banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

تحليل ثقافي من العراق لأحداث لبنان
ثقافتنا - العدد 14
العالم الإسلامي
محمد مهدي الآصفي
1428

الوعد الصادق
دلالات ودروس عن
إنتصار حزب الله على إسرائيل (2/2)
(7)
المشروع الأمريكي الجديد في الشرق الأوسط
الشرق الأوسط الجديد
لا أعلم إن كانت هذه الكلمة معروفة قبل تصريح «رايس» وزيرة الخارجية الأمريكية إبان الحرب القائمة بين حزب الله وإسرائيل أم لا؟
فقد جاءت «رايس» إلى لبنان لتطالب بإنهاء دور حزب الله في جنوب لبنان، وتجريده من السلاح، وتطبيع العلاقة اللبنانية الإسرائيلية، وتنفيذ قرار مجلس الأمن، بتجريد سلاح حزب الله، بناءاً على تفسيرها هي لكلمة
الـ (الميلشيا) الواردة في نص قرار مجلس الأمن، وتبشر في خطابها بـ «الشرق الأوسط الجديد».
وتستوقفنا هذه الكلمة وتدعونا إلى وقفة تأمل وتفكير.
إن المسألة تدخل في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة وليست فلتة لسان. المقصود بـ «الشرق الأوسط الجديد» واضح لمن يعرف كيف تفكر رايس ... إنها تريد من هذه الكلمة: أن يبقى الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة العربية الإسلامية على أراضي الجولان ومزارع شبعا والأراضي الفلسطينية... ولا تبقى المقاومة.
وبين هذا الإيجاب والسلب نفهم ما تريده رايس من هذه الكلمة، ولكي نفهم مصداقية «الشرق الأوسط الجديد»، بوضوح أكثر يجب أن نرجع بالذاكرة إلى المستجدّات السياسية التي حصلت في هذه المنطقة الحساسة خلال الـ 25 سنة الأخيرة.
لقد تعرضت المنطقة خلال هذه الفترة لعدّة هزات سياسية قوية، غيّرت شيئاً كثيراً من الخارطة السياسية للشرق الأوسط.
وكان أولى هذه الهزات ما حدث قبل 25 سنة في إيران، لقد غيرت الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني (رحمه الله) الخارطة السياسية في الشرق الأوسط، وخرجت إيران بالكامل من قبضة النفوذ الأمريكي، وحدث ارتباك شديد في المشروع السياسي الأمريكي في المنطقة، واقتدحت الثورة الإسلامية شرارة الثورة في كل المنطقة، في العراق، وفلسطين، وأفغانستان، ولبنان......
ورغم كل المحاولات الأمريكية، لم تتمكن أمريكا من استعادة إيران إلى حوزة نفوذها من جديد.
وكانت الشرارة الثانية في لبنان وقيام المقاومة الإسلامية اللبنانية لاستعادة الجنوب اللبناني من إسرائيل، وانتصار المقاومة أخيراً على إسرائيل، وانسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني.
وكانت الشرارة الثالثة في العراق، ولابد من تفصيل وإيضاح لهذه
النقطة التالية.

الحضور الإسلامي في العراق
لقد كان النظام العراقي مرشحاً للسقوط ... ولم يعُد يشك من كان يتتبّع أحداث العراق قبل السقوط في حقيقتين:
الحقيقة الأولى: أن النظام الصدامي أصبح هشاً ضعيفاً في معرض السقوط، ولم يعُد بإمكان النظام الأمني الحديدي الذي أسّسه حزب البعث في العراق أن يقاوم سخط الجمهور وثورة الغضب في الشارع العراقي كثيراً ... وهذه هي الحقيقة الأولى.
والحقيقة الثانية: أن المعارضة الإسلامية هي أقوى البدائل المرشحة للقيام مقام النظام الذي أرهقته الحروب والمغامرات والحماقات التي ارتكبها صدام مرة بعد أخرى.
وكانت هاتان الحقيقتان لا تخفيان على غرف الرصد الأمريكية ... وكانت النتيجة واضحة لدى الأمريكان، إن سارت الأمور على طبيعتها، فسوف يسقط نظام صدام لا محالة، وسوف يحل الإسلاميون محل صدام ونظامه في الحكم في العراق، والإسلاميون - كما هو معروف - حالة سياسية مستعصية على النفوذ الأمريكي.
كل هذه الحقائق كانت تستقطب الاهتمام الأمريكي. فكان لابد من تغيير سريع لمجرى الأحداث ... والآلية الوحيدة التي تغيّر مجرى الأحداث، ويحوّل السلطة في العراق من صدام إلى الأمريكان، هي أن يقوم الأمريكان أنفسهم بإسقاط صدام، لتتحول السلطة من قبضة صدام إلى قبضة الأمريكان، مباشرة، من دون العبور بالشارع العراقي، فينتهي كل شيء، ويصبح الأمريكان وعملاؤهم البدائل الشرعية لنظام صدام ... وهذه خطة دقيقة محكمة، إن سارت الأمور على ما يرومه الأمريكان في تحويل مجرى الأحداث من البديل الإسلامي إلى البديل الأمريكي.
وعلى هذا الأساس تمّ سقوط نظام صدام على يد الأمريكان مباشرة، ووضع الأمريكان أيديهم على كل شيء.
غير أن الأمريكان لم يحسبوا حساباً لحضور الإسلاميين الواسع في العراق، وثقة الشارع العراقي بالمرجعية الدينية والإسلاميين، وثقة المرجعية الدينية في الإسلاميين أولاً، وقدرة الإسلاميين في العراق على التعاطي السياسي مع الأمريكان، وقدرتهم على المرونة السياسية في التعامل مع الأمريكان في سلامة من دينهم وكرامتهم واستقلالهم ثانياً.
وقد كانت هذه النقطة موضع نقاش كثير في صفوف الإسلاميين، فكان رأي أكثرهم أنّ حضور الإسلاميين في مواقع الحكم والقرار، وإن كان في دائرة النفوذ الأمريكي أفضل من الغياب ... وعلى هذا استقر موقف الإسلاميين من الحكم في العراق، وكان رأي المرجعية الدينية في هذه المسألة إيجابية، وهو أمر أساسي في هذه المسألة.
والنتيجة التي حصلت من هذه وتلك: أن الإسلاميين سجّلوا حضوراً جيداً في مواقع القرار والحكم، وانتخبهم الناس، ووضعوا أمريكا أمام أمر واقع، وبدأوا يضغطون على أمريكا بالانسحاب من العراق ... وهكذا وجدت أمريكا نفسها في مقلب سياسي، لم تكن تحسب له حساباً من قبل.
صحيح أن القوات الأمريكية تجول في الشوارع والطرق بمدرّعاتها، وتجوب سماء العراق بطائراتها العسكرية، ولكن الأحداث كانت تتفاعل بسرعة في الشارع العراقي، باتجاه رفض حضور الأجنبي وسيادته في العراق، والمطالبة بانسحابه، أو على الأقل بجدولة الانسحاب في فترة قصيرة على الأقل، وحصلت مواجهات مسلّحة كثيرة في الشارع العراقي ضد الحضور الأمريكي، وكانت غرف الرصد الأمريكية بتجاربها الكثيرة في هذا الميدان تتوقع قيام مقاومة مسلحة ضد الحضور الأمريكي في العراق في وقت قريب.

مثلث العصيان:
وعلى هذا المنوال تتكامل الأطراف الثلاثة للعصيان السياسي للنفوذ الأمريكي في إيران والعراق ولبنان.
صحيح أن الجيوش الأمريكية لا تزال تجوب أرض العراق وسماءه، ولكن الأمريكان يعرفون جيداً أن هذه الحالة لن تدوم طويلاً، وأمريكا لا تستطيع أن تضحّي بأكثر مما ضحّت من أبنائها (2600 جندي أمريكي) إلى حين كتابة هذه السطور على الأقل و(المليارات من الدولارات) ... والشعب الأمريكي لا يتحمل تضحيات وخسائر أكثر من أبنائه وخزانته في العراق، وعليه فإن الوضع السياسي في العراق ينذر الأمريكان بالشر، ويقرع أجراس الإنذار، ويعتبر الأمريكان العراق منذ اليوم ضمن «مثلث العصيان»:
(إيران والعراق ولبنان)…
إن طرفي هذا الهلال المستعصي على الإرادة الأمريكية إيران ولبنان، وقاعدته المقعرة العراق. ومشكلة «مثلث العصيان» أن الولاء في هذا المثلث ليس للأمريكان. وهذه نقطة خطيرة بالنسبة إلى الأمريكان في المنطقة…
ومهما يكن من أمر فقد حصل تغيير أساسي منذ 25 سنة في الخارطة السياسية للشرق الأوسط ... وهذا التغيير يجري على خلاف الاستراتيجية الأمريكية بالتأكيد ... ولابد من عمل جاد وتخطيط لإحباط «مثلث العصيان» في الشرق الأوسط، وهذا التخطيط هو الذي تشير إليه رايس (حمّالة الحطب)، وزيرة الخارجية الأمريكية عندما وجدت أن الجيش الإسرائيلي، بكل تجهيزاته تلقى صفعات قوية من جانب حزب الله ... فأعلنت عن القرار الأمريكي في رسم خارطة الشرق الأوسط من جديد، وسمته بـ «الشرق الأوسط الجديد».

الآليات الأمريكية لإحباط مثلث العصيان
فما هي الآليات الأمريكية الاستكبارية لإلغاء «مثلث العصيان» من الخارطة السياسية للشرق الأوسط.
إن من يتتبع الأوضاع السياسية في المنطقة، والخطاب الأمريكي لا يشق عليه أن يعرف الآليات الأمريكية المفضلة لتذليل هذا المثلث وإلغائه في الشرق الأوسط.
لقد واجهت أمريكا وحلفاؤها إيران بالتهديد باستخدام القوة، واللجوء إلى مجلس الأمن لفرض حصار اقتصادي شديد على إيران، إن لم تستجب إيران، بتعطيل برنامجها النووي، وشفعت هذا التهديد بحزمة من المرّغبات الاقتصادية، كما يخدع الناس الأطفال بقطع الحلوى .. . وتلقّت أمريكا صلابة الموقف الإيراني في المضي قُدُماً في مشروعها النووي السلمي ...
ولا يزال المشروع النووي الإيراني موضع صراع عنيف بين الجمهورية الإسلامية من جانب وأمريكا وحلفائها من جانب آخر.
ولا تزال أمريكا تهدد إيران باستخدام القوة العسكرية من ناحيتها أو من ناحية إسرائيل، بضرب المفاعل النووي الإيراني، وتحويل الملف الإيراني إلى مجلس الأمن لفرض الحصار الاقتصادي والجوي على إيران، إذا أصرت إيران على موقفها الصلب من تخصيب اليورانيوم ... وكان في حسبان أمريكا أن تذلل بهذا التهديد الموقف الإيراني، وتلجئها إلى تعطيل مشروعها النووي، ثم يتعقب هذا التنازل مراحل جديدة من التنازل، ويتم ترويض واحتواء الموقف الإيراني الصعب بهذه الصورة.
غير أن أحداً لا يستطيع أن يقدّر بصورة علمية نجاح الآلية الأمريكية في تذليل الموقف الإيراني الرافض لإيقاف مشروعه النووي ... هذه الآلية الأولى لتقرير الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
والآلية الثانية لتعطيل «العملية السياسية في العراق» هي الإرهاب. والإرهاب الذي يجري في العراق حالة مبرمجة ومخططة لتعطيل العملية السياسية، وإعادة الناس الذين خرجوا إلى الشارع لتقرير مصيرهم السياسي إلى بيوتهم من جديد. وقوام هذا الإرهاب «التطرف الديني» و«حزب البعث» و«الأمريكان» وهذه هي الأضلاع الثلاثة لمثلث الإرهاب، وهي وأمريكا المحركة الرئيسية لحزب البعث والتطرّف الديني في ممارسة الإرهاب في العراق.
ولسنا بصدد شرح هذه النقطة، فإن الأدلة على تورط الأمريكان في مسألة الإرهاب في العراق كثيرة، والإرهاب سيؤدي بالضرورة إلى تعطيل الخدمات التي تقدمها الحكومة للناس. وبذلك فإن الأمريكان يلعبون بورقتين خطيرتين في هذا القمار السياسي، وهما الإرهاب وتعطيل أو تقليص الخدمات ... والأمريكان يوسعون كل يوم دائرة الإرهاب وتعطيل الخدمات الضرورية للناس، أكثر من ذي قبل، وبذلك يضعون الحكومة المنتخبة من قبل الناس، والمؤيدة من قبل المرجعية في وضع حرج شديد الحراجة، يُنذر بالفوضى والشغب، وهذا هو الذي يطلبه الأمريكان بالذات من الإرهاب وتعطيل الخدمات. والفوضى الشعبية والشغب الذي يراهن عليه الأمريكان في الشارع العراقي هو الفرصة الذهبية التي يطلبها الأمريكان لإقامة حكومة جديدة تحت عنوان «الإنقاذ الوطني»، يتولى فيها عملاء أمريكا الحكم في العراق، وعندئذ يمنع الأمريكان مشاهد الإرهاب وحوادث التفجير في العراق، ويوفّرون الخدمات للناس بشكل يرضي الناس، وتعود الحياة إلى
حالتها الطبيعية.
هذا هو التخطيط الأمريكي لإلغاء الحكومة التي انتخبها الناس وأيدتها المرجعية.
ولكن في تقديرنا نحن، وهذه قراءة من الداخل، أن الشعب العراقي لن يدخل في المشروع الأمريكي، ولن ينفد صبره وسط أعمال الإرهاب وضعف الخدمات.
ولن تملك الطبقة التي تعتمدها أمريكا في أعمال الشغب والفوضى في العراق هذه القدرة التي تمكّن أمريكا من إسقاط الحكومة واستبدالها
بـ «حكومة الإنقاذ الوطني».
والآلية الثالثة التي تستخدمها أمريكا لتعطيل مثلث العصيان في الشرق الأوسط تجريد حزب الله في لبنان من سلاحه، وتبديله إلى مجموعة سياسية عاطلة عن السلاح، فتفقد دورها في مقاومة إسرائيل، وهو كل شيء في قيمة حزب الله، واستصدرت أمريكا قراراً من مجلس الأمن بتجريد الميليشيات من سلاحها، إلا أن هذا القرار لم يقو على تجريد المقاومة الإسلامية من سلاحها ... وكان المشروع الأمريكي الآخر لتجريد سلاح حزب الله أن يتم ذلك على يد القوات الإسرائيلية مباشرة.
وقد رأينا كيف أحبط الله المشروع الأمريكي، وهزم الله الجيش الإسرائيلي هزيمة منكرة، على يد حزب الله.
هذه هي الآليات الأمريكية الاستكبارية للقضاء على مثلث العصيان في الشرق الأوسط، وترويض إيران والعراق ولبنان للإرادة الأمريكية.
وأمريكا تفرغ من إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد على الأرض، وليس على الورق، يوم تحتوي بشكل كامل الموقف الإيراني والعراقي واللبناني، فهل تقوى على ذلك؟
إننا نشك في سلامة وعقلانية الخطة الأمريكية في الشرق الأوسط شكاً كثيراً، ونعتقد إن أحد حكام العرب كان على حق، عندما خاطب إسرائيل، بعد أن أعلنت إسرائيل الحرب على حزب الله، قائلاً:
إنها بتعنتها وغطرستها أعطت فرصة ذهبية لظهور ظاهرة «حزب الله» في كل مكان، في عمان، والقاهرة، وبغداد، والجزائر، والدار البيضاء، واليمن ...
وأن أمر حزب الله لم يَعد بعدَ هذه الحرب تقتصر على جنوب لبنان فقط، وسوف نشهد ولادة حزب الله في كل مكان.

(8)
مجلس الأمن
ماذا يفعل المسلمون بمجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، وهما خاضعان بالكامل لنفوذ أمريكا، وبعد ذلك لنفوذ الدول الأربعة الأخرى صاحبة قرار الرفض في مجلس الأمن.
إن ملياراً وثلاثمائة مليون مسلم لا شأن لهم في قرار الرفض في مجلس الأمن، ويختص هذا القرار بالدول الكبرى فقط... وبإمكان أمريكا وحدها، أن توقف رأي 180 دولة مشاركة في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن باستخدام (الفيتو: حق الرفض)، فلا يستطيع مجلس الأمن أن يصنع شيئاً
بعد ذلك.
وقد افتتح كوفي أنان سكرتير مجلس الأمن الجلسة الأخيرة التي قررت وقف أطلاق النار بعد 34 يوماً يحترق فيه لبنان تحت قصف إسرائيل بهذه الكلمة الموجعة:
قال في افتتاح الجلسة، وأنا لا أذكر نص الكلمة وإنما أنقل مضمونها: إنني أكون خائناً لمسؤوليتي في مجلس الأمن- إذا لم أسجل هنا خيبتي في هذا المجلس، إن لبنان يحترق بالنار منذ 34 يوماً، ومجلس الأمن لم يتمكن أن يتخذ قراراً لوقف إطلاق النار.
لقد اجتمع مجلس الأمن خلال هذه الفترة أكثر من مرة، وكان المجتمعون يقررون وقف إطلاق النار في لبنان فوراً.
ولكن أمريكا وحليفتها بريطانيا لوحدهما كانا يرفضان القرار، ويوقفانه.
وبإمكان أمريكا وحدها أن توقف قرار مجلس الأمن، فماذا يصنع المسلمون بمجلس الأمن هذا؟
وهذا السؤال جاد، ليس فيه تعجيز ولا تحد، وإنما فيه دعوة للمسلمين إلى أن يفهموا جيداً قيمة هذه المؤسسة الدولية، ودورها، وحدّها من الحياد والانحياز تجاه أمريكا خصوصاً، وتجاه سائر أنظمة الاستكبار العالمي عموماً.
كان لبنان يحترق تحت القصف الإسرائيلي، ونزح مليون إنسان في لبنان إلى الأردن وسوريا، سكنوا المدارس، والمساجد، وبيوت الناس، وأكثر من 15.000 دار تهدمت على ما فيها من الناس والأثاث، وتهدمت البنى التحتية في لبنان من الجسور ومحطّات الكهرباء ومخازن الماء والوقود والمستشفيات وشبكات الهاتف، وجرت مجزرة قانا المرعبة في هذه الأيام، وانتفض الضمير الإنساني، في كل مكان لقصف قرية قانا على يد الطيارين الإسرائيليين بهذه الطريقة الهمجية. وكان القصف والتخريب والقتل والمجازر البشرية يومئذ على أشدّها. واجتمع مجلس الأمن، ولم يتمكن من وقف إطلاق النار!! ولم يتمكن من إدانة هذه الهمجية الإسرائيلية على أقل تقدير!!
فماذا يفعل المسلمون بمجلس الأمن؟
لو أن المسلمين علقوا علاقاتهم بمجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة لانقاد لهم هذا المجلس الاستكباري البتة... ولكن ما الحيلة، وقرار المقاطعة والمتابعة والرفض والتسليم ليس بأيدي جماهير المسلمين، !!...
إن انحصار قرار الرفض(الفيتو) في الدول الخمسة فقط أكبر احتقار توجهه المنظمة الدولية الى المسلمين والعرب جميعاً، ولكننا للأسف، تطبّعنا على هذا الاحتقار، حتى عدنا لا نشعر به.
إن الأسرة الدولية الكبيرة بحاجة إلى منظمة دولية تعبرّ عن رأي الأسرة الكبيرة، وليس فقط عن إرادة وموقف أنظمة الاستكبار العالمي. ولم تعد المنظمة الدولية الحاضرة قادرة على أداء هذا الدور العادل في العلاقات الدولية…
إن مجلس الأمن يحتكر الشرعية والقوة والقرار لصالح دول الاستكبار الخمسة لضرب من تريد أمريكا ضربه، وإدانة من تريد إدانته، والتغاضي عن عدوان من تريد التغاضي عنه. وسوف يأتي اليوم الذي يعجب ويأسف فيه أبناؤنا من الجيل القادم لرضوخنا المعيب، ومشاركتنا الضعيفة الموهونة في مجلس الأمن، ويتساءلون ماذا دهى آباءنا حتى قبلوا بكل هذا الاحتقار والامتهان في علاقاتهم الدولية. أو ليس الله قد أعزهم بالإسلام (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ( فلماذا تقبلون كل هذا الامتهان من المنظمة الدولية المنحازة؟!

(9)
كيف كافأنا حزب الله
هذا السؤال هام أرى من المفيد أن أطرحه للبحث والجواب. وقبل أن أدخل الجواب أقول لقد كافأ جمهور المسلمين حزب الله بهذه المبادرة الشجاعة والتضحية والبسالة بأحسن وجه.
خرج ملايين المسلمين إلى الشوارع في مراكز العالم الإسلامي من جاكارتا إلى سمرقند وبخارا، ومن طنجة والدار البيضاء إلى دلهي وبمباي، يعلنون تضامنهم مع حزب الله، ويحذّرون أمريكا وعملاءها في المنطقة، ويشتبكون مع رجال البوليس في إعلان الموقف وتسجيل التضامن والتعاطف... لقد خرج شباب المسلمين في القاهرة وعمان والكويت ودمشق وطهران وكابل يطالبون بالانضمام إلى صفوف حزب الله.
ولمع اسم الأمين العام لحزب الله وقائد المقاومة الإسلامية في لبنان- السيد حسن نصر الله- في كل العالم الإسلامي بدون استثناء، وارتفعت صوره كل مكان في تحدٍ واضح لدعاة التطبيع والمهزومين سياسياً ونفسياً أمام إسرائيل، وأصبح نصر الله رمزاً للمقاومة الإسلامية في كل مكان، يتغنّى باسمه جماهير المسلمين، ويجدون فيه القدوة والقيادة التي يطلبونها.
إن هذا التعاطف الواسع، والتضامن الكبير في فترة قصيرة يكشف عن حيوية كبيرة في ضمير العالم الإسلامي، وأن المسلمين رغم كل الحواجز الإقليمية والسياسية والقومية والطائفية التي أقامها الاستكبار الغربي في العالم الإسلامي... أقول إن المسلمين رغم كل هذه الحواجز الكبيرة قادرون على تخطي كل هذه الحواجز، فترى جمهور العالم الإسلامي في أقل من أسبوع كالبحر يرفده المسلمون من كل حدب وصوب، لا تكاد تميّز فيه العربي عن الكردي والفارسي عن التركي والسني من الشيعي والمصري من الجزائري. إن هذه الحالة من الاندماج السريع والترافد في بحر هذه الأمة التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس... إمارة الصحة والصحوة والحيويّة.
أجل، جزى الله خيراً جمهور هذه الأمة المباركة، فقد كان وفيّاً للمقاومة الإسلامية، متضامناً ومتعاطفاً معه، ولم يأل هذا الجمهور جُهداً في دعم المقاومة وإسناده وإشعاره بأنه يقف معه، في هتاف واحد، وشعار واحد، وموقف واحد. لقد عرف الناس جميعاً هذه الحقيقة.
الموقف من ناحية بعض الحكام العرب فقد كان أول الأمر، يسير باتجاه عكسي، باتجاه التبرّي من هذه المغامرة غير محمودة العواقب، كما كانوا يقولون، والتنصّل عما يقوم به حزب الله وإعلان هذه البراءة والتنصل منه.
والذي خفّف من حدة هذا الموقف السلبي عند حكام العرب أمران، الأمر الأول التضامن والتعاطف الواسع من قبل المسلمين الذي أخجل الحكام من مواقفهم السلبية المعلنة تجاه حزب الله. الأمر الثاني الهزائم المتلاحقة التي كانت تلحق بالجيش الإسرائيلي، على خلاف توقع حكام العرب جميعاً. وكان لهذين العاملين تأثير واضح في تخفيف نبرة الشجب والتسفية والإدانة…
أن قرار تلك الأنظمة العربية ليس هو القرار الأمريكي بالضرورة، ولكن الذي لا نشك فيه: إن هذه الأنظمة لا تستطيع تجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية في علاقاتها السياسية وقراراتها الدولية.
وحزب الله في الاعتبارات الأمريكية يدخل في دائرة الإرهاب، لا شك في ذلك، وضمن المنطقة الحمراء، وليس بإمكان هذه الأنظمة أن تدعم حركة تصفها أمريكا بالإرهاب، حتى بالكلمة، فضلاً عن الموقف والمال والسلاح.
هذه هي الكارثة السياسية، بعينها: إن الأنظمة العربية والإسلامية تأخذ معاييرها ومقاييسها في فهم الأشياء من الثقافة السياسية والإعلام السياسي الغربي.
والفصل الثاني من هذه المكافأة في لبنان، بالذات، تمثلت في أصوات بعض الأوساط السياسية اللبنانية بتجريد حزب الله من سلاحه، ولما يزل العدو على الأرض اللبنانية، ولما تزل البيوت تتهدم على رؤوس أصحابها كما قال السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، ولا يزال الكثير من أبناء هذا البلد مدفونين تحت الأنقاض... ولم يكن بوسع هؤلاء أن يضبطوا أعصابهم ليتم تنفيذ قرار وقف إطلاق النار، ويرجع العدو إلى الخط الأزرق كما يقولون. وقد سمع المسلمون جميعاً هذه الصيحات الناشزة، من داخل لبنان، وداخل الوسط السياسي في لبنان. ولو أن فريق كرة قدم أحرز فوزاً عالمياً في مباريات الكرة، ثم طالب أحد بتجريد هذا الفريق من الكرة لارتفعت صرخات الاستنكار والشجب من الجميع.
لقد حقق حزب الله أول هزيمة عسكرية في الجيش الإسرائيلي، كما قال أمير قطر في لقائه مع رئيس جمهورية لبنان، ومعنى ذلك أن هذه المجموعة الصغيرة المحدودة حققت ما عجزت عنه الأنظمة العربية جميعاً. فكان نصيب هذه العصابة المؤمنة من حزب الله الدعوة إلى تجريدها من السلاح الذي هزموا به إسرائيل.
نحن نترك للقارئ تقدير الدواعي والأسباب الحقيقية وخلفيّات هذه الدعوة، ولماتزل إسرائيل تمارس القصف والعدوان على لبنان، ولسنا بصدد تحليل هذه النقطة.
ولكن أقول أن ناساً، مهما كان انتماؤهم السياسي، يرضون بإسرائيل على الأرض اللبنانية، وبالعدوان الإسرائيلي، ولا يرضون بأن تحمل شريحة من أبناء بلدهم السلاح لدرء العدوان والاحتلال عن بلدهم... هؤلاء الناس يعانون من حالة مرضية سياسية بالغة الخطورة... وأن انتشار هذا المرض السياسي الحزبي، وقبوله بحجة التعددية السياسية في العالم الاسلامي، يؤدي إلى آثار تخريبية واسعة في مستقبلنا السياسي.
وعلينا نحن في العالم الإسلامي، والعربي أن نعمل لمكافحة هذه الحالة المرضية السياسية، ولا نسمح للتعددية السياسية داخل العالم الإسلامي أن تنزل بنا إلى هذا الحضيض من التقاطعات السياسية في القيم والمواقف.
أقول إن المقاومة الإسلامية في لبنان وفي فلسطين لا تعتمد على مثل هذا الوسط الرسمي والحزبي، وإنما تعتمد على الشارع الإسلامي، والجمهور، وهو وسط مبارك وتربة خصبة، تُقدّر هذه البطولة، وتشجّعها، وتتضامن معها. ولكننا لا يمكننا على كل حال أن نمرّ بمثل هذه الحالات المرضية السياسية، من دون تفكر ودراسة ولا توقف.
إننا أسأنا كثيراً فهم التعددية السياسية واستخدامها في العالم الإسلامي، حتى عاد معنى التعددية عند البعض السماح بالتقاطع في القيم والمواقف، وتعريض القيم الإسلامية والثوابت السياسية المتبناة من قبل الجماهير لهزات شديدة.

(10)
التضليل الإعلامي
للإعلام الدور الأول في تضليل الرأي العام في قضايانا السياسية وتستخدم أنظمة الاستكبار العالمي الإعلام أداة فعالة قوية في تضليل الرأي العام وتحريفه.
والإعلام اليوم علم، مهمته في أنظمة الاستكبار العالمي: إبطال الحقوق وإحقاق الباطل، وتقريب البعيد وإبعاد القريب، وتشويه صورة الصديق حتى نراه عدواً، وتجميل صورة العدو حتى نراه صديقاً.
ويدخل الإعلام في معركتنا الحاضرة في العالم الإسلامي عنصراً أساسياً، لا غنى لنا عنه، وجزءاً أساسياً في المعركة.
ومن أعجب ما شاهدنا من التضليل الإعلامي من قبل أنظمة الاستكبار العالمي في حرب الأسابيع الخمسة التأكيد على الدور الإيراني والسوري في هذه المعركة.
وهو أمر غريب، فقد كانت الدبّابات الإسرائيلية المتطورة تحترق، واحدة بعد أخرى، تحت وابل صواريخ حزب الله، وتسجّل إسرائيل هزيمة بعد هزيمة في جنوب لبنان، وفي الحدود الفلسطينية(المحتلة) – اللبنانية، وتسجل المقاومة الإسلامية أروع الأمثلة في البطولة والبسالة والشجاعة... أجل في وسط هذه الانتصارات والهزائم كان الإعلام الغربي الاستكباري، يشغل الرأي العام بالتمدد الإيراني في العالم العربي، ولبنان، وحزب الله.
وكان للإعلام الأمريكي الدور الأول في قيادة هذه الحملة الإعلامية ضد إيران والملف النووي الإيراني وضد سوريا... ومن وراء الإعلام الأمريكي والغربي حشد من الإعلاميين عندنا الذين كانوا يرددون مايقوله الإعلام الأمريكي، كالببغاء... من غير تفكير في ماهية هذه الحملة. وكانت غاية أمريكا من هذه الحملة الإعلامية ضد إيران أمرين اثنين:
الأمر الأول: تحريف الرأي العام العالمي والعربي عن هزائم إسرائيل، وإبراز بؤر استقطاب أخرى عديدة للرأي العام، تلهى الناس وتشغلهم عن هزائم إسرائيل في مقاتلة حزب الله، وحفظ ما يمكن حفظه من ماء وجه إسرائيل في هذه الهزائم المتكررة التي ألحقها بها حزب الله. ولست أعرف على التحقيق إن كان هذا الإعلام نفع إسرائيل في ستر عوراتها في هذه المعركة أم لا، ولكن أعلم أن أمريكا وإسرائيل كانتا مصرتين على إدخال الحالة الإيرانية في هذه المعركة بأي ثمن لتحقيق هذه الغاية.
والأمر الثاني: الذي كان يطلبه الأمريكان في هذه الحملة الإعلامية، تسقيط إيران، وتشويه الوجه الإيراني في العالم العربي، وتأليب العرب والأنظمة العربية ضد إيران، وتحضير الحالة الإعلامية والنفسية في العالم وفي المنطقة لضرب المفاعل النووي الإيراني وضرب البنى التحتية الإيرانية، على يد إسرائيل، أو بالسلاح الأمريكي مباشرة.
ومن عجب أن الإعلام الغربي والعربي، في المنطقة كان يتغاضى عن التدخل العسكري المباشر لأمريكا في العالم الإسلامي ـ على هيئة الاحتلال العسكري في أفغانستان والعراق، وعلى مرأى ومسمع من العالم، وهو أقبح أشكال التدخل وأشنعها. ... وكان يتغاضى عن المشروع الأمريكي الذي تصرح به أمريكا، على لسان وزيرة خارجيتها، في إعادة رسم «الشرق الأوسط» وتجديد هيكليته السياسية، تحت عنوان «الشرق الأوسط الجديد». ... وكان يتغاضى عن التدخل الأمريكي العسكري في ليبيا وفي السودان وفي هذه المنطقة ... وكان يتغاضى عن التهديد الأمريكي السافر لإيران في مشروعه النووي السلمي، ولسورية... وأمثال ذلك، ثم يقوم هذا الإعلام في المنطقة وفي الغرب بإبراز الدور الإيراني في هذه المعركة.
وأكبر اتهام موجّه لايران في هذه القضية أنها تُسلح حزب الله وتموّله، وتمكنه من إسرائيل. ولست أدري مدى صحة هذا الاتهام، ولكن هذا الاتهام يُشرّف إيران في المعركة القائمة بين الإسلام والصهيونية العالمية... وكان ينبغي أن يقوم بهذا الدور قبل إيران الأنظمة العربية، اللصيقة بهذه القضية، وأن يصطفوا مع «حزب الله» و«حماس» في مواقعهم الصعبة والصلبة.
ولست أدري إن كان رجال الإعلام الذين يبثون هذا الكلام يُقدّرون أن الجمهور الذي يتلقى هذا الإعلام يعجب من هذا الكلام «الفارغ» من كل قيمة وحقيقة أم لا؟ تصوير مثل هذا الإعلام إلى الناس نحو من احتقار عقول الناس وامتهانهم... والناس يدركون هذا المعنى. ومن أكبر أخطاء الإعلاميين احتقار عقول الناس، بهذا الحد، واعتقادهم بأن الناس يصدّقون بكل ما يصلهم من الإعلام. إن الجمهور يفهم ويدرك، وليس كما يعتقد رجال الإعلام موضعاً للاستهلاك الإعلامي فقط.
لقد كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله (حفظه الله) صريحاً تجاه الإعلاميين عندما طرحوا عليه ما يذكره الإعلام من أن هذه العملية كانت بتوجيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولتخفيف الوطء عن الملف النووي الإيراني... قال لهم السيد حسن نصر الله: مستنكراً نحن نُعرّض أعزائنا للقتل، ونعرض بيوت أهلنا في لبنان للتخريب، ونتسبّب في نزوح مئاة الآلاف من الناس من بيوتهم من أجل أن نخفّف الوطء عن الملف النووي الإيراني!!! هذا كلام سخيف، وغير مسؤول واحتقار لعقول الناس.
إن هذا السخف الذي وصف به السيد الإعلام المضلّل (الأمريكي والإسرائيلي) ومن يجري مجراهم من الإعلاميين، يدركه الناس جيداً،
ولا يغيب عنهم.
ويبقى إننا لا نملك إعلاما قوياً بقوة الإعلام المضاد حتى نكشف للرأي العام ما يحمله هذا الإعلام من التضليل السياسي والاحتقار لعقول الناس.
ومهما يكن من أمر، فإن علينا أن نُفكّر بجدّ في المسألة الإعلامية، فإنها اليوم جزء لا يتجزأ من المعركة، وما لم نمتلك إعلاماً قوياً يُقدّم إضاءات كاشفة للأحداث السياسية التي تمر على العالم الإسلامي لا نستطيع أن نزيل الظلمات الإعلامية التي تزحف علينا من الغرب.

(11)
الحواجز الطائفية
إن الاختلاف في العقيدة والاجتهاد الفقهي والرأي والفهم بين المسلمين أمر واقع لا سبيل إلى إنكاره. إلاّ أن الاستكبار العالمي يحاول أن يجعل من هذا الاختلاف في العقيدة والاجتهاد حاجزاً بين المسلمين، يعزلهم عن بعض، وهذه هي نقطة الخلاف الجوهرية بيننا وبين دعاة الطائفية السياسية، والمقاطعة المذهبية بين المسلمين.
وإذا فرّقنا بين الأمرين يهون علينا علاج هذه المشكلة المستعصية على أئمة الإصلاح والتقريب بين المسلمين من السنة والشيعة.
نحن لا ندعو الشيعة إلى أن يتنازلوا عن عقائدهم ومتبنياتهم وإلى قبول أفكار أهل السنة واجتهاداتهم، ولا العكس. ولكن هناك اتجاهان في التعامل مع هذا الاختلاف في العقيدة والرأي.
الاتجاه الأول: هو الانجرار من منطلق الاختلاف إلى التخالف والتقاطع والتنابذ والتباعد.
والاتجاه الثاني: التواصل، والتفاهم، والتعاون، والتضامن، والتقارب في المواقف السياسية والاجتماعية وفي العلم والمعرفة أيضاً.
والمنهج الثاني هو منهج أهل البيت (. لقد كانوا يحثّون شيعتهم على ذلك، ويدفعونهم بهذا الاتجاه، ويطلبون منهم زيارة قومهم وأشقّائهم ممن لا يذهب مذهبهم، ويدعونهم إلى حضور صلواتهم، ويؤكدون لهم أنها مجزية وصحيحة، بل في بعض النصوص أنها كالصلاة خلف رسول الله (ص) في الصف الأول، ويرغّبونهم في مواصلة العلاقة من الزيارات والمجاملات وعيادة المرضى وتشييع الموتى، وكل ما من شأنه خلق المودة والرحمة والحب في القلوب وإزالة الحواجز النفسية بين المسلمين.
وتصريحات أهل البيت ( في ذلك كثيرة رُوِيت عنهم بأسانيد صحيحة ومعتبرة. وهذا هو النهج الذي نؤمن به ونسعى إليه، ونعتقد بضرورته وأهميته. ونعتقد أنّ الأمة الإسلامية في أوسع نطاقها الجماهيري والعلمي يؤمن بهذه الحقيقة ... ورغم وجود نداءات ودعوات متطرّفة من كل من الفريقين الإسلاميين الكبيرين إلى التقاطع والتخالف ... رغم ذلك هناك استجابة إسلامية صافية، ونقية، وخالية من أية تعقيدات ورواسب وخلفيات متشنجة في الساحتين الإسلاميتين، الشيعية والسنية.
فقد شاهدنا جميعاً التجاوب الشيعي من قبل «حزب الله» لنداءات «حماس» عندما دخلت إسرائيل، بغطرسة وهمجية لا حد لها، غزة واختطفت وزراء وأعضاء للبرلمان الفلسطيني من داخل بيوتهم، وقصفت بيوتهم واستمر القصف والخطف أسبوعاً كاملاً، فانبرى حزب الله لتلبية نداء «حماس» بشجاعة وبسالة، متخطياً كل الحواجز الطائفية، لتعلم إسرائيل أن حماس ليست وحدها في الساحة، وإنما معها حزب الله على خط النار، وعندما انطلق حزب الله في مبادرته البطولية الباسلة، خرج ملايين المسلمين من السنة والشيعة يتخطّون الحواجز الطائفية ويعلنون تضامنهم مع حزب الله، وينادون: «لا سنية لا شيعية، مقاومة إسلامية».
إن الهزّات السياسية الكبيرة تظهر الجوهر الصافي النقي لفطرة هذه الأمة، من تحت ركام مخلفات التقاطع والتباعد المذهبي.
نحن نعتقد أن الأمة الإسلامية اليوم في مواجهة شرسة مع قوى الاستكبار العالمي، وفي مقدمتها أمريكا وإسرائيل، والمعركة شرسة وضارية وصعبة ومصيرية، ولا تتقبل هذه المعركة الحلول النصفية الترقيعية التي يحرص عليها بعض حكام العرب تجاه إسرائيل.
ولا يستطيع المسلمون أن يدخلوا هذه المعركة إلا إذا اجتمعت أيديهم، وتوحّدت مواقفهم وقراراتهم في مواجهة إسرائيل، ولن يتم شيء من ذلك إلا عبر تجاوز الحواجز النفسية الطائفية. وهذه المهمة تتطلب من علماء المسلمين ومن منابر الإسلام توجيه المسلمين اليوم إلى حالة التقارب والتفاهم وتوحيد القرار والموقف السياسي. وفي غير هذه الحالة لا نستطيع أن نتغلّب على التحدّيات الاستكبارية التي تواجهنا وتواجه الأجيال
من بعدنا.
وسبل التقارب والوحدة في العالم الإسلامي ثلاثة:
1- التناصر في الموقف السياسي والجهادي، وتوحيد الموقف والقرار السياسي في معركتنا الشرسة مع إسرائيل وأمريكا وأنظمة الاستكبار العالمي.
2- التعاطي العلمي الموضوعي بين علماء المسلمين في الفقه والتفسير والحديث والجرح والتعديل، والكلام، ومن شأن هذا التعاطي العلمي أن يفتح آفاقاً للتعامل العلمي، ولا سيما الفقهي والعقائدي بين المذاهب الإسلامية.
3- التعاون والتفاهم والتآلف بين المسلمين، والتأكيد على العلاقات الاجتماعية والشخصية المشتركة، والحضور المشترك في مساجد الطرفين، والندوات واللقاءات المشتركة، وكلّ ما من شأنه التقارب بين المسلمين، وإزالة حالة التشنّج المذهبي، وتجاوز الحواجز النفسية بين الطائفتين الإسلاميتين الكبيرتين.
وبعد فهذه دعوة مخلصة نستنتجها من أحداث المواجهة التي تمت بين حزب الله وإسرائيل، والتعاطف والتضامن الإسلامي العام في العالم الإسلامي لحزب الله ... نرفعها إلى علماء المسلمين وأئمتهم وخطبائهم ومثقفيهم المخلصين.
(12)
إغاثة المسلمين
عن رسول الله(ص): «من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»، وقد استفاضت رواية هذا الحديث- بالمضمون- عن رسول الله(ص) عن طريق الفريقين، وممن روى هذا الحديث عن رسول الله(ص) من المحدثين الشيعة الحر العاملي رحمه الله(1).
ونور النبوة والوحي يلوح من هذا الحديث الشريف، وهو حديث عجيب يستوقف الإنسان طويلاً، فهو يوجب على نحو الفرض إغاثة المسلمين، إذا حلّت بهم نكبة أو ظلم، والذي لا يستجيب لاستغاثة المسلمين، ولا يسرع إلى إغاثتهم فهو ليس بمسلم.
ولا يقتصر أمره على نفي التقوى والطاعة، وإنّما ينفي هذا الحديث الشريف عنه الإسلام، وليس معنى نفي الإسلام أنه لا يشهد الشهادتين وإنما المعنى خروجه عن دائرة الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، فلا يكون عضواً في الأسرة المسلمة الكبيرة. إن للانتماء إلى هذه الأسرة شروطاً وتكاليف، وفي مقدمة هذه الشروط والتكاليف النجدة والنصرة والإسراع إلى إغاثة المسلمين، أينما كانوا من مشارق الأرض ومغاربها.
وقد ورد بهذا المضمون نصوص كثيرة في ثقافة الانتماء والولاء في الإسلام، من ذلك ما رواه المحدثون من الفريقين عن رسول الله(ص):
«من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين، فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يالمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2) .
* * *
لقد تعرضت حركة «حماس» لظلم فظيع من قبل إسرائيل، في حادث أسر الجندي الإسرائيلي... الذي أسرته «حماس» ليقايضوا به إسرائيل في إطلاق سراح الأطفال والنساء، فقط، من مجموعة عشرة آلاف رهينة فلسطينية في سجون إسرائيل، اختطفتهم إسرائيل من داخل بيوتهم وسجنتهم منذ سنين طويلة.
فغضبت الحكومة الإسرائيلية لهذه الجرأة الفلسطينية، ودخلت بقواتها غزة، وقتلت الأبرياء، ودخلت البيوت عنوة، واختطفت الوزراء وأعضاء مجلس الأمة من داخل بيوتهم في استهتار وغطرسة وهمجية، ودخلت بجرّافاتها فهدمت بيوت الناس على أصحابها، واستمرت هذه العملية الهمجية الإسرائيلية، على مسمع ومنظر من المسلمين، وهم يستغيثون، وليس من مغيث، والقنوات الفضائية تحمل كل يوم وليلة إلى مسلمي العالم مشاهد من هذا الظلم الفظيع والغطرسة والعنجهية الإسرائيلية على مسلمي فلسطين.
وأغلب الأنظمة العربية، وهي تمثل شطراً واسعاً من العالم الإسلامي، لم ترفع استنكاراً، ولم تعلن إدانة، ولم تستنكر، ولم تتدخل، ولم تتوسّط، وكأنّ القوم الذين يصيبهم هذا الظلم الفظيع قوم من التاميل في سريلانكا، والإسلام لا يقر هذا الظلم حتى إذا كان يجري على التاميل في جزيرة بجنوب الهند ... ولهؤلاء الحكام سفراء في تل أبيب، ولتل أبيب سفراء في القاهرة والأردن، وغيرها فلم يعترض سفراؤهم، ولم يطلبوا سفيراً إسرائيلياً لإعلان اعتراض الأنظمة العربية على هذه الهمجية والغطرسة التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين.
إنه شاهد صدق على موت «الضمير الإسلامي» وفقدان «الغيرة الإسلامية» في هذه الأنظمة، وهي حالة مؤسفة ومؤلمة، ومنذرة بالخطر الوشيك على المسلمين، إذا لم يبادر المسلمون لعلاج هذا الأمر.
يحدّثنا التاريخ أن معاوية بن أبي سفيان كان يرسل جماعات من أهل الشام، ليغيروا على أطراف العراق، على الرجال والنساء والأطفال، فيقتلونهم ويسلبون النساء المسلمات والذميات فيقول الإمام أمير المؤمنين(ع): «ولقد بلغني أن الرجل منهم( من جيش معاوية) كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقُلُبها، وقلائدها ورعُثها، ما تمتنع منه بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كَلِمٌ، ولا أريق لهم دم ... فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً»(3) .
أجل، لقد كانت الأنظمة العربية تشهد أفظع مشاهد الظلم على حكومة فلسطينية من قبل الإسرائيليين، فلم يحرّك أكثرها ساكناً، حتى على قدر براءة الذمة!!
وانبرى «حزب الله» في وسط هذا الوجوم والسكوت، ليعلن غضبه على الغطرسة الإسرائيلية، ملبّياً دعوة حماس، فاختطف جنديين وقتل ثمانية من جنود العدو، وأخرج صرخة الاستغاثة الفلسطينية للمسلمين إلى حيّز الإجابة والإغاثة والتلبية.
ويناقش البعض في مبادرة حزب الله، بأن هذه المبادرة كلّفتهم وكلّفت لبنان كثيراً من الخراب والدمار، وليس له توجيه لمن يعرف حجم الرد الإسرائيلي على مبادرة حزب الله.
أقول لهؤلاء، إن ما حققه حزب الله هو أعظم بكثير، مما خسره لبنان من العمران، ومما خسره حزب الله من عناصره.
ولقد حقق حزب الله – في هذه المعركة أمرين عظيمين: الأمر الأول النصر الذي حققه الله على يده على إسرائيل والهزيمة التي ألحقها الله بإسرائيل على أيديهم، وقد كسر ذلك النصر وهذه الهزيمة هيبة إسرائيل العسكرية، التي طالما كانت تتغنى بها منذ سنة 1967م حرب الأيام الستة حتى الآن.
والأمر الثاني الذي حققه حزب الله الاستجابة والإغاثة لاستغاثة حماس من المسلمين، فلا يسجل التاريخ أن ظلماً فظيعاً بهذا الحجم جرى على فئة من المسلمين، ولم ينبر أحد من المسلمين لإغاثتهم.

(13)
السكينة والاستعلاء في المعركة
لابد للمقاتلين في المعركة من أمرين:
السلاح والإعداد العسكري أولاً.
و«السكينة» و«الاستعلاء» ثانياً.
وقيمة الثانية في ساحة القتال تزيد على قيمة الأولى، ولا تغني عنها.
وبهذه القيمة الثانية نصر الله المسلمين ببدر (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ( ونصرهم في مواطن كثيرة ويوم حنين (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ(.
وطالما غلبت بها الفئات القليلة، عدداً وعُدّة الفئات الكثيرة بإذن الله
(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ(.
وأعداؤنا يملكون القوة الأولى، ولا يملكون القوة الثانية. وهذا هو الفارق الجوهري الكبير بيننا وبينهم في ساحة القتال ... على أننا نقول مرة ثانية ونؤكد أنها لا تغني عن قوة السلاح والميدان.
وهذه السكينة والاستعلاء في ساحة المعركة، تبعث في نفوس المقاتلين الطمأنينة والسكون واليقين بمعية الله تعالى لهم في المعركة، وأن الله لا يتخلّى عنهم، مهما واجهوا من أوضار المعركة وبأسائها، وإذا اطمأن المقاتل في ساحة القتال إلى معية الله تعالى ... اطمأنت نفسه، وسكنت إلى الله، وآمن بنتائج المعركة، وتصرّف وتحرك في ساحة القتال، بكل قوة، وتجهّز المعركة وضرّائها، بكل ما تتطلّبه المعركة من حيطة وحذر، ولكن من دون قلق وارتباك، وبطمأنينة وثقة عاليتين. وهذه الطمأنينة والثقة إنّما هي بالمعية الإلهية، وليس بالكثرة والقوة. فإن الثقة بوعد الله ومعيته من «الاعتزاز» بالله تعالى، وهو ما يحبّه الله لعباده، والاعتداد بالقوة والكثرة من «الاغترار» بالنفس والعجب، الذي يمقته الله تعالى، والإعجاب بالنفس يمحق ثواب الآخرة، ويحبط مكاسب الدنيا.
ولقد أعجب المسلمون بكثرتهم يوم حنين فانتكسوا في المعركة، وتخلخلت صفوفهم، فلما لجأوا إلى الله، وتضرعوا إليه، نصرهم على أعدائهم، وأنزل عليهم سكينة من عنده في نفوسهم: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ(،
(التوبة/ 25 – 26).
وأنزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنود لم يروها يوم خرج من مكة متخفياً وقد حوصر في مغارة مظلمة ضيّقة (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ(، فكان يقول لصاحبه في تلك الحالة، مطمئناً واثقاً بمعية الله، (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا( ... إن الإحساس بمعية الله تعالى في الساعات الحرجة الصعبة يمنح الإنسان ثقة وطمأنينة، لا حدّ لهما، وهو ما يفقده أعداؤنا في ساحات القتال، وفي الساعات الحرجة: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا(، (التوبة/ 40).
... علينا أن نكتسب في مواقفنا الصعبة مع العدو الشرس هذا الإحساس بمعية الله، وهذه السكينة النفسية التي ينزلها الله تعالى على قلوب عباده، ساعة البأساء والضراء ... فتطمئن قلوبنا بالله، وبمعيته، وبأنه لا يتخلّى عنّا، ولا يَكِلُنا إلى أنفسنا، وأنه تعالى يرانا ويسمعنا، فيتحرك المقاتل في ساحات القتال مطمئناً واثقاً بنصر الله ... وهذه الخصلة النفسية في ساحة القتال توازي قوة السلاح، بل تزيد عليها، ولا يغني عنها.
وأعداؤنا يفقدون هذه الخصلة بالكامل، ويلبسون السلاح على قلوب مرعوبة، والمؤمنون يلبسون القلوب على السلاح. وشتان بين من يحمل السلاح وثقته بالله ونصره ومعيته، ومن يحمل السلاح، وثقته في سلاحه وقوته، فإذا خانه السلاح أو غُلب عليه ولّى هارباً.
وهذه السكينة في ساحات القتال، وساعات البأساء والضراء تعم المؤمنين جميعاً، ولا تخص رسول الله (ص) فإذا عرف الله تعالى منهم: الإيمان، والصدق، والإخلاص، والصبر، أنزل عليهم السكينة، وعندئذ تزيدهم السكينة إيماناً على إيمانهم، وصبراً على صبرهم، وصدقاً في اللقاء على صدقهم، كما أن فراغ النفس من الإيمان بالله، والثقة بوعده ونصره والاتكال عليه، يزيد المعرضين عن الله عجزاً وضعفاً وكُفراً: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً(، (الفتح/ 4 ).
إنّ السكينة في قلوب المؤمنين لا تنزل الا عندما يعلم الله تعالى منهم: الصدق، والإيمان، والصبر، فإذا علم الله منهم ذلك، رضي عنهم، وأنزل عليهم من لدنه سكينة واطمئناناً، فتزول الجبال عندئذ عن مواضعها، ولا يزول هؤلاء المؤمنون من مواقعهم ومواضعهم في القتال: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً(، (الفتح/ 18).
والخصلة الثانية التي يحتاجها المقاتل في ساحات القتال والمواجهة الإحساس بالاستعلاء على العدو، ويكسب المؤمنون هذا الإحساس من موقع الإيمان، فإن الله تعالى جعل هذا الموقع في المجتمع البشري موقعاً عزيزاً، دون سائر المواقع: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ(.
إن موقع الإيمان موقع عزيز، يَهَبُ أصحابه العزّة، وذلك أن المؤمنين يصلون حبلهم بحبل الله، وحولهم بحول الله تعالى وقوته، فإذا عرفوا ذلك من أنفسهم، لم يفارقهم الإحساس بالعزة.
وهذا الإحساس في النفس، يقترن دائماً بالإحساس بذل العدو، وحقارته، وصغاره ... وهذا هو معنى الاستعلاء في المعركة، على العدو ...
ولهذا الإحساس بالاستعلاء أثران واضحان، على أرض المعركة، في تعامل المؤمنين مع أعدائهم.
الأثر الأول: هو نفي الوهن والضعف من نفوس المقاتلين، إذا واجهوا شراسة وضراوة في لقاء العدو.
والأثر الثاني: هو نفي الحزن عن نفوسهم، إذا وجدوا خسارة ونقصاً في «الأنفس والأموال والثمرات»، فلا يحزن المؤمنون على ما يفقدون في ساحات القتال من نفوس عزيزة وأموال وثمرات، إذا اطمأنوا إلى معية الله تعالى، وأن الله تعالى يبصر بهم وبما يبذلون في سبيله من النفوس والأعضاء والجوارح والأموال، ويسمع بهم وهو «السميع البصير».
فلا يضعفون في القتال، عندما يواجهون شراسة العدو وضراوته، ولا يحزنون على ما يفقدون في القتال من الأنفس والأموال، وذلك قوله تعالى:
(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(،(آل عمران/ 139) .
وهذه آية عجيبة في كتاب الله تُربّي الأجيال، وتُحكِم النفوس المهزوزة، وتبعث القوة في القلوب الضعيفة.
ولم تنزل آية الاستعلاء «وأنتم الاعلون» على المؤمنين بعد نشوة الانتصار في معركة «بدر»، وإنما نزلت عليهم بعد مرارة النكسة في معركة «أحد».
وآية «الاستعلاء» في «آل عمران» تضع النقاط على الحروف وهي:
1- الاستعلاء على الأعداء في المعركة: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ(.
2- ومصدر هذا الاستعلاء، وهو الإيمان بالله تعالى: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(.
3- ونتائج الاستعلاء في ساحات القتال وهي نفي الوهن والحزن:
(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا(.
وليس معنى الاستعلاء ان لا يعبأ الإنسان بالعدو، فلا يحتاط له، ولا يوليه الاهتمام والحذر ... فهذا من «اللامبالاة» و«الإهمال»، وليس من «الاستعلاء».
والاستعلاء أن لا يكون مرعوباً من ناحية العدو، ولا يشعر تجاهه بالهزيمة، ويطمئن بالنصر من عند الله، ثم يولي العدو كل الحذر والاحتياط، ويُعِدّ له كل أسباب القوة والقتال.

(14)
(فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا(
وفي نهاية هذه الجولة، نذكّر المقاومة الإسلامية (حزب الله) بما ذكّر الله تعالى به المسلمين في سورة «النصر» من الحمد والتسبيح والاستغفار لله، بعد أن أتمّ الله لهم النصر والفتح من عنده.
فقد مرّ هذا «النصر» و«الفتح» الذي جاء به الله تعالى للمسلمين يومئذ، وهذا الإقبال العظيم من الناس على الإسلام أفواجاً... بطريق صعب عسير، في مكة أيام الشدة والعسر، وفي المدينة أيام البأساء والضراء، وتعرّض المسلمون في طريق النصر إلى كثير من الضعف والزلل، والخوف، وإيثار الدنيا، وحب العافية، والاختلاف، والشك، وسوء الأحلام والأخلاق، كما عرف الله منهم في هذه الفترة: الإيمان، والإخلاص، والنصيحة، وإيثار الآخرة على الدنيا، وحب الله ورسوله، على حب الأزواج والبنين والآباء والأمهات أيضاً ... .
وهذه طبيعة مسيرة المؤمنين فيها القوة وفيها الضعف، وفيها إيثار العافية، وفيها الرضا بالبأساء والضراء ... وها هو النصر قد أقبل عليهم بعد انتظار طويل، وعذاب وعناء: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً(، فيُذكّرهم الله بما ظهر منهم في أيام المحنة من الضعف والخوف وإيثار الدنيا والعافية، والشك بوعد الله فيأمرهم بالاستغفار، ثم يذكّرهم بما أنعم الله عليهم من النصر الذي لم يكونوا يستحقّوه بأعمالهم، لولا رحمة الله وفضله، فيأمرهم أن يسبحوه تعالى ويحمدوه: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً(.
إن وقفة التسبيح والحمد والاستغفار بعد هذا العبور الصعب إلى الفتح والنصر كان لابد منه للمسلمين يومئذ، ليكفكف نشوة النصر والعجب عن نفوسهم ... إن هذه النشوة والعجب إذا تمكن من نفوسهم ذهب بكل ثواب المعاناة والعذاب الذي تحمّلوه إلى النصر، وأحبط كل القوة التي اكتسبوها في هذا النصر، فان العُجْب والغرور، كما يحبطان الأجر والثواب يحبطان القوة والاقتدار النفسي والعسكري كذلك ... فكان لابد بعد العبور الصعب إلى النصر، أن يُذكّرهم الله تعالى بالحمد والتسبيح والاستغفار.
بالتسبيح والحمد على ما رزقهم الله من النصر، وبالاستغفار على ما صدر منهم من ضعف، وإيثار للعافية، وشح في العطاء، وحب للدنيا، وشك في
وعد الله. ونحن نذكّر المقاومة الإسلامية بما ذكّر الله تعالى المسلمين يومئذ بالتسبيح والحمد والاستغفار. فلا يمتلكهم الغرور والعجب، فَيَحبطُ عملهم عند الله، ولا تأخذهم نشوة النصر، فإن نشوة النصر تشغل الإنسان عن إكمال المسيرة. وما يستقبلهم من مراحل العمل الصعب في مكافحة إسرائيل وأمريكا أصعب بكثير من الأشواط التي قطعوها في هذا الطريق الصعب. وليذكروا دائماً ان هذا النصر كان بفضل الله تعالى، وليس بجهدهم، وأن جهدهم وقوتهم من عند الله وما كسبوه من النصر كان من عند الله.
وقد دخلت قبلهم الأنظمة العربية في هذه المعركة، وكانوا أكثر منهم قوة وعدداً، فلم يهزموا إسرائيل، ولم يكسبوا من النصر ما رزقهم الله تعالى، فليكثروا من تسبيح الله وحمده، على ما رزقهم من النصر، والقوة، والسلطان، والعزة، وما ألحقوه بعدوّهم من هزيمة منكرة، وأي موضع أحرى بالحمد والتسبيح لرب العالمين من هذا الموضع؟!
وليعرف المسلمون في أدبياتكم وإعلامكم هذا التسبيح والحمد، كما عرفوا منكم صولاتكم، وبسالتكم في مواجهة العدو. وأكثروا من الاستغفار في نهاية هذا الشوط مما يستغفر منه عباد الله الصالحون. واسألوا الله النصر للشوط القادم من المعركة، الذي لابد منه، وأي موضع أحرى بالاستغفار والتواضع والخضوع والخشوع وعرفان الجميل بين يدي الله من هذا الموضع.
وليست هذه الجولة هي نهاية هذه المعركة الصعبة، فإن من بعد هذا الشوط أشواطاً من القتال العسير، ولابد من الاستعداد للأشواط القادمة، وصدق الله العلي العظيم حيث يقول: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(، إذا فرغتم من مرحلة من مراحل العمل الشاق فلا تخلدوا للاسترخاء، فان الاسترخاء يسلب الإنسان حرارة العمل، وإذا فقد الإنسان حرارة العمل، لا يسهل عليه أن يستعيدها من جديد.
وإن أمامنا معركة طويلة لمكافحة الاحتلال والنفوذ الأمريكي الإسرائيلي في العالم الإسلامي. وأمامنا صراع طويل لمكافحة أنظمة الاستكبار العالمي في العالم الإسلامي، وما لم نتحرّر من نفوذ الاستكبار العالمي على العالم الإسلامي لا تنتهي هذه المعركة الضارية.
وفي هذه المعركة لابد من أن نحافظ دائماً على استعدادنا الكامل لخوض المعركة، في أي وقت ولا نركن إلى الاستراحة بعد الشوط الأول من المعركة والنصر، وهو قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ( ... إذا فرغت من شوط من أشواط المعركة، فانصب للشوط القابل، ولا تركن إلى العافية والاسترخاء.
ولابد أن نوجّه وجوهنا في هذا الاستعداد والتأهب، لله تعالى أن لا يَكِلنا إلى أنفسنا، وان يُمدّنا بالنصر والفتح، وأنْ لا يحرمنا نصره وتأييده، وهو قوله تعالى: (وإلى ربك فارغب(.

الهوامش:
* - عالم ومفكر من العراق.
1- وسائل الشيعة 11/108، ح 1.
2- مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص 143.
3- نهج البلاغة: 69-70 خطبة 27.

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• أربعة دروس من سورة الانشراح   (بازدید: 1885)   (موضوع: قرآن)
• التعددية الدينية   (بازدید: 1293)   (موضوع: فكر إسلامي)
• التغيير   (بازدید: 710)   (موضوع: فكر إسلامي)
• الربانية   (بازدید: 1430)   (موضوع: فكر إسلامي)
• الرحلة بين المعرفة و التفويض   (بازدید: 1164)   (موضوع: قرآن)
• الفـرقـان   (بازدید: 774)   (موضوع: قرآن)
• القبول و الجزاء في القرآن   (بازدید: 1693)   (موضوع: قرآن)
• الكتاب الناطق   (بازدید: 1294)   (موضوع: قرآن)
• الكلمات الابراهيمية - ١   (بازدید: 1868)   (موضوع: قرآن)
• الكلمات الابراهيمية القسم الثاني   (بازدید: 876)   (موضوع: قرآن)
• المنهج العلمي في ترتيب الأدلة الاجتهادية   (بازدید: 1696)   (موضوع: فقه)
• تأملات في آية التقوى من سورة الاعراف   (بازدید: 2401)   (موضوع: قرآن)
• تأملات في دعاء شهر رجب   (بازدید: 3400)   (موضوع: فكر إسلامي)
• تحضير القلب للصلاة   (بازدید: 1282)   (موضوع: فكر إسلامي)
• تحليل ثقافي من العراق لأحداث لبنان   (بازدید: 641)   (موضوع: العالم الإسلامي)
• حساب المستضعفين   (بازدید: 1344)   (موضوع: قرآن)
• مدخل الصدق ومخرج الصدق   (بازدید: 1563)   (موضوع: قرآن)
• نحو فهم حضاري لتاريخنا الإسلامي معركة الطف نموذجًا   (بازدید: 1038)   (موضوع: دراسات حضارية)

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• انتصار لبنان.. حضارياً   (بازدید: 1033)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• انتصار لبنان.. حضارياً   (بازدید: 979)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• تحليل ثقافي من العراق لأحداث لبنان   (بازدید: 641)   (نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• ظاهرة الإسلاموفوبيا قراءة تحليلية   (بازدید: 913)   (نویسنده: خالد سليمان)
• مصير العالم الإسلامي   (بازدید: 1350)   (نویسنده: الدكتور مصطفى شريف)
• الإسلام و التعاون الإقليمي والدولي   (بازدید: 1010)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• العلاقات بين تونس و ايران عبر التاريخ   (بازدید: 1326)   (نویسنده: عثمان العكاك)
• بعد مرور ٧ قرون على مولده أسفار ابن بطوطة مازالت حديث العالم   (بازدید: 2397)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• تونسيان يدافعان عن شخصيتين ايرانيتين   (بازدید: 1191)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الأمة الإسلاميّة والقرن الجديد   (بازدید: 655)   (نویسنده: الدكتور محمد محمود صيام)
• الامة الاسلامية والقرن الجديد   (بازدید: 583)   (نویسنده: الدكتور محمد محمود صيام)
• النظام العالمي الجديد و العالم الإسلامي   (بازدید: 5381)   (نویسنده: الدكتور سعيد عبد اللّه المهيري)
• النظام العالمي الجديد والعالم الاسلامي   (بازدید: 1187)   (نویسنده: الدكتور سعيد عبد اللّه المهيري)
• السير في الارض عند المسلمين - ابن بطوطة في إيران نموذجا   (بازدید: 1180)   (نویسنده: الشيخ واعظ زاده الخراساني)
• نحن و دولة الإسلام في إيران   (بازدید: 849)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• نحن و النظام الدولي الجديد   (بازدید: 884)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]