة. ولكن في النهاية فإن التمييز بين الوسائل الممنوعة والمقبولة في الحرب يفترض حكمة متعالية. ذلك أن علم الأخلاق ـ كما يقول باسكال ـ يتغير تغيراً كبيراً وفق الإيمان بخلود الروح أو فنائها. [1]
وهكذا تتمكن الميتاـ ستراتيجيا من إنشاء منطقة معرفية يمتزج فيها النظر السياسي بالتجربة الإيمانية. كان الإستراتيجيون يقولون: إن أضمن شكل من أشكال العمل والحكمة التي يمكن إدراكُها وتصورُها، وأكثرها فاعلية للانتصار على المدى الطويل، هو عمل الرجل الذي يقول الحقيقة من دون لفٍ أو دوران، أو قيود. وإن على القائد أن يكون استراتيجياً وفيلسوفاً في الوقت نفسه. ولكن عليه ألاّ يضحِّي بالحقيقة على مذبح تسيير الأمور، ومن دون فائدة مجدية للمصلحة العامة. ذلك أن كل من اعتاد إخفاء الحقيقة بغية تسهيل العمل الفوري انتهى إلى فقدان قوة تفكيره وسلامته.
هنا يتمظهر التأسيس السياسي للميتاـ ستراتيجيا على نحو ما لوحظت إرهاصاته في تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان. ولعل ما هو ظاهر في الصورة الإجمالية، فإنَّا نجده في الارتباط بين السياسة والشريعة. لكن شرط واجبية هذا الارتباط ألاَّ يؤدي في مجال الممارسة إلى الوقوع في داء الماكيافيلية. بحيث لا تتحول الشريعة الى حقل طيِّع للتوظيف السياسي. فالغاية وفق سيْريَّة هذا الحقل المعرفي السياسي المتحَّد بالغيب، لا تسوِّغ الوسيلة، إذا كانت الوسيلة غير مطابقة لسمّو الغاية ومشروعيتها.
الثانية: وتتعلق بالتعرُّف على الشطر الثاني من المفهوم الذي نحن بصدد تأصيله أي التبصّر. فما الذي نقصد به؟
هو اللحظة التي يتوقد فيها الفكر، ويشع فيها القلب، ويحتدم فيها العمل. حتى ليصبح الفكر والقلب والعمل أمراً واحداً فاعلاً في اللحظة نفسها. عنينا اللحظة التي تستولد المعاني، والأفكار والمفاهيم الخاصة بالحقل مجال الممارسة.
والمتبصّر هو الرائي في فضاء مكتظ بالضباب. بحيث يكتسب المتبصّر إبصاره بصورة جلية وسط غبار المعارك، وأدخنة النار، وسوء الانقشاع.
على هذا المنبسط المعرفي ينعقد التبصّر ضمن سيرية عقلية تسلك خطوط التدبير المُحكّم للشأن الذي تتعامل معه أو تنتجه. وعندما يكون التبصّر مربوطاً بالأخلاق، أو ناجماً عنها، فإنه سوف يترقّى ويسمو ويغدو أشد أثراً في ميادين النشاط الإنساني. وعندئذٍ يكون التبصّر الخلقي قد بلغ المقام الذي يصبح فيه حاوياً لجدلية تتكامل وتتبادل في داخلها العقلانية والأخلاقية بلا تفاوت ولا انفصال.
أما التأسيسات المكوّنة لميتاـ ستراتيجيا التبصرُّ الخُُلُقي، فسنعرضها ضمن طائفة من المجالات بادئين بما انتهينا به:
1.مجال ملازمة الوسيلة الفاضلة للغاية الفاضلة:
الصورة هنا مركبة، سواء في السياسة أم في الحرب. فالمقدمات الفاضلة ينبغي أن تفضي إلى نتائج فاضلة، خصوصاً إذا أُخِذَت الأسباب المشروعة، لبلوغ الأهداف المشروعة. ولقد كانت الصِدقية من سمات عمل المقاومة السياسي، حيث نأت من ملابسات النزاع الداخلي، على امتداد أعوام الحقبة الأولى من حرب التحرير (1985ـ2000). ثم سعت إلى استئناف سلوك كهذا، رغم التحولات التي طرأت على التقليد السياسي اللبناني، وقوانين تقاسم السلطة بين الطوائف. ولسوف تتعاظم أهميّة هذا المسلك بصورة أكثر فعالية في مجتمع محكوم بوضعية غير عادية، كالمجتمع السياسي في لبنان.
ولعل الطريقة التي حكمت تجربة المقاومة عند انخراط حزبها في الحياة السياسية اللبنانية، شكّلت برغم التعقيدات الجمّة التي واجهتها تحالفاته وخصوماته، لوناً جديداً حلَّ على التقليد السياسي اللبناني. تجلت سيْرِيَّات هذه الطريقة أساساً في الانصراف التام إلى ممارسة حرب التحرير، وفي العلاقة مع المحيط الجماهيري الذي تعمل المقاومة فيه، وفي التعامل مع الإنجازات التحريرية التي توّجت بانتصار ربيع العام 2000. وكذلك في رؤية الخصوم الداخليين بوصفهم شركاء في الوطنية الواحدة، أنّى بلغت درجات الخصومة السياسية معهم. ويمكن أن نسجّل في هذا المجال الإشارتين التاليتين:
الأولى: في المدى القريب: حين تبصّرت قيادة المقاومة حساسية البيئة الداخلية اللبنانية بعد حرب (تموزـ آب) 2006. فقد كان عليها أن تواجه الانتقال الصعب بين عالمين متناقضين: عالم المقاومة ضد عدو تاريخي آلت استراتيجياته الحربية الى الإخفاق، وعالم الصراع الداخلي مع خصوم سياسيين بلغ الأمر بأكثرهم حدّ المشاركة في حملة سياسية إقليمية ودولية ضد المقاومة، وسلاحها. حتى لقد ظهر بوضوح أنّ الحملة السياسية المشار إليها هي استئناف للحملة العسكرية بوسائل شتّى.
ومنذ اللحظة التي اضطُرت فيها المقاومة إلى الدخول في عالم الصراع الداخلي، راحت تتصرف على قاعدة أنّ هذا الدخول هو أشبه بممر إجباري لا مناص من عبوره لإحراز ثلاثة أهداف مباشرة:
صوناً للمقاومة من خطر التصفية السياسية.
ومنعاً لمصادرة معنى الانتصار.
وحفظاً للسلم الأهلي، والوحدة الوطنية من التداعي والانهيار.
الثانية: وتعود إلى ربيع العام 2000، فلقد كان أمراً استثنائياً في أخلاقيات الحروب، أن تتعامل المقاومة المنتصرة بكثير من التسامح، مع قرى وبلدات ومدن في جنوبي لبنان استُخدمت من جانب جيش الاحتلال وأعوانه في ما يسمى بـ <جيش لبنان الجنوبي>، كقلاع محصّنة للعدوان على المقاومة، وجماهيرها. ولو لم تكن البنية الأخلاقية للمقاومة على قدر من السعة، والرحمانية، والترسُّخ، والتقيّد الصارم بالتوجيهات القيادية، لحصلت مجازر اشدّ فظاعة مما كان يحصل في خلال الحرب الأهلية.
لاحقاً سوف تستتبع هذه القواعد الأخلاقية، ما يوازيها ويناسبها من السلوك السياسي. وسنجد في خطب ورسائل قائد المقاومة من التوجيهات في خلال حرب صيف 2006، ما يشكل على هذا المستوى خطوطاً تسدّد التبصُّر الخُلُقي، ومنها:
ـ اجتناب خوض النزاع السياسي والإعلامي مع أي فريق أو حزب أو تيار لبناني. على النحو الذي قد يؤدي الى فوضى أمنية وظهور الانقسام الوطني.
ـ اجتناب الرد بالمثل على أي حادثة في الشارع يمكن أن تشق الطريق نحو تصدُّع السلم الأهلي، أو ايقاد النزاع المذهبي (كمثل اغتيال الشاب أحمد محمود).
ـ إبقاء النزاع الداخلي ضمن ميادين الصراع السياسي السلمي، على الرغم من نزوع كثيرين من خصوم الداخل إلى جعل المقاومة وحزبها وحلفائها خصماً صريحاً، حتى لدى أقسى لحظات الحرب التدميرية عليها.

2ـ مجال البصيرة الخلقية:
حين نزعت المقاومة من نظرية الممارسة السياسية الكلاسيكية مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة ، كانت تدرك أن مبدأ كهذا، يمكن أن يأتيها بمنافع مباشرة، ويؤمِّن لها مصالح قد تكون مهمة في معايير اللعبة السياسية اللبنانية. لكن الالتزام بمبدأ الوسيلة الفاضلة للغاية الفاضلة كمبدأ أخلاقي، سيكون له مؤثراته الإيجابية الكبرى على تسديد الإدراك السياسي، وتثبيت أولوية التحرير كإستراتيجية عليا. لقد كان من شأن نهج كهذا أن يُفضي إلى تأليف إجماع لبناني حول المقاومة. وهو نهج كان له الفعل التوليدي لمجتمع أهلي ومدني، وسياسي مؤيّد للمقاومة، ومتعاطف معها، وإن بنسبٍ ودرجات تتفاوت بين فئة سياسية وأخرى، أو بين طائفة وأخرى.
ولأن البصيرة الخُلُقية استئنافٌ، وتواصلٌ، وتكاملٌ مع قبلها، فهي كذلك وبالمقدار نفسه، تأسيسٌ وتوليدٌ لما بعدها. تنمو هذه السَيْريَّة ضمن مسار منطقي يتعقّل الظواهر والأحداث، و يرى الأشياء كما هي موجودة، ثم ليجد لها محلها المناسب في الواقع.
لنا هنا أيضاً أن نقف قليلاً على مزايا ومناشئ التبصُّر الخُلُقي:
أولاً: تبيّن الفلسفة الأخلاقية بأطوارها وميادينها واتجاهاتها المختلفة، أنّ إحراز مَلَكة البصيرة الخُلقية، ونقلها إلى حيّز الممارسة وحقول التجربة، إنّما يدل على أن الجهة التي أحرزت هذا المقام، بلغت درجة وازنة من التحكّم بأمر نفسها، وبأمر غيرها بينما هي تمضي في إدارة حركة المواجهة.
ثانيًا: إن عملية التبصُّر أينما وكيفما تأتي، فهي تتمثَّل في إدراك الطبيعة الباطنية الحقّة لإرادات متعارضة معينة. ولذا فإنّ البصيرة الخُلقية المطلقة التي نستطيع أن ندركها، ولكن لا نستطيع الحصول عليها كاملة، سوف تدرك الطبيعة الداخلية الحقّة لكل الإرادات المتصارعة. ذلك يعني أن معرفة الآخر ضرورية؛ للاعتراف به كموجود سياسي, وهي واجبة على نحو يكون التعامل مع هذا الآخر، بوصفه شريكاً في الوطنية مهما بلغت خصومته لي أو خصومتي له.
ثالثاً: تتضمن البصيرة الخُلقية ـ بطبيعتها، وعند الذين يحصِّلونهاـ الرغبة في تحقيق الانسجام، قدر الإمكان، بين الإرادات المتعارضة في ميادين التفاعل، ولا سيما تلك التي يتم إدراكها في لحظة التبصّر.
رابعاً: إذا كانت البصيرة الخُلُقية تهتم مباشرة بإرادتين متعارضتين، مثل إرادتي وإرادة شريكي في المواطنة، فإنّ هذه البصيرة تتضمن الرغبة في الفعل، كما لو كنت أنا وشريكي في المواطنة كائناً واحداً، بحيث يشتمل هذا الكائن الجديد على رغباتنا معاً.
خامساً: إذا كانت البصيرة الخُلقية تعمل ضمن غايات عامة متصارعة، كما هو حال لبنان، فستبدو الصورة حينئذ، كما لو كان الفرد الذي يدرك هذه الرغبات المتعارضة، يحوي حياة كل هذه الرغبات ضمن وجوده الخاص.ومتى أتقن الفاعل روح التبصّر، فإنه يضع في اعتباره كل نتائج الفعل, وأثره على كل الغايات التي قد تتأثر به.
سادساً: ما دامت البصيرة الخُلُقية المؤيَِّدة بالتوحيد، تتصرف على أساس أنّ الآخر هو شريك في الفعل الإجمالي للأمة، فمن البديهي أن يصبح هذا الآخر، بما هو آخر إيجابي، أحد مقومات معرفة الذات. بل وأحد الأعمدة الأساسية لأفعال الأنا في المحيط الذي تتحرك فيه. وعلى مبدأ «لا ينبغي أن يكون الآخر إلا على نصاب ما أنت فيه» يمكن أن تولد ممارسة سياسية من نوع جديد.عنينا بها، الممارسة التي تتعارض فيها البصيرة الخُلُقية مع كل صور الدوغمائية, المبنية على غاية أخلاقية أحادية، ولا تستطيع أن تمنح سواها من الغايات، مساحة من القبول والإصغاء.
سابعاً: بمقتضى البصيرة، الخلقية المسددة، بالحقيقة الدينية، تغادر <الأنا> أنانيتها الصمَّاء، وهي إذ تفعل ذلك فمن أجل أن تصل الغير وَصْلَ الوحدة الإنسانية المشتركة. ثمَ ليحملها الإيثار والغيرية على التضحية من أجل تلك الوحدة. حيث الاستشهاد في هذه الحالة يجسد أعلى درجات القبول والتواصل مع الآخر، وبالتالي أرقى مراتب التمثيل الأخلاقي في العلاقة
مع الغير.
ثامناً: إن مجال التبصّر لا ينشأ إلاّ على أرض المقاومة؛ بما هي أرض
لا تحدّها مضائق الإيديولوجيا الصارمة، ولا تحبسها عن التواصل فكرة حزبية مغلقة. ذلك أن من طبيعة هذا المتسع الإنساني أن تغادر حسابات المصالح الآنية قلاعها المغلقة، وتتحول تلك الأرض إلى حقل خصيب للنمو، والاختلاف، والتعددية الخلاقّة.

3. مجال الصبر السياسي:
في السياسة كما في الحرب الأخيرة، ظَهَّرت المقاومة نهج التبصُّر على قاعدة اعتبار البصيرة الخُلقية مقوّماً لاستراتيجيتها العليا. ولقد بدا بوضوح أنّ القدرة على التحكم بالمسارات الميدانية للمواجهة, تلازمت مع القدرة على استقراء الخطوط الأساسية للزمن الذي سَيَلي نار الحرب.
إن حضور البصيرة الخُلقية في مستويات التكتيك والاستراتيجيا، مكَّن المقاومة من مواءمة الوسائل مع الغايات، من دون أن يحصل خللٌ وسط الزحام الهائل للحرب.
الأهم في استراتيجية الصبر السياسي أن المقاومة استطاعت الإمساك بعامل الزمن. وهذا عائد أساساً إلى استيحاء المقتضى الأخلاقي للحقيقة الدينية. وهو مقتضى يقوم على مبدأ الصبر في كل أحوال وتداعيات الممارسة الحربية والسياسية. فحين أخذت المقاومة بمبدأ الصبر, أمكن لها ـ من وجه ـ ألاَّ تستغرق بلذّة الانتصار الذي قد يوصل غالباً إلى حد نسيان الذات أو نسيان العدو. مثلما أمكن لها من وجه ثانٍ أن تتهيأ لاحتمال الهزيمة, بما هو احتمال واقعي وممكن، في مجال صراع الإرادات.
كان للمقاومة في القاعدة الخُلقية التي أرساها كلام الإمام علي
(عليه السلام) في الصبر، ما يجعل منها طريقاً يؤخذ به لصياغة منهج متكامل، في التعاطي مع تقلبات الزمن السياسي، والاجتماعي:
«الصبر صبران: صبرٌ على ما تكره وصبرٌ عما تحب»[2], ولا شك في أنّ استنتاج المنهج من كلام الإمام، يفضي إلى ما نسميه بـ«منطقة الاعتدال», وهي المنطقة المعرفية، والسلوكية، التي يسيطر فيها ساكنُها على الزمان والمكان، والتي يتمكن فيها كذلك من إضفاء توازن دقيق على أفعاله أو انفعالاته ضمن جدلية الكراهية والحب والغضب.
التجربة الأخيرة للمقاومة أظهرت بالنظر والمعاينة، درجة عالية للتحكم باللحظة. فقد خاضت حرباً تتحرك فيها احتمالات الخسارة والربح بصورة متوازية. وضمن هذا الحيِّز يمكن ملاحظة ما يلي:
لم تشهد حرب التحرير أن تعاملت قيادة المقاومة مع اللحظة على خط الانفعال أو ردّ الفعل. كان كل شيء في الأداء العسكري يجري وفق حسابات بالغة الدقة. لم تصوّب الصواريخ نحو التجمعات المدنية، في مقابل التدمير المنهجي والعشوائي للمدنيين الآمنين. ومثلما كان الأداء العسكري محكماً ودقيقاً ومحسوباً، كذلك كانت صورة الأداء السياسي. فخطاب المقاومة عبر إطلالات قائدها بين حين وآخر، شكّل فعلاً استثنائياً, موازياً للفعل الاستثنائي في ميادين الصمود والمواجهة. ولقد شكَّل خطاب السيد حسن نصر الله الموجَّه إلى المجاهدين والأنصار, وبالتالي إلى اللبنانيين جميعاً, وكذلك إلى العرب والمسلمين والعالم، لحظة أخلاقية بامتياز: فهو خطاب يمكن قراءته من جهتين كانتا تصغيان إليه بشغف نادر:
ـ جهة « الأنا الجماعية»: التي تماهت مع الكلمات المرسلة إلى درجة أنها كانت تستمع لتطمئن، وتصغي الى دلالاتها اللفظية والمعنوية لتزداد يقيناً بصدقية « الوعد الصادق».
ـ وجهة « الآخر الجماعية»: التي على اختلاف مراتبها وتصنيفاتها (العدو المباشرـ الخصم السياسي الداخلـي ـ الــمحايدون) كانت تتلقى الخطاب باستعداد مسبق. وكان يحملها إلى ذلك همّان: الصدقية الأخلاقية لمرسل الخطاب، والشعور بأهمية المعلومات التي سيدلي بها, وبآثارها المفصلية على سياق المواجهات. ولنا هنا أن نذكر الحادثة التالية:
لا تزال صورة تلك المرأة (المستوطِنة اليهودية) الجالسة على عتبة دارها في <كريات شمونة> حاضرة، بعد نشرها على الصفحة الأولى لصحيفة <يديعوت أحرونوت> بعيد حرب عناقيد الغضب, تقول: أنا أصدق <السيد> نصر الله أكثر من الحكومة الإسرائيلية ... أجابت بذلك بعد أن سألها المراسل عما إذا كانت ستلتزم النزول إلى الملجأ بعد إعلان الجيش حالة طوارئ. ولكن المستوطنة أصرت على البقاء حتى يطلب السيد من المستوطنين النزول[3]...
يشَكل جواب <المستوطِنة اليهودية> ـ وإصرارهاـ تجسيداً للصورة التي راح يمثلها <الجمهور الإسرائيلي> عن شخصية أمين عام حزب الله. وهي صورة تراكمت جزئياتهاـ حتى التفصيلية منهاـ بفعل عوامل كثيرة تراكمت عناصرها خلال المواجهة الطويلة التي قادها <السيد نصر الله> ضد العدو الإسرائيلي.[4]
خيوط <المشكلات الأمنية والسياسية> كلها كما يراها الكاتب الإسرائيلي يورام يومي هي بيد <السيد نصر الله>، بل وحتى الوصول إلى <حلول> ممكنة لتلك المشكلات، مرهون بـ <كلمة فصل> يطلقها السيد نصر الله، خصوصاً أنّ كلامه ـ وفقاً لما هو مركوز في العقل الإسرائيلي ـ ليس كلاماً عادياً، فـ<كلماته ـ حسب يورام يومي ـ تسبب القشعريرة (لدى الجمهور الإسرائيلي) في ضوء سجل مسار حزب الله>[5].
الصورة نفسها سوف تستعاد في حرب <الوعد الصادق> ، لكن على نحو أشد وقعاً، وأعمق من ذي قبل.

4. مجال المقاومة بوصفها منطقة حوار أخلاقي:
إنّ ما يجعل ميتاـ ستراتيجيا المقاومة حاوية على مبدأ التعدد وساعية إليه، يعود إلى أن من طبيعة تكوينها التركيب، والتأليف، والمصالحة بين الأنا والغير. ولئن كان الحيز العسكري التنفيذي قد انعقدت رايته حصراً للمقاومة الإسلامية اللبنانية خلال الطور الأطول والأكثر احتداماً من حرب التحرير، فلم يكن ذلك ليعني نفي التعدد أو إقصائه. فالمقاومة بصفة كونها أطروحة تحريرية شاملة، فإنّها بهذه الصفة سوف يتيسَّر لها، ولو من وجهة موضوعية، أن تتحرك وسط مساحة ذات مراتب سياسية، ومدنية، وثقافية، وجماهرية متعددة. وبالتالي فكل من هذه المراتب شكلت نظائر لحرب التحرير. وذلك ضمن سيرية متكاملة أخلت مساحات مشاركة لا حصر لها، لقوى وفعاليات المجتمع اللبناني متنوع الطوائف والمذاهب، والأيديولوجيات، والتيارات الفكرية والثقافية.
إنّ التبصُّر الخُلُقي المستفاد من الحقيقة الدينية، سوف يعزّز ميتا ـ ستراتيجية المقاومة المؤسَّسة على التعدد، والتنوع، والجمع. ففي التبصّر يغدو الحرص على حضور الآخر المختلف ضمن مساحة الشراكة، مسألة تتعدى القانون الذي ينظم المواطنية، إلى كونهِ مسؤولية يفترضها الالتزام بالوحي الإلهي. لكن مع هذا التحويل الذي يقيمه التبصُّر الخُلُقي في مجالات التعدد، والتنوع، والجمع، لا يبقي الآخر مجرد كائن غريب تفترض شروط الزمان والمكان التعامل معه، بل يصبح مشروع كمال للذات. وهنا لا نعود نتحدث عن <آخر> ننظر إليه وينظر إلينا بريبة وحذر. بل عن الغير الذي ليس في الحقيقة إلا ما أنا فيه، وبه، وعليه من أحوال. فالغيرية هي على الأكيد ناتج <الدفع بالتي هي أحسن> وهي تالياً ذلك التقريب الخلاَّق للآخر، الذي قد يتحوّل بعد قليل إلى وليٍ حميمٍ للمقرِّب. ذلك أنّ الإنسان عندما يدافع عن حقوقه الوطنية والاجتماعية، وعن كرامته وهويته، فإنّه في حقيقة أمره يدافع أولاً وآخراً عن حقوق الغير. فالغيرية بهذا المعنى هي شرط تحقق إنسانية الإنسان. وهي لا تجد تحقّقاتها إلاّ حين يبلغ الإنسان ذروة العقلانية المؤيدّة بالأخلاق، والمشبعة بها.
سوف يكتب كانط في <أسس ميتافيزيقا الأخلاق>: <إنّ الكائنات العاقلة تسمى أشخاصاً لأنّ طبيعتها تقودها وتوجهها بصفتها غايات في ذاتها، أي باعتبارها شيئاً لا يمكن استخدامه كمجرد وسيلة فحسب، وبالتالي شيئاً يمثل حداً يقف في مواجهة كل ما يحلو لي من تصرفات ويكون موضع احترامي>. كذلك فيلسوف الأخلاق إيمانويل ليفيناس (1905ـ1955) سوف يؤكد في <الوعي الأخلاقي> ما يقوله كانط في <الجميل> . أي إنّ <الوعي الأخلاقي> هو تجربة بلا مفهوم. فالعلاقة التي تقوم بين اثنين بين <أنا> و<أنت>، هي الانفتاح أمام بُعد يوصلني إلى أعلى"، إلى الدين نفسه. ذلك أن <الآخرالأكبر> يحضر هنا بصفتة <الآخر> الذي تقوم علاقة بيني وبينه، وهو يفصح لي عن <وجه> ويفتح بعداً يوصلني إلى الأعلى. أي أنّ وجوده يتخطى بلا حدود مقاييس معرفتي. الأمر الذي يعني أنّ الآخر يعرض نفسه، وقد تخلص من الرغبة في القتل وإنكاره له عن طريق لغة اوَّلية أصلية تتحدث بها عيناه الهادئتان. ليس معنى هذا ـ كما يلاحظ ليفيناس ـ أنّ الآخرين يكونون تجسيداً لله، بل معناه أنهم تجليات له فحسب. تجليات يظهر فيها ذلك البعد الذي يوصلني إلى أعلى حيثُ يكتشف الله[6].
ولما كانت المقاومة منطقة تحاور، وبالتالي سَيْريَّة انتقال عبر التحاور من <الآخريَة> إلى <الغيريَّة> فإنّها بتلك المزيَّة تعد منطقة تخلُّق بامتياز. ولسوف يتمثّل لنا طور تالٍ أكثر سمّواً عندما تكون منطقتا التحاور والتخلّق متأتيتين من الوحي. وبالتالي من مصدرية الحقيقة الدينية. حيث تستمد الممارسة الأخلاقية أسسها ومعطياتها من خزائن مكارم الأخلاق وحقائقها، وكذلك من جملة المفاهيم القرآنية الأخلاقية المتمثلة بـ <الموعظة الحسنة> و<الدفع بالتي هي أحسن> و<المجادلة بالتي هي أحسن> الخ...
وتظهر أخلاقيات الحوار القرآنية في مقام التوصية بوجوبية الأخذ بأدب الإصغاء، والاستماع، واجتناب العبارات المؤذية لمشاعر الفريق المقابل، واعتماد الصبر، وكظم الغيظ، وقبول النقد مهما كان قاسياً، ووأد الفتنة وإن كان ذلك على حساب الكثير من المصالح السياسية الآنية.
5. مجال القبض على الزمن والتحكم به:
تُفضي مقولة الصبر في حقل الممارسة إلى نشوء منطقة اعتدال. ففي هذه المنطقة بالذات سوف تحرز المقاومة السيطرة على واحدٍ من أهم وأعقد استراتيجيات الحرب (الزمن). فبملاحظة السيل الهائل من التقويمات النقدية لجنرالات العدو ومفكريه وقادته، خلال الحرب وبعدها، يبرز لديهم معنى ودلالة، ومرارة، انفلات عنصر المبادرة. فكانت الحرب, بحسب الرؤية الإسرائيلية, حرباً من أجل استعادة معنى الزمن، أي إعادة ضبط الزمن السياسي والأمني والسيكولوجي على إيقاع روح الغلبة الإسرائيلية.
ولم يكن كلام شمعون بيريز في الساعات الأولى لحرب تموز 2006: «إسرائيل تخوض حرب حياة أو موت» سوى ترجمة <أخلاقية> للخوف من فقدان الزمن. لقد كان هذا الإحساس يعكس مستهل الجدل بين الزعامات الإسرائيلية، حول التصدع الذي أصاب منظومة القيم التي تأسست عليها الدولة اليهودية على أرض فلسطين.
ثمة دلالة أعمق، في كلمات بيريز: فلو قالها غيره من الزعامات الجديدة, ربما لأخذنا الظن بأن القائل مأخوذ برهبة المشهد. لكن بيريز هو آخر من تبقى من عجائز اللاَّهوت الإسرائيلي المعاصر، فكأنما أراد بهذا أن ينبّه إلى خَطْبٍ جللٍ, لا مناص واقع. بل كأنّه أدرك ما لا يدركه سواه، أنّ حربه هذه المرة لا تشبه سابقاتها في شيء، وأن من يحاربهم ليسوا كالذين مرّوا واخذهم العدو في ضعفهم.
سوى أن قائداً « تاريخياً » مثل بيريز يأتي هذه المرة وفي هذه اللحظات الوجودية بالذات، ليستظهر الروح الإسرائيلية على أرض مواجهات كثّفها الزمن إلى حدِّ أنّ التاريخ فيها في لحظة حياة أو موت. لقد ذهب بيريز من فوره إلى المعنى. سمع، وشاهد، وتكلم، لكنه كان يتأمل كيف تذوي الروح اليهودية الاستيطانية، بعد أن حلّ الجنود في حقول المفاجآت. فإنّه ما كان سعيداً قط وهو يسمع كلاماً لضابطٍ كبير في سلاح المدرعات وهو يقول: «كيف لنا أن نقاتل عدواً لا نراه..».
ربما كان صعبًا عليه وهو على حافّة القبر أن يقع تحت هذه الوطأة. لا سيما وأنّه من جيل الأوائل الذين صاغوا معظم الكلمات الأولى للاهوت <الاقتدار> و<أخلاقياته>. لقد كشفت سَيْريَّة فعل المقاومة عن اختراق واضح لجدار الزمن الإسرائيلي السميك. وهي سيْريَّة ينظر إليها العقل الإسرائيلي كقضية ميتافيزيقية. على حين أن الأمر هنا لا يتعلق بالجغرافيا فحسب، وإنما أساساً بالمعنى. أي، معنى أن يستباح «اللاهوت السياسي الإسرائيلي» في منطقة المقَّدس الذي يمكث فيه منذ زمن بعيد.

6ـ مجال الإعارة الإلهية والنصر الإلهي:
أعِر الله جُمجُمَتَك..
تِدْ في الأرض قَدَمك..
وانظر إلى أقصى القوم..
واعلم أنّ النصر من عند الله[7] ..
بهذه العبارات المأثورة عن الإمام علي (ع) سوف يُستهلّ أول خطاب متلفز يلقيه قائد المقاومة ، في الساعات الأولى من حرب تموز. لقد رمى من هذه الاستعادة وَصْلَ كل مسعى في احتدامات الحرب والسياسة، بالفضاء المتسع للحقيقة الدينية. إذ بهذا الوصل ستوضع المواجهة بمراتبها، ومعارفها، وقواها المادية، والمعنوية،وفي غضون الحقل الإلهي.
في هذا الحقل لا يعود شيء من التفكير، والتدبير، والأخذ بالأسباب، بخارج عن سَيْريَّات القضاء والقدر الإلهيين. وفي الحقل إيّاه، يصبح الإيمان، والفكر، والممارسة، والقضية المسلوك نحوها، والغاية منها، معارج مترابطة ارتباط الواحد مع نفسه، ثم ليتشكّل بها، ومن خلالها ما وصفناه بـ ميتاـ ستراتيجية المقاومة. ومهما يكن من أمر، فلو اتخذنا من العبارات المأثورة أعلاه مثلاً، لوجدنا تأسيساً بالغاً لتلك الميتاـ ستراتيجيا. حيث سيكون لنا أن نرى الى أعمدتها البيانية على الوجه التالي:
أولاً: التوكل: عبر إحالة الفكر، والنفس، والعقل، والقلب إلى الله . وعلى الجملة وضع القول والعمل في حضرة الله.
ثانياً: الأخذ بالأسباب : عبر توفير عوامل القدرة، في العتاد والرجال، وقوى الدعم، ووضع الخطط الكفيلة باحتواء هجومات العدو، والالتفاف على قواه. وصولاً الى اليقين بأن ما توفر من أسباب القوّة، كفيل بإحراز مقومات النصر والغلبة.
ثالثاً: تعيين الخطة الشاملة: عبر معرفة سلسلة الاحتمالات والخيارات العسكرية والسياسية التي يمكن ان يلجأ العدو إليها. ومن خلال رصد المؤثرات الجيوـ استراتيجية المحلية والإقليمية والدولية التي يحتمل حصولها بعد نهاية الأعمال الحربية. ولئن كانت الاستراتيجية تستلزم فنَّ الخداع وبذلك تتعارض مع الأخلاق ـ كما يبيّن مفكر الحرب <ليدل هارت>[8]ـ فإن الإستراتيجية العليا، التي تستشعر الآماد البعيدة، وتنظر إلى أقصى القوم، تنسجم مع الأخلاق، لانّها تتدخل كمبدأ توجيهي يحافظ به الإستراتيجي على الهدف الأصلي للجهود التي بذلها.
رابعاً: الرجوع الى الله: بعد قطع الأطوار الأربعة سوف يتوفر الإيقان الثابت، بأن عليك أن تعلم أن النصر هو من عند الله . فالعلم في هذه الحال لا يُحصَّل بالاكتساب والتلقين، إنما بالاستبصار الخُلُقي، واللَّمح الداخلي، والمعرفة الإيمانية الخالصة. وعلى هذا النحو يصبح العلم بالنصر أمراً ذاتياً يحصِّله القلب المتصل بعروة وثقى بمقام التوحيد. وبذلك يتحقق سفر المجاهدين بين المبدأ والمعاد في كل مهمة يؤدونها سواء تناهت في الصغر أم لم تَتَناهَ في الكِبَر.
إنّ منشأ الاستبصار الأخلاقي في هذه الأطوار المشار إليها،مردّه إلى تعلّقها تعلّقاً حميماً بالحقيقة الدينية التي ظهّرتها الكلمات العَلَويّة. ففي اللحظة التي وُضعت فيها تلك الكلمات في ميدان المواجهة، أُحيلت المقدمات والنتائج إلى الإرادة الإلهية. فمع هذه الوضعية تغدو الإحالة فعلاً أخلاقياً سوف يرقى إلى مراتبه القصوى مع تصعيد الفعل الجهادي درجة التضحية بالروح. وهي تضحية مولودة من يقين لا شِيَةَ فيه، وقوامه: أن الالتزام بحقوق الخلق هو سبيل بلوغ الحق. ولسوف تؤدي إحالة النصر إلى الله إلى إنجاز منطقة معرفية جديدة في العالم الأيديولوجي والثقافي لحركات التحرير الوطني الحديثة والمعاصرة.
إن من شأنية هذه المنطقة المعرفية، الإسهام في تفعيل وتأليف بيئة جديدة من التخليق السياسي، من عناصرها ما يلي:
أـ التأسيس لثقافة تفارق ميراثًا فكريًا مديدًا ينسُب الانتصارات الوطنية والقومية إلى الزعيم، أو إلى التنظيم، وتاليًا إلى الإرادة البشرية المحضة.
ب ـ تحويل ثقافة النصر إلى إيمان بالنصر . والفارق بين الثقافة والإيمان كالفارق بين منجز تحققه الإرادة البشرية، ونصر تكون فيه هذه الأخيرة وساطة الإرادة الإلهية إليه...
ج ـ محو الأنا من جانب القائد، هي فعلية أخلاقية ولّدها التبصّر. ثمّ لتتكثَّر هذه الفعلية الأخلاقية عبر ولادات لا حصر لها في حقول التفاعل. أن تماهي القائد مع المقاتلين والأنصار سوف يدفع العلاقة بينهما إلى مستوى أرقى من الالتزام التقليدي بالأوامر القيادية. بحيث يتحول هذا النوع من الإلتزام إلى تواصل رضائي تستحيل الطاعة فيه تماهيًا مع أمر القائد، حتى ليستحيل المطيعون شركاء في نفس الأمر.
دـ إعادة إنتاج التوحيد في ميادين المواجهة من خلال نسبة كل فعل جهادي مقاوم إلى الفاعل الإلهي. ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾[9]. إنّ هذه المزِيَّة الاعتقادية سوف تجعل الآخذين بها يكتشفون بالمعاينة والحضور المباشر كيف يتحول التوحيد الإلهي إلى حقل اختبار يسهم في تسديد الإيمان الديني والمسلك الأخلاقي لدى الناس أفرادًا وجماعات.
هـ ـ إعادة إنتاج مفهوم القيادة على النحو الذي يمنحها صفة الدور الوسائطي لإنجاز المهمة الإلهية في التاريخ. إذ حين يأبى القائد، أو ولي الأمر، أن ينسب إلى نفسه النصر فيحيله إلى الله، فإنّه يضع نفسه على خط أفقي مساوٍ للمجاهدين والمناصرين. حتى لتظهر الصورة على الحقيقة وكأن الجمع كلّهم شركاء في الدور الوسائطي . مثلما يشعر كل فردٍ منهم إنّه شريك في إبداع النصر الذي ينسبه للتوِّ إلى الله، راضيًا بدور الوسيط، مكتفيًا به، محققًا بذلك أقصى مراتب التبصّر الخلقي بالمعاينة والاختبار والحضور.

7.مجال توليد المعنى:
كل ممارسة تتوخى إنجاز المعنى هي ممارسة أخلاقية. أي أنها فعل يتّخذ من «قبليات» الفاعل ومرتكزاته الإيمانية والأيديولوجية متَّكأً له. فالحرب التي وقعت في تموز 2006، هي «حرب معنى», ومن «أجل المعنى» تقع بين عدويَّن، لكل منهما حدُّه الوجودي، ولكل منهما أيضًا القابلية والاستعداد لكي يقيم حده على عدوّه.
كانت المقاومة حاضرة على الدوام في معنى قتال المحتل الإسرائيلي. وهو حضور يتعلق بجوهرية تتكامل فيها وتتكثَّف كل مراتب المعنى وطبقاته، الإيمانية، والدينية، والفكرية، والثقافية، والسياسية. وهذه المراتب متصلة فيما بينها، ولا تنفصل أبدًا عن البناء الأخلاقي لفعاليات المقاومة، بل هي مراتب وطبقات شكلت عاملاً مؤسِّسًا، ومؤلِّفًا للتبصُّر الخلقي، وبالتالي تأسيسًا لما سبق وعرّفناه بـ<ميتاـ ستراتيجيا المقاومة>.
إذا كان فعل المقاومة هو في المقصد الأعلى، من أجل تثبيت وترسيخ معنى انتصار العام 2000، وكذلك في سبيل تعميق معنى هزيمة العدو، فإن غاية كل حرب إسرائيلية على لبنان بعد اليوم تكمن في محاولة (استعادة المعنى). ونستطيع أن نقول إنها حرب إعادة الاعتبار لأزمنة الغلبة. إذ حين جرى الكلام على الانتصار والهزيمة، والحياة والموت؛ لم يكن ذلك إلا لأن النفس السياسية الإسرائيلية بلغت حدودها القصوى من الشعور بالشك[10].
لكن ذلك لا يدل على أن الحروب التي خيضت ضدنا، وانقضت، هي حروب بلا معنى. فكل حروب «إسرائيل» تكتسب هذه الصفة بدرجات مختلفة. القضية بالنسبة للاّهوت الإسرائيلي, أن كل حرب، كان يخوضها، صَغُرت أو كَبُرت، لا قيمة لها، ما لم تكن على رباط وثيق بلاهوت البقاء والهيمنة والإقصاء.
لكن الحرب التي لا نفتأ نستظل بها، هي استثناء على القاعدة. وانطباعها بهذه السّمة الاستثنائية عائد إلى كونها تُظهر الحد الأعلى من الدلالة على معيارية الهزيمة والنصر.
إن الهزيمة والنصر معنيان سيحددان سؤال الأخلاق وأبعاده الميتاـ ستراتيجية بين المقاومة و«دولة إسرائيل». وعلى هذين المعنيين سوف يتأسس مناخ معرفي ونهضوي, يستمد من روح المقاومة وفعلها تفاؤل الإرادة وتفاؤل العقل.
الهوامش:
--------------------------------------------------------------------------------
[*] ـ باحث في الفكر السياسي والفلسفي رئيس تحرير <مدارات غربية> اللبنانية .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]ـ جون غيتون، الفكر والحرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1988،بيروت،ص 11.
[2]ـ الريشهري, محمدي: ميزان الحكمة. ط1, الدار الإسلامية, بيروت, 1405هــ 1985م, ج5,ص267 ـ استنادًا الى ما ورد عن الإمام علي(ع) في الصبر ، في " نهج البلاغة ".
[3]ـ عوفر شليح، لغز (السيد) نصر الله، يديعوت أحرنوت 8/6/2000.
[4]ـ حسين سلامة ـ حزب الله ،العقل الإسرائيلي ـ مركز الاستشارات والبحوث ـ ط1 2006 ـ ص 116
[5] ـ يورام يومي، محاولة السير على طريق جيد، حصّة حزب الله في الحرب الحالية، "يديعوت أحرنوت" ، 15/6/2000.
[6]ـ جان لاكرواـ اللامتناهي والحار في فلسفة ليفيناس ترجمة يحيى هويدي ـ راجع"أوراق فلسفية" العدد 13ـ القاهرة ـ 2004.
[7]ـ بحار الأنوار، ج 32، ص 195
[8] ـ ليدل هارت، الإستراتيجية وتاريخها في العالم، ترجمة الهيثم الأيوبي، دار الطليعة، بيروت 1967ـ ص299
[9] ـ سورة الأنفال، آية 17.
[10]ـ محمود حيدر، نهاية الحرب الخاطفة، "حوار العرب"، العدد 22، ايلول سبتمبر، 2006.

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية   (بازدید: 2732)   (نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر   (بازدید: 2651)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة   (بازدید: 4194)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة   (بازدید: 6849)   (نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ   (بازدید: 2882)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي   (بازدید: 3253)   (نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان   (بازدید: 4255)   (نویسنده: علي بن مبارك)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن   (بازدید: 4151)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي   (بازدید: 1352)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي   (بازدید: 4058)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية   (بازدید: 1214)   (نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين   (بازدید: 2170)   (نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة   (بازدید: 1819)   (نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة   (بازدید: 1639)   (نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة   (بازدید: 1023)   (نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب   (بازدید: 1061)   (نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي   (بازدید: 1540)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها   (بازدید: 843)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان   (بازدید: 888)   (نویسنده: سيد موسى الصدر)
• التقريب.. منهج تربوي   (بازدید: 1283)   (نویسنده: السيد محمد حسين فضل اللّه)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]