ابن ميثم البحراني وعصره
|
ثقافتنا - العدد 13
شخصيات
الشيخ محمود محمدي عراقي
1427
مقدمـة إن الحديث عن ابن ميثم وتجليل ذكراه العطرة اليوم يشدنا الى معرفة ملامح شخصية هذا العالم الكبير والمؤهلات التي أوجدته وأبرزته علماً كبيراً وفقيهاً ومتكلماً في تلك الحقبة الزمانية التي عاشها، كما يدعونا أن نعرف أيضاً الأوضاع السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك والتي عاصرها الشيخ الفيلسوف الفقيه ميثم بن علي بن ميثم البحراني. فالبحرين التي هي مسقط رأس عالمنا الكبير، ومنذ القدم كانت لها مكانة مرموقة ومعروفة على المستوى الإداري للدولة الاسلامية أو على مستوى الدراسات الدينية والحوزات العلمية، وكذا للباحثين عن العلم والمعرفة. وكانت تقصد من جميع الاصقاع غرباً وشرقاً لدرجة أن عبر عنها العديد من الباحثين أنها «مأوى لكل من أراد العلم والأمان». فقد كان يقصدها العلماء مهاجرين خوفاً من جور السلاطين الطغاة مما جعلها مركزاً يتجمع فيه العلماء والجهابذة من أهل العلم، الأمر الذي أدى الى إثراء الحركة العلمية في الفقه وأصوله والفلسفة والآداب ومختلف صنوف المعرفة والعلوم، ولا تزال شواهد قبور هؤلاء العظماء وأضرحتهم شاهداً من الشواهد الشاخصة على احتواء هذه الأرض الطيبة وجمعها لعظماء العلم وأساطينه. ونحن في هذا البحث الذي وسمناه بـ«ابن ميثم البحراني وعصره» سوف نتحدث بعد هذه المقدمة عما يلي: أولاً: صورة عن حياة ابن ميثم رحمه الله. ثانياً: البيئة التي عاشها ابن ميثم البحراني (ره). ثالثاً: الأوضاع السائدة في أيامه. وننتهي بخاتمة عن الموضوع. نرجو أن نكون قد وفقنا عبر موضوعنا بالمشاركة ولو بهذا النزر القليل في إحياء معالم هذا النابغة الكبير رحمه الله خدمة للعلم وتقرباً الى الله تعالى، والله سبحانه الموفق لما فيه الخير. اولاً: صورة عن حياة ابن ميثم رحمه الله ولد شيخنا الجليل الشيخ ميثم البحراني رضي الله عنه عام 636 هجرية في قرية الماحوز القريبة من العاصمة المنامة في البحرين(1) وكانت تسمى هذه سابقاً «هرته» وفيها عيناً تسمى باسم هذه القرية، لكن ردمت هذه العين كما حصل لغيرها بعد أن نضبت مياهها، وقد وافاه الأجل عام 699 هجرية – 1299م ودفن في قرية (هرته) بالماحوز وبني عنده مسجد سمي باسمه. كان منذ صغره معروفاً بالذكاء وتتدرج في مسالك العلم، وكان من أبرز أساتذته. - الشيخ جمال الدين علي بن سليمان البحراني - الشيخ أبو السعادات أسعد بن عبدالقاهر بن أسعد الهلالي. - وكذلك المولى نصيرالدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي. كما درس عليه نخبة من طلاب المعرفة، وتخرج عليه هؤلاء التلاميذ الذين يعدون من أبرز فقهاء وعلماء عصرهم، وهو دليل على عظمة شيخنا الجليل ومنهم: - الشيخ محمد جهم الأسدي الحلي - المولى نصيرالدين الطوسي (كما روي في التاريخ) - العلامة الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر - السيد عبدالكريم بن أحمد بن طاوس الحلي - الشيخ عبدالله بن صالح البحراني - الشريف الجرجاني وغيرهم. آثاره العلمية: أما آثاره العلمية فقد تعددت مؤلفاته في مختلف صور المعرفة ولاقت شهرة علمية واسعة نذكر منها: 1- الوحي والإلهام 2- المراسلات 3- شرح نهج البلاغة في عدة مجلدات وهو الشرح الكبير المشهور 4- شرح المائة كلمة للإمام علي (ع) المسمى بمنهاج العارفين 5- تجريد البلاغة في المعاني والبيان 6- شرح حديث المنزلة 7- قواعد المرام 8- اختيار مصباح السالكين 9- آداب البحث 10- شرح الاشارات وغير ذلك من الكتب والبحوث النفيسة التي كانت ولا تزال مصدراً مهماً للدارسين والمحققين وروّاد المعرفة. وقد امتاز الشيخ البحراني ابن ميثم بأسلوب علمي رائع، كما امتاز الشيخ بأخلاقه العالية ومشاركاته العلمية في زياراته لمراكز العلم في النجف الأشرف وغيرها من المدن العلمية المشهورة، وعقد جلسات نقاش وعلم مع الكثير من العلماء والفضلاء، ولذلك نجد له في كتابات العلماء ثناءاً وإجلالاً لمنزلته العلمية. وصفه الشيخ سليمان الماحوزي بأنه « الفيلسوف المحقق، الحكيم المدقق، قدوة المتكلمين، وزبدة الفقهاء والمحدثين، العالم الرباني، كمال الدين ميثم البحراني غواص بحر المعارف ومقتنص شوارد الحقائق واللطائف، ضم الى إحاطته بالعلوم الشرعية، وإحراز قصبات السبق في العلوم الحكمية والفنون العقلية ذوقاً جيداً في العلوم الحقيقية والأسرار العرفانية، كان ذا كرامات باهرة ومآثر ظاهرة، ويكفيك دليلاً على جلالة شأنه، وسطوع برهانه اتفاق كلمة أئمة الأعصار وأساطين الفضلاء في جميع الأعصار على تسميته بالعالم الرباني، وشهادتهم له بأنّه لم يوجد مثله في تحقيق الحقائق، وتنقيح المباني» (2). أما الحر العاملي فقال: «كان من العلماء الفضلاء المدققين متكلماً باهراً يروي عنه السيد عبدالكريم بن أحمد بن طاوس وغيره، له تصانيف منها شرح نهج البلاغة لم يعمل مثله». وممن كتب عنه السيد حسن الصدر إذ يقول: «الشيخ ميثم بن علي البحراني المعاصر للسكاكي صاحب «المفتاح» كان علامة في العلوم العقلية والنقلية»(3). كما عرف عن الشيخ ابن ميثم أنه لاذع النقد ولا يسكت عن قضية تحتاج الى تعليق أو بيان رأي ويسكت عنها، بل يقول ما يجب أن يقال له. وله قصص في هذا المجال منها: لما زار العراق لبس ثياباً رثة ودخل بعض المدارس هناك، حيث عُرف العراق بالأساتذة المرموقين والحذّاق وسلّم على من في المدرسة، فردوا عليه السلام بالاستثقال، وقد جلس عند منزع الأحذية ولم يلتفت اليه أحد منهم وهو يستمع الى بحوثهم. وفي أثناء المباحثة دار حديثهم حول مسألة عويصة دقيقة لم يتوصلوا الى حلها، وكلّت عنها أفهامهم فأجاب الشيخ رحمه الله تعالى بتسعة أجوبة بغاية الجودة والدقة. فقال له بعضهم بطريق السخرية والتهكم «أخالك طالب علم» ثم بعد ذلك حينما حضر الطعام فلم يواكلوه بل أفردوا له بشيء قليل. لكن الشيخ في اليوم التالي عاد الى هذا المكان وقد لبس الملابس الفاخرة بهيئة ذات أكمام واسعة وعمامة كبيرة وهيئة رائعة. فلما دخل وسلّم عليهم قاموا تعظيماً له واستقبلوه تكريماً وأجلسوه في صدر ذلك المجلس الذي فيه الفضلاء والعلماء والمحققين وأكابر المدققين، ولما شرعوا بالمباحثة تكلم معهم بكلمات عليلة لا وجه لها عقلاً وشرعاً، فقابلوا كلماته بالتحسين والتسليم والإذعان!! وعند مجيء الطعام بادروه بأنواع الأدب، فألقى الشيخ كمه في ذلك الطعام وقال «كل يا كمي»!! فلما شهدوا ذلك الحال العجيبة استغربوا واستفسروا فأجاب: «إنكم إنما أتيتم بهذه الأطعمة النفيسة لأجل أكمامي الواسعة لا للنفس القدسية، وإلا فأنا صاحبكم بالأمس وما رأيت تكريماً ولا تعظيماً، إذ جئتكم بالأمس بهيئة الفقراء وسجية العلماء، واليوم جئتكم بلباس الجبارين وتكلمت بكلام الجاهلين، فقد رجحتم الجهالة على العلم، والغنى على الفقر ... فاعترف الجماعة بالخطأ. وقبل أن ننهي البحث عن حياة هذا العالم الكبير نشير الى أنّ شيخنا وعلى عظمة شأنه قد زار أهم المدارس العلمية والجامعات في زمانه، وعلى رأسها زيارته للحوزة العلمية في النجف الاشرف باعتبارها مركزاً علمياً ينافس الجامعات العلمية الدينية الأخرى: الأزهر في مصر والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب. إضافة الى زيارة بغداد وعلمائها كالشيخ أبي السعادات أسعد الإصفهاني، الشيخ نصيرالدين الطوسي وغيرهم ممن لا يسعنا ذكرهم في هذا البحث الموجز، وقد أقام في بغداد في دار السيد صفي الدين بن الاعسر الحسيني(4). كذلك مدينة الحلّة التي تعتبر من مراكز العلم آنذاك والتقى بعلمائها كالمحقق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن المتوفي عام 676هـ وغيرهم. ثانياً: البيئة التي عاشها ابن ميثم البحراني بعد استعراض حياة الشيخ الجليل ابن ميثم البحراني ومعرفتنا لنشاط الشيخ رحمه الله نريد أن نمر ولو سريعاً على البيئة التي عاشها رضي الله عنه. 1ـ البيئة العلمية: كانت البيئة العلمية في عصر الشيخ ابن ميثم بيئة تضمّ مجاميع من العلماء العظام. القرن السابع انتج علماء أفذاذاً لا يزال تاريخ الفقه الاسلامي يفتخر بهؤلاء، وقد أثروا المدرسة الاسلامية والمكتبة الإسلامية والإنسانية بآثارهم التي لا تزال مصادر لطلاب المعرفة والباحثين في العلوم الاسلامية والأدبية. ومن أمثال هؤلاء العظام العلامة جعفر بن نما الحلي، ويحيى بن سعيد الحلي، والسيد عبدالكريم بن طاووس الحلي، والخواجة نصيرالدين الطوسي العالم المتكلم، وعلي بين سليمان بن يحيى البحراني، والعلامة سليمان بن عبدالله البحراني الذي ألف رسالة خاصة اسماها السلافة البهية في الترجمة الميثمية إذ قال فيها عن شيخنا ابن ميثم البحراني: «هو الفيلسوف المحقق والحكيم المدقق، قدوة المتكلمين وزبدة الفقهاء والمحققين»، كذلك علماء آخرون كالشيخ محمد جهم الأسدي الحلي والشيخ عبدالله بن صالح البحراني والعلامة الشيخ الجرجاني، والمحقق الحلي وغيرهم كثير. 2ـ البيئة الأدبية: وهي الأخرى كانت حافلة بالأدب. الشيخ نفسه كان أديباً بارعاً وله أشعار في الحكم، كما له ومؤلفات بالبلاغة وعلم البيان ومن أشهرها «تجريد البلاغة في المعاني والبيان» وكتابه الآخر في علم البديع، وقد وصف بأنه صاحب الفنون العقلية ذوقاً وإجادة. ومن نوادر الشيخ الأدبية أن له قصة معروفة مع بعض علماء العراق. في أوائل دراساته كان معتكفاً في زاوية العزلة، مشتغلاً في تحقيق الفروع والأصول، فكتب اليه أحد فضلاء الحلّة رسالة تحتوي على عذله وملامته على هذه السيرة وقالوا: العجب منك أنت على شدة مهارتك في جميع العلوم والمعارف وحذاقتك في تحقيق الحقائق وإبداع اللطائف، قاطن في طلول الاعتزال، ومخيم في زاوية الخمول الموجب لخمود نار الكمال، فكتب الشيخ ابن ميثم إليه في جوابه هذه الأبيات وهي لبعض الشعراء المتقدمين: قـد قال قوم بغير علم من لم يكن درهم لديه فقلـــت قــول امرئ حكيــم ما المرء إلاّ بأصغريه لم تلتفت عرسه اليـه مـــا الــــمرء إلاّ بـــدرهميه وكانت للشيخ ابن ميثم البحراني مراسلات ومكاتبات مع كثيرين، والذي يقرأ مؤلفات الشيخ يلاحظ قوة بيانه وروعة أسلوبه وإنشائه. ثالثاً: الاوضاع السائدة أيام الشيخ ابن ميثم البحراني: في هذا المبحث نحاول أن نسلط الضوء على الوضع السياسي والإداري الحاكم والسائد آنذاك لنتعرف على مهارة الشيخ ابن ميثم البحراني وكيفية تعامله مع الواقع وحكمته في اختيار الأصلح والأحسن، على الرغم من تسلط الجهلة على الحكم. عاش ابن ميثم في أواخر العصر العبّاسي وكان العالم الإسلامي مجزّءاً، ومعرّضاً لهجوم المغول، ولم تكن هذه الأخطار قادرة على توحيد الأمة مع الأسف، بسبب التمزّق السياسي والطائفي في ذلك العصر، وواضح كم هي المصاعب التي تواجه العالِم في مثل هذه الظرف التي تبلبل الأفكار وتقلق النفوس. لكنّ عشق العلم والشعور بالكرامة في كنف العلم دفعا بابن ميثم على نشاط علمي واسع، أسس فيه لحركة جديدة فكرية وأدبية، وواجه الشبهات التي تستفحل عادة في مثل هذه الظروف، وكانت الغلبة للمشتغلين بالعلم، الذين حافظوا على المسيرة العلمية وعلى أمتهم من الضياع، وصيّروا بعد حين من الزمان المهاجمين المغول أناساً يخدمون الحضارة الإسلامية. الهوامش: * - رئيس رابطة الثقافة والعلاقات الاسلاميّة. 1 - عن تحقيق حول الشيخ بعنوان (الشيخ ميثم بن علي البحراني) لمحمود النشيط – ص1. 2 - المصدر السابق – ص5. 3 - قواعد المرام – تحقيق السيد أحمد الحسيني. 4 - راجع معجم الآداب في معجم الالقاب ج4 – ص 266 وكتاب أعيان الشيعة ج10 ص 197 للسيد الامين.
|
مقالات أخرى من هذا الكاتب |
• التحديات الراهنة كيف نواجهها
(بازدید: 843)
(موضوع: )
• التفاعل الحضاري في التاريخ الإسلامي - ايران نموذجاً
(بازدید: 1558)
(موضوع: دراسات حضارية)
• الجمع بين الاصالة والمعاصرة
(بازدید: 1840)
(موضوع: دراسات حضارية)
• الحداثة
(بازدید: 698)
(موضوع: فكر إسلامي)
• انتشار الرسوم المسيئة لشخصية برؤية ثقافية حضارية رسول الاسلام (ص)
(بازدید: 882)
(موضوع: دراسات حضارية)
• وثائق / برنامج التعاون المشترك
(بازدید: 1132)
(موضوع: ملتقيات)
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• الشيخ ميثم البحراني رمز من رموز التراث والتواصل الحضاري
(بازدید: 1930)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الشيخ ميثم البحراني على خلفية أوضاع عصره
(بازدید: 1640)
(نویسنده: الشيخ ماجد الماجد)
• الشيخ ميثم البحراني.. يخترق العصر
(بازدید: 1430)
(نویسنده: الدكتور صباح زنكنه)
• العلامة ابن ميثم البحراني موجز حياته العلمية
(بازدید: 1593)
(نویسنده: زهراء مصباح)
• ميثم البحراني حياته ودوره في دعم الحركة العلمية في البحرين
(بازدید: 2797)
(نویسنده: الشيخ حميد مباركة)
• الكواكبي والدين
(بازدید: 1136)
(نویسنده: أسعد السحمراني)
• رمز من رموز التراث والتواصل الحضاري
(بازدید: 1229)
(نویسنده: الشيخ ميثم البحراني)
• كيف ينبغي النظر إلى ظاهرة الشيخ ميثم البحراني؟
(بازدید: 1321)
(نویسنده: محمد جابر الانصاري)
• مجدّد العصر
(بازدید: 754)
(نویسنده: إبراهيم محمد جواد)
• ملامح من شخصية العالم المفكر الشيخ ميثم البحراني
(بازدید: 1663)
(نویسنده: السيد محمد بحر العلوم)
• العلامة المطهري / في آرائه الفلسفية والعقائدية
(بازدید: 4025)
(نویسنده: السيد حسن النوري)
• الملف / رجل الإحياء والاستئناف الحضاري
(بازدید: 941)
(نویسنده: مرتضى مطهري)
• احمد صدقي الدجاني رجل الفكر الحضاري
(بازدید: 1594)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الشيخ محيي الدين بن عربي و أثره الحضاري في حوض المتوسط
(بازدید: 1189)
(نویسنده: محمد قجة)
• العلامة محمد تقي القمي رائد للتقريب والنهضة الإسلامية
(بازدید: 2852)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• رائد الدراسات الفارسية في مصر
(بازدید: 987)
(نویسنده: الدكتور صادق خورشا)
• شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي الحلبي
(بازدید: 2526)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• ملف مالك بن نبي
(بازدید: 1273)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الاتجاه النقدي عند الشهرستاني
(بازدید: 1894)
(نویسنده: د. محمد حسيني أبو سعدة)
• شيخ الإشراق
(بازدید: 1697)
(نویسنده: سيد حسين نصر)
|