محمد باقر الصدر تجسيد لقيَم الإسلام
|
ثقافة التقريب - العدد اول
ضياء الدين أحمد
1428
• بلغ درجة الاجتهاد قبل البلوغ • الشهيد الصدر آلى على نفسه منذ صباه أن لا يصلّي إلا بحضور قلب • بقي حتى آخر حياته يعيش في بيت متواضع مستأجَر • قال: يجب عليّ أن أكون في مستوى معيشة الطالب العاديّ • كان الشهيد يعطف حتّى على جلاّديه • أعتى السهام التي أصابت الشهيد الصدر انطلقت من الوسط الديني الجامد. الشهيد الصدر عاش مظلوماً ومات مظلوماً ولـمّا يزل مظلوماً. ففي حياته لم تكتشفه قطاعات واسعة من الأمة الإسلامية، وبالذات النخبة المثقفة والمتعلّمة منها، إلاّ في جزر مغلقة ذات وجود محدود في الجامعات والحوزات العلمية، تمثلت بمجموعات من الطليعة المؤمنة في الجامعات وبعض علماء الدين المستنيرين في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ولذلك حُرمت الأمة من استثمار مواهبه وقدراته الإبداعية بتمامها. أما بعد استشهاده فصحيح أن شهادته كانت عاصفة عنيفة تناهت أصداؤها إلى مناطق شتى في العالم، غير أن ذلك لم يوجّه الأنظار نحو فكره وإبداعه المتعدد الأبعاد، وإنما تنبْه الناس إلى الدوافع السياسية والإيديولوجية التي أدت إلى تصفيته من قبل جلاد بغداد، وهكذا ظلّ إبداعه مهملاً لولا مبادرات فردية للتعريف بمدرسته وقراءة الأبعاد التأسيسية في فكره، كان أبرزها الدراسة التي كتبها تلميذه السيد كاظم الحائري في مقدمة كتابه "مباحث الأصول"، والكتاب الذي ألّفته نخبة من الباحثين ونشرته دار الإسلام في لندن، والعدد الخاص من مجلة قضايا إسلاميّة، وأخيراً الكتاب الذي ألفه تلميذه الشيخ محمد رضا النعماني. وما عدا ذلك لا نعثر على قراءات جادة لآثاره، ومراجعة وتقويم لأفكاره، واستجلاء خصائص مدرسته والتواصل مع مشروعاته التي لم تكتمل. ومن المؤسف أن تختصر مدرسته الفكرية باحتفالات جماهيرية تبجيلية ومقالات صحفية آنية، ربما تساهم في حجب الأبعاد الحقيقية لمدرسته. ولعل بعضهم يسقط في الوهم، فيحسب أن المفكر العالمي هو الذي يحظى بشهرة أوسع، وليس الملتصق بهموم وآلام البشرية، علماً أن الشهرة طالما اقترنت بالطواغيت والفراعنة وبعض السياسيين الذين تسببوا في عذابات وشقاء الإنسان، أو اقترنت بنجوم السينما والرياضيين مثلاً، بينما ظل غير واحد من المبدعين الأحرار الذين عاشوا من أجل سعادة البشرية مجهولاً. ويمكن القول إن الإمام الشهيد محمد باقر الصدر هو واحد من هؤلاء الكبار المجهولين، فإنه مع ما لَهُ من ريادة في تأسيس مشاريع فكرية وسياسية هامة، ومع أنه ثائر رباني لا يخشى في الله لومة لائم، وهب حياته للدفاع عن العقيدة، والجهاد من أجل تجسيد أهدافها العظمى في تحرير المستضعفين، وأرخص دمه وأعار جمجمته لله، ونازل أشرس طاغية في هذا العصر حتى خرّ صريعاً متوشحاً بدم الشهادة، إلا أنه لم ينل من الشهرة والعالمية ما ناله الكثير من الأشخاص الذين لا تساوي قيمتهم ثمن الورق الذي يستهلك للكتابة عنهم، غير أن ذلك لا يعني غياب الشهيد الصدر عن ذاكرة المستضعفين والمجاهدين، فقد توهج دمه الزكي فتوغل في أعماق ضمير الأحرار والمظلومين، وأضحى شعلة مستديمة توقد روح الكفاح لدى المظلومين وسيظل أنشودة للثوار مادامت المنازلة مستمرة بين الحق والباطل. عوامل النبوغ الفكري أبصر الشهيد الصدر النور في الخامس والعشرين من ذي القعدة عام 1353هـ الموافق 1923م في مدينة الكاظمية ببغداد لأسرة علمية عريقة من جهة الأب والأم فقد كان أبوه السيد حيدر بن إسماعيل الصدر سليل آباء اشتهروا في الحوزات العلمية بالعطاء العلمي الوفير، وصفه الشيخ الطهراني بأنه كان غزير العلم كثير الفضل "وكان دائم الاشتغال كثير المذاكرة، قلما دخل مجلساً لأهل الفضل ولم يفتح باباً للمذاكرة والبحث العلمي، وكان محمود السيرة حسن الأخلاق محبوباً عند عارفيه" كما وصفه السيد عبد الحسين شرف الدين بأنه "كان من ذوي العقول الوافرة والأحلام الراجحة والأذهان الصافية، وكان وهو مراهق أو في أوائل بلوغه لا يسبر غوره ولا تفتح العين على مثله في سنه.. يقبل على العلم بقلبه ولبه وفراسته، فينمو في اليوم مالا ينمو غيره في الأسبوع. مارأت عيني مثله في هذه الخصيصة" أما والدة الشهيد الصدر فهي ابنة الفقيه الشيخ عبد الحسين آل ياسين الذي أصبح ابناؤه الثلاثة الشيخ محمد رضا والشيخ راضي والشيخ مرتضى من الفقهاء اللامعين، وأسرة آل ياسين أسرة عريقة بالعلم وإنجاب العلماء، وأم الشهيد الصدر سليلة هذه الأسرة العلمية، غرست في هذه التربة وترعرت في أفياء التقوى والفقاهة. هذا هو المحيط الأسري الذي فتح عينيه في فضائه الشهيد الصدر، وهو وإن فقد أباه في فترة مبكرة من حياته (سنة 1356هـ)، بيد أنه تربى في كنف أمه العالمة الصالحة وأخيه الأكبر السيد إسماعيل، فكان لاحتضانهما له أثر بالغ في امتصاص لوعة اليتم التي اكتوى بها وهو لم يبلغ الرابعة من عمره، مع أن اليتم ظاهرة تكللت بها حياة مجموعة من العظماء. أما المحيط الاجتماعي الذي نشأ به الشهيد الصدر فبدأ في مدينة الكاظمية التي مكث فيها إلى سنة 1365هـ ثم هاجر إلى الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وفي الفترة التي أمضاها في الكاظمية درس في مدرسة "منتدى النشر الابتدائية"، وباشر دراسة العلوم الحوزوية هناك وقرأ أغلب الكتب المعروفة في مناهج الحوزة بالسطوح من دون أستاذ، فيما درس بعضها على أخيه السيد إسماعيل، ففي غرة السنة الثانية عشرة من عمره درس كتاب "معالم الأصول" على أخيه، وكان لفرط ذكائه يعترض على صاحب المعالم بإشكالات دقيقة، كان أوردها الشيخ الخراساني في كتابه الكفاية على المعالم. وبعد وصوله إلى النجف تتلمذ على علمين من أبرز فقهائها آنذاك وهما: خاله الشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد أبو القاسم الخوئي. وكانت النجف وقتئذ في ذروة تألقها وتوهجها العلمي، فقد كانت تعيش عصر ازدهار حركة الدرس الأصولي والفقهي، بتظافر جهود الأصوليين الثلاثة الشيخ محمد حسين الإصفهاني الكمباني، والشيخ محمد حسين النائيني، والشيخ آقا ضياء العراقي، الذين تعاصروا وأبدع كل واحد منهم جملة نظريات وآراء مبتكرة في أصول الفقه، فإن الشهيد الصدر وإن لم يدرك دروس هؤلاء الأعلام، إلا أنه أدرك المناخ العلمي الذي أثّر بنشاطهم العلمي التدريسي في الحوزة العلمية، فالتحم الصدر بهذه الأجواء وانفتح على أفكارها وراح يستلهم تياراتها بفعالية متوثبة. في هذا الضوء يتضح أن هناك تكاملاً بين دوري المحيط الاجتماعي العلمي والمحيط الأسري في إيقاظ روح الإبداع في شخصية الشهيد الصدر، يضاف إلى عامل المحيط الخارجي الموضوعي عامل أهم وهو العامل الذاتي أي الموهبة والعبقرية التي تفوّق بها الصدر على أعداد غفيرة انتسبت إلى البيئة التي انطلق منها لكنها لم تتمكن أن تطاول قامة الصدر التي استطالت فبلغت ذرى المجد. وقد ظهرت علامات النبوغ في فترة مبكرة من حياة الشهيد الصدر. يحكي أحد الطلاب الذين كانوا معه في المدرسة الابتدائية، أنه كان في السنة النهائية من هذه المرحلة، فيما كان الشهيد الصدر في الصف الثالث الابتدائي، لكن الصدر "كان محط أنظارنا نحن تلاميذ المدرسة صغاراً وكباراً، كما كان موضع تقدير واحترام معلميه، وأكثر ما كان يلفت نظرنا هو اهتمام المعلمين به، دون استثناء، فقد كانت له شخصية تفرض وجودها وسلوك يحملك على احترامه والنظر إليه نظرة تختلف عن نظرتك لبقية زملائه. كنا نعرف عنه أنه مفرط في الذكاء، ومتقدم في دروسه تقدماً يبزّ به زملاءه كثيراً أو ندر نظيره. وما طرق أسماعنا أن هناك تلميذاً في المدارس الأخرى يبلغ بعض ما يبلغه من فطنة وذكاء، لذا اتخذه معلموه نموذجاً للطالب المجد والمؤدب والمطيع" ويصفه أستاذه في هذه المرحلة بقوله: "كان شغوفاً بالقراءة، محباً لتوسيع دائرة معرفته، ساعياً بجد إلى تنمية مداركه ومواهبه الفذة، لا تقع عيناه على كتاب إلا وقرأه وفقه ما يحتويه، في حين يعزّ فهمه على كثير ممن أنهوا المرحلة الثانوية، ما طرق سمعه اسم كتاب في أدب أو علم أو اقتصاد أو تاريخ إلا وسعى في طلبه، كان يقرأ كل شيء.. كان شعلة ذكاء وأدب، ومثال خلق قويم ونفس مستقيمة، مافاه والله بحياته في المدرسة بكلمة الا وبعثت في نفس سامعها النشوة والحبور، وما التقت عيناه لفرط خجله مرة عيني أحد مدرسية، فهو لا يحدث إلا ورأسه منحن وعيناه مسبلتان" لقد كان لهذه الموهبة التي تفتحت في المرحلة الأولى من دراسته اثر بالغ في سرعة نضجه العلمي، إذ استطاع أن يخرق المراحل في مشواره العلمي، وانتهى إلى نتائج بهرت الوسط الذي كان يتعلم فيه، فمثلاً توفر على استيعاب الفقه وأصبح من ذوي النظر ولم تعد لديه حاجة للتقليد قبل البلوغ، لذا لم يقلد أحداً عند بلوغه. وهي مرتبة علمية لا يصل إليها الدارسون الأذكياء إلا بعد جهود شاقة يتواصل سنوات عديدة. ومما ينبغي التذكير به أن الموهبة والمحيط الأسري والاجتماعي لم تُوصل الشهيد الصدر إلى القمة التي ارتقاها لولا عامل رابع منضم إليها،وهو الجدية والمثابرة والإصرار على مواصلة السير مهما كانت العقبات حتى بلوغ الهدف. فقد ذكر هو لبعض تلامذته أنه كان "يقتطف أكثر من عشرين ساعة من الليل والنهار للتحصيل العلمي، وكان يقسمها بين المطالعة والكتابة والتفكير". ويتحدث عن مثابرته قائلا: "إنني في الأيام التي كنت أطلب فيها العلم، كنت أعمل في طلب العلم كل يوم بقدر عمل خمسة أشخاص مجدين". ولهذا يعود تسجيل حرارة جسمه لنصف درجة زيادة على المعدل أيام شبابه على الدوام. ودأب على هذا المنهج الصارم في المثابرة على عمله حتى نهاية حياته، فقد ورد في رسالة لأحد تلامذته كتبها قبيل استشهاده ببضعة سنوات: «إني منذ أشرب كوب الشاي صباحاً أبدأ بالعمل إلى الساعة العاشرة ليلاً». الربانية في شخصية الشهيد الصدر اتسمت شخصية هذا الثائر الرباني بسمات مزيدة، جعلته نموذجاً واضحاً لتجسيد قيم الرسالة الإسلامية بتمامها، وتجلي أخلاقية الإسلام بصورة علمية، وسنشير بإيجاز إلى أبرز هذه السمات، وهي: 1ـ الإخلاص: تجلى الإخلاص بوضوح في سلوكه وفي عبادته وفي جهاده، فمثلاً يذكر تلميذه الشيخ محمد رضا النعماني أنه كان يتحين الفرص للصلاة خلفه، الا أن الشهيد الصدر كان يتأخر أحياناً جالساً في مصلاه مستقبلاً القبلة مطرقاً برأسه متأملاً بخضوع، وربما يستغرق ذلك نصف ساعة، ثم ينهض فجأة لأداء الصلاة، يقول النعماني فسألته ذات يوم عن سبب هذه الظاهرة، فقال: "إني آليت على نفسي منذ الصغر أن لا أصلي إلا بحضور قلب وانقطاع، فأضطر في بعض الأحيان إلى الانتظار حتى أتمكن من طرد الأفكار التي في ذهني، حتى تحصل لي حالة الصفاء والانقطاع، وعندها أقوم للصلاة" وينقل الشيخ النعماني واقعة أخرى تفصح عن وصوله إلى مراتب عالية من مدارج السلوك إلى الله تعالى، يذكر فيها أنه لما نَفَذ المخزون من الطعام أيام الحجر (حصار نظام صدام)، واشتدت معاناتهم من آلام الجوع، عمدت عائلة الشهيد الصدر إلى التقاط الخبز اليابس التالف، وإعداده كطعام بالاستعانة بالماء المغلي، فكان الشهيد الصدر حينما يأكل منه يقول: «إن ألذّ طعام ذقته في حياتي هو هذا، لأنه في سبيل الله عز وجل». 2- التواضع: نشأ الشهيد الصدر في بيئة تضج بالألقاب والعناوين، حتى أن القارئ أحياناً لا يدرك اسم مؤلف الكتاب إلا بعد قراءة نصف صفحة من الألقاب.. غير أن الشهيد الصدر وضع حداً فاصلاً لهذه الفوضى، وصدرت مؤلفاته بتمامها في طبعتها الأولى التي طبعت بإشرافه وعلى غلافها «محمد باقر الصدر» فقط من دون أي لقب أو عنوان يسبق الاسم، كما أوعز لأحد تلامذته الذي كان يتابع ترجمة وطباعة كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» في إيران أن يذكر اسمه بدون ألقاب إنشائية. وأشار الشيخ محمدرضا النعماني إلى أن "السيد الشهيد حينما أكمل كتابه «الفتاوى الواضحة» وأردنا إرساله إلى المطبعة كتبت على الدفتر منها عبارة: «تأليف سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر» فلما رأى ذلك شطب عبارة «سماحة آية الله العظمى» وقال لي: لا حاجة إلى ذلك قدمها إلى الطبع بهذا الشكل". 3- الزهد والإباء: روّض الشهيد الصدر نفسه على جشوبة العيش وخشونة الحياة، فظل يعيش حتى أيامه الأخيرة في دار صغيرة تعود إلى إحدى الأسر التي كانت قاطنة في النجف، ورفض بشدة كل العروض التي قُدمت له من قبل بعض مريديه بالتبرع بشراء دار، فقد حدثنا تاجر محسن من أهالي الكويت أنه ذهب بنفسه الى الشهيد الصدر وقال له: سيدي لي إليك حاجة أرجو أن تقضيها؟ فأجاب الشهيد الصدر: تفضل، قال المحسن، لدي أمنية أن أشتري لك داراً، من أموالي الخاصة لا من الحقوق الشرعية، فتبسم الشهيد الصدر ثم قال: اشتر لكن بشرط أن تشتري لكل طالب علوم دينية في النجف لا يملك داراً وأنا أحد هؤلاء، يقول فقلت له: إن هذا الشرط غير مقدور. لم يُجد معه كل رجاء والتماس في ذلك فلم يستجب لعروض أخرى في هذا المضمار. أما في ملبسه فقد كان يكتفي بالمقدار الضروري ولا يسعى لارتداء الملابس الفاخرة، حتى أن بعض محبيه كان يهدي له أرقى أنواع الأقمشة والألبسة، فلا يستخدم منها أية قطعة، ويعمد إلى إهدائها للطلاب في النجف الأشرف، ممن يصعب عليهم مادياً شراء الملابس الجديدة، وقد ذكر الشيخ محمد رضا النعماني أنه دخل معه أحدى المرات الحمام فوجد بعض ملابسه الداخلية (الفانيلة) ممزقة، فاقترح عليه أن يبتاع له أخرى جديدة، فامتنع، وقال: هذه لا يراها أحد، وكان يقتصر في طعامه أحياناً على الخبز والماء فقط، بل كان يبعث بالخبز الساخن الجديد لخادمه فيما يأكل هو الخبز البارد. 4- أقواله تتجسد بأفعاله: اهتم الشهيد الصدر بتجسيد أقواله بأفعاله، فلم ينفصل سلوكه عن قناعاته وأقواله مثلما ابتلي به بعض من ينبغي أن يكونوا في مقام القدوة والأسوة، من هنا حرص على أن يبقى نمط معيشته مماثلاً لعيش الطبقة الفقيرة، فمثلاً كان يمتنع عن شراء الفواكه لعائلته مطلقاً حتى يتمكن جميع الناس من شرائها، وكان يقول: «يجب علىَّ وأنا في هذا الموقع (يعني المرجعية) أن أكون في مستوى العيش بمستوى الطلبة الاعتيادي». أما الأموال الوفيرة التي تصل إليه كحقوق شرعية، فقد كان يبادر إلى إنفاقها في مصارفها الشرعية على المحتاجين، وتنبه إلى تثقيف أبنائه على أن هذه الأموال ليست ملكاً شخصياً لهم، ولذا يجب أن يبتعدوا عن العبث بها، يقول بهذا الصدد: «إني فهّمت ابنتي (مرام) ان هذه الأموال الموجودة لدينا ليست ملكاً لنا، فكانت هذه الطفلة البريئة تقول أحياناً للداتها:: إن لدى والدي الأموال الكثيرة ولكنها ليست له، ذلك لكي لا تتربى على توقع الصرف الكثير في البيت بل تتربى على القناعة وعدم النظر إلى هذه الأموال كأملاك شخصية". وعندما تحدث معه الشيخ النعماني في فترة الاحتجاز عن إمكانية الفرار والخلاص من سطوة الجلادين أجابه قائلاً: «حتى لو أن السلطة فكّت الحجز فسوف أبقى جليس داري، فليس منطقياً أن أدعو الناس إلى مواجهة السلطة حتى لو كلفهم ذلك حياتهم، ثم لا أكون أولهم سبقاً إلى الشهادة في الوقت الذي يستشهد فيه الشاب اليافع والشيخ الكبير من أمثال الشهيد المرحوم السيد قاسم شبّر الذي جاوز السبعين من عمره». 5- الإيثار والشفقة: كان الشهيد الصدر يفيض عاطفة وشفقة على من حوله، ويرعاهم رعاية أبوية تختزن طاقة هائلة من الحنان والمودة، فمثلاً لما جرى اعتقاله في 17 رجب 1399هـ اعتقل معه الشيخ المجاهد طالب السنجري، ولما اندلعت التظاهرة الاحتجاجية العنيفة في ذلك اليوم في النجف الأشرف، تم الإفراج عنه، بيد أنه رفض العودة إلى النجف من دون الإفراج عن رفيقه الشيخ السنجري، لكن مدير الأمن تمنّع لأول وهلة لأجل أن يُثني الشهيد الصدر عن ذلك، إلا أنه عندما لاحظ إصرار الشهيد الصدر على الإفراج عن السنجري اضطر للإفراج عنه، وقد عبر الشهيد الصدر عن هذه الحادثة قائلاً: «كنت مصمماً على البقاء في مديرية الأمن مدى الحياة إذا لم تفرج السلطة عن مرافقي». وبلغت المشاعر الإنسانية للشهيد الصدر أن يعطف على جلاوزة الأمن الذين كانوا مكلّفين بفرض طوق وحشي على داره، إذ يذكر الشيخ محمد رضا النعماني أنه سمعه في أحد أيام الاحتجاز يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقال له: هل حدث شيء؟ فقال كلا، بل كنت أنظر إلى هؤلاء (ويقصد قوات الأمن) من خلال فتحة في الكسر الصغير في زجاجة النافذة فرأيتهم عطاشى يتصبب العرق من وجوههم في هذا اليوم من أيام الصيف الحار. فقلت: سيدي أليس هؤلاء هم الذين يطوقون منـزلكم ويعتقلون المؤمنين الأطهار من محبّيكم وأنصاركم، هؤلاء الذين روعوا أطفالكم وحرموهم من أبسط ما يتمتع به الأطفال ممن هم في أعمارهم؟ فقال: ولدي، صحيح ما تقول: ولكن يجب أن نعطف حتى على هؤلاء، إن هؤلاء إنما انحرفوا لأنهم لم يعيشوا في بيئة إسلامية صالحة، ولم تتوافر لهم الأجواء المناسبة للتربية الإيمانية، وكم من أمثال هؤلاء شملهم الله تعالى بهدايته ورحمته، فصلحوا وأصبحوا من المؤمنين. 6- الصبر والحلم: ما فتئ خصوم الشهيد الصدر يواصلون كيل التهم وإلصاق الأكاذيب والافتراءات وافتعال الدعايات والإشاعات ضده منذ عام 1380هجرية عندما قاد المدعو حسين الصافي حملة دعائية ضد النشاط الإسلامي للشهيد الصدر، وجاء بعده من شنّع بكتاب فلسفتنا واقتصادنا، وراح يحرّض الآخرين ضدهما باعتبار أن الصدر أضر بهذا الفكر الأمة، لأنه ليس فكراً قرآنياً. ثم تفاقمت المواقف المناوئة في النجف لتحرك الشهيد الصدر، فعبّر عنها في رسالة بالغة الدلالة لأحد أصحابه، كتبها في صفر سنة 1380هجرية، وجاء فيها: "لقد كان بعدك أنباء وهنبثة وكلام وضجيج وحملات متعددة جندت كلها ضد صاحبك بغية تحطيمه.. ابتدأت الحملات في أوساط الجماعة التوجيهية المشرفة على الأضواء أو بالأحرى لدى بعضهم ومن يدور في فلكهم فأخذوا يتكلمون وينتقدون ثم تضاعفت الحملة وإذا بجماعة تنبري من أمثال حسين الصافي ولا أدري ما إذا كانت هناك علاقة سببية وارتباط بين الحملتين أولا) تنبري هذه الجماعة.. فتذكر عني وعن جماعة ممن تعرفهم شيئاً كثيراً من التهم ومن الأمور العجيبة" ويكتب أيضاً: "فقد حدثني شخص في الكاظمية أنه اجتمع مع أحدهم في النجف الأشرف فأخذ يذكر عني له سنخ التهم التي كالها حسين الصافي من دون مناسبة مبررة، وعلى كل حال عسى أن يكون له وجه صحة في عمله إن شاء الله". ومن المؤسف أن أساليب محاربة الشهيد الصدر تنوعت وتعددت جبهاتها، وكان أمضاها وأعنفها تلك السهام التي تنطلق من داخل الوسط الديني المتحجر بعد تصديه للمرجعية العامة. فقد ذكر الشيخ محمد رضا النعماني "أن أحد العلماء جاء إلى بيت السيد الشهيد، وكان يتكلم بانفعال وعصبية ويحاسب السيد الشهيد على تصديه للمرجعية وطبعه «الفتاوى الواضحة»، وقد سجل نتائج تلك المحادثات من خلال رسالة بعثها إلى أحد تلامذته". وبلغت الوقاحة ببعضهم أن يبعث برسالة إلى الشهيد الصدر أيام الاحتجاز مضمونها "إننا نعلم أن الحجز مسرحية دبّرها لك البعثيون ، وأنت تمثل دور البطل فيها، والغرض منها إعطاؤك حجماً كبيراً في أوساط الأمة، إننا نعلم أنك عميل لأمريكا، ولن تنفعك هذه المسرحية"!! فما كان من الشهيد الصدر الا أن قبض على لحيته ودموعه تسيل، وهو يقول: "لقد شابت هذه من أجل الإسلام، أفأتَّهم بالعمالة لأمريكا، وأنا في هذا الموقع؟!".
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية
(بازدید: 2732)
(نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر
(بازدید: 2651)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة
(بازدید: 4194)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة
(بازدید: 6849)
(نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ
(بازدید: 2882)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي
(بازدید: 3253)
(نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان
(بازدید: 4255)
(نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا
(بازدید: 2147)
(نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن
(بازدید: 4151)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي
(بازدید: 1352)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي
(بازدید: 4058)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية
(بازدید: 1214)
(نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين
(بازدید: 2170)
(نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة
(بازدید: 1819)
(نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة
(بازدید: 1639)
(نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة
(بازدید: 1023)
(نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب
(بازدید: 1061)
(نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي
(بازدید: 1540)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها
(بازدید: 843)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان
(بازدید: 888)
(نویسنده: سيد موسى الصدر)
|