ما الذي يعنينا في هذا الاستشراق؟
|
ثقافتنا - العدد 10
فكر إسلامي
عبدالنبي اصطيف
1427
«ملخّص» الاستشراق، معرفة موضوعها الشرق ينتجها غالبا غير الشرقي بدافع الفضول أو الخوف، وهي معرفة مشوبة غالبا بذهنية توراتية أو خرافية، ولم تسهم غالباً في تبديد العداوة والبغضاء بين الامم والشعوب، بل كانت وراء تعميق كراهية الغرب للاسلام والمسلمين، كما أصبح الاستشراق مصدر معرفة المسلمين بأنفسهم مع الاسف، لكن هذا لا يعني عدم وجود مساحات ايجابية في الاستشراق يجب معرفتها واستثمارها لصالح «التعارف» بين الشعوب. يستند بعض العرب، وبحق على وجه الإجمال، إلى دلالة (الألف والسين والتاء: است) في صيغة المصدر: استشراق، فيرون أن «هو طلب الشرق والسعي إليه حقيقة أو مجازاً، وأن المستشرق رجل يطلب الشرق معرفياً أو عملياً: معرفياً بدراسته والقراءة عنه ثم الكتابة عن شأن من شؤونه، وعملياً بالسفر إليه واختباره والعيش فيه لأيام أو شهور أو سنين ثم الكتابة عنه أو عن وجه من وجوهه انطلاقاً من هذه الخبرة العملية المباشرة. ويمضي بعضهم أبعد من ذلك فيتحدث عن طلب يتجاوز المسعى المعرفي والمسعى العملي في آن معاً، ليبلغ الرغبة في حيازة الشرق وتملكه أو احتوائه والسيطرة عليه والتحكم بمقدراته، ثم العمل بالتالي على تحقيق هذه الرغبة بشتى الوسائل بصرف النظر عما يحمله هذا التحقيق للشرق من قهر واغتصاب للحرية وللوطن ولثرواته، والحياة في نهاية المطاف فيه حياة العبودية في كنف السيد الغريب القادم من الغرب. والحقيقة أن للاستشراق صوراً متنوعة تنوع اللقاءات الإنسانية، وغنية غنى الحياة الإنسانية ذاتها، ولذا فإن من الطبيعي أن يختلف الناس في تعريفه وتحديد طبيعته ووظيفته وصلاته بنشاطات الإنسان الأخرى، وقد انعكس هذا تفاوتاً ملحوظاً في ضيق واتساع آفاق تعريف الاستشراق لدى الباحثين المعنيين بشؤونه في الشرق والغرب معاً، مثلما انعكس تبايناً عجيباً في المواقف تجاهه، فمن مكبر لشأنه وشأن العاملين فيه إلى منكر له ومنكر لجهود العاملين فيه. والمرء إذ يرى هذا التفاوت وذاك التباين يشفق على نفسه من خوض غمار البحث في الاستشراق مثلما يشفق على أبناء جيله من مواجهتهم له، وبالتالي فربما كان من الحكمة أن يبدأ في تدبّره لهذا السعي المعرفي والعملي من جانب الغرب تجاه الشرق بمحاولة الإجابة على سؤالين في غاية البساطة والمباشرة والأهمية هما: ما الاستشراق؟ وما الذي يعنينا فيه؟ إن كان ثمة ما يعنينا فيه أصلاً. ولنبدأ بالسؤال الأول: ما الاستشراق؟ وهو سؤال لصيق بضرورة تعرّف طبيعته، مثلما هو وثيق الصلة بالتفكير في العلاقة المتوترة – أبداً فيما يبدو – بين الشرق والغرب، أو بين الإسلام والغرب. وموجبات هذا السؤال كثيرة، ربما كان من أبرزها الاختلاف الذي مرّ ذكره بين المعنيين به على تعريف جامع مانع للاستشراق تنضوي تحته وتستظل به صوره الكثيرة المتنوعة الغنية كثرة الحياة وتنوعها وغناها، ويتلو ذلك ما يستتبع الحديث عن طبيعة الاستشراق عادة من السؤال عن وظيفته أو وظائفه، لينتهي مطاف الأسئلة بالسؤال الآخر، الكبير والخطير والجوهري في آن معاً، وهو: ما الذي يعنينا في هذا الاستشراق إن كان ثمة ما يعنينا فيه؟ فلنسع بداية إلى تفحّص طبيعة الاستشراق من خلال تقديم تعريف مبدئي يشكل نوعاً مما يمكن تسميته بـ Arch-definition أو جامع التعريف. «الاستشراق> ، أو «Orientalism»، «معرفة» موضوعها الشرق، ينتجها غالباً غير الشرقي عن هذا الشرق الذي يضيق ويتسع حسب منظور منتج هذه المعرفة المحفوزة بالفضول حيناً، وبالخوف حيناً آخر، والحنين إلى الماضي حيناً ثالثاً، فضلاً عن الحاجة، التي هي أم الاختراع، والتي تفرضها المواجهة العريقة المتجددة بين الشرق من جهة ومجتمعات غير الشرقي من جهة أخرى. ولما كان هذا التعريف مجرد تعريف مبدئي فربما كان من الحكمة تأمّل مكوناته وتدبّرها أو معالجتها بشيء محدود من الشرح تمليه الاستجابة لضيق الحيز الميسور في مقالة قصيرة. إن الناظر إلى هذا التعريف يستطيع أن يتبين أن الاستشراق، وعلى الرغم من اختلاف الناس في تعريفه، وتحديد طبيعته ووظيفته وحدوده فضلاً عن نشأته وتطوره وتنوع صوره وأشكاله. ـ «معرفة» «Knowledge» بمعنى أن الاستشراق، بصرف النظر عن صورته ومنظور منتجه، ينطوي على معلومة Piece of information، أو معلومات، تتصل بموضوعه subject matter، الذي هو الشرق وأهله تاريخاً وثقافة وحضارة ومجتمعات؛ ـ «موضوعها الشرق»، بمعنى أن موضوع هذه المعلومة أو المعلومات هو الشرق وهو مصطلح متعدد الدلالة، بتعدد موقع الناظر إليه ومنظوره ورؤيته للعالم والإنسان الذي يعمره. وهكذا فإنه يضيق أحياناً في نظر البعض فتقتصر دلالته على الشرق الأدنى، أو الشرق الأوسط، ويتسع أحياناً أخرى في نظر البعض الآخر فيشمل كل ما يقع إلى الشرق من الغرب الأوربي بما في ذلك الصين واليابان. ـ «ينتجها، في الغالب غير الشرقي» المقيم في هذا الغرب الأوربي الذي يشمل عادة الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوستراليا التي تنضوي جميعها تحت لواء واحد من الغنى الاقتصادي، والتقدم التقني، والتفوق العسكري، والسلطان السياسي، فضلا عما يفرزه كل ذلك من تقدم ثقافي وفني ومعرفي، والمعرفة بحدّ ذاتها سلطان وأي سلطان وقوة أية قوة. ـ «محفوزاً بالفضول حيناً» والإنسان مخلوق لا يجاريه مخلوق آخر في الفضول والتطلع الدائم إلى مزيد من المعرفة عن نفسه، وعمّن يحيط به، وما يحيط به من عوالم، بل إن بعضهم يعرّف الإنسان بأنه مخلوق طُلَعة يغلب عليه الفضول والرغبة المتجددة أبداً في معرفة المزيد عن كل شيء. ـ «وبالخوف حيناً آخر» الذي يعد كابوساً يلازم صاحبه حتى يصرفه عنه بمعرفة مصدره وبواعثه. والغربيون، كما يلاحظ المرء اليوم وبأسف شديد، باتوا اليوم بفضل الرئيس الأمريكي بوش الابن الذي زرع في نفوسهم الخوف من الإسلام وأهله بعد أن قرنه بالإرهاب وأقنعهم بأنه تربته الخصبة، نهباً لهذا الخوف الذي تغذّيه التغطيات الإعلامية المثيرة، معزّزة بذلك العلاقة المتوترة أصلاً بين الإسلام والغرب، والتي يعود توترها أساساً إلى استخفاف الغرب بحقوق العرب والمسلمين المشروعة وطموحاتهم في العيش بسلام وأمن وحرية ورخاء كما يعيش أقرانهم في الغرب، وليس إلى ما يزعمه بعضهم من أمثال برنارد لويس وحوارييه عندما يصرون على أن المشكلة تكمن أساساً في تخلّف العرب والمسلمين وتخلّف أنظمة مجتمعاتهم وكراهيتهم للتقدم والتحديث والغرب. ـ وأخيراً فإن هذه المعرفة حاجة أملتها المواجهة المتجددة بين الشرق من جهة، وبين مجتمعات غير الشرقي من جهة أخرى، وهي حاجة يمليها مبدأ «اعرف عدوك» حتى تحسن تدبّره على الوجه الأمثل، وهو بالضبط ما يفعله الغرب الذي يتدبّر العرب والمسلمين معرفياً قبل أن يتدبّرهم عملياً. والمقصود بهذه «المعرفة» - كما يستطيع المرء أن يتبين بسهولة – ليس الشرق وأهله، لأنها إنما أنتجت لتخدم مجتمعات منتجيها في مواجهاتها للشرق، وبلغات تفهمها هذه المجتمعات، ومن خلال إطار مرجعي تعقله، وهذا أمر طبيعي في ضوء حقيقة أن هذه المجتمعات هي مموّلة عملية إنتاج هذه المعرفة، وهي المشرفة عليها، والمتحكمة بها، وبالتالي المفيدة منها. والاستشراق بوصفه: «معرفة ينتجها في الغالب الآخر/ الخارجيّ/ الغربي، عن الشرق وأهله: تواريخ وثقافات ومجتمعات ودولاً وقضايا راهنة، بلغة غير لغاتهم، ولمجتمع غير مجتمعاتهم، تحفزه الرغبة في مساعدة مجتمعه على حماية مصالحه البعيدة والقريبة في هذا الشرق في أية علاقة يقيمها معه، وعلى أي مستوى من المستويات أو في أي وجه من وجوه الحياة الإنسانية». يستدعي سؤالاً يبدو طبيعياً إلى درجة البداهة يمكن صوغه على النحو التالي: ما الذي يعنينا – نحن الشرقيين – فيه؟ ولماذا يعينا في المقام الأوّل، وبخاصة أنه غير موجه إلينا أصلاً، ولا يروقنا على وجه الإجمال؟ إننا بدايةً لا نجد أنفسنا فيه. وهل ثمة شرقي يمكن أن يقبل صورته التي تتبدى فيه دون أدنى تحفظ؟ وبخاصة أنها صورة محفوزة بمواقف مسبقة أملاها تاريخ معقد من الصراعات والمواجهات بين الشرق والغرب، فضلاً عن صدروها عن رواسم Stereotypes مستمدة من «التوارة» و«ألف ليلة وليلة»، ناهيك بعد ذلك عما يحكمها من أهواء ورغبات. فعلى سبيل المثال قام الرحالة الغربيون بالكتابة عن المرأة الشرقية لجمهورهم الغربي مستندين في ذلك إلى ما كوّنوه قبل سفرهم عن هذه المرأة من خلال «ألف ليلة وليلة»، و«التوارة»، وكان الرحالة يتوقعون عندما كانت أقدامهم تطأ الشرق أن يروا تجسيد ماكانوا قد قرأوه (في هذين الكتابين، وفي كتب الرحالة الآخرين الذين سبقوهم) حياً يسعى بين أيديهم ومن حولهم. ولذا كانوا يرون في كل ما يخالف تصوراتهم المسبقة عن هذه المرأة استثناء يؤكد القاعدة التي رسختها قراءاتهم السابقة، أو المعرفة الاستشراقية التي ملأت وعيهم قبل رحيلهم. وهكذا نجد أن صورة المرأة الشرقية في كتاباتهم كانت في الغالب صورة تبعث على الاشمئزاز . ففضلاً عن النظر إلى هذه المرأة على أنها مجرد موضوع جنسي، كانت المرأة تمسخ في بعض الأحيان إلى نوع من السعادين، وتشبه في أحايين أخرى بمجموع متحرك من الملابس أو ببالون أو بسفينة، أو بمجموعة متنوعة من الحيوانات كالخيول والبط والغوريلات، والأرانب والقطط والنمل وغير ذلك(1) . أي أن هذه المرأة كانت باختصار تجرد بكل بساطة من إنسانيتها على نحو كامل، وكانت عملية التجريد هذه تطال في أحيان كثيرة ما تنجبه وتنشئه من أجيال، عندما تمتد إلى دورها الاجتماعي بوصفها أماً. يكتب أندريه سيرفييه عن الأم المسلمة وعن قدراتها بوصفها أماً فيقول: «إنها أمَةٌ أبدية،: وجهلها وبربريتها يثقلان أولادها الذين تنشئهم، وتمرِّر لهم أهواءها وأفكارها العتيقة. ولما كانت هي ذاتها جاهلة فإنها تخلق الجهل؛ ولما كانت هي ذاتها بريرية فإنها تنشر البربرية من حولها؛ ولما كانت هي عينها أمَة فإنها تمنح أولادها أرواح العبيد، مع كل مثالب أرقاء: الرياء، والخداع، والزيف»(2) . ووصف كهذا للمرأة المسلمة يؤكد ما سبق أن خلص إليه إدوارد سعيد من أن «كل أوربي كان، فيما يمكن أن يقوله عن الشرق، عنصرياً عرقياً، إمبرياليا، وإلى درجة كلية تقريباً، عرقي التمركز»(3) . وعندما يأتي الأمر إلى الحديث عن المرأة الشرقية فإن الأوربي يكاد يتفوق فيه حتى على نفسه، وليس ثمة من يجاريه في نزعته البطريركية، أو في كراهيته للمرأة، أو في نظرته الدونية إليها. فالنساء تبعاً للاستشراق لسن غير: «مخلوقات استيهامية لدى الذكر. وهن يعبرن عن حواسية لا حدود لها، كما أنهن يكدن يكن غبيات، وهن، فوق كل شيء، رغوبات وعلى استعداد»(4) . نعم على استعداد لتلبية رغباته التي أثارتها في نفسه قراءاته لفنون التخيل التي فجرتها كتب السرد العربية المترجمة ولاسيما ألف ليلة وليلة. «فقد كان الشرق مكاناً يذهب المرء إليه بحثاً عن تجربة جنسية لا تنال في أوربا. وليس ثمة من كاتب أوربي، أو كاتبة أوربية، كتب عن الشرق أو سافر فيه في مرحلة مابعد 1800، استثنى نفسه أو نفسها من هذا البحث: فلوبير، نرفال، «دك القذر» بيرتن، ولين هم الأكثر بروزاً فقط. وفي القرن العشرين، يحضر إلى الذهن جيد، وكونراد، وموم، وعشرات غيرهم»(5) . والتي كبتها طويلاً في سعيه لترسيخ مفهوم الرجل الأوربي المتحضر الكامل الذي يكاد ينوء بعبء تحضير سائر العالم وهدايته إلى سواء السبيل الغربي الأوحد. ـ والاستشراق «معرفة» موظفة لصالح منتجها الذي يحسن الإفادة منها في أية مواجهة تقوم بيننا وبين مجتمعه. وقد استخدم منذ نشأته في احتوائنا، واستغلال خيراتنا، والحدّ من تطلعاتنا، وتقليم طموحاتنا إن لم يكن إحباطها، ولايزال يستخدم في التحكم بمقدَّراتنا وتقرير مصائرنا. ـ وفضلاً عما تقدم، فإن هذه «المعرفة»، التي يفترض بها أن تبدد العداوة والبغضاء بين الأمم الشعوب، «والناس أعداء ما جهلوا»، لم تسهم في خلق تفاهم أفضل بين الغرب/ منتجها من جهة، وبين «الشرق» و«الإسلام» من جهة أخرى. بل إنها اليوم، كما يتبين للمرء بكل وضوح، تؤجج نار العداوة والبغضاء والكراهية بين الإسلام والغرب بشكل خاص، وبين الشرق والغرب بشكل عام. وحسب المرء أن يشير في هذا المقام إلى تأثير كتابات برنارد لويس في تفكير صموئيل هنتنغتون ونظريته في صدام الحضارات، ثم إلى تأثير هذه الأخيرة في تفكير صانعي القرار في البيت الأبيض ممن باتوا يعرفون بالمحافظين الجدد الذي يرون أن المشكلة كل المشكلة في عامنا الراهن الذي ينجر إلى هوة من العنف الوحشي وانعدام الأمن والسلام إنما تكمن في الإسلام والمسلمين المناهضين لكل تقدم وتحديث وديموقراطية والمنكرين لحقوق الإنسان والمرأة بشكل خاص والكارهين للغرب وغير ذلك من الصفات التي ما فتئ لويس وحواريوه يروّجون لها في الغرب المنتشي بقوته وتفوته. لقد كان الاستشراق، ولايزال، وربما سيبقى على هذه الحال إن لم نفعل شيئاً لتغييره، «معرفة» ملوّثة بفيروس «القوة» و«السلطان» Power الذي استوطن على نحو مزمن، ولاسيما في القرون الثلاثة الأخيرة، صلات الشرق بالغرب، ولذلك فإنه يبدو، للكثيرين من العرب والمسلمين والشرقيين عامة بل لبعض الغربيين كذلك، وهم جميعاً محقون في ذلك، معرفة إشكالية ينبغي أن تخضع للمساءلة من جميع المتصلين بعملية إنتاجها. ولكن هل تعني إشكاليتها أنها غير ذات جدوى، أو عديمة الفائدة، وبالتالي فلا تثريب علينا إذا ما تجاهلناها أو أعرضنا عنها مستندين في موقفنا هذا إلى ما تقدم من حديث برقي عن الثغرات التي تنطوي عليها؟ الجواب بالتأكيد هو بالنفي وموجباته كثيرة ربما كان من أبرزها أمران: أولهما أن علاقاتنا بـ «الآخر» الغربي وسواه محكومة – شئنا أم أبينا – بسابق تصوراته عنا، ولا سبيل البتة إلى تغيير طبيعة هذه العلاقات دون العمل بشكل إيجابي وفعال على تغيير هذه التصورات التي انحفرت في اللاوعي الجمعي الغربي عنا، والتي لا تفتأ وسائل الإعلام المختلفة، وقد أصبحت اليوم ذات سلطان لا يقاوم، على بعثها وتجديدها ودوام بقائها بشتى السبل. ومعنى هذا أننا معنيّون بشكل مباشر بالاستشراق وما ينتجه عنا من «معرفة» مغرضة تستخدم سلاحاً ضدّنا، ومسوغاً لفرض إرادة «الآخر» علينا بحجة أننا، بطبيعتنا، معادون للغرب، وللتقدم، وللتحديث، وللسلام، وللديمقراطية وللمساواة بين الرجل والمرأة في المجتمع الإنساني، وغير ذلك من أوهام وأساطير استطاعت وسائل إنتاج المعرفة ونشرها في الغرب أن ترقى بها إلى مستوى المسلّمات التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. والاستشراق ليس المصدر الذي ينهل الغرب وحده منه في بناء تصوراته عنا، بل هو كذلك مصدر سائر أمم العالم وشعوبه التي باتت تعتمد على المعرفة الغربية وتثق بها، في تشكيل تصوراتها عن العرب والإسلام والمسلمين. وبالتالي فإن معرفة «الآخر» غير الغربي بنا محكومة بالاستشراق. والمفارقة التي تدعو إلى الأسى أن المجتمعات الاسلامية والعربية تعتمد في تعارفها فيما بينها على هذا التقليد الثقافي تنهل منه وتعل، لتوافره ويسر الحصول عليه ولاسيما المنشور باللغة الإنكليزية التي باتت لغة كوكبنا الأرضي Global Language. وقد تبين الكيان الصهيوني أهمية هذا المصدر من مصادر المعرفة عن العرب والمسلمين والإسلام فانخرط، من خلال مؤسسات الاستشراق الغربية من جانب، ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية من جانب آخر، في عملية إنتاج معرفة مغرضة عنهم تخدمه في مواجهاته لهم وتساعده في تسويغ ما تجترحه يداه من قهر وظلم وجرائم حرب ضد أشقائنا في فلسطين، حتى باتت مقاومة المحتل التي تقرّها جميع الشرائع السماوية والوضعية إرهاباً ينبغي التصدي له بأقصى درجات العنف، ومواجهته بأكثر الأسلحة فتكاً، لأنه يشكل أكبر خطر على السلم العالمي الذي ينبغي أن تحرض عليه كل شعوب العالم وأممه المتقدمة. وثانيهما أن هذا التقليد الثقافي الموسوم بـ «الاستشراق» تقليد حي تنتجه أمم حيّة تُجِلُّ المعرفة فتحرص على تنمية إنتاجها ونشرها والإفادة منها بجعلها خير ضمان لمصالحها، وهي لذلك تخضعه باستمرار للمراجعة والنقد والتطوير. والمتتبع لتاريخ هذا التقليد وبخاصة في العقود الأخيرة يتبين أنه قد خضع لتحوّلات إيجابية كثيرة يسّرت فسحة أوسع لنا، نحن الداخليين من العرب والمسلمين والشرقيين، للإفادة منه في الجوانب المختلفة لعملية التنمية الشاملة التي نطمح إليها. ولما كان المقام لا يسمح بالحديث مطوّلاً عن هذه التحولات(6) فإن بـإمكان المرء أن يشير إلى أهمها على نحو برقي فيذكر على سبيل المثال: ـ انفتاح الاستشراق على التطورات الأخيرة والراهنة في مختلف ميادين المعرفة ولاسيما العلوم الإنسانية؛ ـ انفتاح الاستشراق على موضوعه: لغة وحياة وتواصلاً مستمراً معه ومع ما ينتجه من معرفة تتصل بتاريخه وثقافة مجتمعه؛ ـ استجابة الاستشراق المتنامية لما وجّه إلى نتاجاته من نقد داخلي وخارجي ولاسيما في ربع القرن الأخير الذي تلا نشر كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» (نشر عام 1978)؛ ـ ازدياد إسهام الداخليين من العرب خاصة، والمسلمين عامة، فيه – الأمر الذي أثّر في نوعية ما ينتجه من معرفة باتت تتّسم بعلاقة أكثر حميمية بموضوعها تتحدى خارجيته وانسلاخه عن هذا الموضوع؛ ـ تطوّر مؤسسات الاستشراق وبناه على مختلف الصعد إلى درجة جعلت من المصطلح ذاته «الاستشراق» - في نظر البعض – مصطلحاً عفا عليه الدهر. وصفوة القول أن علينا – نحن المسلمين أن نعمّق هذه التحوّلات الإيجابية ونعزّزها، ونسعى جاهدين إلى تأسيس شراكة معرفية مع «الآخر» الغربي خاصة، والخارجي عامة، بغرض إنتاج معرفة تتسامى على واقع المعرفة الاستشراقية الراهنة، وتسعى إلى تحقيق غايات أسمى من المصالح الدنيوية الآنية التي تهيمن عليها – غايات ربما كان من أهمها خلق تفاهم أوسع وأعمق بين الغرب والإسلام مؤسس على المعرفة الموضوعية بدل مردّدات الجهل التي لم تحمل إلى الفريقين غير الكراهية والبغضاء وإراقة الدماء. الهوامش: * - أستاذ الأدب المقارن والنقد الحديث، ورئيس قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة دمشق 1 - انظر: د.عبد النبي اصطيف، «المعذبات في الشرق: نساء الشرق في عيون الرحالة الغربيين»، المعرفة، دمشق، السنة 32، العدد 356، أيار 1993، ص 150. 2- نقلاً عن كتاب: جودي مابرو، أنصاف حقائق محجبة: تصورات الرحالة الغربيين للنسوة الشرق – أوسطيات (بالإنلكيزية)، (دار توريس، لندن، 1991)، ص ص (173-174). 3 - انظر: إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة. السلطة. الإنشاء: نقله إلى العربية كمال أبو ديب طبعة ثانية، (مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1984)، ص 215. 4 - انظر: المرجع نفسه، ص ص 218 – 219. 5 - انظر: المرجع نفسه، ص ص 202 - 203 6 - انظر: د. عبد النبي اصطيف، نحن والاستشراق: تحولات ومؤشرات إيجابية، دراسات يمنية (صنعاء)، العدد 49، كانون الثاني – آذار 1993، ص ص (58-99) ، وبخاصة ص ص (76-85).
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• الإمامة
(بازدید: 1736)
(نویسنده: الشيخ مجيد العصفور)
• الامداد الغيبي في حياة البشرية
(بازدید: 1445)
(نویسنده: مرتضى مطهري)
• البرهان والعرفان
(بازدید: 1334)
(نویسنده: الدكتور علي أبو الخير)
• المنطلقات الفكرية للتعددية السياسية
(بازدید: 1877)
(نویسنده: الدكتور حسان عبدالله حسان)
• المنظومة الفكرية للشهرستاني وموقع ابن سينا منها
(بازدید: 2123)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• تأملات في دعاء شهر رجب
(بازدید: 3400)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• قصة الناي في فكر الكواكبي
(بازدید: 1794)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مقاصد الشريعة في المجتمع الإسلامي
(بازدید: 2789)
(نویسنده: الدكتور عمار الطالبي)
• مناهج دراسة مسألة «المهدي»
(بازدید: 1296)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ
(بازدید: 1222)
(نویسنده: مرتضى مطهري)
• الاسلام وايران / الاتجاه الحضاري
(بازدید: 2176)
(نویسنده: الدکتور محسن الويري)
• التجديد والزمن - رؤية الشهيد الصدر لمؤثرات التجديد
(بازدید: 1254)
(نویسنده: السيد حسين الشامي)
• التحديات التي تواجه الإسلام / في العصر الحديث
(بازدید: 6892)
(نویسنده: الدكتور محمود حمدى زقزوق)
• الحداثة والتجديد / في فكر الإمام الخميني العرفاني
(بازدید: 1723)
(نویسنده: الدكتورة فاطمة الطباطبائي)
• الشهيد مطهري وإحياء الفكر الاسلامي
(بازدید: 2456)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• العلاقات الدولية / واحترام العهود والمواثيق في الإسلام
(بازدید: 2924)
(نویسنده: الدكتور وهبة الزحيلي)
• الغلو والتطرّف والإرهاب / وموقف الإسلام منها
(بازدید: 1333)
(نویسنده: الدكتور مراد ويلفريد هوفمان)
• الغلوُّ والتَّطرف والإرهاب / وموقف الإسلام منها
(بازدید: 1617)
(نویسنده: الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي)
• دور الامام الصدر في التطوير الفقهي / وتحديد المشكلة الاقتصادية
(بازدید: 1078)
(نویسنده: الدكتور عبد الهادي الفضلي)
• سنن التاريخ عندالشهيد الصدر
(بازدید: 1570)
(نویسنده: عبدالإله المسلم)
|