إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية
|
ثقافتنا - العدد 15
خالد سليمان
1428
تقديــــم منذ عام 2002، دأب المكتب الإقليمي للدول العربية التابع لبرنامج الأمم المتحدة على إصدار تقريرسنوي حول التنمية الإنسانية العربية. وفي كل من التقارير التي صدرت حتى الآن، كان يتم التركيز على محور معين من المحاور ذات الصلة بقضية التنمية. فقد انصبت عناية التقرير الأول على إجراء تشخيص دقيق للواقع العربي، وصولاً إلى القول بمعاناة ذلك الواقع من ثلاثة تحديات أساسية تتمثل في: ميادين المعرفة، والحقوق السياسية، وحقوق المرأة. أما التقرير الثاني فقد جعل من إشكالية انحطاط وضع المعرفة في الوطن العربي موضوعًا لتركيزه، بينما تصدى التقرير الأخير الذي صدر عام 2004 للبحث في إشكالية نقص الحرية في المجتمع العربي، وما يترتب عن ذلك ويرتبط به من قضايا ومشكلات. وفي سنّة محمودة وجديرة بالتقدير والتقليد، حرص مركز الدراسات الدستورية والسياسية في جامعة القاضي عياض في مراكش على أن يستضيف سنويًا كوكبة من الباحثين العرب لمناقشة تقارير التنمية الإنسانية العربية، وتدارس سبل تطويرها وتخليصها مما يمكن أن يكون قد علق بها من شوائب النقص والتقصير. في هذه الورقة، التي قدمت في سياق التظاهرة الكريمة لمركز الدراسات الدستورية والسياسية لعام 2005، محاولة للتوقف النقدي عند إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية العربية الأخير، بما يتناول إبراز أهمية مناقشة تلك الإشكالية في تقرير كتقرير التنمية، والتعرض لطبيعة المرجعية التي يتبناها التقرير، ومناقشة عدد من أبرز التعارضات المتعلقة بالمرجعية التي ترد فيه. وبينما تتخذ الورقة من تقرير عام 2004 مادة ومنطلقًا لمعظم تحليلاتها واستشهاداتها، فإن ذلك لا يحول بطبيعة الحال دون تجاوز حدود ذلك التقرير إلى تقارير سبقته، وبخاصة في ضوء تأكيد القائمين على إعداد تلك التقارير مسألة التواصل والتتابع فيها، بحيث تعبر عن وحدة واحدة متعددة المحاور والحلقات. كما أنه لا يحول دون الإقدام على مناقشة بعض القضايا التي لم يأت ذلك التقرير وإخوته على ذكرها، غير أنها ترتبط بموضوعاته بصورة أو بأخرى. لماذا ينبغي البحث في إشكالية المرجعية؟ نزعم ابتداءًا أن لكل فعل إنساني هادف، أيًا تكن درجة بساطته، مرجعية محددة ينطلق منها. فالإنسان حتى في أبسط أنشطة حياته يصدر عن مرجعيات محددة دون غيرها. فهو يتناول أطعمة وأشربة معينة ويحجم عن تناول أخرى لأن هناك مرجعية ما توجهه في ذلك. فعلى سبيل المثال، يمتنع الهندوسي الملتزم بقواعد معتقده امتناعًا تامًا عن الاقتراب من لحوم البقر لقداسة البقر عنده، حتى وإن عضه الجوع بنابه. والمسلم المتمسك بعقيدته يستنكف عن شرب الخمر أو المتاجرة بها حتى وإن بلغ به الإملاق كل مبلغ. وإذا ما تدرجنا مع الإنسان إلى بقية الأنشطة التي يزاولها في حياته إلى أن نصل إلى أكثرها تركيبًا وتعقيدًا، نجده أيضاَ يستند في ممارستها إلى مرجعيات معينة تحدد له مسار خطواته. فلو آمن الإنسان، مثلاً، بالاستناد إلى مرجعية مادية يتبناها بأن مفهوم "العلم" ينحصر وحسب ضمن ما هو قابل للقياس والتكميم والتعيين ـ وهذا بالمناسبة هو التعريف الذي كانت منظمة اليونسكو تتبناه لمفهوم العلم ولعلها ما تزال ـ فإنه سيصرف اهتمامه عن الخوض البحثي في مئات الموضوعات التي تعصى على الاندراج ضمن نطاق الكم، بل إنه قد لا يؤمن بمجرد وجودها، معتبرًا أنها محض خرافات وأباطيل! ترتيبًا على ذلك؛ فإن من الصعب فيما نزعم تجاهل أهمية التعرض لإشكالية المرجعية عند الحديث عن أي مشروع متصل بعملية التنمية من قريب أو بعيد، نظرًا لعظم الدور الذي يمكن إسناده لتلك العملية على صعيد النهوض بالمجتمعات وانتشالها من وهدة التخلف والانحطاط . وتكتسب تلك الإشكالية أهمية إضافية خاصة إذا ما تعلق الأمر بتقارير من نوع تقارير التنمية الإنسانية العربية، التي لا تخفي سعيها المحمود ولا طموحها المشروع إلى "بناء التنمية الإنسانية العربية". إذ لا يُتصور أن يتأسس مثل ذلك السعي الجليل والمطمح المشروع لإنجاح عملية بناء التنمية الإنسانية العربية دون الاعتماد على مرجعية ضابطة موجهة، تحدد الرؤى والمفاهيم والمنطلقات والغايات والأهداف والآليات والوسائل والأدوات التي ينبغي تبنيها، أو تفضيلها على غيرها، في سياق إنجاز تلك العملية. اللهم إلا إذا كانت عملية التنمية المنشودة عملية فوضوية مضطربة تخبط خبط عشواء، لا يمكن للنجاح أن يحالفها في حال من الأحوال! ففيما نزعم، حتى يقيض لأي فعل أو مشروع النجاح فلا بد للمرجعية التي ينطلق منها أن تكون مرجعية واضحة لا لبس فيها، ولا تناقض في ما تقتضيه. فعلى سبيل المثال، يؤكد علماء التربية ضرورة انسجام الرسائل والتعليمات التي يتلقاها الفرد في سياق عملية تنشئته الاجتماعية. ولنتخيل معًا بؤس ذلك الفرد الذي يتلقى خطابات متعددة متنافرة المضمون من أمه وأبيه وأصدقائه ومعلميه، ودع عنك الحديث عن وسائل الإعلام. سيصاب ذلك الفرد حتمًا بحالة متقدمة من حالات التنافر المعرفي واختلال المعايير؛ فيغدو إنسانًا مضطربًا غير قادر على السلوك بصورة سوية منسجمة مع الذات والمحيط، ما يجعله في نهاية المطاف أسير التخبط والانحراف. وعملية التنمية هي بوجه عام مثل ذلك الفرد، فحتى تنجح لا بد لها من مرجعية واحدة منضبطة موحدة المعايير. فلا يمكن مثلاً مطالبة مجتمع يشغل الدين والقيم الروحية التي تؤكد على التراحم مكانة محورية فيه ـ كما هي حال المجتمع العربي الإسلامي ـ بأن يتبنى من أجل نجاح جهود التنمية فيه قيمًا مادية ليس لها بما تتضمنه من الدعوة الضمنية إلى التنابذ والأنانية إلا أن تتناقض في المحصلة الأخيرة مع قيمه الدينية التي يتبناها. ولنضرب مثالاً واقعيًا شائعًا يوضح الصورة: من المعروف أن الدين الإسلامي يحرّم الربا ويعده كبيرة من الكبائر، وذلك انطلاقًا من أسباب عديدة، ربما كان من أبرزها ما يخفي خلفه من صور الاستغلال الجشع، غير أن سائر القروض التي يمكن أن تقدم للمشاريع التنموية وفق اقتصاديات السوق الشائعة هي قروض ربوية، حتى وإن كانت منخفضة الفائدة؛ الأمر الذي يصرف الكثير من أبناء المسلمين عن اللجوء إلى مثل تلك القروض، إلا تحت مظلة التضحية بشيء من أمنهم النفسي وتوازنهم المعرفي جرّاء الإقدام على مخالفة دينية صريحة. فضلاً عن مخاطر الوقوع تحت رحمة هيئات اقتصادية نهمة لا تشبع ولا ترحم، ولا همّ لها في نهاية المطاف إلا الربح بأي ثمن. وكم هي كثيرة وفظيعة المآسي التي نجمت عن الاضطرار إلى الاقتراض الربوي، ليس على مستوى الأفراد فحسب، وإنما على مستوى المؤسسات والدول أيضًا! وهكذا، يبدو جليًا أن من واجب أي مشروع تنموي يتوخى القبول والنجاح في مجتمع ما، ويزعم احترامه لثوابت ذلك المجتمع وهويته ومعتقداته وشخصيته الحضارية، أن ينسجم في توجهاته وآليات عمله وغاياته مع ما تؤكده ثوابت ذلك المجتمع. المرجعية التي يتبناها تقرير التنمية: الواقع أن تقارير التنمية الإنسانية العربية لا تخلو، ولا يمكن لها ــ شأنها في ذلك شأن أي فعل إنساني كما سبقت الإشارة ــ أن تخلو من مرجعية توجه صفحاتها، وإن كانت لم تبد اهتمامًا كبيرًا بإبراز معالم تلك المرجعية وتوضيح مقوماتها. وربما كان بالإمكان القول إن المرجعية التي انطلقت منها تقارير التنمية الإنسانية العربية بوجه عام هي مرجعية غربية القلب والقالب، وهذا ما يمكن تلمسه في ضوء جملة من المعطيات، أبرزها: أولاًـ لعلنا لا نذيع سرًا إذا قلنا إن فكرة تقارير التنمية الإنسانية العربية نفسها قد انطلقت من رحم مؤسسة تخضع لهيمنة الفكر الغربي بهذا القدر أو ذاك. إذ يتبع المكتب الإقليمي للدول العربية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهذا البرنامج يتبنى، بطبيعة الحال، المفاهيم الغربية للتنمية، التي فرضت نفسها على المستوى العالمي، والتي تم استحداثها في الأصل بالرجوع إلى تصور الدول الغربية "المتقدمة" لما يمكن اعتباره تقدمًا أو تخلفًا، ومن ثم ما يمكن اعتبارها تنمية. ويتصل بهذه المسألة، انطلاق القائمين على إطلاق فكرة التقارير، كأشخاص، من مرجعية غربية، ويمكن تتبع ذلك بوضوح في تكوينهم الأكاديمي، وفي إسهاماتهم العلمية والبحثية، وفي إنجازاتهم وخبراتهم المهنية. ونرجو بكل تأكيد أن لا يفهم حديثنا هنا بوصفه شكلاً من أشكال الطعن بأولئك الأشخاص الذين نحترمهم ونقدر جهودهم، ولكنه محض تفسير للأسباب التي أدت إلى أن تأتي تقارير التنمية الإنسانية العربية ذات توجهات مرجعية غربية، على الرغم من تصديها للتعامل مع قضية التنمية في الوطن العربي. ثانيًاـ لا تنكر تقارير التنمية الإنسانية العربية دعوتها إلى اعتماد الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق، وذلك عن طريق حث البلدان العربية على الانضواء تحت لواء اتفاقيات التجارة العالمية الحرة، وإعطاء الأولوية للقطاع الخاص وتفعيل آليات السوق والانفتاح. وهي بذلك لا تقع وحدها في فخ العولمة، المرادفة عن وجه حق في هذه الأيام لمفهوم الأمركة، بل تطالب الوطن العربي أيضًا بالوقوع في ذلك الفخ، متجاهلة العواقب الوخيمة التي قد تترتب عن سقوط المجتمعات العربية فريسة قوى السوق، التي تسيرها رأسمالية متوحشة لا قلب لها ولا أخلاق، لن تتردد في امتصاص دماء المواطن العربي واستغلال مقدرات وطنه وتكريس تبعيته الأبدية المهينة كذيل للاقتصاد العولمي. والواقع أن الساحة العلمية والفكرية باتت زاخرة بمئات الدراسات الموضوعية الموثقة التي لا تدع مجالاً للشك في أن التحاق الاقتصاديات الضعيفة، كاقتصاديات الوطن العربي، يعد بمثابة إصدار حكم مؤبد على تلك الاقتصاديات بالخضوع المطلق لقوى الرأسمالية الجشعة المصابة بالسعار، بما يحرم أربابها من فرصة الخروج من دوامة التبعية، التي لن تتوقف حتمًا عند حدود الاقتصاد، بل ستتجاوزها دون شك إلى حدود السياسة والثقافة أيضًا. ثالثًاــ عمدت تقارير التنمية الإنسانية العربية إلى الاستعانة بمقاييس غربية الصياغة والهوية والمضامين، وبخاصة في بدايات إصدارها؛ الأمر الذي أثار الكثير من التحفظات والانتقادات، ويبدو أن هذا هو ما حدا بالقائمين على إصدار تلك التقارير إلى العمل على صياغة مقاييس خاصة، نخشى أنها لم تستطع التحرر تمامًا من تأثير الروح الغربية عليها. وحري التذكير هنا بأن من الأبجديات المعروفة في علم القياس، عدم جواز استخدام مقياس أعد للاستخدام في مجال ثقافي معين في مجال ثقافي مغاير. اللهم إلا إذا كان هناك افتراض ضمني بأن ما يصلح للمجال الثقافي الأصلي من مقاييس ومفاهيم يصلح أيضًا للمجال الثقافي الآخر! خلاصة القول، لقد انطلقت تقارير التنمية الإنسانية العربية من مرجعية غربية لا يمكن لها أن تنسجم في الجوهر والأصول مع المرجعية العربية الإسلامية، التي ينبغي أن تكون المرجعية الرئيسة الموجعة لمثل تلك التقارير، انطلاقًا من أنها جاءت بزعم السعي إلى النهوض بالمجتمع العربي الإسلامي. فلكل مجتمع في الدنيا، أنموذج مرجعي موجه يحتكم إليه في تشكيل نظرته إلى الوجود، وفي إسقاط المعاني على أشياء هذا العالم، مع ما يرتبط بذلك من قضايا جوهرية كثيرة، تتعلق بمفهوم الإنسان نفسه، والحكمة من وجوده، وحدود قدراته وإمكاناته، وعلاقته بنفسه وبالآخرين وبالكون كله. ويشكل ذلك الأنموذج حضورًا يفرض نفسه في مختلف أنشطة المجتمع الذي يهتدي بهديه، فنستطيع تلمس بصماته واضحة في كل منحى من مناحي الحياة في ذلك المجتمع، ونراه علامة فارقة مميزة في الفنون والآداب وسبل العيش وأنماط التفاعل والسلوك. ومن هنا تبرز إمكانية الحديث عن حضارات متميزة، يتمتع كل منها بأنموذج موجه له روح خاصة، تمنحه التميز والاختلاف عن بقية الحضارات، وتضفي عليه هويته وشخصيته المتفردة([1]). وبكل تأكيد، فإن أي مجتمع يبغي النجاح في مشروع نهضوي حقيقي، لا بدّ له من أن يقف طويلاً عند توضيح معالم ذلك الأنموذج، الذي يعبر عن هويته وشخصيته الحقيقية، لا أن يتجاهله أو يمر عنه مرور الكرام، أو يلجأ ـ في خطيئة لا تغتفر ـ إلى استعارة نماذج دخيلة تتبناها مجتمعات أخرى مغايرة، ليحكم على نفسه بذلك بأن يصبح مجرد مسخ مشوه لنماذج قد لا تخلو من الهشاشة والابتذال! تعارضات مرجعية في تقرير التنمية أولاًــ مفاهيم حائرة بين حضارتين! "إن الوطن العربي يجتاز لحظة تاريخية لا تقبل التوفيق أو التلفيق". هذا نص حرفي لعبارة وردت على الغلاف الخلفي لتقرير التنمية الإنسانية العربية. ونجد هذه العبارة الموحية مناسبة تمامًا للشروع في مناقشة جملة من التعارضات التي وقع بها التقرير، التي قد لا تعبر ـ مع الأسف الشديد ـ عن مجرد مغامرات توفيقية انزلق إليها، بل تتجاوزها إلى ما قد يمكن اعتبارها مغالطات تلفيقية في بعض الأحيان! غير أننا نستهل الحديث بتسجيل اختلافنا مع تلك العبارة فيما يتعلق بمفهوم التوفيق، فلطالما كان التوفيق عملية ضرورية للجمع بين عناصر مختلفة للخروج بمركبات وسطية تتمتع بأفضل ما تتصف به تلك العناصر من خواص. أوليست عملية التوفيق إحدى مؤشرات النزعة الوسطية التي امتازت بها حضارتنا العربية الإسلامية، التي استطاعت التأليف بين مكونات متعددة مستقاة من أطر حضارية متباينة للخروج بمزيج بالـغ الفرادة والتميز، مصـبوغ بصبغــة تلك الحضارة ومختوم بخاتمها!؟ كما سبقت الإشارة، كان تقرير التنمية الإنسانية قد تعرض، وبخاصة في أولى إصداراته، إلى انتقادات لاذعة تتهمه بالانطلاق من مرجعية غربية لا تراعي خصوصية المجتمع العربي الإسلامي. وتجاوزًا لمثل تلك الانتقادات بات التقرير أكثر حرصًا على إبراز اهتمامه بالخصوصية العربية الإسلامية، إلا أن ذلك لم يخرج ـ فيما نقدّر ـ عن مدار التوفيق، حتى لا نقول التلفيق. فهو يورد الكثير من النصوص والاستشهادات التراثية والراهنة التي تنتمي إلى الحضارة العربية الإسلامية، التي يبدو أنه يستحسن ما ورد فيها من مضامين وتوجهات، إلى جانب إيراده الكثير من النصوص والاستشهادات التي ترجع إلى المجال الثقافي الغربي. وكأنه يحاول بذلك إقناع المتلقين بأن من الممكن تبني ما ورد في كل من تلك النصوص دون تعارض أو تناقض. وهو ما يصعب التسليم به أو تبريره حتى مع كثير من التحفظ والاحتراز، خلافا للاستسهال الفضفاض الذي اتسم به التقرير. فالحرية التي تحدث عنها (جون ستيوارت ميل) على سبيل المثال، الذي اعتبرها تستهدف "السعي وراء منفعتنا، بطريقتنا الخاصة"، والتي تشكل إحدى الدعائم الرئيسة للمذهب البراغماتي الذي يسوغ بشكل أو بآخر مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، ليست هي نفسها الحرية التي يتحدث عنها الإسلام، الذي يؤكد وجوب احتكام "الحرية" في سائر أهدافها ووسائلها إلى ضوابط الشرع، وليس إلى المنفعة الذاتية بطرق خاصة قد لا تخلو من كثير من صور الأنانية والجشع والانحراف. والواقع أننا لا ندري ما الحكمة من إهدار العديد من صفحات التقرير في الحديث عن الحرية في الفكر الليبرالي الغربي، ثم عن الحرية في الثقافة العربية، إن لم تكن هناك نية مبيتة من جانب القائمين على إعداده للخروج بتعريف توفيقي لمفهوم الحرية، يستمد مكوناته من ذينك المصدرين، على الرغم من ادعاءات التقرير عدم قبوله بالتوفيق أو التلفيق! أما المفهوم الفعلي الذي خلص التقرير إلى تبنيه لمفهوم الحرية فهو مفهوم لم يستطع الإفلات من قبضة التأثر بالفكر الليبرالي الغربي، فالتقرير يلجأ إلى مرجع غربي للتعبير عن المفهوم الذي يتبناه للحرية! (ص 58). ولو قيض لأحد قراءة ذلك المفهوم وما يرتبط به من محاور دون أن يلتفت إلى السياق الناظم لما شك للحظة واحدة بأنه يقرأ عن مواصفات نظام الحكم في واحد من البلدان الغربية! وحري التنويه هنا بأننا لا ننكر حقيقة تمتع أنظمة الحكم الغربية بقدر وافر من المزايا الإيجابية الجديرة بالاحتذاء، إلا أن ذلك لا يبرر بحال من الأحوال استعارتها وتقليدها بصورة تكاد تكون حرفية. إذ إن لتلك الأنظمة منطلقاتها المعرفية والفلسفية والعقدية التي قد لا تتفق بالضرورة مع منطلقاتنا، هذه التي ينبغي أن تشكل المرجعية الحاكمة التي ترتكز إليها سائر أنظمتنا في المجتمع العربي الإسلامي. والحق إن هذه النقطة بالذات هي مربط الفرس في قضية المرجعية، فإذا كان تقرير التنمية يقر بأن أبناء الوطن العربي هم فعلاً أبناء حضارة عربية إسلامية، وهو لا ينكر ذلك دون شك، فإن هذا لا يجوز أن يظل مجرد كلمات خالية من المضمون تقال لدغدغة مشاعر البعض واسترضاء البعض، بل ينبغي أن يعبر عن انتماء حقيقي يترجم إلى ممارسات عملية، تقضي بأن تكون ثوابت تلك الحضارة وأصولها وقواعدها الكلية هي ما نستمد منه رؤيتنا وفهمنا وسبل تعاملنا مع واقعنا. وهذا وحسب ـ فيما نزعم ـ هو ما سيبرز هويتنا المتميزة، ويحفظها من الذوبان والانقراض الحضاري في معمعة الهجمة الشرسة التي تشنها قوى الاستكبار العالمي على العالم، تحت غطاء ما تعرف بالعولمة، التي يستحيل نجاتنا منها سالمين غير مشوهين ما لم نتشبّث بالأعمدة الثابتة التي قامت عليها حضارتنا العربية الإسلامية. وفي سياق الحديث عن الثوابت والأصول، ثمة من الشواهد ما يشير إلى عدم اكتراث تقارير التنمية الإنسانية العربية كثيرًا بالرجوع إلى مثل تلك الثوابت والأصول أو أخذها على محمل الجد. فعلى سبيل المثال، كان المفكر <طارق البشري> قد أعد ورقة خلفية مهمة اشتملت على إبرازٍ محيطٍ ومقتدر لثوابت الحضارة العربية الإسلامية، التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار في إطار الحديث عن تنمية المجتمع العربي، وذلك بتكليف من القائمين على إعداد تقرير التنمية. إلا أن تلك الورقة قد أغفلت بصورة شبه كلية ولم يتم الاستفادة منها جديًا في عملية صياغة التقرير، ما حدا بكاتبها إلى إعادة نشرها في إحدى المجلات الثقافية، ربما كشكل من أشكال الاحتجاج الضمني على تجاهل ما جاء فيها([2])! ثانيًاــ الخطاب القومي في التقرير: ليس تورطًا بالانزلاق إلى مدارج خطاب الوعظ والرغائب والينبغيات، ولكن بات من الواضح تمامًا لكل ذي بصيرة أن التنمية الحقيقية الشاملة المستدامة، وهي ما يجاهر تقرير التنمية الإنسانية العربية بالسعي إلى إحرازها، لا يمكن أن تتحقق لأي من الكيانات العربية القائمة بحال من الأحوال، ما دامت أسيرة قيودها القطرية المعوقة لأي نهوض تنموي جدي، وأن التوجه القومي[†]، هو إحدى المفاتيح الأساسية، بل ربما المفتاح الأساسي لتنمية المجتمع العربي. فلا نظن أن هناك من يصدق فعلاً تمكّن أي من الأقطار العربية، حتى الغنية والكبيرة منها، من إحداث تنمية حقيقية يعتد بها. والانكشاف السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري لكل من تلك الأقطار في واقعها الراهن، يشكل دليلاً لا يمكن دحضه على عقم الوضع القطري وانسداد آفاقه، بل وخطورته الكبيرة على تلك الأقطار من جانب، وعلى إمكانات قيام نهضة فعلية في الوطن العربي برمته، من جانب آخر. وبالانطلاق من هذا الفهم، يبدو التوجه القومي في التقرير ضحلاً وهشًا ومضطربًا إلى حد بعيد، ما يجعله عاجزًا في واقع الأمر عن أن يقدم الكثير لقضية التنمية في المجتمع العربي، ويجعل من المشروع التساؤل حول ما إذا كانت المحاور الثلاث التي انصبت عليها عناية تقرير، بل تقارير التنمية الإنسانية العربية منذ ظهورها: محور المعرفة، ومحور الحرية، ومحور تمكين النساء، تمثل بالفعل الأولويات الجديرة باهتمام الوطن العربي، أم أن أولوية السعي إلى وحدة الكيانات الهشة المؤلفة لذلك الوطن هي الأولوية المغيبة المسكوت عنها، على الرغم من أنها الأكثر أهمية وخطورة وضرورة! من أبرز مؤشرات ارتباك الموقف القومي في التقرير عدم استقراره على مصطلحات قومية واضحة للإشارة إلى الوطن العربي. فهو "الوطن العربي" حينًا، وهو "العالم العربي" حينًا آخر، وهو "الشرق الأوسط " حينًا ثالثًا. وكما هو معلوم من وجهة نظر قومية، فإن في استخدام مصطلح "العالم العربي" ـ حتى وإن جاء ذلك بصورة عرضية غير مقصودة ـ مساسًا بمفهوم "الوطن العربي"، لا يمكن قبوله أو التغاضي عنه، وبخاصة من جانب تقرير كتقرير التنمية الإنسانية العربية، يتصدى لمعالجة أهم قضايا ذلك الوطن ومشكلاته. أما مصطلح "الشرق الأوسط"، فهو مصطلح مشبوه وعلى درجة عالية من الخطورة، فقد تم اختلاقه والترويج له في معرض سعي دوائر الاستعمار الغربي والصهيوني إلى تمرير الكيان العبري الدخيل إلى المنطقة العربية، وجعله جزءًا طبيعيًا لا يتجزأ منها. وربما كان من نافلة القول إن ذلك الكيان لم يوجد في قلب وطننا العربي إلا ليكون خنجرًا يمزق وحدة ذلك الوطن ويحول دون تمكّنه من تجاوز مستنقع التبعية والتخلّف. ثالثًاــ القضية الفلسطينية في التقرير: لا يملك القارئ لتقرير التنمية الإنسانية العربية ـ وهذا مما يبعث على الأسف الشديد ـ إلا أن يخلص إلى القول بأن الموقف الذي يتخذه التقرير حيال القضية الفلسطينية لا يختلف كثيرًا عن الموقف الذي تتبناه الدوائر الأمريكية والغربية عمومًا تجاه تلك القضية. ففي "مسح الحرية" الذي يعتمده التقرير، الذي تم تنفيذه على خمسة بلدان عربية، تم تخيير المستجيبين بين ثلاثة بدائل محددة سلفًا وحسب، تمثل برأي المسح الحل العادل للقضية الفلسطينية، هي: أولاًــ إقامة دولة ديموقراطية في فلسطين؛ ثانيًاـ إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة في عام 1967 وإقامة دولتين فلسطينية وإسرائيلية بينهما اتفاق سلام؛ ثالثًاـ التوصل لاتفاق سلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية يقوم على ما يمكن تحريره من الأراضي الفلسطينية عبر التفاوض. بالتدبر في تلك البدائل التي يعدها "مسح الحرية" حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، وإذا ما غضضنا الطرف عن الإشكاليات المنهجية الكثيرة التي تكتنف استطلاعات الرأي بوجه عام، يتضح أن تلك البدائل لم تأت من قريب أو بعيد على ذكر الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة عام 1948، وكأنها تسلم بذلك بشرعية احتلال تلك الأراضي من جانب الكيان الصهيوني، وشرعية "الدولة" التي أقيمت على تلك الأراضي. وهو ما قد يعدّ من وجهة نظر الكثيرين تفريطًا واضحًا بحقوق الأمة واعترافًا بشرعية كيان غاصب يفتقر إلى الشرعية، لم يقم إلا بضغط من منطق اختلال موازين القوى والتآمر الاستعماري على الأمة العربية. كما أن منطق صياغة تلك البدائل يستبعد تمامًا نهج المقاومة، مصادرًا حق الأمة في اللجوء إلى ذلك النهج المشروع تمامًا لاسترجاع ما اغتصب من أراضيها. وبتذكر نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في فلسطين بداية عام 2006، التي فازت فيها حركة حماس بأغلبية واضحة، يتبدّى واضحًا انحياز أغلبية الفلسطينيين إلى خيار المقاومة الذي تتبناه حماس، مما يدحض المزاعم ـ التي يتورط تقرير التنمية بتروجها بصورة ضمنية مع الأسف الشديد ـ التي تدعي أن الشعب الفلسطيني ومن خلفه الأمة العربية قد ارتضوا بتلك المعاهدات التي أجبرت بعض الأطراف العربية على توقيعها، تحت لواء الترهيب والترغيب! ومن صور المفارقة المثيرة للانتباه، التي تعكس أيضًا ضربًا من ضروب الضبابية في المرجعيات التي يتبناها التقرير، إشارته إلى أن بعد حرية الوطن يكتسب "أهمية خاصة بسبب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وأراض عربية أخرى، الذي ما فتئ يقوّض فرص التنمية الإنسانية في الأراضي الفلسطينية ويهدّد الأمن والسلام في كامل المنطقة العربية وما وراءها" (ص 60). فهل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، التي أغفلها التقرير تمامًا، لا تدخل ضمن مفهوم الوطن الذي يمثل احتلاله من جانب العصابات الصهيونية مبررًا وجيهًا لتقويض الأمن والسلام في فلسطين والمنطقة العربية بأسرها!؟ وعلى ذكر الكيان الصهيوني، كما سبق في السطور السابقة، يشير التقرير في إطار حديثه عن أعداد قتلى ذلك الكيان، في مقارنة بأعداد الشهداء الفلسطينيين أن "من المؤكد أن إزهاق أرواح المدنيين الأبرياء أمر مرفوض يثير بالغ الأسف"! وكأنه يستنكر بذلك العمليات الاستشهادية ويعبر عن وجهة النظر الغربية والصهيونية بشأنها، متجاهلاً حقيقة تاريخية واضحة مفادها أن الكيان الصهيوني كيان مغتصب غير شرعي، لم يقم إلا على قتل العرب وتشريدهم، وأنه كيان عسكري من ألفه إلى يائه، لا مجال للحديث فيه عن مدنيين أبرياء([3])! فكما هو معلوم، فإن على كل من يحمل جنسية الكيان الصهيوني، باستثناء الفلسطينيين من أبناء الأراضي المحتلة عام 1948، أن يكون عضوًا في المؤسسة العسكرية الصهيونية، سواء في القوات النظامية أو في قوات الاحتياط. ولقوات الاحتياط في الكيان الصهيوني مواعيد ثابتة للتدريب وأوقات مفاجئة للالتحاق بالوحدات العسكرية المعروفة لكل عنصر، التي يتوجه إليها بمجرد تلقي التعليمات التي يتم تمريرها عبر الإذاعة والتلفزيون. كما أن هناك فترات معينة خلال السنة ينبغي أن يقضيها كل عنصر من عناصر قوات الاحتياط في خدمة إحدى القطاعات العسكرية، ومن ثم فإن كل أعضاء الكيان الصهيوني، ذكورًا وإناثًا، هم أعضاء في جيش الاحتلال، حتى وإن أنهوا الخدمة العسكرية النظامية. وفي سياق ذهابه إلى القول بأن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين يخنق الحرية ويعوق التنمية الإنسانية يقول التقرير:" لا شك في أن النزاع المستعر حول الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ أمد طويل قد أفرز خسائر بشرية واقتصادية ضخمة لجانبي النزاع، وإن تفاوت الوقع النسبي بين الجانبين" (ص30). من الواضح أن في تلك العبارة تسطيح وتبسيط مخلّ، فهي تختزل النزاع بين العرب والكيان الصهيوني إلى نزاع حول الأراضي المحتلة وحسب، متجاهلة أن النزاع مع ذلك الكيان هو في جوهره نزاع وجود لا حدود، انطلاقًا من أن المشروع الصهيوني هو بالضرورة نقيض لأي مشروع نهضوي عربي. كما تخلق تلك العبارة انطباعًا بالمساواة بين المجرم المعتدي والضحية المظلومة، مع أن الخسائر البشرية والاقتصادية التي مُني بها ذلك الكيان لم تأت إلا في إطار عدوانه على الشعب الفلسطيني وسعيه إلى تشريده وسرقة أرضه ومحو هويته، أما الخسائر البشرية والاقتصادية التي لحقت بالشعب الفلسطيني فجاءت تحت مظلة صموده ومقاومته للمخطط الصهيوني السرطاني، الذي لا يقف بكل تأكيد عند حدود فلسطين. رابعًا- حقوق الإنسان وصحيح الدين في التقرير: يولي تقرير التنمية عناية خاصة لقضية حقوق الإنسان وحرياته، فيفرد لها فصلاً خاصًا هو الفصل الثالث. وبالاطلاع على ذلك الفصل، لا يحتاج القارئ إلى بذل جهد يذكر كي يلاحظ أن المرجعية التي حكمت تعامل التقرير مع قضية حقوق الإنسان هي مرجعية غربية من الألف إلى الياء، مرتكزها المواثيق والعهود الدولية الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. فعلى سبيل المثال، يقول التقرير: "وتشكل عقوبة الإعدام انتهاكًا للحق في الحياة" (ص85)، مطيحًا بذلك بقضية خصوصية المجتمع العربي الإسلامي، تلك الخصوصية التي يبدو أن التقرير لا يعترف بها، على اعتبار أنها كثيرًا ما تثار في البلدان العربية "بقصد الانتقاص من عناصر القانون الدولي لحقوق الإنسان" (ص12)، هذا القانون الذي يؤكد التقرير في أكثر من موضع ضرورة اعتماده وحده لضمان الحقوق المختلفة للإنسان، بما يتضمن بطبيعة الحال تجاهل "الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان"، المستمدة بنوده من أحكام الشريعة الإسلامية([4]). وهذا ينقلنا إلى الحديث عن قضية شائكة يثيرها التقرير هي قضية "صحيح الدين"، فإذا كان التقرير يتعامل مع عقوبة الإعدام التي تعدّ من الحدود الرئيسة في الشريعة الإسلامية بوصفها انتهاكًا لحقوق الإنسان التي يدافع عنها، فما هو ذلك الدين" الصحيح" الذي يدعو إلى العودة إليه!؟ هل هو الدين الذي يبدو مستعدًا للتخلّي عن ثوابته ومبادئه للانسجام مع ما تسمى بروح العصر!؟ هذه الروح التي يعرف الجميع أن من يحدّد ملامحها هي القوى المهيمنة على هذا العالم وليس نحن([5])! إن التقرير يطالب في ركاب تعداده المبادئ العشرة لدستور الحرية والحكم الصالح في البلدان العربية بأن يتم "التحرر من الطابع العقائدي والإيديولوجي وترك تحديد هذه التوجهات لصناديق الانتخابات التي تعبر عن اختيار الجماهير" (ص160). وهو بذلك يدعو بشكل أو بآخر إلى إقصاء الدين من واقع التأثير العملي وتبنّي الاتجاه العلماني، هذا الذي نزعم أنه لا يعبّر في جوهره عن مجرد السعي إلى فصل الدين عن الدولة ـ كما يشاع وفق فهم سطحي ومبتسر لذلك الاتجاه ـ بل يعبر في حقيقته عن رؤية شمولية مادية للحياة، تشكلت في رحم الثقافة الغربية المادية، ولا يمكن فرضها على المجتمع العربي، إلا تحت وطأة المخاطرة بتهديد ثقافة ذلك المجتمع وضرب أصولها([6]). وهنا تظهر إشكالية التضارب المرجعي التي يقع فيها التقرير بوضوح. فهو يريد العودة إلى "صحيح الدين"، غير أنه يرفض في الوقت نفسه الإقرار ببعض ثوابت هذا الدين التي لا يمكن التخلّي عنها! والأمر فيما نزعم لا يحتمل ذلك، فالتوفيق ــ ولنتذكر أن التوفيق أمر مرفوض من جانب التقرير ـ لا يصلح في الثوابت والكليات والأصول، بل إن من الممكن اعتماده وحسب فيما يتعلق بالمتغيرات والجزئيات والفروع. كما أن من الضروري أن تحتكم عملية التوفيق إذا ما أتم اعتمادها إلى مرجعية معيارية واحدة منسجمة، يتم الاحتكام إليها في تحديد ما يمكن تبنّيه من تلك المتغيرات والجزئيات والفروع. وهذه المرجعية، لا يمكن والحديث يتناول المجتمع العربي الإسلامي، إلا أن تكون مرجعية مستمدة من الحضارة العربية الإسلامية وثوابتها، وليس من أي مرجعية حضارية أخرى. خاتمــــة: يعاني المجتمع العربي منذ عقود طويلة لعلها ابتدأت مع صدمة الاحتكاك بالغرب "المتقدم" من حالة من الانفصام والانشطار الحضاري، تتجسد وعلى شتى المستويات في سائر أنساق حياة ذلك المجتمع وتفاعلات مواطنيه. فبات المجتمع العربي أسير التخبط والاضطراب بين قيم أصيلة موروثة وأخرى طارئة دخيلة. ونزعم أن من العسير أن يتمكن ذلك المجتمع من تجاوز تلك الحالة المعتلة التي طال أمدها، التي يمكن عدّها مسؤولة إلى حدّ كبير عن وضعه المتخلّف الراهن، إلا إذا تحلّى بالشجاعة الكافية للاعتراف بعلته وحاجته إلى الشفاء منها. ليس هذا فحسب، بل والاعتراف أيضا بأن شفاءه من تلك الحالة المستعصية لن يكون إلا عن طريق الرجوع إلى ثوابته وأصوله الحضارية، واتخاذها المرجعية الرئيسة التي ينطلق منها لإعادة النظر في كل جزء من أجزاء حياته، وتصويب ما اعترى تلك الأجزاء من انحرافات واختلالات، بالاستناد إلى تلك المرجعية الضابطة. وما ينسحب على المجتمع العربي يبدو أنه ينسحب أيضًا على تقرير التنمية الإنسانية العربية، إذ لم يستطع ذلك التقرير ـ مع الأسف الشديد وبالرغم من كل الجهود التي بذلت لإعداده ـ الانفكاك من أسر حالة الانشطار الحضاري تلك، فظل يتأرجح بين مفاهيم لا ينقصها التعارض، وربما التناقض؛ الأمر الذي جعله يسقط في شرك نزعة توفيقية/ تلفيقية زعم براءته منها، ويتورط بالانزلاق إلى خطاب لا يعبر إلا عن أماني وينبغيات مثالية لا يمكن تحققها في ضوء المعطيات القائمة([7]) . قرون طويلة انقضت والمجتمع العربي يئن في مستنقع التخلّف والتبعية والانحطاط، ومهما بلغت درجة صدق النوايا والإخلاص، فإن إنقاذ ذلك المجتمع من وضعه المأساوي لن يتأتى حتمًا عن طريق تقرير أو تقارير أُعدت على عجل في بضعة أشهر، دون تمتعها بأرضية مرجعية واضحة للانطلاق. وهو ما يجعل من تقارير التنمية الإنسانية العربية ـ على الرغم من فائدتها التي لا تنكر في مجال توصيف بعض ملامح الواقع العربي ـ تقارير عاجزة مع منتهى الأسف عن تحقيق الحد الأدنى من الأهداف الطموحة التي جاءت من أجل تحقيقها، الأمر الذي يستدعي من القائمين على إعداد تلك التقارير وقفة شجاعة وجدية للتساؤل: ما المرجعية التي ننطلق منها في سعينا للنهوض بوطننا العربي !؟ وهل هذه المرجعية مؤهلة حقًا لمســاعدتنا على تحقيق تلك الغاية الجليلة التي طال انتظار أمتنا لها !؟ الهوامش: -------------------------------------------------------------------------------- [*] - باحث عربي في قضايا الاجتماع والسياسة sulimankhy@yahoo.com . [†] - نعتقد أن الدائرة الحضارية الاسلامية الواحدة بكل ما فيها من ارتباطات عميقة الجذور تفرض أن يكون التوجه إسلاميًا، أي شاملاً لكل الأقطار الإسلامية (التحرير) -------------------------------------------------------------------------------- [1]- للتعمق حول فكرة الأنموذج المعرفي المرجعي التي نتحدث عنها وأبعاد تجسدها في حياة المجتمع، يحسن الاطلاع على المرجع التالي: إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، عبد الوهاب المسيري (محرر)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، الجزء الأول/ 1992، الجزء الثاني/ 1995. [2]- عمد المفكر <طارق البشري> إلى إعادة نشر ورقته في مجلة (وجهات نظر) المصرية، تحت عنوان "حول الدين والعولمة"، وذلك في العدد رقم (63) من المجلة، لعام 2004. ولمزيد من المعلومات حول ما ورد في ورقة <البشري> وحول تجاهل تقرير التنمية الإنسانية العربية لما جاء فيها من رؤية ثاقبة لا يحسن تجاهلها، أنظر: سعيد خالد الحسن، الواقع العربي كمرجعية ضابطة لاستراتيجية التنمية الإنسانية العربية، في: ندوة دولية حول تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003، تنسيق (محمد المالكي)، مركز الدراسات الدستورية والسياسية، جامعة القاضي عياض، مراكش، 2004، ص 50-51. [3]- على الرغم من اختلاف الآراء بشأن العمليات الاستشهادية ضد الكيان الصهيوني، إلا أننا نجد أن من المفيد إيراد وجهة نظر مهمة للعلامة السيد محمد حسين فضل الله، التي عبر عنها في سياق مقابلة أجرتها معه صحيفة اللواء اللبنانية، في عددها الصادر بتاريخ: 17/9/2001، " في فلسطين فإن كل العمليات التي ينفذها المجاهدون هي مسألة دفاع عن النفس لأن إسرائيل تملك أقوى الأسلحة وتستعملها في تدمير الشعب الفلسطيني في إنسانه المدني والعسكري وفي المؤسسات الرسمية والشعبية، بما يمثل حجم الحرب التي تستهدف إبادة الشعب الفلسطيني بشكل تدريجي ليقبل بأي شيء تفرضه إسرائيل عليه في دولة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة وتكون الدولة الفلسطينية مجرد محمية إسرائيلية، والفلسطينيون لا يملكون في مواجهة هذه الحرب المدمرة، السلاح المقاوم للسلاح الإسرائيلي، ولذلك فإن الوسيلة الوحيدة لإدخال الاسرائيليين في المأزق الأمني هي العمليات الاستشهادية، حيث لا يبقى أي أمن لأي إسرائيلي في كل مكان، وهذه العمليات تمثل الضرورات العسكرية التي لا مجال للتماسك بين الشعب الفلسطيني إلا بها، تمامًا كما في قول الله تعالى ﴿فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه﴾ فالفلسطينيون شعب لا يحب الدماء ويريد العيش بسلام ومن جهة ثانية فإن المجتمع الاسرائيلي هو مجتمع عسكري ومجتمع حرب ولا نعتبر أن في إسرائيل في المنطقة المحتلة يوجد مدنيون لأن المستوطنين احتلوا أرضا فلسطينية وكل إنسان يحتل أرضا فلسطينية أو يسكن في بيت فلسطيني هو إنسان محارب، وبالتالي فإن المستوطنين محاربون وتراهم كيف يحاربون الفلسطينيين بشكل علني". [4]- هو الإعلان المستند إلى أحكام الشريعة الإسلامية، والذي توصلت إلى إقراره بصيغته النهائية دول منظمة المؤتمر الإسلامي بعد أكثر من عشر سنوات من النقاش، وذلك في الاجتماع الذي عقد للمنظمة في طهران عام 1989. [5]- قد يصعب في سياق الحديث عن "صحيح الدين" تناسي الجهود الأمريكية والغربية التي تبذل، وبخاصة منذ أحداث الحادي عشر من أيلول، لمساعدة المسلمين على الخروج بإسلام "معتدل" يتوافق مع التصور الغربي للإسلام! [6]- للإحاطة بالجذور والامتدادات الفلسفية لمفهوم العلمانية وتجذرها في بنية الثقافة المادية الغربية أنظر: عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة، 2002. [7]- من الأمثلة على الخطاب المثالي الذي يلجأ التقرير إليه، والذي يعبر عن أمنيات عصية على التحقق العبارات التالية التي نوردها على سبيل المثال لا الحصر: "وفي جميع الأحوال، فإن التعاون مع الخارج سيكون مجديًا إذا ما احترمت جميع الأطراف مبادئ أساسية نجملها فيما يلي: ضمان الحرية للجميع، والاحترام البات لكامل منظومة حقوق الإنسان على صعيد العالم أجمع، وعلى وجه الخصوص الحق في التحرر الوطني ... احترام حق العرب في إيجاد طريقهم الخاص إلى الحرية والحكم الصالح عبر إبداع القوى المجتمعية العربية دون فرض نماذج مسبقة... التعامل مع الشعوب العربية من منطق شراكة الأنداد القائمة على الفهم العميق والاحترام المتبادل، لا من منطق الوصاية...الخ " (التقرير، ص 158).
|
مقالات أخرى من هذا الكاتب |
• ظاهرة الإسلاموفوبيا قراءة تحليلية
(بازدید: 913)
(موضوع: العالم الإسلامي)
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية
(بازدید: 2732)
(نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر
(بازدید: 2651)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة
(بازدید: 4194)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة
(بازدید: 6849)
(نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ
(بازدید: 2882)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي
(بازدید: 3253)
(نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان
(بازدید: 4255)
(نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا
(بازدید: 2147)
(نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن
(بازدید: 4151)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي
(بازدید: 1352)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي
(بازدید: 4058)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• آفتان في المتعصبين
(بازدید: 2170)
(نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة
(بازدید: 1819)
(نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة
(بازدید: 1639)
(نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة
(بازدید: 1023)
(نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب
(بازدید: 1061)
(نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي
(بازدید: 1540)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها
(بازدید: 843)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان
(بازدید: 888)
(نویسنده: سيد موسى الصدر)
• التقريب.. منهج تربوي
(بازدید: 1283)
(نویسنده: السيد محمد حسين فضل اللّه)
|