banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

مجدّد العصر
ثقافتنا - العدد 11
شخصيات
إبراهيم محمد جواد
1427

تمهيد
لم تلق شخصيةٌ دينيّةٌ أو سياسيّةٌ فـي العصر الحاضر، ما لقيته شخصيّة الإمام الخميني (قدّس سرّه) من الاهتمام والاحترام، داخل إيران وخارجها على السواء.
ولم يكن غريباً بعـد ذلك أن تنطلق الدراسات والتحليلات، لتلك الشخصيّة المهمّـة التي اسـتطاعت بالعمل الـدؤوب والصبر الطويل، والصمود الفريـد، والخطّة المحكمـة، والقيادة الحكيمة، إلحاق الهزيمـة المنكرة بأعتى امبراطوريةٍ في الشرق وأشدها استبداداً، وعزل أقوى طاغيةٍ مستبدٍ فـي المنطقة عن عرشه، هو الشاهنشاه محمد رضا بهلوي، الذي كان البعبع الذي يرعب المنطقة بأسرها، وتحقيق انتصارٍ لا مثيل له قديماً ولا حديثاً، واستبدال النظام الامبراطوري بنظامٍ جمهوري، قائمٍ على مرجعيّةٍ دينيةٍ متمثلةٍ في الإسلام، الأمر الذي أدهش العالم غربه وشرقه، فأشاع الأمل فـي قلوب المسلمين، والقلق في نفوس المستكبرين، من أوروبيين وأمريكيين، وسواهم من العملاء والخونة والمنتفعين.
ولد الإمام روح الله الموسوي ببلدة خمين، فـي العشرين من جمادى الثانية مـن عام 1320هـ الموافق 24/9/1902م، وكان طفلاً فـي الشهور الأولى من عامـه الأول، عندما استشهد والده آيـة الله السيد مصطفى الموسوي (قدّس سرّه)، في شهر ذي الحجة من عام 1320هـ الموافق شهر آذار 1903م، وبقي في حجر والدته السيدة "هاجر" حتى وفاتها وهو في الخامسة عشر من عمره.
ثابر على دراسة المقدمات على أخيه، ثم على أساتذة الحوزة العلمية في أراك ثم فـي قم بعـد انتقال الحوزة إليها، ووطّد علومه فـي الفقه والأصول على الشيخ عبد الكريم الحائري، حائزاً على درجة الاجتهاد، بإتمام درس الخارج عام 1345هـ- 1926م، حيث بادر إلى تدريس الفقه والفلسفة والعرفان والأخلاق، وبوفاة آيـة الله السيد البروجردي (قدّس سرّه)، اختير مرجعاً عاماً من قبل رجال الدين وعموم المسلمين.
ملامح من شخصية الإمام (1)
مهما تباينت نظرات الكتاب وطاقاتهم البيانية، فإنـي لا أشك مطلقاً أنه إذا ما أطل الإمام الخميني عليهم مرةً واحدةً، ثم أرادوا أن يصفوا ما رأوا وما شاهدوا في تلك اللحظة، لأجمعوا على حدٍّ أدنى مشترك بينهم، من وصف الإمام بأنه: "رجلٌ مهيب الطلعة، واضح القسمات، ثاقب النظرة، باسم الثغر"، فما ذا تعني هـذه الصفات، لدى التحليل النفسي والاستقراء الواقعي لحال الإمام الخميني (قدّس سرّه)؟.
1- مهيب الطلعة
وهذه هبـةٌ من الله سبحانه وتعالى، لعبدٍ استحقّها من ربّه بالتقوى والعلم، وهما- التقوى والعلم- أمران متلازمان يستتبع أولهما الآخر، ثم يؤثر ثانيهما بالأول فـي حركةٍٍ تكامليةٍ تصاعديةٍ مستمرّةٍ، يعبّر عن جانبها الأول قوله سبحانه وتعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ (282)( سورة البقرة، ويعبّر عن جانبها الثاني قوله تعالى: ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ( فاطر/28.
فإذا اتّقى العبد ربّـه حقّ التقوى، كساه الله لباس العلم، وألقى عليه المهابـة والوقار، فلا يلقى الناس إلاّ بهذه الزينـة، ولا يفارقهم إلاّ بها، مكتفياً بها عما عـداها، فإنها لا تكلّف مالاً ولا جهداً إضافياً ولا تكلّفاً ولا وقتاً، لأنها الزينة الطبيعية الدائمة التي لا تفارقه في حالٍ من الأحوال، ما دام على ما هو عليه من التقوى والعلم.
وسبب هـذه المهابة والوقار، الاستقـرار الناجم عن العلـم الكلّي الحقيقي بالله والكـون والإنسان، والهدوء الذي يحققـه التسليم المطلق للمشيئة الإلهية المطلقة القدرة والإرادة والحكمة، والوضوح الذي تؤدي إليه الإحاطة والشمول والاستيعاب.
وبذلك- أي بالاستقرار والهدوء والوضوح- لا يبقى في داخل النفس ما يخدش الضمير، أو يقلق الوجدان، أو يجول فـي الخاطر، ولا يبقى في باطن الإنسان شيءٌ يعكّر ظاهره، أو يرسم على وجهـه بوادر القلق أو خواطر الارتياب أو مظاهر الحيرة، فيتّحـد الظاهر والباطن، وتجتمـع الجوارح والجوانح، في هدوءٍ عجيبٍ، واستقرارٍ مهيبٍ، ووقارٍ واضحٍ.
ومن المعلوم تماماً أن الإمام الخميني ( قدّس سرّه )، قـد سلك منذ شبابـه طريق تحصيل التقوى، وحرص على تزكية نفسـه وترويضها بمختلف الرياضات الشرعيـة، كالعبادة والزهـد والتخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى والانقطاع إليه، ومحاربة الهوى والنفس الأمّارة.
ومن المعلوم كذلك أنـه قد وصل إلى معارج الكمال، واندرج في أسمى وأفضل حال، فلا غرو أن حبّب الله تعالى إليـه العلم، وأعانه على سبر أغواره، وأخذ بيده للغوص على حقائقه، واقتناص جواهره ولآلئه، والتعمّق فـي كل ناحيةٍ من نواحيه، حتى أصبح- كما يعلم الجميع- المرجعَ الإسلاميَّ الكبير، ليس فـي فقه العبادات والمعاملات فقط، وإنما في فقه الإسلام والكون والإنسان، فقه الماضي والحاضر والمستقبل، فقه الدين والدنيا والمجتمع والدولة.
وهذه الميزة العلمية الفريدة - الاجتهاد والمرجعية -، لم تتوفر في قائدٍ لحركةٍ إسلاميةٍ في عالم اليوم، كما توفّرت للإمام الخميني، فلقد كان من حسن طالع هذه الحركة الإسلامية المباركة، أن هيّأ الله تعالى لها مثل هذا القائد المبارك.
2- واضح القسمات
وأما وضوح القسمات، فهي- ابتداءً- صفةٌ خَلْقيّةٌ جسديّةٌ، ينعم الله تعالى بها على من يشاء مـن عباده، وتتدخّل بها عوامل كثيرةٌ لا يهمنا الدخول بها الآن.
وهي صفةٌ مـن صفات الجمال الجسدي لا تشكل بمفردها ميزةً، لكنها إذا اجتمعت إلـى صفاتٍ أخرى، خُلُقيّةٍ وعقليّةٍ وعلميّةٍ، كالتي اجتمعت للإمام الخميني، أكسبت صاحبها رونقاً وبهاءً، وزادتـه مكانةً ورفعةً، وأضفت عليه تألّقاً وجاذبيّةً وسحراً وتأثيراً، فارتاحت إليه نفوس الناس، ومالت إليه قلوبهم، وانقادت لـه عقولهم، وتلقّوا كلامه بالطاعة والاستجابة والقبول.
وهكذا كانت جماهير الإسلام، في إيران وخارج إيران، مـع الإمام الخميني، حيث كان يأمرُ فتستجيبُ، ويشيرُ فتنطلقُ بلا تردّدٍ ولا تلكّؤٍ.
3- ثاقب النظرة
النظرة الثاقبة، قد تعني الصوابَ فـي الرأيِ والحكمةَ في القولِ، وقد تعني العمقَ فـي استبطان الأمور واستشرافها، والدقّةَ في سـبر أغوارها واستخلاص أصدق حقائقها، وأنقى معانيها وأنجع الحلول لها، وقد تعني الحزمَ والعزمَ ومضيَّ الإرادة، وقد تعني الثباتَ في الموقف والاستقرارَ في الرأي، وقد تعني شدّةَ التأثير في الناس.
وكل هذه المعاني تنطبق على الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه، إذ كـان من العلم والإحاطـة والشمول والاستيعاب والحكمـة، بحيث استخلصَ حقائق الدنيا والدين، وسـبرَ أغوار النفس الإنسانية وأعماق دوافعها، وأركـان المجتمع البشري بمتغيراتـه وثوابتـه، وخصوصيات المجتمع الإيرانـي المسلم بسلبياته وإيجابياته، وكان من الحزم والعزم في المكان الأوفـى، ومن الاستقرار الفكريّ والثبات على الرأي فـي المحل الأعلى، ولكل ذلك شـواهدٌ، فامتلك بذلك أزمّـةَ القلوب، وعِنانَ العواطف والمشاعر، وحاز خاصّية أسر النفوس، فكان بينه وبين الجماهير جاذبٌ من نوعٍ فريدٍ فكأنها السحر.
وهذه صفةٌ قلّما تمتّع بها رجلٌ عاديٌّ، لأنها لا تتوفّر إلاّ للقادة العظام والرجـال الربانيين، الـذين يظهرون دائماً عنـد مفاصل التاريخ، ويأخذون بيد الزمان والإنسان، فيعطفونهما نحو الحقّ والخير والعدل.
4- باسم الثغر
لقد كان الإمام باسم الثغر طلق المحيّا، رغم الهمّ الكبير الذي يعيش في قلبه، ورغم العبء الجسيم الجاثم على كاهله، بل ربما بسبب هـذا الهمّ وذلك العبء، نعم كان الإمام، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، باسم الثغر طلق المحيّا، يتحدّى الهموم والأعباء وامتداد العمر.
فلقـد كان الإمام الزوجَ الحانـيَ، والأبَ الشفيقَ، والأخَ اللطيفَ الرقيقَ، وكان قائداً عطوفاً، تمتلئ أعطافه بمشاعر الرأفة والحنان، وتجيش في قلبه عواطف الرحمة والرفق بالناس كل الناس.
كان الإمام رجلاً رضـيّ النفس قانعاً بالقليل، زاهـداً بالدنيا ولو حيزت له بأجمعها، وقد حيزت له فعلاً فتخلّى عنها برمّتها.
كـان الإمام للأطفال يمازحهم ويلاطفهم، وكان للنساء يدفع عنهنّ الحيفَ والظلمَ، ويعيد إليهنّ إنسانيتهنّ وكرامتهنّ التي اختطّها الإسلام، وكان للرجال يأخذ بأيديهم نحـو السموّ والكرامـة والكمال، وكان للمستضعفين يستردّ إليهم حرّيتهم وقوّتهم وعزّتهم، مـن الجبارين الطغاة المستكبرين في الأرض، الباغين على أهلها بغير حقّ، وكان للمحرومين يعـوّض عنهم بعض حرمـانهم، ويستنهضهم لامتلاك ناصـية حرّيتهم المصادرة، واستخلاص حقوقهم المغصوبة المنهوبة.
كان الإمام لكل هؤلاء، وكان قلبه الكبير يفيض لهم جميعاً حناناً وحبّاً ورأفةً ورحمةً، وكان ما يجيش فـي قلب الإمام، ويعتمل في داخله تجاه هؤلاء جميعاً، يرتسم أمامهم -بشكلٍ تلقائيٍّ لا تَكَلّفَ فيـه- ثغراً باسماً ووجهاً صبوحاً ومُحَيّاً طلقاً.
هذا هو الإمام الخميني ( قدّس سـرّه الشريفُ )، وهكذا كان، ليّنَ العريكة في حزمٍ، طيّبَ المعشر في عزمٍ، وهذه الصفات هي أدنى وأقل ما يكتشفه كل مـن يشاهد الإمام ولـو مرّةً واحدةً، بل ربما يستطيع أن يستشفّها فـي أعماقه كذلك، كل من يشاهد صورة الإمام، وإن لم يره عياناً.
وكانت هـذه الصفات كافيةً وحدها، لكي تكون سـرّ عظمة الإمام، وسرّ نجاح الثورة الإسلامية المباركة التي قادها، لكنها مع ذلك ليست كل مؤهلات الإمام ومزاياه، فلقد كان الإمام كمحيطٍ كبيرٍ، إن استطعتَ أن تقيس عرضه، فقد يصعب عليك أن تضبط طوله، وإن أمكنك أن تعرف مساحته، فقد يمتنع عليك أن تسبر غور عمقـه، وإن أسعفتك الحيلة والوسيلة أن تلتقط بعض لآلئه وجواهره، فقد يعجزك- مهما أوتيتَ مـن العلم والتقنية- أن تحيط بكل كنوزه ودفائنه، وأن تلمّ بجميع مضامينه ومحتوياته.
نبذة عن جهاده الفكري
يشير الشيخ رضا أستادي إلى أن مؤلّفات الإمام قد تجاوزت الثمانين مؤلّفاً، وأنه يمكن تقسيمها إلى أربع مجموعات:
1- الفقه والأصول وعلم الرجال.
2- العرفان والأخلاق والفلسفة.
3- الإمامة والحكومة والسياسة.
4- الأشعار والرسائل العرفانية (2).
وقـد تميزت جميع مؤلّفاته بالذائقة العلمية المحققة، والعمق الفكري مع البساطة في العرض والأسلوب، وتوخّي الفائدة لعموم الناس، وأخيراً فإنها قـد تميّزت بالقوة والصلابـة، وروح الرفض المطلق لكل المظاهر الطاغوتية والاستكبارية، وأنها كتبت باللغتين العربية والفارسية.
ومن أهم مؤلّفاته (قدّس سرّه):
- شرح دعاء السحر.
- مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية.
- سر الصلاة أو صلاة العارفين.
- تعليقة على كتاب شرح فصوص الحكم لمحيي الدين بن عربـي.
- تعليقة على كتاب مصباح الأنس لمحمد بـن حمزة المعروف بابن الفناري.
- شـرح حديث رأس جالوت، بالإضافة إلـى تعليقة على شرح حديث رأس جالوت للقاضي سعيد القمي.
- تفسير سورة الحمد.
- الحاشية علـى الأسفار للملاّ صـدرا.
- الآداب المعنويـة للصلاة.
- الجهاد الأكبر.
- الأربعون حديثاً النبوية.
ومن مؤلفاته كذلك، مجموعة كبيرة من الكتب الفقهية منها:
- كتاب الطهارة بأربعة مجلّدات.
- كتاب المكاسب المحرّمة بمجلّدين.
- كتاب البيع بخمسة مجلّدات.
- كتاب الخلل في الصلاة.
- رسالة في التقية.
- رسالة فـي قاعدة من ملك.
- رسالة لا ضرر ولا ضرار.
- رسالة في الاستصحاب.
- رسالة في التعادل والتراجيح.
- رسالة في الاجتهاد والتقليد.
- رسالة فـي الطلب والإرادة.
- رسالة في موضوع علم الأصول.
- تعليقة على كفاية الأصول.
- كتاب تحرير الوسيلة.
- كتاب توضيح المسائل.
- كتاب زبدة الأحكام.
- كتاب كشف الأسرار.
- كتاب الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيـه.
- صحيفة النور في عشرين مجلداً.
- الوصية الإلهية السياسية.
- وكتب أخرى (3).

صور من جهاده السياسي
بدأ الإمام جهاده ثقافياً بشكلٍ مبكّرٍ، وتعاظم دوره في الجهاد الثقافي، بعد اختياره مرجعاً عاماً، أثر وفاة آيـة الله العظمى البروجردي (قدّس سرّه).
وأخذت خطاباته وأحاديثه الثقافية، تكتسي ثوب الكفاح السياسي منذ 1961م، وبلغت نشاطاته الثقافية والسياسية ذروتها، في خطابه الشهير يوم 13خرداد 1342هـ، الموافق 3/6/1963م فـي المدرسة الفيضية، ضـد سياسات الشاه وجرائمه وتبعيتة لأمريكا وإسرائيل، مما أدّى إلـى اعتقاله فـي الخامس عشـر مـن خرداد 5/6/1963م، فانتفض الشعب الإيرانـي انتفاضته المعروفة، ونزل إلـى الشوارع في طهران وسواها من المدن الإيرانية.
وتمكنت الدبابات الشاهنشاهية مـن قمع ثورة الشـعب، وسحق انتفاضتة الكبرى، حيث غطّت الدماء الزكيّة شوارع طهران وساحاتها، فغدا الخامس من خرداد نقطة التحول في الثورة الإسلامية، التي ترسّخت جذورها وامتدت فروعها في أنحاء إيران.
ما أن تم إطلاق سراح الإمام بتاريخ 5/4/1963م، نتيجـة تعاظم ضغط رجال الدين وأبناء الشعب على النظام، حتى أعيد اعتقاله مجدّداً في 14/11/1964م، بعـد إلقائه خطاباً جديـداً، هاجم فيه اتفاقية الامتيازات الأجنبية "الكابيتولاسيون"، وقد أقدم الشاه على نفيه إلى تركيا، ومنها إلـى العراق، التي أعيد نفيـه منها كذلك، بتاريخ 3/10/1978م.
رفضت حكومـة الكويت السماح للإمام بدخولها والإقامة فيها، فاضطر إلى التوجّه إلى فرنسا بتاريخ 6/10/1978م، حيث أقام في نوفل لوشاتو، ومنها راح يتابع توجيهاته للشعب الإيراني الثائر، ويوصل تعليماته إلـى التنظيمات الثورية بكل السبل والوسائل المتاحة، وكانت شرائط الكاسيت التي تنتقل بين المجالس الحسينية بسرعـة البرق، حاملة نداءات الإمام، تفعل فعلها فـي نفوس جماهير الشعب الذي أرغم الشاه على الهرب، ومهّد للإمام طريق العودة إلى وطنه وشعبه ظافراً منتصراً.
نبأٌ أدهش العالم بتاريخ 1/2/1979م، لقـد حطّت طائرة الإمام الخميني في مطار مهرآباد، رغم أن حكومة بختيار رئيس وزراء الشاه ما زالت قائمةً بطهران، لم يكن بإمكان أية قوةٍ فـي العالم مصادرة حرية الإمام الخميني، ومنعه من النزول في المطار، فلقد كان الشعب يملأ كل ساحـةٍ من ساحات المطـار، وكانت الزنـود والسواعد تلوّح مرحّبةً بالإمام، وكانت الحناجر مدويّةً تهتف بحياته الغالية، وأول كلمةٍ قالها بعد أن حيّا شعبه الثائر الصامد: "سأصفع هذه الحكومة على وجهها".
ومن المطار توجّه مباشرةً إلى مقبرة الشهداء "بهشت زهراء"، حيث حيّا الشهداء الأبرار، ثم توجّه إلـى "مدرسة علوي" فـي بهارستان بين أصوات التكبير والتهليل، والهتاف بحياة الإمام، والتنديد بالشاه وحكومته الخائنة العميلة، ومن هناك بـدأ فعلاً بتوجيه الصفعات القاسية لحكومة بختيار، التي لم تجـد مناصاً من أن تلـوذ بالفرار، لتقطع نهائياً أمل الشاه بالعودة إلـى إيران، بل ليجد نفسـه بلا مأوى فـي طول بلاد العالم وعرضها، حيث رفضت حكومات العالم استقباله ومنحـه الملجأ الآمن لنفسه وعياله، فمات كمداً وغمّاً وهمّاً.
وكان تاريخ الحادي عشر من شهر شباط عام 1979م، تاريخاً خالداً فـي حياة الشعب الإيرانـي الصامد، لأنـه كان تاريخ انتصار الثورة الإسلامية فـي إيران بقيادة الإمام الخميني العظيم، وعيّن الإمام أول حكومةٍ إسلاميةٍ في إيران، برئاسة السيد مهدي بازركان.
من المنزل الصغير المتواضع، الذي أُعِدَّ للإمام في جماران، بـدأ إمام الأمة وقائـد الثورة الإسلامية "الوليّ الفقيه"، يمارس صلاحياته ودوره فـي قيادة الدولـة، وترسيخ مؤسّسات الجمهورية الإسلامية الإيرانية، خلال عشر سنواتٍ كاملةً.
لبّى الإمام روح الله الموسوي الخميني (قدّس سرّه)، نداء ربه الجليل، فـي الساعة العاشرة واثنتين وعشرين دقيقة، من مساء يـوم السبت، الثامن والعشرين من شهر شوال 1409هـ، الموافق 3/6/1989م، وأعلن عن وفاتـه رسمياً، صباح يوم الأحد 4/6/1989م، وعمّ الحداد والسواد جميع نواحي إيران، وارتفع النواح والعويل، وانهمرت الدموع من العيون، ولطمت الرؤوس والصدور حزناً على الإمام العظيم.
وشُيّع جثمانه الطاهر إلـى مقبرة الشهداء "بهشت زهراء"، لكن ازدحام الجموع الهائلـة حال لمدةٍ طويلةٍ دون إتمام عملية الدفن، التي تأخرت حتى الساعـة الخامسة من عصر يـوم الثلاثاء 6/6/1989م، رضي الله تعالى عن الإمام وأرضاه، وجعل الجنة مثواه، مع النبيّ وآلـه الطاهرين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً (4).
الإمام والحركة الإسلامية في إيران (5)
بذل الإمام الكثير الكثير مـن جهده ووقته، لبلورة التيار الإسلامي الأصيل فـي إيران، وتحديد مضامينه وتوجّهاته المتميزة، ومدّه بأسباب القوة والنصـر، وكان الإمام حريصاً كل الحرص على استيعاب كافـة الفصائل، وتوحيد كل التيارات والاتجاهات في هذا البلد المسلم.
وكانت لمواقفـه الجريئة الواضحة، مـن سياسـة التغريب والتبعية الذليلة للغرب الجاهلي الكافر، الأثـر البالغ في حفـر توجهات الإمام ومتبنياته الفكرية والسياسية والاجتماعية، فـي ضمير الشعب الإيراني عموماً، والحركة الإسلامية في إيران على وجه الخصوص.
هذه التوجهات والأفكار والمتبنَّيات، إضافةً إلى المواقف الجريئة المعبّرة عنها، هي التي اصطلح على تسميتها بعـد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، "خطّ الإمام ".
ونحن نستطيع أن نحـدّد بإيجاز، المعالم الرئيسية لخط الإمام (قدّس سرّه) في عدة بنودٍ، من أهمها:
1- الاهتمام بالتربية الروحية والأخلاقية والفكرية.
2- الاعتماد المطلق على الله عـزّ وجلّ، والاطمئنان الكلّي إلى مدده الغيبي ونصره الحتمي.
3- العمل الجاد علـى تحقيق الوحدة الفكرية والاقتصادية والسياسية للمسلمين في العالم، بكل السبل الممكنة والوسائل المتاحة.
4- معاداة الاستعمار بكل أشكاله وأنواعه، وبلورة شعار "لا شرقية ولا غربية " على الصعيد العملي والواقع التطبيقي.
5- اعتبار القضية الفلسطينية وتحرير القدس وفلسطين من الصهيونية، القضية المركزية الرئيسية للثورة الإسلامية.
6- دعم حركات التحرر في عالم المستضعفين، ولا سيما الحركات الإسلامية.
7- إقامة الحكم الإسلامي على قاعدة " ولاية الفقيه "، وتأكيد دور العلماء في توجيه الأمة، وقيادتها على خطّ أهل البيت عليهم السلام.
8- تأكيد حق الشعب المسلم وحريته فـي تقرير مصالحه ومصيره، وفق مبدأ الشورى الإسلامي.
9- تأكيد دور المرأة المؤمنة في المجتمع المسلم، ومنحها كافة الحقوق التي أقرها لها الإسلام المحمدي الأصيل.
10- تأكيد دور الشباب في مستقبل الأمة، والاهتمام التام بتربيتهم وتعليمهم، وبنـاء المؤسسات التربوية والثقافية والعلمية، التي تساهم في الأخذ بيد الشباب إلى ممارسة وإنجاز هذا الدور.
11- تأكيد دور الشهادة والتضحية والجهاد، وبناء القوات المسلّحة المدرّبـة، وتحقيق التلاحم بين الجيش والشعب، تحقيقاً للآيـة الكريمة: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ( الأنفال/60.
12- إعمار البلاد وبناء العباد، بما يخدم الصحوة الإسلامية العالمية، ويدعم تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية، إلى كافة أنحاء العالم.
13- اعتبار الثورة الإسلامية فـي إيران، والصحوة الإسلامية التي أعقبتها في العالم، تمهيداً للنهضة الإسلامية الشاملة، التي سيقودها الإمام المهدي عجّل الله تعالـى فرَجه الشريف، حيث سيلقي الإسلام بِجُرّانِه فـي الأرض، ويظهر على الدين كلـه، ليتحقق قول الله تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)( سورة التوبـة، وتمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً، بعدما ملئت ظلماً وجوراً (6).

الإمام والصحوة الإسلامية العالمية
بهذه المزايا الفريدة، وبهـذا الخط الشامل، دخل الإمام الخميني (قدّس سرّه) الساحة السياسية العالمية، وأطلّ منها على حركة الإسلام في العالم.
صحيحٌ أن الصحـوة الإسلامية العالميـة، ظاهرةٌ كبيـرةٌ وواضحةٌ ومتميّزةٌ، وأن الحركـة الإسلامية الإيرانية، التي تكلّلت بالنجاح بقيادة الإمام الخميني، كانت أولى مصاديق هذه الصحوة المباركة، وثمرةً مبكّرةً من ثمراتها.
لكن صحيحٌ أيضا،ً أن تأثير الخط الخميني في هذه الصحوة، سيّما بعد قيام الجمهورية الإسلامية فـي إيران، كان حاسماً ومؤكّداً، وأن الجرعة التي تلقّتها الحركة الإسلامية العالمية، بانتصار ثورة الإمام الخميني، كانت كافيـةً لأن تدفع بها فـي مدارج الازدهار والتألّق، ومعارج النضج والكمال.
إن قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، بهذا الشكل المتميّز، أبرز للعالم الإسلامي برمّتـه، ولعالم الاستضعاف بكامله، مجموعةً من المعطيات لم تكن مفقودةً، ولكنها كانت مطموسةً يعلوها الصدأ، ويعتريها التشويه والغموض، وتفتقر إلـى المصداقية والاستقرار فـي القلوب والضمائر، قبل العقول والأفهام.
من هذه المعطيات:
1- أن نجاح الثورة الإسلامية فـي أيّ مكانٍ من العالم، ممكنٌ جداً بالاتكال على الله، والاعتماد على الشعب، ولو كان خالي اليدين من أيّ سـلاحٍ، وأن الشعب بجميع طبقاته وفئاته، مـن الرجال والنساء والشباب، وبقـواه الذاتية وإيمانه ووعيه، هـو عماد الثورة وسندها الحقيقي، والعمود الفقري للإسلام وثورته.
2- أنـه ليس فقط لا ضرورة للاعتماد على قوى الاستكبار العالمي، الشرقيةِ منها والغربيةِ، فـي صراع الإسلام مع الكفر، بل لا يمكن أبداً، ولا يجوز مطلقاً، الاعتماد على أيٍّ منها لإسـناد الثورة الإسلامية، لأن هذه القوى هي الكفر بعينه، وهي العدو الحقيقي للإسلام وثورته.
وأن شـعار "لا شرقية ولا غربية"، هـو شعارٌ ضروريٌّ وإسلاميٌّ أصيلٌ، وعلى كل الحركات الإسلامية أن تعيـه وعياً كاملاً، وأن تتبناه نظرياً وعملياً.
3- إن قوى الاستكبار العالمي- الشرقيةَ منها والغربيةَ- وإن استطاعت أن تعيق الثـورة الإسلامية لبعض الوقت، فإنـه ليس فـي مقدورها أن تمنع قيامها إلى الأبد، ولذلك فلا مجال لليأس والقنوط.
4- إن الإسلام هـو الصيغة الحضارية المثلى لكل عصرٍ من العصور، وإن أحكامه وقوانينه مـن الشمول والعمق، بحيث تغطّي بل تغني كافة الجوانب الحياتيـة للإنسان الحضاريّ المتمـدّن، وتحقّق بل وتشبع كل حاجات الإنسان ومصالحه ورغباته الفطرية المشروعة.
5- إن الفقه الإسلامي عموماً من المرونة والحيوية والحركة الإيجابية، بحيث لا تستعصي عليه أية قضيةٍ من قضايا الإنسان والمجتمع، وإن الوليَّ الفقيه، قادرٌ على قيادة المجتمع الإنساني فـي ظل الإسلام، إلى ما يصلحه ويسعده، ويسير به نحو السمو والكمال الإنساني.
6- إن هذه المعطياتِ وغيرَها كثيرٌ، قد قلبت الأوهام إلـى حقيقةٍ، والنظرياتِ إلى واقعٍ تطبيقيٍّ حيٍّ معاشٍ في الجمهورية الإسلامية في إيران، الأمر الذي شدّ من أزر الحركة الإسلامية العالمية، وزاد مـن صحوتها، وأنضج ثمارها اليانعة، في كثيرٍ من الأقطار الإسلامية، كأفغانستان وتركيا وباكستان، والجزائر وتونس والسودان، ومصر والأردن ولبنان، وفـي أفريقيا، بل وفـي قلب حكومـات الاستكبار العالمي، فـي واشنطن وموسكو ولندن وباريس، وبات فجر الإسلام قريباً وقريباً جداً بعون الله سبحانه وتعالى.

بعد وفاة الإمام
كثيراً ما راهن الغربيون الجاهلون بالإسلام وتركيبة المجتمع الإسلامي، وخاصة الإيراني، وعقدوا الآمال الكبيرة على وفاة الإمام، لسقوط الثورة الإسلامية، وفشل جمهوريتها في إيران.
وأعمت المطامع الشخصية والأهـواء النفسية عقول عملائهم فـي المنطقة، فوقعوا فـي الحمأة ذاتها، بسبب غربتهم الروحيـة، وتبعيّتهم الفكرية الذليلة للغرب.
ومات الإمام (قدّس سرّه)، فما ذا حصل في إيران؟.
هل سقطت الثورة الإسلاميـة كما كانوا يحلمون ويتوهمون؟.
هل فشلت الجمهورية الإسلامية في قيادة المجتمع المسلم فـي إيران، وفي توجيه وتسديد الصحوة الإسلامية العالمية؟.
هل تحققت أوهام الغربيين و أحلام عملائهم المخدوعين؟!.
إن شيئاً من ذلك لم يحصل، وما ذا حصل إذن؟.
ما أن سمع الشعب الإيراني المسلم نبأ وفاة الإمام (قدّس سرّه)، حتى هـبّ بملايينه الثائرة، فسدّ الطرقاتِ وملأ الساحاتِ، تحسّباً لأيّ طارئٍ جديـدٍ، واحتياطاً لأي مؤامـرةٍ خارجيةٍ أو داخليـةٍ، وما هـي إلا سويعاتٌ قليلةٌ وقليلةٌ جداً، حتى أعلن مجلس الخبراء آيةَ الله السيد علي خامنئي إماماً جديداً، وقائـداً للثورة الإسلامية فـي إيران، وولياً لأمر المسلمين في العالم.
ووقع هـذا الإعلان موقعاً مريحاً فـي قلوب وعقول هـذا الشعب الطيب الصـامد، وانطلقت الحناجر بالهتاف للقائـد المعظّم، رغم ألم الفاجعة الكبرى الذي يعتصر هـذه القلوب والعقول، واختلطت التهاني بالتعازي، وشقّت البسمات طريقها بين الدموع، واطمأنّت القلوب الوالهة الثكلى على مصير ثورتها بين يدي خلف الإمام وتلميذه الوفي.
وانطلق المراجع الكبار، يبايعونه علـى السمع والطاعـة والنصيحة، وتتابعت المؤسّساتُ الشعبيّةُ والرسميّةُ، تعلن ولاءها وبيعتها وحبّها للقائد الجديد، ولم يدفن الإمام (قدّس سرّه)، إلا وقـد استقرت مسيرة النظام، وتكرست ثورة الإسلام العظمى في إيران، وأُسقِطَ في أيدي الاستكبار العالمي، وعملائه على السواء، وضاع رهانهم الخاسر في الهواء.
فطبتَ حياً وطبتَ ميّتاً أيها الإمام!..
لقد أخلصتَ لله وجهك، وأسلمتَ لـه قلبك، فأخلصتْ لك الأمة، وأسلمتْ لك قلوبها.
ولقد أسلستَ قيادك لربك عـزّ وجلّ، فأسلسَتِ الأمة لك قيادها، وسلّمتْ إليك أزمّة أمورها.
ولقد ذبتَ فـي الإسلام، فذابتْ فيك أمّـةُ الإسلام، فكنتَ لها القائدَ الفذَّ، والإمامَ الهاديَ، والأبَ الناصحَ الرحيمَ.
تحمّلتَ عن أمّتك أيها الإمام، لتتحمّل معك وبعدك، وضحّيتَ معها بكل ما لديك، فضحّتْ بكل غالٍ ونفيسٍ معك وبعدك.
وها أنت اليوم أيها الإمام، ميّتٌ حيٌّ، وغائبٌ شاهدٌ، ترقُبُ أعمالَ أمّتِك المجيدةَ، يرضيك وفاؤها لمبادئك، ويسرّك ثباتها علـى الخطّ الذي أرسيته، والنهج الذي حدّدتَ معالمه، ويثلج صدرك صبرُها على المكاره وتحدّيها للصعاب.
لقد فاءت الأمّةُ إلى تلميذك البارّ وخليفتك الوفيّ، العالم الربانيّ العامل آية الله العظمى السيد علي خامنئي، فلاذت به ولياً لأمرها، وبايعته قائداً ومرشداً لها من بعدك، فقطعت الطريق بذلك على من كان يراهن على الثورة الإسلامية، ويترقب سقوط جمهوريتها بعد موتك.
ولقد صـبر أبناء شعبك كما أمرتهم دائماً، فاستحقوا النصر المؤزّر الذي طالما وعدتهم بـه، وتحرّر كل شبرٍ من الأرض الإسلامية المقدّسة، وأُطلق سراح الأسرى الأبطال، وتعزّزت قوى جند الإسلام.
ولقد انطلقت خطواتُ الإعمار والبناء، تتوالى بعزمٍ وإصرارٍ كما كنت تريد، وفي كافة مجالات وأنحاء الجمهورية الإسلامية التي أسّستَها.
ولقد سقطت كلّ قلاع الشيوعية في العالم، تماماً كما تنبّأتَ وألمحتَ بل وصرّحتَ، في رسالتك التاريخية إلى الزعيم السوفياتي "غورباتشوف".
وستتبعها كلّ قلاع الرأسمالية فـي القريب العاجل بإذن الله تعالى، كما يبشّرُ خليفتك المحفوف بحفظ الله وتسديده.
ولقد ضربتِ الصحوةُ الإسلاميةُ العالميةُ بجذورها الراسخة في الأرض، ولا تزال الأمّةُ على العهد, وستبقى دائماً كما عهدتها، حتى تسلّم الراية – إن شاء الله تعالى – إلى إمام العصر.
فارقبها أيها الإمام مـن مرقدك الطاهر، قريـر العين راضي النفس مطمئنّ القلب.
السلام عليك أيها الإمام.
رضي الله عنك وأرضاك، مـع النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
* * *
شمس الثورة الإسلامية

العشقُ حرَّكَ فـي الأكوان أوتارا
وفجَّر الحرفَ بعـد الصمتِ قيثارا
هبَّتْ رياحُ سنىً مـن نـور بارقةٍ
تهـزُّ جنحَ الدجى فانهـدَّ خَوّارا
تصرَّمَ الليلُ قـد أودى بـه بَلَجٌ
ونـورُ صبحِ السنا جـلاّه فانهارا
شمسُ الوجودِ تعالتْ في معارجِها
وفجَّـرتْ حولها الأنـوارَ أنهارا
وحلَّقتْ فـي سَـماءِ المجدِ تاركةً
نجمَ الثريّا فقـد جازتـه أقدارا
لمّا عَـلا قمّةَ الجوزاءِ فـي أرجٍ
روحُ الإلـهِ يناجي الـربَّ سَتّارا
وقـابَ قوسينِ أو أدنـى بمنزلةٍ
كان التلقّي مـن المختار تَكرارا
فأُشرِبَ الحبَّ مـن كأسٍ مطيَّبَةٍ
وأُلقِمَ العلـمَ عِرفانـاً وأخبـارا
وأُلهِمَ الـذوقَ مطبوعـاً بفطرتِـه
وأُطعِمَ الشـوقَ أحمـالاً وأوقـارا
روحُ الإلـهِ تبدّى فـي العلى أَلِقاً
وقد سرى النورُ في العِطفَينِ أسرارا
ومنـه نحو الثرى قـد عاد مؤتزراً
بمعقِـدِ العـزمِ إقداماً وإصـرارا
ليقلعَ البغـيَ والعدوانَ عـن أممٍ
ويخلـعَ الظلمَ والطغيانَ إعـذارا
وينشرَ الحـقَّ فـي الأكوان مؤتلِقاً
وينثرَ النـورَ للإنسـان أسـوارا
هو الإمـامُ أجـالَ الطرف متَّئداً
وخطَّ خطّاً أحـال الشوكَ أزهارا
هـو الخميني أدارَ الحـرفَ ملتهباً
أصلى بـه الشاهَ حَـدّاً كان بتّارا
وجـاء إيـرانَ يحييها بثـورتِـه
وأعلن الديـنَ والإسلامَ مشـوارا
ومـذ غدتْ جنَّـةُ الزهراءِ مهبطَه
والشعبُ مـن وَلَهٍ أضحى له دارا
توحّدتْ رايـةُ الفرسان وانطلقتْ
مشاعرُ الحبِّ في الوجدان إعصارا
هذا بهشتي يقود الركبَ فـي كَفَنٍ
والركبُ يزحفُ غـلاّباً وقهّارا
والخامنيُّ ينـادي أمّـةً وُتِـرَتْ
ويدفعُ المـوجَ والإعصـارَ دوّارا
سرى يجوبُ فِجاجَ الأرضِ يزرعُها
فـي كل شبرٍ مـع الأشجار ثُوّارا
ويُهْرَعُ الشعبُ مشدوداً لقائـده
ويُسرِعُ الجمـعُ أبـراراً وأخيارا
طَهرانُ تاهتْ على البلدانِ حاضنةً
بين الضلوعِ إمامـاً للهدى سارا
وفـي المنازل مـن جمرانَ أفئدةٌ
تتـوِّجُ الشمسَ نيرانـاً وأنـوارا
وتبـذلُ النفسَ والأبنـاءَ طائعـةً
فِـدى الإمامِ ونهـجٍ كُلِّلَ الغارا
تقول للروحِ اُحْلُلْ فـي محاجرِنا
وفـي القلوبِ وأضرِمْ للعِدا نارا
* * *
قد كان ما كان من ضعفٍ ومسكنةٍ
ومـن سكوتٍ علـى الباغين تَهتارا
حتى أتانـا إمـامُ العصر يوقظُنا
ويشـرِعُ الحـقَّ للأحـرارِ تيّـارا
صيحاتُ شعبي تعالتْ فـي مساجده
وفـي الشـوارعِ تكبيراً وأذكارا
حكومةُ الشاهِ شُلَّتْ والقلاعُ هَوَتْ
وأصـدر القائـدُ الثوريُّ إنـذارا
خارتْ لـه دولةُ الطغيانِ وارتعدتْ
عصائبُ البغيِ تُولـي السّاحَ أدبارا
سـرنا إلى سـاحةِ التحريرِ يحملُنا
شوقٌ أحـال غِراسَ الحقِّ أشجارا
وكفُّ ثورتِنا امتدَّتْ إلـى نُصُبٍ
للشاهِ تُرديـهِ فوق الأرضِ أوضارا
وأُرسيتْ دولـةُ الإسلام واتُّخِذتْ
معالمُ الدين دسـتوراً ومِطمـارا
ودار مِشـعَلُها فـي كـل ناحيـةٍ
مـن الوجودِ يحيلُ الكـونَ أقمارا
نظامُ كابولَ قـد خـرَّتْ دعائمُه
وبيرقُ الحـقِّ للإلحـاد قـد وارى
ودكتاتوريةُ الماسـونِ قـد هُزِمَتْ
ومِنجَلُ الكفر أضحى اليومَ أوزارا
والرأسُماليّةُ ارتاعتْ تخـافُ سَـنىً
مـن نـورِ ثورتِنا قـد ضاءَ نوّارا
وغربُ دنيا الورى والشرقُ في هَلَعٍ
لم يفهموا بعـدُ سِـرّاً فـاحَ فوّارا
هو الإمامُ أنـارَ الدربَ وانفجرتْ
مشاعلُ القلـبِ آمـالاً وأوطـارا
وأطلقَ المـاردَ المغلولَ مـن صَـفَدٍ
وأيقظَ الأمّـةَ الوسْـنى وما حارا
* * *
حـتى إذا جـاء نصـرُ الله متّقِداً
والناسُ مَـدَّتْ إلى الإسلام أبصارا
قال الإمـامُ اعذروني إنني وَلِـهٌ
إلـى العروجِ ألاقـي الربَّ غفارا
والفلكُ تجري إلى حيث الإلهُ قضى
والروحُ تهجـرُ رسماً للبِلى صـارا
أحبّتي صَـحَّ عـزمـي أن أودِّعكم
وأن أفـارقَ سُـمّـاراً وزُوّارا
فامضوا بدربِ العلـى يحدوكمُ أملٌ
بالخامنائي يجـوبُ القلبَ إعمـارا
هـو الخليفةُ قـد شُـدَّتْ عزائمُه
علـى التقى وعلـى العِرفانِ مختارا
* * *
أرسى الإمـامُ بـه أركانَ دولتِـه
وثبَّتَ الخـطَّ والمنهـاجَ مِسبـارا
وأسلمَ الروحَ للباري وقـد كَمُلَتْ
وآثرَ اللهَ فـي الأخرى لـه جـارا
وفـي الصباحِ سَـرَتْ ركبانُ أمّتِنا
تبكي الحبيبَ بدمـعٍ سـال أنهارا
طهرانُ قامـتْ قياماتٌ بها حَـزَناً
علـى الإمام شـهيداً كـان هدّارا
وفـي الطريقِ إلـى جمرانَ نائحةٌ
تكفكفُ الدمـعَ هتّانـاً ومِـدرارا
جموعُ إيرانَ أحيتْ صـوتَ قائدِها
وأسقطتْ حُلُماً للغربِ قـد مـارا
* * *
وقيل مـاتَ الخميني واغتدا جسداً
لا روحَ فيه وتحت التربِ قـد صارا
وخَطُّه ضـاع فيمـا بين عصـبتِه
وجنـدُه مَزَّقتْ دربـاً لـه اختارا
هذي أكاذيبُ أحقادٍ قـد استعرتْ
تُلقـي تهاويمَهـا شـرّاً وأكـدارا
هـو الشـهيدُ تلقّى سُـمَّ فانيـةٍ
علـى المدى غُصصاً إذ كان صبّارا
ما ماتَ قائدُنـا فالقلبُ مسكنُـه
وقـد غدونا لـه جنـداً وأنصاراً
ما ماتَ مَـن فكرُه فـي كل زاويةٍ
مـن الحيـاة غـدا للحقِّ معيـارا
إن الخميني إذا ما حـلَّ فـي بلـدٍ
أقامَ مِـن ركنِها ما كـان منهارا
وما بنَتْـه يـداه ليس يهـدِمُـه
كَـرُّ الليالـي ولا خَطبٌ بـه دارا
لـه تلامـذةٌ هامـوا بـه وَلَهـاً
وأودعوا حبَّـه فـي القلب موّارا
قـد مرَّغوا أنـفَ أمريكا بحكمتهم
وعفَّروا وجـهَ غربِ بـاتَ مِعرارا
والخامنائي لـه نعـم الخليفةُ قـد
أبـدى الإمامُ لـه حباً وإكبـارا
تتويجُـه أسقطَ الكفارَ فـي عَمَـهٍ
والغيظُ عاجَلَهم والحلمُ قـد طـارا
وأثلَـجَ القلبَ للأحـرار وانتظمتْ
مسـيرةُ النـور أقطـاراً وأمصـارا
* * *
عشقتُ طُهرَكِ يا طِهرانُ وانطلقتْ
بلابلُ الشوقِ تشـدو فيكِ أشـعارا
وقـد جهَرتُ بحـبي دونما وجلٍ
ولا أُلامُ إذا أسـررتُ إسـرارا
أنتِ المحبَّـةُ فيكِ اليـومَ رائـدُها
وأنتِ أنتِ العلـى طُهـراً وإيثارا
وكعبـةُ العلمِ أنتِ فازدهي أدبـاً
وصَدِّري العلمَ أحبـاراً وأسـفارا
وموئلُ المجـدِ قـد دانتْ لـه أممٌ
وطـأطـأ الرأسُ إذعاناً وإقـرارا
الهوامش:
* - كاتب من دمشق بعثها لنا مشكورًا بمناسبة ذكرى وفاة الامام الراحل 4/حزيران/ 2006م.
(1) نشر هذا القسم من الموضوع في مجلة الثقافة الإسلامية العدد 37 ذو القعدة – ذو الحجة 1411هـ الموافق أيار – حزيران 1991م بمناسبة الذكرى الثانيـة لوفاة الإمام (قدّس سره)، وذلك تحت اسمٍ مستعار.
(2) مجلة "الثقافة الإسلامية" العدد 61 ذو القعدة- ذو الحجة 1415هـ ، أيار- حزيران 1995م ص 166.
(3) مجلة "الثقافة الإسلامية" العدد 61 ذو القعدة- ذو الحجة 1415هـ الموافق أيار – حزيران 1995م ص 173-175.
(4) للتوسع انظر مجلة "الثقافة الإسلامية" العدد /31/ ذي القعدة – ذي الحجة 1410هـ الموافق أيار – حزيران 1990م.
(5) نشر هذا القسم من الموضوع في مجلة الثقافة الإسلامية العدد 35 رجب – شعبان 1411هـ الموافق كانون الثاني- شباط 1991م بمناسبة الذكرى الثانية عشرة للثورة الإسلامية في إيران، وذلك تحت اسمٍ مستعار.
(6) روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرج أبو داوود عن ابن مسعود رضي الله عنه وعليٍّ عليه السلام، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: [لو لم يبق من الدنيا إلاّ يـومٌ واحدٌ، لطوّل الله ذلك اليـوم حتى يبعث رجلاً مني- أو قال: من أهل بيتي- يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي، يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً] , نقلاً عن كتاب كشف الغمّة في معرفة الأئمة 3/228.

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• الشيخ ميثم البحراني رمز من رموز التراث والتواصل الحضاري   (بازدید: 1930)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الشيخ ميثم البحراني على خلفية أوضاع عصره   (بازدید: 1640)   (نویسنده: الشيخ ماجد الماجد)
• الشيخ ميثم البحراني.. يخترق العصر   (بازدید: 1430)   (نویسنده: الدكتور صباح زنكنه)
• العلامة ابن ميثم البحراني موجز حياته العلمية   (بازدید: 1593)   (نویسنده: زهراء مصباح)
• ميثم البحراني حياته ودوره في دعم الحركة العلمية في البحرين   (بازدید: 2797)   (نویسنده: الشيخ حميد مباركة)
• ابن ميثم البحراني وعصره   (بازدید: 1085)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• الكواكبي والدين   (بازدید: 1136)   (نویسنده: أسعد السحمراني)
• رمز من رموز التراث والتواصل الحضاري   (بازدید: 1229)   (نویسنده: الشيخ ميثم البحراني)
• كيف ينبغي النظر إلى ظاهرة الشيخ ميثم البحراني؟   (بازدید: 1321)   (نویسنده: محمد جابر الانصاري)
• ملامح من شخصية العالم المفكر الشيخ ميثم البحراني   (بازدید: 1663)   (نویسنده: السيد محمد بحر العلوم)
• العلامة المطهري / في آرائه الفلسفية والعقائدية   (بازدید: 4025)   (نویسنده: السيد حسن النوري)
• الملف / رجل الإحياء والاستئناف الحضاري   (بازدید: 941)   (نویسنده: مرتضى مطهري)
• احمد صدقي الدجاني رجل الفكر الحضاري   (بازدید: 1594)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الشيخ محيي الدين بن عربي و أثره الحضاري في حوض المتوسط   (بازدید: 1189)   (نویسنده: محمد قجة)
• العلامة محمد تقي القمي رائد للتقريب والنهضة الإسلامية   (بازدید: 2852)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• رائد الدراسات الفارسية في مصر   (بازدید: 987)   (نویسنده: الدكتور صادق خورشا)
• شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي الحلبي   (بازدید: 2526)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• ملف مالك بن نبي   (بازدید: 1273)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الاتجاه النقدي عند الشهرستاني   (بازدید: 1894)   (نویسنده: د. محمد حسيني أبو سعدة)
• شيخ الإشراق   (بازدید: 1697)   (نویسنده: سيد حسين نصر)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]