تحضير القلب للصلاة
|
رسالة التقريب - العدد ٢١
فكر إسلامي
محمد مهدي الآصفي
1419
هذا المقال يتناول أهمّ مضمار تربويّ يمارسه الانسان المسلم مرّات كل يوم. والتربية الاسلاميّة ترتبط كل الارتباط بوحدة الامة والتقريب بين فصائلها. لانها تتوجه الى توحيد القلوب نحو عبادة اللّه الواحد الاحد، وبدون هذه التربية تتفرق القلوب نحو آلهة شتّى مزيّفة وسرابيّة، ويحدث عندها النزاع والشقاق. إن تربية النفوس قادرة دون شك على توحيد الصفوف اكثر من الدراسات والبحوث التقريبية والمقارنة. وهنا تتجلى أهمية التوجه التربوي في رسالة التقريب. ١ - معنى حضور القلب ٢ - فضيلة وقيمة تحضير القلب ٣ - مناهج تحضير القلب للصلاة ١ - معنى حضور القلب ماهي الغاية من الصلاة؟ وكيف نصلي؟ سؤالان يؤول الثاني منهما الى الاول. فان كيفيّة الصلاة هي الى تحقق الغاية من الصلاة. وللجواب على السؤال الاول أقول: إن (الذكر) هو الغاية من الصلاة. يقول تعالى: (اقم الصلاة لذكري). فالصلاة إذن ذكر، والغاية من الصلاة الذكر. والطريقة الصحيحة للصلاة هي التي تحقق الذكر في الصلاة، وتنشيط القلب بالذكر. ولا يتأتى للإنسان الذكر من دون "حضور القلب" في الصلاة، فإن الذكر هو الحضور، والغفلة الغياب، ولكي يحقق الانسان في صلاته حالة الذكر لابد له من تحضير القلب. وكما ان "الذكر" و"الغفلة" حالتان متقابلتان، كذلك "حضور القلب" و"غياب القلب". ولا نكاد نفهم أحدهما من دون الآخر. إذن نتحدث أولاً عن "الغياب" ثم نتحدث عن "الحضور". غياب القلب غياب القلب في الصلاة هو انشغال القلب عن ذكر اللّه وعمّا في الصلاة من الركوع والسجود والقيام. فيؤدّي المصلي هذه الاعمال ويذكر الاذكار، وهو غافل عنها تماماً. وهو آفة الصلاة والذكر، فلا يضر الصلاة ويفسد الذكر مثل الغفلة والغياب. وسبب الغياب هجوم الأفكار والخواطر على قلب المصلي أثناء الصلاة، وشرود القلب في هذا الهجوم، عن ذكر الله تعالى في الصلاة. والسبب في هجوم الافكار والخواطر على القلب، والسبب في شرود القلب عن الصلاة هو عدم وجود تحصينات للقلب… كأي هجوم آخر يقوم به العدو على مراكزنا ومعاقلنا. والقلب مركز ذكر اللّه ومعقله، فاذا كان القلب مزوّداً بتحصينات مكافئة لهجوم العدوّ يقاوم هذا الهجوم، ويحبطه، ويبطله، وإذا كان القلب ضعيفاً في مواجهة العدو يتعرض لا محالة لغزو واسع من ناحية الافكار والخواطر التي تهجم عليه. ونتيجة هذا الهجوم شرود القلب عن ذكر اللّه في الصلاة. وهذا الشرود هو الغياب والغفلة التي تحدثنا عنها. وهو كما ذكرنا آفة الصلاة والذكر، وهو آفة واسعة يكثر ابتلاء الناس بها في صلاتهم، وقلما يخلو منها إنسان. وليس علاج هذا الابتلاء في الاعتزال عن الحياة ونشاطاتها وساحاتها، وإنما علاجه في تحصين القلب. فان القلب إذا كان ضعيفاً قد يشغله ما لاقيمة له من متاع الدنيا وزينتها، كالساعة التي على معصمه والقلم الذي بيده. واذا كان القلب قوياً، محصّناً ضد هذه الهجمات فلا تخترقه دنيا هارون الرشيد وملكه وسلطانه. تقول عائشة: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيننا نحدّثه ويحدثنا، فاذا حان وقت الصلاة فكأنه لا يعرفنا وكأننا لا نعرفه. وهذه الوقاية والحصانة هو معنى "الزهد" الذي يرغّب اليه الاسلام. فان الزهد هو أن لا تستغرق الدنيا اهتمامات الانسان وقلبه، وليس أن لا ينال يده من الدنيا شيئاً. فقد يملك الانسان من الدنيا الكثير، عن حلال، دون أن تستغرق الدنيا قلبه واهتمامه، وبين هذا وذاك فرق. والذي يدعو اليه الاسلام هو الزهد بهذا المعنى، ومع ذلك فإن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان يكره التعرض للدنيا ومتاعها وطيباتها عن حلال، ولا يحرمه، إمعاناً في الاحتياط من هذا الابتلاء الذي يشغل الانسان عن الله تعالى وذكره، ويصيب قلبه بالشرود والغفلة. ومن عجب أن تحصين القلب يتم بالذكر والتقوى، والذكر هو أحد العاملين الرئيسيين في تحصين القلب. عوامل تحضير القلب للصلاة في مقابل الغياب والشرود حضور القلب، وهو حالة الانتباه والذكر والانشداد الى الله تعالى، بخلاف حالة الغياب التي هي حالة النسيان والشرود. وعوامل تحضير القلب للصلاة أربعة أمور: "التحصين"، "التفريغ"، "والوعي والتعقل"، و"التفاعل"، بالتوضيح التالي: ١ - تحصين القلب عن الانشغال بغير ذكر الله. ٢ - تفريغ القلب عن الشواغل التي تشغل المصلي عن صلاته. ٣ - وعي صفات الله الحسنى الجلالية والجمالية. وهو أمر غير تفريغ القلب، فقد يفرع الانسان قلبه عن كل المشاغل، ولكن لا يعي من أسماء الله وصفاته الحسنى وجلاله وجماله غير أمر بسيط، ساذج على قدر سذاجة معرفته باللّه تعالى. ٤ - التفاعل مع الخطاب الالهي في الصلاة. وهذا التفاعل له مظاهر مختلفة. منها الخشوع في الصلاة، والتعظيم والتهيب، والخوف، والرجاء، والحياء. فاذا جمع الانسان هذه العناصر الاربعة أمكنه الله تعالى من تحضير قلبه للصلاة، وفتح الله عليه من كنوز الصلاة مالا يدركها إلا القليل ولا يتلقاها الذين يقيمون الصلاة في حالة الغفلة والشرود النفسي. الصلاة رحلة الى اللّه الصلاة رحلة الى اللّه تعالى، والى هذه الحقيقة يشير الحديث الشريف: "الصلاة معراج المؤمن". وفي الصلاة يعرج الانسان الى اللّه، ومهما كان عروج الانسان في صلاته أكثر كان أقرب الى اللّه تعالى. وأقرب ما يكون العبد في صلاته الى اللّه حالة السجود، والى هذا المعنى تشير آية السجدة من سورة العلق: (اسجد واقترب). وروي عن الامام الصادق (عليه السلام): "اقرب ما يكون العبد الى اللّه عزوجل وهو ساجد" [١]. وغاية هذه الرحلة هو اللّه تعالى، ويمر الانسان خلال هذه الرحلة على مشاهد بهيجة من الشكر، والذكر، والاستغفار، والدعاء، والقنوت، والاستعانة، والعبادة، والتكبير، والركوع، والسجود، والقنوت، والتشهد، والتسليم، والثناء، والمدح، والتوحيد، والاستغفار، والتضرع، والخشوع… الخ وكل واحد من هذه المشاهد روضة بهيجة من رياض الذكر والعبودية، يعرف قيمتها، وما فيها من لذة وقرة عين، أولئك الذين رزقهم اللّه وعي هذه المباهج واللذات العقلية والروحية. وللاسف أن يمر الانسان بهذه المشاهد البهيجة، وهو غافل عنها، شارد منها لا يسمع ولا يرى من مباهجها شيئاً ولا يستنشق من عَبيرها شيئا. والحضور في هذه المباهج العقلية والروحية في "الوعي والتعقل" اولاً وفي التفاعل والتعاطف الروحي ثانياً. وهما لا يتحققان من دون أن يفرغ الانسان قلبه عن كل شيء يشغله عن ذكر اللّه، ولا يتيسر للانسان هذا الاخير دون أن يحصّن الانسان قلبه عن الانشغال بغير ذكر اللّه. فاذا جمع اللّه تعالى له هذ الاربعة وجد الانسان في صلاته لذة لا تعادلها لذة، وبهجة لا تعادلها بهجة، ولا يكاد يشغله عن صلاته وذكره شيء، فلا يجد الانسان في هذه الحالة أمراً الصق بقلبه من الذكر والصلاة حتى يشغله عنها. وعندئذ يتفاعل الانسان مع صلاته بأنواع من التفاعل من الشوق، والانس، والخوف، والرغبة، والرهبة، والحياء، والتعظيم والخشوع، والشكر، والاستغفار. والتفاعل نتيجة حضور القلب في الذكر والصلاة وفي نفس الوقت أمارة حضور القلب في الصلاة. وعن هذا التفاعل يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة المتقين: "واذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم اليها شوقاً، وظنوا أنها نصب أعينهم. واذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم". ٢ - فضيلة وقيمة حضور القلب من المحقق أن قيمة الصلاة بحضور القلب، وليس للمصلي من صلاته الا ما أقبل عليها بقلبه. وقد دلت الروايات على ذلك. عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): "كم من قائم حظه من صلاته النصب والتعب" [٢]. وعنه (صلى الله عليه وآله): "ليس للعبد من صلاته الا ما عقل منها" [٣]. وعن الامام الباقر (عليه السلام): "إذا أقمت للصلاة فعليك بالاقبال على الله، فانما لك من الصلاة ما أقبلت عليه بقلبك" [٤]. وعن جعفر الصادق (عليه السلام): "لا تجمع الرغبة والرهبة في قلب الا وجبت له الجنة، فاذا صليت فأقبل بقلبك على اللّه عزوجل، فانه ليس من عبد مؤمن يقبل بقلبه على الله عزوجل في صلاته ودعائه إلا أقبل اللّه عزوجل عليه" [٥]. وقد تكون الصلاة فارغة تماماً من ذكر وإقبال على اللّه، وليس فيها من الصلاة الا الشكل والمظهر… فيضرب بها وجه صاحبها. في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إن من الصلاة لما يقبل الا نصفها وثلثها وربعها وخمسها الى العشر، وإن منها لما تُلَفّ كما يُلَـفَّ الثوب الخلق، ويضرب بها وجه صاحبها. ومالك من صلاتك إلا ما أقبلت عليه بقلبك". لم يقبل اللّه له صلاة خمسين سنة: وقد يصلّي الانسان خمسين سنة فلا يتقبل اللّه منه صلاة خلال خمسين سنة، فما أكثر حرمان هذا الانسان وشقائه. عن الصادق (عليه السلام): "واللّه إنه ليأتي على الرجل خمسون سنة، وما قبل اللّه منه صلاة" فأي شيء أشد من هذا؟ ! والصلاة التي لا يتقبلها اللّه هي التي لا ينتفع بها صاحبها. وبين القبول والنفع صلة وعلاقة، فكلّما كانت استفادة المصلّي من صلاته أكثر كانت الصلاة أقرب الى القبول. والفائدة التي يجنيها المصلي من صلاته هي الاقبال على اللّه، والذكر، وانفتاح القلب على اللّه، والاحساس بالحضور بين يدي اللّه تعالى قائماً وراكعاً وساجداً. وكلما كان حظ الانسان من هذا الاحساس والانفتاح والاقبال على اللّه اكثر كانت صلاته أقرب الى القبول من اللّه. من ضيّع صلاته ضيّعه اللّه: ومن الناس من يحافظ على صلاته كما يحافظ الانسان على ما عزَّ وغلا من متاعه، في قيامها وركوعها وسجودها، ويقبل فيها على اللّه، ويحسن أداء أذكارها وينقطع فيها الى اللّه، ويتخذها رحلة الى اللّه… أولئك يحفظهم اللّه. ومن الناس من يضيع صلاته، ولا يحفظ حرمتها، ولا يعطيها ما تستحق من الاهتمام والاقبال، والانشداد، ويصلي، وهو منصرف عن صلاته… أولئك يضيّعهم الله. وفي الحديث عن الامام الصادق: "إن العبد إذا صلّى في وقتها، وحافظ عليها ارتفعت بيضاء نقيّة، تقول: حظفتني حفظك اللّه، وإذا لم يحافظ عليها ارتفعت سوداء مظلمة تقول: ضيعتني ضيعك اللّه". المعادلة بين الاقبال والقبول: إذن قيمة الصلاة عند اللّه تعادل إقبال المصلي فيها على اللّه. فكلما يكون إقبال الانسان على اللّه في صلاته أكثر، تكون قيمة الصلاة عند اللّه اعظم. روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): "ان العبد ليصلّي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها، وإنما يكتب للعبد من صلاته ماعقل منها" [٦]. وجوب الاقبال على اللّه في الصلاة: يذهب بعض الفقهاء الى وجوب الاقبال في الصلاة، وإن لم يكن شرطاً في صحة الصلاة، وقد أمر اللّه تعالى بذلك في كتابه يقول تعالى: (وأقم الصلاة لذكري). فأمر اللّه تعالى بالصلاة من أجل الذكر فالامر بالصلاة أمر بالذكر. ونهى اللّه تعالى عن الغفلة (ولا تكن من الغافلين) [٧]. وأبرز مصاديق الغفلة المنهي عنها الغفلة في الصلاة، ويعلل القرآن النهي عن الصلاة في حال السكر. يقول تعالى: (حتى تعلموا ما تقولون) [٨]. منهاج تحضير القلب في الصلاة: نتحدث أولاً عن المناهج الاساسية والأولية لتحضير القلب في الصلاة، ثم نتحدث عن المناهج الفرعية والثانوية. وقد سلك أصحاب العرفان مناهج مختلفة في تحضير القلب للصلاة، نذكر أهمها. ١ - منهج الاهتمام: وليس من شك أن الاهتمام من عوامل الانتباه، وكلما يكون اهتمام الانسان بأمر أكثر يكون انتباههه اليه أكثر. وبالعكس القضية التي لا تأخذ من اهتمام الانسان لا ينتبه اليها الانسان. ولما كانت الدنيا أكثر اهتمامات الناس فانها لا محالة تشغلهم عن صلاتهم وتصرفهم عنها، فاذا أقبل الانسان على صلاته يبقى قلبه مشغولاً بما يهمه من أمر دنياه. وهذه قضية واضحة، فإن الانسان إذا واجه أمرين وكان اهتمامه الى أحدهما أعظم من الآخر انصرف اليه بقلبه، وإن كان مشغولاً بالآخر. وإنما ينصرف الناس عن صلاتهم الى ما يهمهم من أمور دنياهم لأن اهتمامهم بها أعظم من اهتمامهم بالصلاة. فاذا وعى الانسان قيمة الصلاة، وما أودع اللّه تعالى في هذه الرحلة من مباهج ولذات للعقل والروح، ومن الثواب في الاخرة، ووعى (والآخرة خير وأبقى) [٩]. انقلب الأمر لا محالة، وانصرف الى صلاته وذكره. اذن تحضير القلب يتم بتحويل الاهتمامات، واذا تمكن الانسان أن يحوّل اهتمامه من الدنيا ومتاعها الى اللّه تعالى، وجعل اهتمامه للدنيا تبعاً لمرضاة اللّه تعالى وأمره ونهيه كانت صلاته إقبال على الله وذكر للّه وانصراف وانقطاع الى الله. إذن الخلفية النفسية لمسألة حضور القلب في الصلاة هي قضية الاهتمامات، ومالم يحول الانسان اهتماماته من "الأنا" الى "اللّه" ومن "الدنيا" الى "الآخرة"…. لا يتمكن من أن يؤدي الصلاة أداءً حسناً، بالاقبال والذكر والانشداد. ولا شك أن هذا الأمر صحيح في حد نفسه. إذ أن ذلك لا يكفي لتحضير القلب. ٢ - المنهج الثاني التركيز: وهو محاولة التأمل والتدبر في أعمال الصلاة وأذكارها والانتباه اليها. والى هذه المحاولة يشير الغزالي في إحياء العلوم، فيقول: "إذا سمعت نداء المؤذّن فاحضر في قلبك حول نداء يوم القيامة، وأعرض قلبك على هذا النداء، فان وجدته مملوءً بالفرح والاستبشار، مشحوناً بالرغبة الى الابتدار فاعلم أنه يأتيك بالبشرى والنور يوم القضاء. أما النية، فاذا انطلق به لسانك فينبغي ألا يكذبه قلبك، فان كان في قلبك شيء هو أكبر من اللّه سبحانه، فاللّه يشهد إنك لكاذب. وإذا قلت أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم فاعلم أنه عدوك، ومترصد لصرف قلبك عن الله، حسدا لك على مناجاتك مع اللّه. واذا قلت بسم اللّه الرحمن الرحيم فانوبه التبرك لابتداء القراءة، وافهم أن معناها أن الامور كلها باللّه، واذا قلت (الرحمن الرحيم) فاحضر في قلبك جميع أنواع لطفه… ثم جّدد الاخلاص بقولك (اياك نعبد)، وجدّد العجز بقولك: (اياك نستعين) [١٠]. والى هذا المنهج يوصي جمع من أهل العرفان. وطبيعي إن معاناة المصلّي في التركيز في أعمال الصلاة وأذكارها تخفّ كلما تمرّس الانسان في هذا المجهود أكثر، شأن كل جهد ومجهود، فكلما يتمرس الانسان في عمل يخف عليه الجهد الذي يتطلّبه ذلك العمل، حتى يقوى على ممارسته في يسر وسهولة، ومن غير جهد ولا مشقة. والتركيز يفتح أبواب معارف القرآن والصلاة والذكر على قلب الانسان، ومهما تدبر الانسان وأمعن في التأمل في معاني القرآن والصلاة والذكر فتح اللّه تعالى له من معارفها مالم يعرفه من قبل. ٣ - المنهج الثالث تفريغ القلب: وهو منهج مألوف ومعروف عند أرباب العرفان، وهذا المنهج يقرب من المنهج الاول. وأساس هذا المنهج أن قلب الانسان إناء واحد، لا يتّسع لذكرين واهتمامين، يقول تعالى: (ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه) [١١]. فاذا كان قلب الانسان مشغولاً بشواغل الدنيا، فلا يستطيع أن ينصرف الى ذكر اللّه تعالى، وتبقى هذه الشواغل تلاحقه، وتطارده، حتى في صلاته، وهذه الشواغل على نحوين: شواغل خارجية، وأخرى داخل النفس، والثانية أشق من الاولى. أما الشواغل الخارجية فهي ما تحيط الانسان وتشغل باله، مثل زخرفة مكان المصلّي ونقوش الفرش الذي يصلّي عليه الانسان. ولذلك وردت الكراهة في زخرفة المساجد، واستقبال الصور والرسوم في الصلاة. وكان الصالحون يكرهون الصلاة في المواضع التي توجد فيها الصور والنقوش والزخارف. وكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يكره أن يصلي في الثوب الملّون. روي أن أباجهم أهدى قميصا عليها علم الى رسول اللّه وصلى بها رسول الله ثم نزعها، وقال اذهبوا بها الى أبي جهم [١٢]. وروي أنه أُهدي اليه (صلى الله عليه وآله) ثوب ملون، فصلى فيه ثم ردّه الى صاحبه. وكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لبس نعلاً فاعجبه حسنها فسجد فقال تواضعت لربي عزوجل كي لا يمقتني، ثم خرج فدفعها الى أول سائل لقيه ثم أمر علياً (عليه السلام) أن يشتري له نعلين جرداوين. وأهم من الشواغل الخارجية الشواغل الداخلية في النفس، وهي الاهتمامات التي تشغل المصلي عن صلاته وذكره، وتشتت باله، وتكدر صفاء نفسه، وترهقه بالطمع والحسد والجشع وطول الامل، وكل ذلك عوامل تعيق الانسان عن صلاته، وتشغله عنها. يقال: إن أبا العباس الجواليقي كان يبيع الجوالق (الخرج) في بدء أمره، فباع بعض ما عنده من الجوالق لشخص نسيئة، ولم يكتب اسمه، فحاول أن يتذكره فلم يقدر على ذلك. فلما وقف للصلاة تذكره في الصلاة فذكر للغلام الذي كان يعمل معه في محله. فقال له الغلام: وكيف تذكرته؟ قال: ذكرته في الصلاة. فقال له الغلام: كنت تصلي يا أبا العباس أم تبحث عن الجوالق؟ فتنبه أبو العباس الى خطأه، وندم على فعله، وباع الجوالق والمحل، وتفرّغ للعبادة. وعرف بالصلاح والتقوى. وإذا كان أبو العباس قد وفق في التخلص عن تعلقه بتجارة الجوالق ببيع المحل والجوالق مرة واحدة، فلم يوفق في المنهج الذي اتخذه للتخلص عن تعلقه بتجارة الجوالق، فليس من منهج الاسلام أن يعتزل الانسان الحياة الدنيا لكي يتخلص من التعلق بها، فان هذا المنهج السلبي في التخلص من التعلق بالدنيا ليس من الاسلام في شيء. والمنهج التربوي في الاسلام في التخلص من التعلق بالدنيا هو تمكين النفس من التحرر من العلاقة بالدنيا، وليس اعتزال الدنيا. فقد يرتبط الانسان بالسوق والمجتمع والسياسة بشبكة من العلاقات، فاذا قام الى الصلاة، تمكن ان يحجب نفسه مرة واحدة عن كل هذه الشبكة، ويقطع ما بينه وبينها مرة واحدة. روي عن الامام الصادق: "إذا استقبلت القبلة، فآيس من الدنيا وما فيها، والخلق وما هم فيه، واذكر وقوفك بين يديه يوم تبلو كل نفس ما سلفت". وإذا تمكن الانسان أن ينتزع نفسه مرة واحدة من الدنيا استطاع أن يفرّغ قلبه للصلاة، ويقبل على اللّه في صلاته. وقد كان يقول بعض أهل العرفان: يقول الناس افتح عينيك لترى، وأنا أقول اغمض عينيك لترى. وهو كلام صحيح ودقيق، فإنّ الانسان إذا تمكن أن يحجب نفسه عن الدنيا وينتزع نفسه منها في الصلاة آتاه الله تعالى في صلاته الوعي والبصيرة، وبصّره بما لا يبصره الآخرون. ولكن، قليل أولئك الذين يتمكنون أن ينتزعوا أنفسهم مرة واحدة من الدنيا إذا حان وقت الصلاة، ووقفوا بين يدي ربهم سبحانه وتعالى. ٤ - منهج الخطاب عندما ننظر في كتاب أو نستمع الى محاضرة قد نصاب بشرود الذهن، وكذلك الامر عندما نقرأ كتاباً بصوت مسموع. ولكن عندما نخاطب احداً أو نتلقى خطاباً من احد بالمواجهة لا نصاب بالشرود، وهذه أربع حالات، يصيبنا الشرود في الحالتين الاوليين دون الاخيرتين. والسبب في ذلك هو وجود عامل الخطاب في الاخيرتين، وفقدان الخطاب في الاوليين. فعندما يخاطب الانسان احداً يشده الخطاب الى المخاطَب (بالفتح)، وكذلك عندما يتلقى من احد خطاباً يشده الخطاب الى المتكلم من دون تكلّف ولا معاناة ولا حاجة الى التركيز. ففي حالة الخطاب ينشد الانسان الى "المخاطب" (بالفتح والكسر)، بسبب عامل الخطاب. إذن "الخطاب" من أهم عوامل الانشداد. وهذا أصل مهم نتوقف عنده ونستفيد منه في "الدعاء" واداء "الصلاة" وقراءة "القرآن". النظرة المرآتية والموضوعية الى الكلمات: والكلمات في الخطاب مرايا وأدوات لفهم المعنى، وينبغي أن يكون النظر اليها من قبيل نظر الانسان في المرآة، وشتّان بين أن ينظر الانسان في المرآة (كما لو اراد ان يعرف نوع المرآة ويختبر زجاجها) وان ينظر بالمرآة كما لو اراد ان ينظر الى وجهه في المرآة. والثانية هي النظرة المرآتية وهي التي يستخدمها الانسان في استعمال الكلمات أو ما يتلقاها من الخطاب، واما النظرة الاولى الى الكلمات (وهي النظرة الموضوعية) فلا تنفع المتكلم او المستمع في الخطاب، وقد تضر وتشغل الانسان عن الخطاب في الحالتين (توجيه الخطاب أو تلقي الخطاب). والتركيز في الخطاب قد يحول نظر الانسان الى الكلمات من حيث لا يعلم من النظرة المرآتية الى النظرة الموضوعية، وعندئذ لا يكون هذا التركيز نافعاً في الانشداد الى الخطاب، بل قد يضر، ويحجب الانسان عن الخطاب. وعليه; فان التركيز الزائد والمكلّف في الكلمات قد يؤدي دوراً عكسياً في انشداد الانسان الى الخطاب، بعكس حالة الترسل في أداء الكلمات وتلقيها اذا اقترنت بحالة الخطاب. سأل أحد الصالحين بعض العلماء كيف تصلي؟ فقال له: ابذل جهداً كبيراً في التركيز على أذكار الصلاة والتأمل فيها؟ فسأل العبد الصالح: فمتى تصلي إذن؟ وهذه حقيقة عميقة على بساطة السؤال والجواب، فان الافراط في التركيز قد يحول من حيث لا يشعر الانسان نظره من النظرة الآلية والمرآتية الى النظرة الموضوعية، فيعيق الانسان عن صلاته. الخطاب الصاعد والنازل: واذ عرفنا أنّ عامل "الخطاب" له دور كبير في انشداد الانسان الى "الصلاة" و"الدعاء" و"القرآن"… لابد أن نشير الى أن الخطاب على نحوين: الخطاب الصاعد من العبد الى اللّه. والخطاب النازل من الله تعالى الى العبد. والخطاب الصاعد هو "الصلاة" و"الدعاء"، وهو القرآن الصاعد، والخطاب النازل هو "القرآن" النازل من عند الله على الناس. فالذي يصح في الصلاة يصح في الدعاء، فان الصلاة والدعاء في جوهرهما خطابان صاعدان من العبد الى اللّه تعالى، والذي يصح في "الصلاة" و"الدعاء" يصح في قراءة القرآن، فان القرآن خطاب نازل من الله تعالى الى عباده. وهذه القراءات الثلاثة تشترك في اصل الخطاب، ويتميز "القرآن" عن الدعاء الصلاة أنه خطاب نازل من عند الله دون الصلاة والدعاء. فاذا استشعر الانسان عنصر الخطاب في "الصلاة" و"الدعاء" و"القرآن" سواء كان الخطاب الى الله أو من اللّه تعالى فان عنصر الخطاب يشده الى الصلاة والدعاء والقرآن. استشعار الخطاب (من) و (الى) اللّه: واستشعار الخطاب من اللّه، والى اللّه من شأنه أن يشد الانسان الى الخطاب من دون تكلّف ولا معاناة. والصلاة خطاب صاعد من العبد الى اللّه. وخطابات الصلاة كلها أو أغلبها من هذا القبيل نحو (إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم). أو خطاب بالمدح والثناء والحمد نحو: (الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم) أو خطاب تعظيم نحو "سبحان ربي العظيم وبحمده". أو خطاب تكبير وتأليه وتسبيح وحمد نحو "سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله الا اللّه واللّه أكبر". وهكذا سائر الاذكار في الصلاة من خطاب العبد للّه تعالى: "اللهم إني أسالك برحمتك التي وسعت كل شيء وبقوتك التي قهرتَ بها كل شيء وخضع لها كل شيء… اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العِصَم. اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم. اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء". والقرآن خطاب اللّه تعالى الى عباده. وما من شيء ألذ الى قلب المؤمن من ان يصغى الى خطاب الله تعالى له في القرآن. وقد روى بعض الصالحين انه كان يقول: قرأت القرآن حتى أحسست ان الله تعالى يخاطبني به، فما وجدت شيئاً ألذ الى قلبي منه ولا أكاد أشبع منه، ولا اصبر على مفارقته وليس للقلوب المؤمنة لذة اكبر من أن تصغي الى خطاب اللّه تعالى المباشر له: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) [١٣]، (يا ايها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم) [١٤]، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه حق تقاته) [١٥]، (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء للّه) [١٦]، (يا ايها الذين آمنوا اتقوا اللّه وابتغوا اليه الوسيلة) [١٧]. فاذا استشعر المؤمن خطاب اللّه تعالى له في القرآن، وخطابه له تعالى في "الصلاة" و"الدعاء" لم يصرفه عنه شيء، ولا يجد أمراً ألذّ الى قلبه وعقله منه. عوامل الاستشعار بالخطاب الالهي: والآن نتساءل: ماهي العوامل التي تشعر الانسان بالخطاب الالهي في "الصلاة" و"الدعاء" وقراءة "القرآن"؟ ولست أريد أن أدخل الآن البحث فهو بحث واسع، وفي نفس الوقت هام ونافع، لا يسعه هذا المقال. ولكنني أُشير الى عامل واحد فقط من عوامل الاحساس بالخطاب الالهي، وذلك هو وعي حضور الله تعالى، والايمان بحضور اللّه من شروط الايمان باللّه، ولكن وعي الحضور الالهي من مراتب الايمان العالية، وقليل هم أولئك الذين يستشعرون حضور اللّه بشكل دائم في الخلوات والجلوات. فاذا استشعر الانسان حضور اللّه تعالى وجد في الخطاب الالهي لذة لا تفوقه لذة، ولا يكاد يصبر عليها. وأي لذة اعظم من أن يخاطب الانسان رب العالمين بضمير الخطاب الحاضر فيقول (إياك نعبد واياك نستعين). أو يصغى الى خطابه تعالى له: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم) [١٨]. وإنما يغيب قلب المصلي عن هذا الخطاب الصاعد الى الله وذاك الخطاب النازل من عند اللّه لأن الانسان لا يعي بعمق وبصورة قوية حضور الله تعالى. وقد أولى القرآن اهتماماً كبيراً بهذه المسألة، وجعلها من أسس بناء الشخصية الايمانية، يقول تعالى: (ولقد خقلنا الانسان، ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب اليه من حبل الوريد) [١٩]. ويقول تعالى: (واعلموا أن اللّه يحول بين المرء وقلبه، وأنه اليه تحشرون) [٢٠] وهو من أرق التعبير وألطفة في الحضور الالهي، وفي تحسيس الانسان بحضور الله، ويقول تعالى: (ألم تر أن الله يعلم مافي السماوات ومافي الارض، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر الا هو معهم أينما كانوا، ثم ينبؤهم بما عملوا يوم القيامة، إن اللّه بكل شيء عليم) [٢١]. آثار وبركات وعي الحضور الالهي في حياة الانسان: ولهذا الوعي بركات كثيرة وعظيمة في حياة الانسان، منها الاحساس القوي النافذ بخطاب اللّه تعالى، ومنها الخشوع في الصلاة، والخوف والرهبة من اللّه تعالى، ومنها الشوق الى الله والانس باللّه، وحب اللّه، ومنها التوكل على اللّه والثقة باللّه، والانس بذكر اللّه، وعدم الاستيحاش من الانفراد والوحدة. ومنها "المراقبة"، وهي من عوامل تنظيم وضبط السلوك، ومن اسس المنهج التربوي في الاسلام، فان الانسان إذا أحس بشكل قوي بحضور اللّه تعالى، تملأ نفسه الرهبة والخوف من عند اللّه القوي المتعال. وإذا شعر الانسان بحضور اللّه ومعيته تعالى للانسان في كل حالاته (وهو معكم أينما كنتم واللّه بما تعملون بصير) [٢٢]. يشعر شعوراً قوياً بالرقابة الالهية على سلوكه، بل على ما توسوس به نفسه (ونعلم ما تسوس به نفسه) مما لا يكاد أن يطلع عليه أحد غير اللّه… وعندئذ يراقب الانسان بنفسه سلوكه ينظمه ويضبطه. وإذا شعر الانسان في صلاته بالحضور بين يدي اللّه، امتلأت نفسه بجلال حضور اللّه، والمغزى الدقيق للخطاب الالهي فيغلبه لا محالة الخشوع في الصلاة. واذا وعى الانسان حضور اللّه تعالى، وتجسدّ له جمال الصفات والاسماء الحسنى يهيم بذكر اللّه، وتمتليء نفسه بحب اللّه، والشوق الى اللّه، والانس بذكر اللّه تعالى، حتى لا يكاد أن يشبع من ذكر اللّه، ولا أن يصبر على مفارقة الذكر والصلاة. الجهد النفسي الذي يتطلبه وعي الحضور: ولاشك أن وعي الحضور، بصورة قوية واضحة، كما ذكرنا، أمر عسير وصعب، ولا يناله الانسان الا بجهد ومعناة نفسية كبيرة. ولكن كلما تمرس الانسان في هذه الجهود، كما ذكرنا قبل قليل، تقل درجة المعاناة وتزداد درجة الوضوح والقوة في هذا الوعي كأي جهد ومجهود آخر في حياة الانسان، حتى يكون وعي الحضور الالهي أمراً يسيراً للانسان، فيعي حضور اللّه معه في خلواته وجلواته، كما يعي بعضنا حضور البعض، بوضوح وقوة، ومن دون حاجة الى معاناة. وعي الخطاب الالهي: إذن; وعي الحضور الالهي هو مفتاح وعي الخطاب الالهي، وهو مفتاح كنوز الصلاة. فاذا وعى الانسان حضور اللّه يشدّ الانسان المؤمن الى خطاب "الصلاة" و"الدعاء" و"القرآن". وهذا الانشداد يحصل بصورة طبيعية، ومن غير تكلف ولامعاناة كبيرة ولا جهد. فاذا انشد الانسان بصلاته، وتفاعل معها، وتفهمها فتحت له الصلاة كنوزها التي أودعها اللّه فيها، فيجد الانسان عندئذ في صلاته بين يدي اللّه، مالايكاد يفارقها، وقد كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقول عن لذات الصلاة: "وقرة عيني الصلاة". ولما طلب الامام الحسين (عليه السلام) ليلة العاشر من جيش بني أمية أن يمهلوهم للصباح ليتفرغوا للصلاة، قال واستشهد الله تعالى: "اللهم إنك تعلم أني أحب الصلاة". وهذا المنهج في حضور القلب في الصلاة هو أيسر المناهج وأفضلها اذا طلبه الانسان من موارده الصحيحة. العوامل المساعدة لحضور القلب: وهذا الذي ذكرناه من المناهج هو العامل الرئيسي لحضور القلب في الصلاة، وهناك الى جانب ذلك عوامل فرعية مساعدة لتحضير القلب، نذكر أهمها على سبيل الايجاز والاختصار وللتوسعة في ذلك مجال آخر… غير هذا المقال. ومن هذه العوامل المساعدة: الاذان في الصلاة، فان أذكار الاذان وفصوله تعد الانسان للحضور بين يدي اللّه تعالى في الصلاة بصورة موحية وقوية. ومن ذلك الاستعاذة، قبل الدخول في الصلاة، وبدء الدخول في الصلاة قبل قراءة الفاتحة. فإن للشيطان - لعنه اللّه - دور كبير ورئيسي في الهاء الانسان عن صلاته، فاذا استعاذ الانسان باللّه تعالى في صلاته من الشيطان منع اللّه تعالى الشيطان عنه، وحجبه عن الشيطان، شريطة أن تكون الاستعاذة لجوءً حقيقيّاً الى اللّه تعالى من هذا العدو الخبيث الذي يحاول أن يحجب الانسان عن اللّه. وأما إذا كان المصلي صادقاً فى لجوئه الى اللّه واستعاذته باللّه تعالى من الشيطان… أعاذه اللّه تعالى لا محالة من اللعين، وحماه منه. ويقول تعالى: (وإمّا ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ باللّه إنه سميع عليم. إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فاذا هم مبصرون) [٢٣]. ويقول تعالى عن الاستعاذة باللّه من الشيطان إذا أراد الانسان أن يدخل في رحاب كتاب اللّه: (فاذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشيطان الرجيم. إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) [٢٤]. ومن العوامل المساعدة الزمان والمكان، فقد فضّل اللّه تعالى بعض الارض على بعض، كما فضل اللّه تعالى بعض الايام على بعض. وابتغاء هذه "البقاع" و"الايام" للصلاة والدعاء والذكر وقراءة القرآن ينفع كثيراً في تحضير القلوب الشاردة الى ذكر اللّه. ومن هذه البقاع المساجد، ومن أفضلها المسجد الحرام والمسجد النبوي في المدينة والمسجد الاقصى ومسجد الكوفة، ومنها مراقد أولياء اللّه، والصالحين، ومراقد أهل البيت وبشكل خاص الحائر الحسيني، ومن أفضل هذه البقاع وادي عرفة يوم عرفة حيث تصب رحمة اللّه تعالى على الحجاج فيها صباً من غير حساب. ومن هذه الايام والليالي ليلة الجمعة ويومها وليلة القدر، ويوم عرفة وشهر رمضان، وليلة النصف من شعبان، ولسنا نعلم نحن السر في اصطفاء هذه البقاع والايام للذكر والعبادة، ولكننا نشعر بشكل واضح أن لهذه البقاع والايام تأثير واضح على إقبال القلوب على العبادة، وانفتاحها على اللّه تعالى في الذكر والصلاة والدعاء وقراءة القرآن. الخلوة والاجتماع: ومن العوامل المساعدة لتحضير القلوب للصلاة "الخلوة" و"الاجتماع"، وكل منهما ينفع في إقبال القلوب على اللّه تعالى. ففي الخلوة لا يجد الانسان ما يشغله عن ذكر اللّه، فينصرف قلبه الى ذكر اللّه. ولذلك ورد التأكيد في القرآن الكريم على الاستغفار في الاسحار، وورد التأكيد في الروايات على اختيار الاسحار للاستغفار والصلاة يقول تعالى: (الذين يقولون ربنا إنّنا آمنا، فاغفرلنا ذنوبنا، وقنا عذاب النار. الصابرين، والصادقين، والقانتين، والمنفقين، والمستغفرين بالاسحار) [٢٥]. ويقول تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون، آخذين ما آتاهم ربهم، إنهم كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالاسحار هم يستغفرون) [٢٦]. والدعاء، والصلاة، والاستغفار في الاوقات كلها حسن، ولكن للصلاة والاستغفار في الاسحار وقع في النفس وتأثير في انفتاح القلوب والعقول على اللّه، لا يشبهه وقت آخر. وقد أمر اللّه تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) بدء الرسالة أن يقوم الليل نصفه او ينقض منه للصلاة والعبادة. يقول تعالى: (يا أيها المزمل، قم الليل الا قليلا، نصفه او انقص منه قليلا، أو زد عليه، ورتّل القرآن ترتيلاً. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً، إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً) [٢٧]. واللّه تعالى يسمي نافلة الليل بـ "الناشئة"، وهي التي تنشيء الانسان انشاءً، وتصنعه، وتوطّد شخصيته، وتقوّم منطقه. وتعد ناشئة الليل الانسان للقيام بالقول الثقيل والعمل الصعب في النهار: (انا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً). ولست أقول: إن هدوء الاسحار وخلوتها هي كل السر في التأكيد على الاسحار، ففي الاسحار أكثر من سر، وأكثر من دور في تشييد شخصية الانسان وبناء نفسه، ولكن لهدوء هذا الوقت دور بلا شك في فضيلة هذا الوقت وقيمته. وعلى العموم فإنّ الانسان في الخلوات يجد في نفسه من الاقبال على اللّه مالا يجدها في الاجتماعات. وليس كل اجتماع يضر باقبال الانسان على اللّه تعالى. فانَّ للاجتماعات الموجهة، المعدَّة للذكر والصلاة والعبادة تأثير خاص في انشداد الانسان بالذكر وانفتاحه على اللّه تعالى، ولذلك ورد التأكيد في حضور الجماعات وأوجب على الناس حخور الجماعات والحج في حشود المؤمنين. ويلمس الانسان في مثل هذه الاجتماعات الموجهة المعدَّة للصلاة والذكر والعبادة، في نفسه من الاقبال على اللّه والانفتاح ورقّة القلب والتفاعل مع الذكر مالا يجده في غيره، وكأن تفاعل الانسان مع الذكر والصلاة يتم في مثل هذه الاجتماعات بقوة "الجمع"، وليس بقوة الفرد، كما في الخلوات. وعلى العموم فان لكل من الخلوات والاجتماعات الموجّهة دور في ترقيق القلوب، وتفاعل الانسان مع الذكر والصلاة، وإقبال الانسان على اللّه. ولكل من "الخلوة"، و"الاجتماعات الموجهة" دور ونكهة وتأثير ليس للآخر في الاقبال على الصلاة، والعبادة والانفتاح على اللّه. وقد لا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إن مذاق الشريعة هو أداء الفرائض في الاجتماعات الموجهة، وأداء النوافل في الخلوات. نسأل الله تعالى أن يرزقنا إقامة الجماعات والجمعات في جماعة المسلمين، ويرزقنا المناجاة والاستغفار في الاسحار والخلوات، ويهبنا في صلواتنا لذة وقرة عين، ويجعلنا من مقيمي الصلاة. - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - ١ - من لا يحضره الفقيه ١ / باب ٣ - ج ٧. ٢ - اخرجه النسائي وابن ماجه. ٣ - رواه الغزالي في أحياء العلوم. ٤ - سر الصلاة للشهيد الثاني ١٨. ٥ - من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٠٩. ٦ - اخر جه ابو داود والنسائي. ٧ - الاعراف / ٢٠٥. ٨ - النساء / ٤٣. ٩ - الأعلى / ١٧. ١٠ - احياء علوم الدين للغزالي، كتاب الصلاة. ١١ - الاحزاب / ٤. ١٢ - خرّجه البخاري. ١٣ - البقرة / ٢٠٨. ١٤ - البقرة / ٢٥٤. ١٥ - آل عمران / ١٠٢. ١٦ - آل عمران / ١٢٥. ١٧ - المائدة / ٣٥. ١٨ - الصف / ١٠. ١٩ - ق / ١٦. ٢٠ - الانفال / ٢٤. ٢١ - المجادلة / ٧. ٢٢ - الحديد / ٤. ٢٣ - الاعراف / ٢٠٠ - ٢٠١. ٢٤ - النحل / ٩٨ - ٩٩. ٢٥ - آل عمران / ١٦ - ١٧. ٢٦ - الذاريات ١٦ - ١٨. ٢٧ - المزمل / ١ - ٦.
|
مقالات أخرى من هذا الكاتب |
• أربعة دروس من سورة الانشراح
(بازدید: 1885)
(موضوع: قرآن)
• التعددية الدينية
(بازدید: 1293)
(موضوع: فكر إسلامي)
• التغيير
(بازدید: 710)
(موضوع: فكر إسلامي)
• الربانية
(بازدید: 1430)
(موضوع: فكر إسلامي)
• الرحلة بين المعرفة و التفويض
(بازدید: 1164)
(موضوع: قرآن)
• الفـرقـان
(بازدید: 774)
(موضوع: قرآن)
• القبول و الجزاء في القرآن
(بازدید: 1693)
(موضوع: قرآن)
• الكتاب الناطق
(بازدید: 1294)
(موضوع: قرآن)
• الكلمات الابراهيمية - ١
(بازدید: 1868)
(موضوع: قرآن)
• الكلمات الابراهيمية القسم الثاني
(بازدید: 876)
(موضوع: قرآن)
• المنهج العلمي في ترتيب الأدلة الاجتهادية
(بازدید: 1696)
(موضوع: فقه)
• تأملات في آية التقوى من سورة الاعراف
(بازدید: 2401)
(موضوع: قرآن)
• تأملات في دعاء شهر رجب
(بازدید: 3400)
(موضوع: فكر إسلامي)
• تحليل ثقافي من العراق لأحداث لبنان
(بازدید: 641)
(موضوع: العالم الإسلامي)
• تحليل ثقافي من العراق لأحداث لبنان
(بازدید: 690)
(موضوع: العالم الإسلامي)
• حساب المستضعفين
(بازدید: 1344)
(موضوع: قرآن)
• مدخل الصدق ومخرج الصدق
(بازدید: 1563)
(موضوع: قرآن)
• نحو فهم حضاري لتاريخنا الإسلامي معركة الطف نموذجًا
(بازدید: 1038)
(موضوع: دراسات حضارية)
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• الإمامة
(بازدید: 1736)
(نویسنده: الشيخ مجيد العصفور)
• الامداد الغيبي في حياة البشرية
(بازدید: 1445)
(نویسنده: مرتضى مطهري)
• البرهان والعرفان
(بازدید: 1334)
(نویسنده: الدكتور علي أبو الخير)
• المنطلقات الفكرية للتعددية السياسية
(بازدید: 1877)
(نویسنده: الدكتور حسان عبدالله حسان)
• المنظومة الفكرية للشهرستاني وموقع ابن سينا منها
(بازدید: 2123)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• تأملات في دعاء شهر رجب
(بازدید: 3400)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• قصة الناي في فكر الكواكبي
(بازدید: 1794)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• ما الذي يعنينا في هذا الاستشراق؟
(بازدید: 1289)
(نویسنده: عبدالنبي اصطيف)
• مقاصد الشريعة في المجتمع الإسلامي
(بازدید: 2789)
(نویسنده: الدكتور عمار الطالبي)
• مناهج دراسة مسألة «المهدي»
(بازدید: 1296)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ
(بازدید: 1222)
(نویسنده: مرتضى مطهري)
• الاسلام وايران / الاتجاه الحضاري
(بازدید: 2176)
(نویسنده: الدکتور محسن الويري)
• التجديد والزمن - رؤية الشهيد الصدر لمؤثرات التجديد
(بازدید: 1254)
(نویسنده: السيد حسين الشامي)
• التحديات التي تواجه الإسلام / في العصر الحديث
(بازدید: 6892)
(نویسنده: الدكتور محمود حمدى زقزوق)
• الحداثة والتجديد / في فكر الإمام الخميني العرفاني
(بازدید: 1723)
(نویسنده: الدكتورة فاطمة الطباطبائي)
• الشهيد مطهري وإحياء الفكر الاسلامي
(بازدید: 2456)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• العلاقات الدولية / واحترام العهود والمواثيق في الإسلام
(بازدید: 2924)
(نویسنده: الدكتور وهبة الزحيلي)
• الغلو والتطرّف والإرهاب / وموقف الإسلام منها
(بازدید: 1333)
(نویسنده: الدكتور مراد ويلفريد هوفمان)
• الغلوُّ والتَّطرف والإرهاب / وموقف الإسلام منها
(بازدید: 1617)
(نویسنده: الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي)
• دور الامام الصدر في التطوير الفقهي / وتحديد المشكلة الاقتصادية
(بازدید: 1078)
(نویسنده: الدكتور عبد الهادي الفضلي)
|