كيف ينبغي النظر إلى ظاهرة الشيخ ميثم البحراني؟
|
ثقافتنا - العدد 13
شخصيات
محمد جابر الانصاري
1427
-1- الشيخ ميثم البحراني يحتل مكانته الثقافية المرموقة أولاً ضمن التراث الثقافي الوطني لمملكة البحرين، وذلك عبر سلسلتها الذهبية الحضارية من طرفة بن العبد إلى ابن المقرب العيوني إلى أبي البحر جعفر الخطي إلى الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة إلى عبدا لله الزايد وعبد الرحمن المعاودة إلى إبراهيم العريض وأحمد محمد آل خليفة إلى حملة القلم من رجالات البحرين المعاصرة. وهو كما نرى تراث ثقافي خصب وعميق الجذور، وما ظهور ميثم البحراني في تلك الحقبة التي تعرضت لها الثقافة العربية الإسلامية لكثير من التحديات وكتابة أبحاثه الكلامية المتميزة وأبرزها مصباح السالكين في شرح نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، كتابتها بلغته العربية الأم، إلا دليل حي على قدرة هذه الثقافة في أحد مراكزها الثابتة والمنفتحة، وهي البحرين، على الصمود والتجدد. كان هذا المفكر المتميز موضع اهتمامي قبل 35 سنة في نطاق دراساتي عن تراث البحرين الثقافي وتجدون مادته بالنص الأصلي كما ظهرت عن الشيخ ميثم منذ ذلك التاريخ. -2- أما المستوى الثاني الذي يمكن من خلاله أن نقارب مكانة الشيخ ميثم فكونه أحد أعلام علم الكلام الإسلامي الذين بحثوا في قضايا العقيدة الإسلامية ودافعوا عنها حيال الفلاسفة والمخالفين الفكريين بالحجة والمنطق والمنهج العقلي السمح من واقع إيمانهم الإسلامي العميق دون غلو أو تشدد، وذلك من خلال شرحه الدقيق والمتميز لنهج البلاغة. وهذا هو موضع إبداعه ومكانته في تاريخ الثقافة الإسلامية التي يجتمع حولها المسلمون كافة، ونشيد في هذه المناسبة بتعاون مؤسسة الثقافة والعلاقات الإسلامية بالجمهورية الإيرانية مع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمملكة البحرين لإحياء هذه المناسبة التي تتقارب مع الذكرى المئوية السابعة لرحيله... وقد حان الوقت لتعود الثقافتان العربية والفارسية إلى تفاعلهما الحضاري العالي كما في العصور الذهبية لحضارتهما الإسلامية الجامعة، ذلك أن التقارب الجغرافي بينهما لم يولد بعد هذا التفاعل المنتظر الذي لن يكون إلا ببناء المزيد من جسور الثقة اللازمة بين الطرفين ودون الإخلال بها، فلا تفاعل للثقافة إلا بالثقة الوطيدة المتبادلة. ولابد من التوضيح ونحن نحيي هذه الذكرى العلمية أن علم الكلام أو علم العقيدة الذي أسهم فيه ميثم البحراني يستفيد من الفكر الفلسفي الإسلامي والإنساني بعامة في الدفاع عن قضايا الاعتقاد الإسلامي، الأمر الذي يعني أن الفلسفة من حيث المبدأ ليست أمراً طارئاً على التراث الإسلامي فهي المعادل لمفهوم " الحكمة " في القرآن الكريم وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (البقرة/269). من هنا فالإسلام بما يمتلكه من نهج العقل والمنطق وفريضة التفكير والتدبر في شئون الكون والوجود والاتعاظ بالسنن الكونية وسنن الأولين التي أوجدها الله في الطبيعة والإنسان يستطيع أهله ومفكروه تدارس الفلسفة للإحاطة بها وتأسيس فلسفة إسلامية في ضوء المعطيات الفكرية في الإسلام. من هنا ليس لائقاً بالمسلم التخوف من الفلسفة، فهو يمتلك من التراث الفكري لدينه ما يؤهله لاستيعابها ونقدها وانتقاء الصالح منها، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بدراستها ومعرفتها، وهو ما ينبغي أن نستخلصه من عطاء ميثم وعطاء تلك المدرسة الفلسفية والكلامية الجادة التي ظهرت في تاريخ الثقافة الإسلامية من الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد والملا صدرا وسواهم ممن خلفوا تراثاً عقلياً في الإسلام لا يمكن إلغاؤه. -3- وعلى صعيد التأريخ لسيرة ميثم فإني أجد في المختصر الذي كتبه عنه العلامة سليمان بن عبدالله، وهو من علماء البحرين كذلك، في كتابه الموسوم «السلافة البهية في الترجمة الميثمية»، ما يلخص بتركيز علمي المكانة العلمية المتميزة للشيخ ميثم. كتب صاحب السلافة يقول : " هو الفيلسوف المحقق، قدوة المتكلمين والفقهاء، العالم الرباني، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم، غواص بحر المعارف، ضم إلى الاحاطة بالعلوم الحقيقية (قصد علوم الشرع) الأسرار العرفانية (أي المعرفة الصوفية). ويكفيك دليلاً على جلالة شأنه اتفاق كلمة أئمة الأمصار على تسميته بالعالم الرباني وشهادتهم له بأنه لم يوجد مثله في تحقيق الحقائق وتنقيح المعاني. والحكيم الفيلسوف محمد الطوسي شهد له بالتبحر في الحكمة والكلام... والشريف الجرجاني – على جلالة قدره – نقل تحقيقاته واعتبره واحداً من المستفيدين منه، والعالم صدر الدين محمد الشيرازي أكثر من النقل عنه في كتبه خاصة في مباحث الجواهر والأعراض (من قضايا الفلسفة الهامة في العصر الوسيط)، والتقط فرائد التحقيقات التي أبدعها في كتابه " المعراج السماوي " وغيره من مؤلفاته. وفي الحقيقة أن من اطلع على شرحه الضخم لنهج البلاغة الموسوم بـ " مصباح السالكين " شهد له بالتفوق في جميع الفنون الإسلامية والأدبية والحكمية والأسرار العرفانية ". هذا كلام مؤرخ قديم عن فيلسوف البحرين ومتكلمها الشيخ ميثم. وهو لا يحتاج إلى شرح وتعليق. وبطبيعة الحال فقد قصد في نهاية النص بالحكمية الفلسفة وبالعرفانية التصوف. وبالإضافة إلى ما ذكره عنه ذلك المؤرخ وردت سيرته في كتب العلامة المحدث المجلسي، وابن أبي جمهور الاحسائي، والشيخ فخر الدين الطريحي في كتابه " مجمع البحرين "، والشيخ حسن البلادي في كتابه " لؤلؤة البحرين "، كما ذكــره صاحب كتاب " مستدرك الوسائل ". وصاحب كتاب " روضات الجنات "، وصاحب كتاب " أمل الآمل "، وذلك ما استند إليه النويدري في مصنفه أعلام الثقافة الإسلامية في البحرين خلال 14 قرناً. هذا مجمل ما اطلعت عليه من مراجع عنه باللغة العربية. وربما وجدت مراجع أخرى باللغة الفارسية للمشتغلين بها يمكن أن تضيف إلى معرفتنا به وبفكره. ومن هذا العرض الموجز يمكن أن نستخلص الاستنتاجات الفكرية التالية: أولاً: حيث أن نهج البلاغة للإمام علي تراثٌ وارث يشارك فيه المسلمون كافة ويعتزون به، فإن شرح ميثم البحراني لنهج البلاغة يندرج ضمن هذا الإرث الإسلامي المشترك الشامل، وقد كان الشيخ ميثم في شرحه معبراً عن هذه الروح السمحة، فكان يشير بين موضع وآخر إلى نقاط الالتقاء بين مقولات الإمام علي وما ذهب إليه الأشاعرة أو المعتزلة بما يعكس سعة اطلاع ميثم من ناحية وانفتاحه الفكري على المدارس الإسلامية من ناحية أخرى. ومن توفيق الله لذكراه فإن ضريحه ظل مزاراً لجميع الناس في بلاده البحرين من مختلف الطوائف دون تمييز. ثانياً: يتضح من القراءة المتأنية لشروح الشيخ ميثم لنهج البلاغة أنه اتبع النهج الموضوعي العقلي، أي النهج العلمي في قراءته ولم تأخذه النزعة الخطابية أو الحماسية، فكل مفردة من مفرداته دقيقة في معناها دون إسهاب أو اقتضاب وهو شديد الحرص على أن يبصر قراؤه التعليل العقلي لمقولات الإمام وأن يقتنع بها بالدليل العقلي وليس التسليم الاعتقادي وحده، إلا بعد استنفاد عمل العقل. ثالثاً: وانطلاقاً من ذلك النهج العقلي نجده يعطي الإشارات الاعتقادية عن الخالق وكنهه كما وردت في نهج البلاغة حقها من التحليل والتعليل العقلي رغم دقة مسائلها. كالنص الشهير للإمام علي عندما سئل : هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام : أفأعبد ما لا أرى، فقال : وكيف تراه ؟ فقال : " لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد عنها غير مباين... الخ ". (شرح نهج البلاغة للشيخ ميثم ج3، 373، طبعة طهران). إلى آخر هذا النص الغني بالإشارات الاعتقادية وقد ارتفعت إلى مستوى الفلسفة الإلهية المؤمنة. رابعاً: إن الشيخ ميثم كان شديد الحرص على تنقية عقيدته الامامية الإسلامية من كل شائبة. يتضح ذلك من وقفاته الواضحة والجلية شرحاً لتحذير الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لاتباعه من الغلو فيه مقارنةً بالنبي الكريم. أما المغالون فيه تأليهاً فقد أبرز فيهم إدانة الإمام ورفضه بل محاربته لهم ويتتبع الشيخ ميثم مواقف المغالين حيال الإمامية تاريخياً وبعد زمن الإمام علي، حيث يشير على سبيل المثال إلى ما ألحقه القرامطة من أذى بالإمامية الملتزمة بعقائد الإسلام الحقّة، رغم أن أكثر مدارس التاريخ الايدولوجي الحديث تضع القرامطة والإمامية في سلة واحدة خلافاً لهذا الواقع التاريخي الذي يجليه الشيخ ميثم والذي كان قريباً من عهد التطرف القرمطي الذي ساد قبيل زمنه، ولابد أن يأخذ المؤرخون الأمناء شهادته التاريخية هذه بعين الاعتبار. وختاماً فإن الدراسة النقدية والتحليلية المتأنية، والمستقلة عن أي اعتبار غير اعتبار البحث عن الحقيقة العلمية، يمكن أن تكشف المزيد من هذه الدقائق المعرفية في آثـار الشيخ ميثم، كما في تراثنا الإسلامي بعامة، ومن أجل هذا فليعمل العاملون.
|
مقالات أخرى من هذا الكاتب |
• ظاهرة الشيخ ميثم البحراني
(بازدید: 895)
(موضوع: )
• مقدمة في تطورات الفكر الحديث منذ النهضة و حتى ١٩٣٠
(بازدید: 1889)
(موضوع: فكر إسلامي)
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• الشيخ ميثم البحراني رمز من رموز التراث والتواصل الحضاري
(بازدید: 1930)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الشيخ ميثم البحراني على خلفية أوضاع عصره
(بازدید: 1640)
(نویسنده: الشيخ ماجد الماجد)
• الشيخ ميثم البحراني.. يخترق العصر
(بازدید: 1430)
(نویسنده: الدكتور صباح زنكنه)
• العلامة ابن ميثم البحراني موجز حياته العلمية
(بازدید: 1593)
(نویسنده: زهراء مصباح)
• ميثم البحراني حياته ودوره في دعم الحركة العلمية في البحرين
(بازدید: 2797)
(نویسنده: الشيخ حميد مباركة)
• ابن ميثم البحراني وعصره
(بازدید: 1085)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• الكواكبي والدين
(بازدید: 1136)
(نویسنده: أسعد السحمراني)
• رمز من رموز التراث والتواصل الحضاري
(بازدید: 1229)
(نویسنده: الشيخ ميثم البحراني)
• مجدّد العصر
(بازدید: 754)
(نویسنده: إبراهيم محمد جواد)
• ملامح من شخصية العالم المفكر الشيخ ميثم البحراني
(بازدید: 1663)
(نویسنده: السيد محمد بحر العلوم)
• العلامة المطهري / في آرائه الفلسفية والعقائدية
(بازدید: 4025)
(نویسنده: السيد حسن النوري)
• الملف / رجل الإحياء والاستئناف الحضاري
(بازدید: 941)
(نویسنده: مرتضى مطهري)
• احمد صدقي الدجاني رجل الفكر الحضاري
(بازدید: 1594)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الشيخ محيي الدين بن عربي و أثره الحضاري في حوض المتوسط
(بازدید: 1189)
(نویسنده: محمد قجة)
• العلامة محمد تقي القمي رائد للتقريب والنهضة الإسلامية
(بازدید: 2852)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• رائد الدراسات الفارسية في مصر
(بازدید: 987)
(نویسنده: الدكتور صادق خورشا)
• شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي الحلبي
(بازدید: 2526)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• ملف مالك بن نبي
(بازدید: 1273)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الاتجاه النقدي عند الشهرستاني
(بازدید: 1894)
(نویسنده: د. محمد حسيني أبو سعدة)
• شيخ الإشراق
(بازدید: 1697)
(نویسنده: سيد حسين نصر)
|