مشروع الكواكبي اجتماعياً وتربوياً
|
ثقافتنا - العدد 12
دراسات حضارية
محمد قجة
1427
«ملخّص» أفكار الكواكبي ومساعيه الاجتماعية تتلخص في مكافحة فكرة الاستبداد، والاستناد إلى الدين والعلم والاخلاق، والتأكيد على منزلة العقل، والدعوة إلى حكومة دستورية تحترم حرية الفرد، والى ربط العلم بالعمل. اهتمامه بالقضايا الاجتماعية يأتي في سياق اهتمامه بالقضايا السياسية والاقتصادية والدينية، ومن تلك قضايا: المرأة والتعليم والاخلاق، ومستوى المعيشة. قدم الكواكبي برنامجاً للاصلاح متطوّرا متقدّما لايزال حياً، ولانزال بحاجة اليه في حالة الانهيار التي يعيشها العالم الإسلامي. تمهيد: "الرجل والعصر" شهد القرن التاسع عشر حملة من الأحداث والتطورات على المستوى السياسي والفكري والاجتماعي. وتركت هذه الأحداث أثرها على مسار الحركة النهضوية العربية التي ظهرت خلال النصف الثاني من القرن نفسه. فعلى المستوى السياسي كانت أقطار العالم الإسلامي تسير نحو التفكك والانهيار بفعل التدخلات الخارجية والمتاعب الداخلية. في الشرق كانت مملكة الهند الإسلامية تتهاوى تحت ضربات المخططات البريطانية التي استمرت تعمل حتى تم تقسيم شبه جزيرة الهند إلى ثلاث دول خلال القرن العشرين. والهولنديون يحتلون الجزر الأندونيسية، والأسر الحاكمة في إيران وأفغانستان تصطدم بالأطماع الروسية والبريطانية. وكان الشمال الأفريقي عرضة لمؤامرات الاحتلال والتمزيق، فرنسا تحتل الجزائر ثم تونس ثم المغرب، وكذلك أكثر مناطق غرب أفريقيا المسلمة. وبريطانيا تحتل مصر والسودان وكثيراً من دول شرق أفريقيا، وإيطاليا تضع عينها على ليبيا والحبشة. بينما الدولة العثمانية تعيش التراجع والمصاعب بعد قرون من الصراع مع أوربا الطامعة إلى اقتسام ممتلكات السلطنة العثمانية. وشهد القرن نفسه قيام تجربة محمد علي ومحاولته ضم بلاد الشام وإجماع الدول الأوربية على إسقاط تجربته خوفاً من نتائجها على المصالح الأوربية. ورغم محاولات الإصلاح في الدولة العثمانية، فإن حجم الأمراض كان أكبر من تلك المحاولات، وكانت الدولة تسير نحو نهايتها بخطوات متسارعة. أما على المستوى الفكري فقد بدأت ملامح يقظة لحركة فكرية إسلامية منذ القرن الثامن عشر، تمثلت ببعض رجال الفكر الداعين إلى الإصلاح، أو الذين أسهموا ببعض المؤلفات والكتابات. ومن أبرز هؤلاء: - عبد الرحمن الجبرتي ت 1745 م - المرتضى الزبيدي ت 1791م - محمد خليل المرادي ت 1791م - الشوكاني اليمني ت 1822م - أبو القاسم الزياني المغربي ت1834م - محمد بن عبد الوهاب ت 1791م ويلاحظ في هذه الأمثلة لهؤلاء الرجال مدى التنوع الجغرافي والاهتمام الفكري بين التاريخ والدين والأدب والسياسة. وما كان لبعضهم من دور ونتائج على مستويات شتى. ثم تأتي مرحلة ما بعد الاحتلال الفرنسي لمصر على يد نابليون، وتجربة محمد علي، وظهور رجال مثل الشيخ حسن العطار، والشيخ رفاعة الطهطاوي. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومع التوسع في عملية التعليم والبناء أيام «إسماعيل» في مصر، وفتح قناة السويس وإنشاء الأقنية والسبل والطرقات والمدارس ودار الأوبرا، وظهور الصحف، وتبلور طبقة مثقفة أخذت شكل"البورجوازية" – إن جاز التعبير. وكان أن ظهر على الساحة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي وعلي المبارك وفرنسيس مراش وبطرس البستاني، ثم رشيد رضا وفرح انطوان. ورافق ذلك ظهور مدارس وصحافة، وتعليم جامعي، ولكن اللافت أن هذه الأنشطة كانت تلقائية عفوية لم تأت نتيجة برنامج وتخطيط، ولم يتبلور لدى أحد هؤلاء المفكرين مشروع إصلاح متكامل يقدمه بمنهجية وإدراك عميقين. حتى إذا جاء الكواكبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بلور في صحافته وكتبه ما يمكن أن ندعوه منهجاً محدداً للإصلاح وبخاصة في كتابيه:«أم القرى»، و«طبائع الاستبداد». كانت بلاد الشام تعاني أكثر من سواها من وطأة الولاة العثمانيين وفسادهم ومظالمهم. وكانت حركة النهضة العربية قد بدأت تأخذ بعض ملامحها. وتمثل ذلك في الدعوة إلى إحياء التراث العربي ونشر اللغة العربية والتعليم بها، والدعوة إلى حكم ذاتي للعرب أو إلى استقلالهم عن الدولة العثمانية. واتخذت هذه الدعوات أشكالاً شتى من العمل الصحفي والاجتماعي والثقافي وتنظيم الجمعيات والنوادي. ومن المعلوم أن هذه الدعوات توزعت في تيارات ثلاثة: آ-تيار دعا إلى الإصلاح داخل إطار الدولة العثمانية واعتبر الغرب الأوربي عدواً يجب تحاشي التعامل معه. وبالتالي فإن مواجهته يجب أن تكون من خلال الرابطة الإسلامية المتمثلة بالدولة العثمانية. ب- تيار إصلاحي دعا إلى إعطاء العرب حكماً ذاتياً مع إجراء إصلاحات دينية ودستورية داخل الدولة العثمانية التي يجب أن تبقى رمزاً لوحدة المسلمين. ج- تيار دعا إلى الانفتاح على الغرب وإلغاء العلاقة بالدولة العثمانية، وعدم الاهتمام بالتراث القديم. في ظل تلك الدعوات والتيارات ظهر عبد الرحمن الكواكبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكانت مدينة حلب واحدة من أهم المدن في الدولة العثمانية بسبب حجمها الاقتصادي والبشري ودورها التاريخي الطويل. ولد الكواكبي عام 1855م لأسرة معروفة في مدينة حلب بعلمها ونسبها ودورها في القضاء والفقه. وكان للأسرة مدرسة هي المدرسة الكواكبية تابع الكواكبي تعلمه فيها بعد دراسة أولية في انطاكية برعاية خالته. وشملت دراسته العربية والتركية والفارسية. ووسّع معارفه في ميادين الأدب والشريعة والفلسفة والتاريخ. كان الكواكبي في السابعة عشرة من عمره حينما عين محرراً في جريدة «فرات» الرسمية التي كانت تصدر في حلب بالعربية والتركية. وبقي فيها أربع سنوات. وكان في الثانية والعشرين حينما أصدر مع هاشم العطار عام 1877 جريدة «الشهباء» الخاصة التي أغلقها الوالي بعد ستة عشر عدداً. وعاود الكواكبي إصدار جريدة أخرى هي «اعتدال» عام 1879. وأوقفت بعد عشرة أعداد. وتولى الكواكبي في حلب عدداً من الأعمال كرئاسة البلدية، وإدارة المطبعة الرسمية، ورئاسة غرفة التجارة، ورئاسة المصرف الزراعي، وغير ذلك. وكان في كل تلك الأعمال لا ينقطع عن ممارسة النقد والاحتجاج في صحافته ومجالسه وكتبه، مما أدى إلى اعتقاله ومحاكمته والحكم عليه بالإعدام. ولكن المحاكمة أعيدت في بيروت وبُرئت ساحة الكواكبي. وكان أن هاجر إلى مصر عام 1899 بعد أن أعيته السبل في حلب. وهناك استأنف نشاطه الصحفي والفكري في عدد من الصحف. كما استكمل كتابه «طبائع الاستبداد» بعد أن كان قد كتب «أم القرى» خلال وجوده في حلب. وتوفي 1902، ويقال أنه توفي مسموماً. ويتحدث حفيده د.عبد الرحمن الكواكبي فيقول: "سأكتفي في وصف شخصيته بإيراد أقوال من عاصروه وعاشروه، فأعمامنا وعمّاتنا يتحدثون عنه كأب طيب رحيم، شديد العطف عليهم، كثير المزاح، دمث الأخلاق، حلو الحديث، شديد اللطافة، كثير الاهتمام بتفاصيل حياة أسرته. وصفه عمّنا د.أسعد في مجلة الحديث بأنه "كان ربعة إلى الطول أقرب، قوي البنية، صحيح الجسم، عصبي المزاج بتأنٍ، أشهل العينين، أزج الحواجب، أبيض اللون، واسع الفم، عريض الصدر، أسود شعر الرأس والذقن، متأنقاً في لباسه، جسوراً غير هيّاب فيما يعزم عليه، يتكلم بجهر هادئ وسلاسة وابتسام، يحس السباحة والصيد والفروسية". ويصفه ابراهيم سليم النجار في الضاد بأنه «ربع القامة، تميل إلى الطول قليلاً، أبيض الوجه بياضاً مشرباً بشيء قليل من الحمرة، شأن سكان البلاد الباردة، معتم الرأس وقد أحاط خدّيه بلحية قصيرة كانت كالإطار لوجهه، مدّ فيها الشيب خيوطه، وكان في نحو الخمسين من سنيه، غير أنه كان كثير النشاط، سريع الحركة، شديد العزم، يتكلم بشيء من الشدة والحزم، ولو لم يكن شيخاً دينياً لكان قائد جيش فاتح، فلقد كان في الحقيقة ثورياً بروحه وميوله». ويتحدث عنه الشيخ رشيد رضا في رثائه له عند وفاته في مجلة المنار، فيقول عنه: «رجل عظيم من رجال الإصلاح الإسلامي، وعالم عامل من علماء العمران، وحكيم من حكماء الاجتماع البشري...وكان صاحب عزيمة، لا يهاب حاكماً ولا يخاف ظالماً»، ويصفه الشيخ رشيد رضا أيضاً بأنه:«...وكان من أخلاقه الراسخة الحلم والأناة والرفق والنزاهة والعزة والشجاعة والتواضع والشفقة وحب الضعفاء. وقد كنت ككل من عرفه معجباً بأناته حتى كنت أقول : إنني أراه يتروى في ردّ السلام ويتمكث في جواب ما يجيبه عدة ثوان، ولا أكاد أعرف أخلاقاً أعصى على الانتقاد من أخلاقه...». ويتحدث عبد المسيح الانطاكي في جريدة القاهرة، فيقول عن الكواكبي إنه:«نال إجازة التدريس في المدرسة الكواكبية المختصة بأسرته وهو في العشرين من عمره بعدما أظهر من النجابة والذكاء ما ادهش جميع من عرفوه. وقد حدثنا، رحمه الله، عن نفسه وهو يذكر لنا تاريخه، أن أول يوم دخل فيه المدرسة الكواكبية كأستاذ وهو في عنفوان شبابه، تلقاه أبوه على مصطبة الجامع وقبله من جبهته فرحاً، وقال له (إنني مسرور بهذا النجاح الظاهر عليك والذكاء المنبعث من عينيك، ولكنني أقرأ على جبهتك ما لا يسرني من مستقبلك)، وبكى بكاء مرّاً. قال فوقفت إلى جانبه مبهوتاً لا ادري سبباً لبكائه في ساعة حقق الله فيها أمانيه بي. وكان السيد عبد الرحمن كلما تذكر هذه الحادثة بكى أباه ولا سيما بعد أن صدقت كلماته فيه». وقال فيه العلامة محمد كرد علي في مجلة الهلال:«رجل سيماء الفضل في وجهه، ودلائل سعة العلم في حديثه، لم تتح لي معاشرته إلا برهة وجيزة، ولكن الفضل لا يخفى، وكان كبيراً في عقله، كبيراً في همته، كبيراً في علمه، وكان خلاباً للألباب، إذا ضحك وإياه ناد لا تريد فراقه من بعد. كانت عليه سيماء الكآبة مما مني به، ومع تمسكه بالإسلام، لم يكن متعصباً، يأنس بمجلسه المسلم والمسيحي واليهودي على السواء، لأنه كان يرى رابطة الوطن فوق كل رابطة». وتحدث كثيرون عن شخصيته عند وفاته، مثل يعقوب صروف الذي كتب في المقتطف يقول:"وكان يقول الحق ولو على نفسه، ومن كان هذا حاله يقاسي الأمرين، ولا يهدأ له بال، فكان ينصح بعضهم بالرجوع عن الجور والعسف، فحنقوا عليه من جراء ذلك، وتواطأ بعض العمال مع الأعيان عليه وساموه من ضروب التنكيل ألواناً، فصبر على ما أصابه مما يصيب في العادة المنورين العقلاء في البلاد الشرقية. ومن صفاته أنه ما توانى في أمر بدأ فيه، ولا تضجر ولا تململ، وكان رحب الصدر، عاقلاً يخاطب الناس على قدر عقولهم، فهو سياسي محنك مع الساسة، وعمراني اجتماعي مع علماء العمران، وعالم ديني مع علماء الدين، وتاجر مع التجار، وزارع مع الزرّاع، وصانع مع الصنّاع، وعامل مع العمّال وكبير مع الكبراء. بحيث كان الناظر إليه لأول وهلة يقرأ في جبهته إمارات العقل والخبرة الطويلة والعلم الوافر. وإنه كان واسع المادة، بعيد غور العقل...يتكلم عن روية ولا ينطق عن هوى". وكتب عنه احمد أمين في زعماء الإصلاح:«...نزيه النفس، لا يخدعها مطمع ولا يغريها منصب، شجاع فيما يقول ويفعل، مهما جرت عليه شجاعته من سجن وضياع مال وتشريد...». وممن تحدث عنه من معاصريه جرجي زيدان في مجلة الهلال وغيره من أدباء مصر ومثقفيها، كما وصف شخصيته صديقه الشاعر حافظ ابراهيم في بيت الشعر الذي ارتجله عند دفنه حيث قال: هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى قفوا واقرأوا أم الكتاب وسلموا هنا خير مظلوم هنا خير كاتب عليه فهذا القبر قبر الكواكبي تحدثنا بإيجاز عن الكواكبي الإنسان، رجل الأعمال، موظف الدولة، المعلم، الصحافي، المحامي، الرحالة، المناضل، وكل هذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً به كمفكر صاحب عقيدة إصلاحية التزمها في سلوكه المتعدد الجوانب وفي حياته التي لم يتوقف خلالها لحظة عن الدراسة وعن التفكير والتأمل في أحوال دينه وأمته ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فكان كالمصباح المنير يشع نوراً وفكراً. ولكل من كتابيه أنصار من الباحثين يفضلونه على الآخر، فدعاة النهضة الدينية والقومية يعطون أم القرى الأولية، وغيرهم من أنصار الديمقراطية والحرية يعطون الأولية لـ طبائع الاستبداد، كالعقاد مثلاً الذي يقول:«طبائع الاستبداد هو آية الكواكبي». وهناك رأي في «طبائع الاستبداد» لكاتب فارسي لا يعرف من هو مؤلف الكتاب لأن الطبعة الأولى منه كتب عليها محررها هو الرحالة ك، حيث قام بترجمته إلى الفارسية «استجابة للأوامر الصادرة....» ولعلها من مرجع ديني، لأنه لا يعقل أن يصدر مثلها من قبل السلطة الرسمية. وجدت الكتاب في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية. جاء في مقدمة المترجم «عبد الحسين» ما ترجمته: «بسم الله تعالى: لا يخفى على الرأي المنير للعقلاء ذوي الضمير الحي بأن الطبعة الموقرة من طبائع الاستبداد هي من الكتب النفيسة والمفيدة في مجال توعية الشعب وإيقاظه من نوم الجهل وخلق استعداد الرقي والتربية ، وبذلك فهو من أفضل المؤلفات القديمة والجديدة، بل يمكن القول في هذا المجال بأنه لم يؤلف كتاب مثله حتى الآن. ومع أن المؤلف قد أخفى اسمه إلا أن المواضيع تدل على كونها وليدة فكر ناضج شهير وعالم قدير. وحيث إنه مؤلف باللغة العربية والفضلاء الفرس محرومون من الاستفادة من مواضيعه لهذا فأنا العبد الفقير عبد الحسين المترجم واستجابة للأوامر الصادرة قمت بترجمته إلى اللغة الفارسية لتعميم الفائدة للعوام والخواص، والله الموفق والمعين، في شهر شعبان سنة 1325 (1907م)». الإطار العام لفكر الكواكبي: يمكن إيجاز المحصلة الفكرية للكواكبي ضمن النقاط التالية: آ-فكرة الاستبداد: وفي هذا الموضوع يوضح الكواكبي أن الحكومة يجب أن تكون منتخبة ملزمة بقانون، يراقبها الشعب وينسق بين هيئاتها، كي لا تتحول إلى مستبدة ويركز على ضرورة الفصل بين التشريع والتنفيذ مع التنسيق بينهما. والاستبداد مرفوض دينياً وعقلياً، وتجب إزالته. ب- يفرق الكواكبي بين العقيدة الدينية المستندة إلى القرآن، وبين الاجتهادات التي تشكل مجمل التراث. وهو في أفكاره يتضح طابعه الأخلاقي المستند إلى الدين والعلم والتربية. ج-للعقل منزلة كبرى في فكر الكواكبي. وهو يؤكد أن الإسلام بني على العقل، ويؤكد أنه ضد النقل الأعمى، وهو يدعو إلى التوسع بالتعليم وتوعية الرأي العام وبث الحماسة في النفوس. في إطار عقلاني يذكرنا بابن خلدون. د-يدعو الكواكبي إلى حكومة دستورية محددة السلطات تحترم حرية الفرد. ويؤكد أن كل حكومة لا تخضع لمراقبة سوف تتحول إلى مستبدة. هـ- يفرق الكواكبي بين الإسلام والإسلامية. والإسلامية هي المنهج المشتق من الإسلام وهي منطلقه في منهجه الفكري. و-الكواكبي يدعو إلى ربط العلم بالعمل. وهو متفائل بالمستقبل. إنساني النزعة. ز-الكواكبي مفكر عربي النزعة ضمن إطار إسلامي منهجي. ح - تحتل القضايا الاجتماعية والتربوية مكانة بارزة في فكر الكواكبي، وهو يضعها في سياق صلاتها بالقضايا السياسية والاقتصادية والدينية ومن هذه القضايا: المرأة – التعليم – الأخلاق – مستوى المعيشة. الإصلاح الاجتماعي والتربوي: يمكننا تلمس جوانب الدعوة إلى الإصلاح في الميدان الاجتماعي والتربوي في سائر كتابات الكواكبي. كما يمكننا ملاحظة أنها متداخلة مع دعوته إلى الإصلاح السياسي والديني : ولقد أفرد الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد، فصلين: الأول بعنوان: الاستبداد والأخلاق. والثاني بعنوان: الاستبداد والتربية. كما ناقش موضوع الإصلاح الاجتماعي والتربوي من خلال الحوارات التي ضمها كتابه «أم القرى». ووردت على ألسن المشاركين في ذلك المؤتمر، وبخاصة السيد الفراتي الذي هو الكواكبي نفسه، وحواراته مع العارف التاتاري والفقيه الأفغاني والسعيد الإنكليزي ثم في قانون جمعية تعليم الموحدين الذي ختم به كتابه «أم القرى» حيث ركز على موضوع الإصلاح الاجتماعي والتربوي في مقدمة القانون . والقضايا ذات الأرقام: 27-28-29-34-36. ودعونا نتتبع رحلة الكواكبي الإصلاحية في ميادينها الاجتماعية والتربوية: أولاً:في ميدان الأخلاق: يقول الكواكبي: الاستبداد:يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها فيجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه، لأنه لم يملكها حق الملك ليحمده عليها حق الحمد، ويجعله حاقداً على قومه لأنهم عون لبلاء الاستبداد عليه، وفاقداً حب وطنه، لأنه غير آمن على الاستقرار فيه ويود لو انتقل منه، وضعيف الحب لعائلته، لأنه ليس مطمئناً على دوام علاقته معها، ومختل الثقة في صداقة أحبابه. لأنه يعلم منهم أنهم مثله لا يملكون التكافؤ، وقد يضطرون لإضرار صديقهم بل وقتله وهم باكون. أسير الاستبداد لا يملك شيئاً ليحرص على حفظه، لأنه لا يملك مالاً غير معرض للسلب ولا شرفاً غير معرض للإهانة. ولا يملك الجاهل منه آمالاً مستقبلة ليتبعها ويشقى كما يشقى العاقل في سبيلها. الاستبداد يسلب الراحة الفكرية فيضني الأجسام فوق ضناها بالشقاء، فتمرض العقول ويختل الشعور على درجات متفاوتة في الناس. والعوام الذين هم قليلو المادة في الأصل قد يصل مرضهم العقلي إلى درجة قريبة من عدم التمييز بين الخير والشر، في كل ما ليس من ضروريات حياتهم الحيوانية ويصل تسفل إدراكهم إلى أن مجرد آثار الآبهة والعظمة التي يرونها على المستبد وأعوانه تبهر أبصارهم، ومجرد سماع ألفاظ التفخيم في وصفه وحكايات قوته وصولته يزيغ أفكارهم، فيرون ويفكرون أن الدواء في الداء، فينصاعون بين يدي الاستبداد انصياع الغنم بين أيدي الذئاب حيث هي تجري على قدميها جاهدة إلى مقر حتفها. ولهذا كان الاستبداد يستولي على تلك العقول الضعيفة للعامة فضلاً عن الأجسام فيفسدها كما يريد، ويتغلب على تلك الأذهان الضئيلة فيشوش فيها الحقائق بل البديهيات كما يهوى، فيكون مثلهم في انقيادهم الأعمى للاستبداد ومقاومتهم للرشد والإرشاد، مثل تلك الهوام التي تترامى على النار، وكم هي تغالب من يريد حجزها على الهلاك. ولا غرابة في تأثير ضعف الأجسام على الضعف في العقول، فإن في المرضى وخفة عقولهم، وذوي العاهة ونقص إدراكهم، شاهداً بيناً كافياً يقاس عليه نقص عقول الأسراء البؤساء بالنسبة إلى الأحرار السعداء، كما يظهر الحال أيضاً بأقل فرق بين الفئتين من الفرق البين في قوة الأجسام وغزارة الدم واستحكام الصحة وجمال الهيئات. ربما يستريب المطالع اللبيب الذي لم يتعب فكره في درس طبيعة الاستبداد، من أن الاستبداد المشؤوم كيف يقوم على قلب الحقائق، مع أنه إذا دقق النظر يتجلى له أن الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان. يرى أنه كم مكن بعض القياصرة والملوك الأولين من التلاعب بالأديان تأييداً لاستبدادهم فاتبعهم الناس. ويرى أن الناس وضعوا الحكومات لأجل خدمتهم، والاستبداد قلب الموضوع، فجعل الرعية خادمة للرعاة فقبلوا وقنعوا. ويرى أن الاستبداد استخدم قوة الشعب، وهي هي قوة الحكومة، على مصالحهم لمصالحهم فيرتضوا ويرضخوا. ويرى أنه قد قبل الناس من الاستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. وقد اتبع الناس الاستبداد في تسميته النصح فضولاً، والغيرة عداوة والشهامة عتواً، والحمية حماقة، والرحمة مرضاً، كما جاوره على اعتبار أن النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة. وفي هذا النص للكواكبي يمكننا التوقف عند أبرز نقاطه وهي: آ-الاستبداد يفسد الأخلاق ويمحوها. ب-الاستبداد يفسد الفكر ويفقد الإنسان القدرة على التمييز بين الخير والشر. ج-الاستبداد يعلم الناس النفاق وقلب الحقائق وتزويرها. وهذه الآفات الاجتماعية تنعكس نتائجها على مجمل المجتمع، لأن الأخلاق التي تنمو في ظل الاستبداد تكون معاكسة للفطرة الإنسانية وتفقد المرء ثقته بنفسه، ويعلمه الرياء والخوف والاستكانة. فالإنسان كالشجرة ينمو وفق ما يصادفه من عناية وسقيا. يقول الكواكبي: «الأخلاق أثمار بذرها الوراثة، وتربتها التربية، وسقياها العلم، والقائمون عليها هم رجال الحكومة، بناء عليه تفعل السياسة في أخلاق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر. نعم: الأقوام كالآجام، إن تركت مهملة تزاحمت أشجارها وأفلاذها، وسقم أكثرها، وتغلب قويها على ضعيفها فأهلكها، وهذا مثل القبائل المتوحشة. وإن صادفت بستانياً يهمه بقاؤها وزهورها فدبرها حسبما تطلبه طباعها، قويت وأينعت وحسنت ثمارها، وهذا مثل الحكومة العادلة. وإذا بليت ببستاني جدير بأن يسمى حطاباً لا يعنيه إلا عاجل الاكتساب، أفسدها وخربها، وهذا مثل الحكومة المستبدة. ومتى كان الحطاب غريباً لم يخلق من تراب تلك الديار وليس له فيها فخار ولا يلحقه منها عار، إنما همه الحصول على الفائدة العاجلة ولو باقتلاع الأصول، فهناك الطامة وهناك البوار. فبناء على هذا المثال يكون فعل الاستبداد في أخلاق الأمم فعل ذلك الحطاب الذي لا يرجى منه غير الإفساد. لا تكون الأخلاق أخلاقاً ما لم تكن ملكة مطردة على قانون فطري تقتضيه أولاً وظيفة الإنسان نحو نفسه، وثانياً وظيفته نحو عائلته، وثالثاً وظيفته نحو قومه، ورابعاً وظيفته نحو الإنسانية، وهذا القانون هو ما يسمى عند الناس بالناموس. ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس وهو كالحيوان المملوك العنان، يقاد حيث يراد، ويعيش كالريش يهب حيث يهب الريح، لا نظام ولا إرادة، وما هي الإرادة؟ هي أم الأخلاق، هي ما قيل فيها تعظيماً لشأنها: لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة! هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النبات في تعريفه بأنه متحرك بالإرادة. فالأسير إذن دون الحيوان لأنه يتحرك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه. ولهذا قال الفقهاء: لا نية للرقيق في كثير من أحواله، إنما هو تابع لنية مولاه. وقد يعذر الأسير على فساد أخلاقه، لأن فاقد الخيار غير مؤاخذ عقلاً وشرعاً. أقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس، أنه يرغم حتى الأخيار منهم على إلفة الرياء والنفاق ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غي أنفسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح، لأن أكثر أعمال الأشرار تبقى مستورة، يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة على ذي شر وعقبى ذكر الفاجر بما فيه، ولهذا شاعت بين الأسراء قواعد كثيرة باطلة كقولهم: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وقولهم البلاء موكول بالمنطق. وقد تغالى وعاظهم في سد أفواههم حتى جعلوا لهم أمثال هذه الأقوال من الحكم النبوية، وكم هجوا لهم الهجو و الغيبة بلا قيد، فهم يقرؤون: لا يحب الله الجهر بالسوء من القولويغفلون بقية الآية وهي: إلا من ظلم ويرى الكواكبي أن الأخلاق الحسنة تأتي بالنهي عن المنكر، ويكون ذلك بالنصيحة والتوبيخ. ولكن أين هم الناصحون، والاستبداد يفرز للوعظ والإرشاد منافقين نالوا الوظيفة بالتملق، وبالتالي لا يصدقهم الناس ولا يثقون بهم: يقول الكواكبي: أقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ، أي بحرص الأفراد على حراسة نظام الاجتماع، وهذه الوظيفة غير مقدور عليها في عهد الاستبداد لغير ذوي المنعة من الغيورين وقليل ما هم، وقليلاً ما يفعلون، وقليلاً ما يفيد نهيهم، لأنه لا يمكنهم توجيهه لغير المستضعفين الذين لا يملكون ضرراً ولا نفعاً، بل ولا يملكون من أنفسهم شيئاً، ولأنه ينحصر موضوع نهيهم فيما لا تخفى قباحته على أحد من الرذائل النفسية الشخصية فقط، ومع ذلك فالجسور لا يرى بداً من الاستثناء المخل للقواعد العامة كقوله: السرقة قبيحة إلا إذا كانت استرداداً منها والكذب حرام إلا للمظلوم. والموظفون في عهد الاستبداد للوعظ والإرشاد يكونون مطلقاً، ولا أقول غالباً، من المنافقين الذين نالوا الوظيفة بالتملق، وما أبعد هؤلاء عن التأثير، لأن النصح الذي لا إخلاص فيه هو بذر عقيم لا ينبت، وإن نبت كان رياء كأصله، ثم أن النصح لا يفيد شيئاً إذا لم يصادف أذناً تتطلب سماعه، لأن النصيحة وإن كانت عن إخلاص فهي لا تتجاوز حكم البذر الحي: إن ألقي في أرض صالحة نبت، وإن ألقي في أرض قاحلة مات. أما النهي عن المنكرات في الإدارة الحرة، فيمكن لكل غيور على نظام قومه أن يقوم به بأمان وإخلاص، وان يوجه سهام قوارصه إلى الضعفاء والأقوياء سواء، فلا يخص بها الفقير المجروح الفؤاد، بل يستهدف أيضاً ذوي الشوكة والعناد. وان يخوض في كل واد حتى في مواضيع تخفيف الظلم ومؤاخذة الحكام، وهذا هو النصح الإنكاري الذي يعدي ويجدي والذي أطلق عليه النبي عليه السلام اسم (الدين) تعظيماً لشانه فقال: «الدين نصيحة». والخصال عند الكواكبي ثلاثة أنواع: الأول:الخصال الحسنة الطبيعية، كالصدق والأمانة والهمة والمدافعة والرحمة، والقبيحة الطبيعية كالرياء والاعتداء والجبانة والقسوة، وهذا القسم تضافرت عليه كل الطبائع والشرائع". والنوع الثاني: الخصال الكمالية التي جاءت بها الشرائع الإلهامية كتحسين الإيثار والعفو وتقبيح الزنا والطمع، وهذا القسم يوجد فيه ما لا تدرك كل العقول حكمته أو حكمة تعميمه، فيمتثله المنتسبون للدين احتراماً أو خوفاً. والنوع الثالث: الخصال الاعتيادية، وهي ما يكتسبه الإنسان بالوراثة أو بالتربية أو بالألفة، فيستحسن أو يستقبح على حسب امياله ما لم يضطر إلى التحول عنها. ثم إن التدقيق يفيد أن الأقسام الثلاثة تشتبك وتشترك ويؤثر بعضها في بعض، فيصير مجموعها تحت تأثير الألفة المديدة، بحيث كل خصلة منها ترسخ أو تتزلزل، حسبما يصادفها من استمرار الإلفة أو انقطاعها. أجمع الأخلاقيون على أن الملتبس بشائبة من أصول القبائح الخلقية لا يمكنه أن يقطع بسلامة غيره منها، وهذا معنى: «إذا ساءت فعال المرء ساءت ظنونه». فالمرائي مثلاً ليس من شأنه أن يظن البراءة في غيره من شائبة الرياء، إلا إذا بعد تشابه النشأة بينهما بعداً كبيراً، كأن يكون بينهما مغايرة في الجنس أو الدين أو تفاوت مهم في المنزلة كصعلوك وأمير كبير. ومثال ذلك الشرقي الخائن، يأمن الإفرنجي في معاملته ويثق بوزنه وحسابه ولا يأمن بابن جلدته. وكذلك الإفرنجي الخائن أيضاً قد يأمن الشرقي ولا يأمن مطلقاً ابن جنسه. وهذا حكم صادق على عكس القضية أيضاً أي أن الأمين يظن الناس أمناء خصوصاً أشباهه في النشأة، وهذا معنى "الكريم يخدع" وكم يذهل الأمين في نفسه عن اتباع حكمة الحزم في إساءة الظن في مواقعه اللازمة. إذا علمنا أن من طبيعة الاستبداد ألفة الناس بعض الأخلاق الرديئة، وأن منها ما يضعف الثقة بالنفس، علمنا سبب قلة أهل العمل وأهل العزائم في الأسراء، وعلمنا أيضاً حكمة فقد الأسراء ثقتهم بعضهم ببعض. فينتج من ذلك أن الأسراء محرومون طبعاً من ثمرة الاشتراك في أعمال الحياة، ويعيشون بائسين متواكلين متخاذلين متقاعسين متفاشلين، والعاقل الحكيم لا يلومهم بل يشفق عليهم ويلتمس لهم مخرجاً. ويتبع أثر أحكم الحكماء القائل:" رب ارحم قومي فإنهم لا يعلمون"، "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". وإذا كان فساد الأخلاق ناجماً عن الاستبداد. فكيف يرى الكواكبي الطريق إلى إصلاح الأخلاق الذي إذا حصل صلح معه المجتمع. إنه يرسم لذلك مبادئ هي: آ-وجوب التمسك بالدين وعدم التهاون به. ب-الحكمة البالغة والعزم القوي. ج- تقوية حس الإيمان. د-تنوير العقول بمبادئ الحكمة. هـ- إطلاق زمام العقول ليملك الإنسان إرادته ويقرر عمله. ويشرح الكواكبي ذلك في كتابه طبائع الاستبداد فيقول: «قد اتفق الحكماء الذين أكرمهم الله تعالى بوظيفة الأخذ بيد الأمم في بحثهم عن المهلكات والمنجيات، على أن فساد الأخلاق يخرج الأمم عن أن تكون قابلة للخطاب، وأن معاناة إصلاح الأخلاق من أصعب الأمور وأحوجها إلى الحكمة البالغة والعزم القوي، وذكروا أن فساد الأخلاق يعم المستبد وأعوانه وعماله، ثم يدخل بالعدوى إلى كل البيوت، لا سيما بيوت الطبقات العليا التي تتمثل بها السفلى. وهكذا يغشو الفساد وتمسي الأمة يبكيها المحب ويشمت بها العدو، وتبيت و داؤها عياء يتعاصى على الدواء. وقد سلك الأنبياء عليهم السلام، في إنقاذ الأمم من فساد الخلاق، مسلك الابتداء أولاً بفك العقول من تعظيم غير الله والإذعان لسواه. وذلك بتقوية حسن الإيمان المفطور عليه وجدان الإنسان. ثم جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة، وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته، أي حريته في أفكاره، واختياره في أعماله، وبذلك هدموا حصون الاستبداد وسدوا منبع الفساد ثم بعد إطلاق زمام العقول، صاروا ينظرون إلى الإنسان بأنه مكلف بقانون الإنسانية ومطالب حسن الأخلاق، فيعلمونه ذلك بأساليب التعليم المقنع وبث التربية التهذيبية». ويأتي الكواكبي بمقارنة طريفة بين مفهوم الأخلاق عند الإنسان الغربي من جهة والإنسان الشرقي من جهة ثانية. فيرى أن الأول مادي جاف، والثاني عاطفي وجداني: «الغربي: مادي الحياة، قوي النفس، شديد المعاملة، حريص على الاستئثار، حريص على الانتقام، كأنه لم يبق عنده شيء من المبادئ العالية والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق. فالجرماني مثلاً: جاف الطبع، يرى أن العضو الضعيف من البشر يستحق الموت، ويرى كل فضيلة في القوة، وكل القوة في المال، فهو يحب العلم، ولكن لأجل المال، ويحب المجد ولكن لأجل المال. وهذا اللاتيني مطبوع على العجب والطيش، يرى العقل في الإطلاق، والحياة في خلع الحياء، والشرف في الترف، والكياسة في الكسب، والعز في الغلبة، واللذة في المائدة والفراش. أما أهل الشرق فهم أدبيون، ويغلب عليهم ضعف القلب وسلطان الحب، والإصغاء للوجدان، والميل للرحمة ولو في غير موقعها، واللطف ولو مع الخصم. ويرون العز في الفتوة والمروءة، والغنى في القناعة والفضيلة، والراحة في الأنس والسكينة، واللذة في الكرم والتحبب، وهم يغضبون ولكن للدين فقط، ويغارون ولكن على العرض فقط». ويختم الكواكبي حديثه عن إصلاح الأخلاق بنقطة بالغة الأهمية، هي أن التمسك بالدين لا يعني – فقط- العبادة إذا كانت قولاً بلا فعل. فالأمة التي أعمى الاستبداد بصيرتها صارت لا تعرف من أمور الدين إلا العبادة... «والأمر الغريب، أن كل الأمم المنحطة من جميع الأديان تحصر بلية انحطاطها السياسي في تهاونها بأمور دينها، ولا ترجو تحسين حالتها الاجتماعية إلا بالتمسك بعروة الدين تمسكاً مكيناً، ويريدون بالدين العبادة، ولنعم الاعتقاد لو كان يفيد شيئاً، لكنه لا يفيد أبداً لأنه قول لا يمكن أن يكون وراءه فعل، وذلك أن الدين بذر جيد لا شبهة فيه، فإذا صادف مغرساً طيباً نبت ونما، وإن صادف أرضاً قاحلة مات وفات، أو أرضاً مغراقاً هاف ولم يثمر. وما هي أرض الدين؟ أرض الدين هي تلك الأمة التي أعمى الاستبداد بصرها وبصيرتها وأفسد أخلاقها ودينها، حتى صارت لا تعرف للدين معنى غير العبادة والنسك اللذين زيادتهما عن حدهما المشروع أضر على الأمة من نقصهما كما هو مشاهد في المتنسكين. نعم، الدين يفيد الترقي الاجتماعي إذا صادف أخلاقاً فطرية لم تفسد، فينهض بها كما نهضت الإسلامية بالعرب، تلك النهضة التي نتطلبها منذ ألف عام عبثاً». ويتناول الكواكبي الموضوع نفسه في «أم القرى» في سياق حديثه عن مجمل أسباب الفتور. وذلك في الاجتماع السابع من مؤتمر أم القرى المنعقد يوم الأربعاء 24 ذي القعدة 1316 هـ. ويشرح السيد الفراتي الأسباب الأخلاقية للفتور الذي يعاني منه المسلمون. ويلخص هذه الأسباب فيما يلي: 1-الاستغراق في الجهل والارتياح إليه. 2-استيلاء اليأس من اللحاق بالفائزين في الدين والدنيا. 3-الإخلاد إلى الخمول ترويحاً للنفس. 4-فقد التناصح. 5-انحلال الرابطة الدينية الاحتسابية. 6-فساد التعليم والوعظ والخطابة والإرشاد. 7-فقد التربية الدينية والأخلاقية. 8-فقد قوة الجمعيات وثمرة دوام قيامها. 9-فقد قوة المالية الاشتراكية بسبب التهاون في الزكاة. 10-ترك الأعمال بسبب ضعف الآمال. 11-إهمال طلب الحقوق العامة جبناً وخوفاً من التخاذل. 12-غلبة التخلق بالتملق تزلفاً وصغاراً. 13-تفضيل الارتزاق بالجندية والخدمة الأميرية على الصنائع. 14-توهم أن علم الدين قائم في العمائم وفي كل ما سطر في كتاب. 15-معاداة العلوم العالية ارتياحاً للجهالة والسفالة. 16-التباعد المكاشفات والمفاوضات في الأمور العامة. 17- الذهول عن تطرق الشرك وشآمته. ويشرح السيد الفراتي أن هذه الأسباب موجودة بصورة خاصة في السلطنة العثمانية بسبب الخلل في السياسة والإدارة. وهي موجودة كذلك في بقية الممالك الإسلامية بشكل يقل أو يكثر. أما في الاجتماع الثامن الذي عقد في اليوم التالي، أي يوم الخميس 25 ذي القعدة 1316 هـ. فقد أوضح السيد الفراتي (الكواكبي) أن أعظم أسباب الفتور في المسلمين إنما هي غرارتهم – أي غفلتهم – ويمثل لذلك ببعض الأقوال الخاطئة السائرة على الألسن، من مثل: المؤمن مصاب – إن الله إذا أحب عبده ابتلاه – إن أكثر أهل الجنة البله ويشرح الكواكبي هذه الغرارة فيقول: ومن ( الغرارة ) توهمنا أن شؤون الحياة سهلة بسيطة ، فنظنّ أن العلم بالشيء إجمالاً ونظرياً بدون تمرّن عليه يكفي للعمل به ، فيقدم أحدنا مثلاً على الإمارة بمجرد نظره في نفسه أنه عاقل مدبّر قبل أن يعرف ما هي الإدارة علماً ، ويتمرّن عليها عملاً ، ويكتسب فيها شهرة تعينه على القيام بها . ويقدّم الآخر منّا على الاحتراف مثلاً بيع الماء للشرب ، بمجرّد ظنّه أنّ هذه الحرفة عبارة عن حمله قربة وقدحاً وتعرّضه للناس في مجتمعاتهم ، ولايرى لزوماً لتلقّي وسائل اتقان ذلك عمّن يرشده مثلاً إلى ضرورة النظافة له في قربته وقدحه وظواهر هيئته ولباسه ، وكيف يحفظ برودة مائه وكيف يستبرقه ويوهم بصفائه ليشهّي به ، ومتى يغلب العطش ليقصد المجتمعات ، ويتحرّى منها الخالية له عن المزاحين ، وكيف يتزلّف للناس ويوهم بلسان حاله أنه محترف بالإسقاء كفاً لنفسه عن السؤال . إلى نحو هذا من دقائق إتقان الصنعة المتوقف عليها نجاحه فيها ، وإن كانت صنعته بسيطة حقيرة . ومن (الغرارة) ظننا أن الكياسة في «أدري وأقدر» جواباً للنفس في مقاصد كثيرة شتّى. والحقيقة أن الكياسة لا تتحقق في الإنسان إلاّ في فن واحد فقط يتولّع فيه فيتقنه حق الاتقان كما قال تعالى :ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه (434). فالعاقل من يتخصص بعمل واحد ثم يجاوب نفسه عن كل شيء غيره «لا أدرِ ولا أقدر» ، لأن الأول يتكلف أعمالاً لا يحسنها فتفسد عليه كلها ، والثّاني يتحرى لكل عمل لزم له من يحسنه فتنتظم أموره ويهنأ عيشه . فالملك- مثلاً- وظيفته العامة وانتخاب وزير يثق بأخلاقه، ويعتمد على خبرته في انتخاب بقية الوزراء والسيطرة عليهم في الكليات. فالملك مهما كان عاقلاً حكيماً لا يقدر على إتقان أكثر من وظيفته المذكورة. فالملك إذا تغرر وتنزل للتدخل في أمور السياسة أو الإدارة الملكية أو الأمور الحربية أو القضاء، فلا شك أنه يكون كرب بيت يداخل طباخه في مهنته، ويشارك بستانيه في صنعته، فيفسد طعامه ويبور بستانه، فيشتكي ولا يدري أن آفته من نفسه. ومن "الغرارة" اللوث في الأمور، أي تركها بلا ترتيب، والحكمة قاضية على كل إنسان، ولو كان زاهداً منفرداً في كهف جبل، فضلاً عن سائس رعية أو صاحب عائلة، أن يتخذ ترتيباً في شؤونه، وذلك بأن يرتب: أولاًـ أوقاته حسب أشغاله، ويرتب أشغاله حسب أوقاته. والشغل الذي لا يجد له وقتاً كافياً يهمله بالكلية أو يفوضه لمن يفي حق القيام به عنه. ثانياً- يرتب نفقاته على نسبة المضمون من كسبه، فإن ضاق دخله عن المبرم من خرجه يغير طراز معيشته، ولو بالتحول مثلاً من بلده الغالية الأسعار أو التي مظهره فيها يمنعه من الاقتصاد إلى حيث يمكنه ترتيبها على نسبة كسبه. ثالثاً-يرتب تقليل غائلة عائلته عند أول فرصة، ملاحظاً إراحة نفسه من الكد في دور العجز من حياته، فيربي أولاده ذكوراً وإناثاً على صورة أن كلاً منهم متى بلغ أشده يمكنه أن يستغني عنه بنفسه، معتمداً على كسبه الذاتي ولو في غير وطنه. رابعاًـ يرتب أموره الأدبية على نسبة حالته المادية، أعني يرتب أموره الدينية ولذاته وشهواته الجسمية ترتيباً حسناً، فلا يحمل نفسه منها ما لا تطيق للاستمرار عليه. خامساًـ يرتب ميله الطبيعي للمجد والتعالي على حسب استعداده الحقيقي. فلا يترك نفسه تتطاول إلى مقامات ليس من شأن قوته المادية أن يبلغها إلا بمحض الحظ أي الصدف. وخلاصة البحث أن الغرارة من أقوى أسباب الفتور، وقد أطلت في وصفها وإيضاحها ليتأكد عند السادة الإخوان أن إزالة أسباب الفتور الشخصي ليس من عقيمات الأمور. ثانيــاً- في ميدان قضايا المرأة: يبحث الكواكبي موضوع واقع المرأة من خلال حديثه في كتابه "أم القرى" عن أسباب انحلال الأخلاق والفتور والغرارة والجهل: آـ إن ترك النساء جاهلات يقود إلى انحلال أخلاق المجتمع. ب ـ في تاريخنا كانت النساء يتلقين العلم ويشاركن فيه (عائشة – كثير من الصحابيات – كثير من العالمات). ج ـ يخطئ من يظن أن الجهل يحفظ عفة النساء. فالجاهلة أجسر على الفجور من العالمة. دـ إن جهل النساء يترك أثراً سيئاً في تربية الأولاد. هـ- إن جهل النساء ينعكس سلباً على علاقتهن بأزواجهن. و-المرأة أقدر من الرجل وليست أضعف منه. ف-المرأة حينما تسير وراء الرجل فلكي تسوقه لا لكي تتبعه. ز-في المرأة دهاء اكثر مما لدى الرجل. ي-يؤيد الكواكبي حجاب المرأة وتفرغها لتدبير المنزل. ويربط بين الحجاب ومكارم الأخلاق. يقول الكواكبي في نصه: «ثم قال: إن لانحلال أخلاقنا سبباً مهماً آخر أيضاً يتعلق بالنساء، وهو تركهن جاهلات على خلاف ما كان عليه أسلافنا، حيث كان يوجد في نسائنا كأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي أخذنا عنها نصف علوم ديننا، وكمئات من الصحابيات والتابعيات راويات الحديث والمتفقهات، فضلاً عن ألوف من العالمات والشاعرات اللاتي في وجودهن في العهد الأول بدون إنكار، حجة دامغة ترغم غيرة أنف الذين يزعمون أن جهل النساء أحفظ لعفتهن، فضلاً عن انه لا يقوم لهم برهان على ما يتوهمون، حتى يصح الحكم بأن العلم يدعو للفجور وأن الجهل يدعو للعفة، نعم ربما كانت العالمة أقدر على الفجور من الجاهلة، ولكن الجاهلة أجسر عليه من العالمة. ثم أن ضرر جهل النساء وسوء تأثيره في أخلاق البنين والبنات أمر واضح غني عن البيان. إنما سوء تأثيره على أخلاق الأزواج فيه بعض خفاء يستلزم البحث، فأقول: إن الرجال ميالون بالطبع إلى زوجاتهم، والمرأة أقدر مطلقاً من الرجل في ميدان التجاذب للأخلاق، ولا يتوهم عكس ذلك إلا من استحكم فيه تغرير زوجته له بأنها ضعيفة مسكينة مسخرة لإرادته، حال كون حقيقة الأمر أنها قابضة على زمامه تسوقه كيف شاءت، وبتعبير آخر يغره أنه أمامها وهي تتبعه، فيظن أنه قائد لها، والحقيقة التي يراها كل الناس من حولهما دونه أنها إنما تمشي وراءه بصفة سائق لا تابع. وما قدر دهاء النساء مثل الشريعة الإسلامية، حيث أمرت بالحجب والحجر الشرعيين حصراً لسلطتهن وتفرغهن لتدبير المنزل، فأمرت باحتجابهن احتجاباً محدوداً بعدم إبداء الزينة للرجال الأجانب، وعدم الاجتماع بهم في خلوة أو لغير لزوم. وأمرت باستقرارهن في البيوت إلا لحاجة. ولا شك أنه ما وراء هذه الحدود إلا فتح باب الفجور، وما هذا التحديد إلا مرحمة بالرجال وتوزيعاً لوظائف الحياة». والكواكبي لا يدعو إلى التشدد في مسألة الحجاب. بل يرى أن يكون الحجاب محدوداً بعدم إبداء الزينة أمام الرجال الأجانب. كما يتحدث الكواكبي عن ضرورة التكافؤ في الزواج بين الرجل والمرأة، لأن الرجل ينجر إلى أخلاق زوجته. وكثير من أمراء المسلمين فسدت أخلاقهم بسبب أمهاتهم أو زوجاتهم: «والصينيون، وهم أقدم البشر مدنية، التزموا تصغير أرجل البنات بالضغط عليها لأجل أن يعسر عليهن المشي والسعي في إفساد الحياة الشريفة. ذاك الشرف الذي هو من أهم مقاصد الشرقيين، بخلاف الغربيين الذين لا يهمهم غير التوسع في الماديات والملذات. وقد أمرت الشريعة برعاية الكفاءة في الزوج، وذلك أيضاً مرحمة بالرجال. واكثر الأئمة المجتهدين أغفلوا لزوم تحري الكفاءة في جانب المرأة للرجل، وأوجبوا أن يكون هو فقط كفؤاً لها كي لا تهلكه بفخارها وتحكمها. على أن لرعاية الكفاءة في المرأة للرجل أيضاً موجبات عائلية مهمة، منها: التخير للاستسلام والتخيير لتربية النسل، وللتساهل في ذلك دخل عظيم في انحلال الأخلاق في المدن، لأن التزوج بمجهولات الأصول أو الأخلاق، أو بسافلات الطباع والعادات، أو بالغريبات جنساً أو الرقيقات، مفاسد شتى. لأن الرجل ينجر طوعاً أو كرهاً لأخلاق زوجته، فإن كانت سافلة يتسفل لا محالة، وإن كانت غريبة بغضته في أهله وقومه، وجرته إلى موالاة قومها والتخلق بأخلاقهم. ولا شك أن هذه المفسدة تستحكم في الأولاد اكثر من الأزواج». وربما كان أكبر مسبب لانحلال أخلاق الأمراء من المسلمين أتاهم من جهة الأمهات والزوجات السافلات، إذ كيف يرجى من امرأة نشأت سافلة رقيقة ذليلة أن تترك بعلها، وهو في الغالب أطوع لها من خلخالها، أن يجيب داعي شهامة أو مروءة؟ أو أن تغرس في رؤوس صبيتها أميالا سامية، أو تحمسهم على أعمال خطرة؟ كلا لا تفعل ذلك أبداً. إنما تفعله الشريفات اللاتي تجدن في أنفسهن عزة وشهامة، وهذا هو سر أعاظم الرجال لا يوجدون غالباً إلا من أبناء وبعول نسوة شريفات أو بيوت قروية. وهذا هو سبب حرص أمراء العرب والإفرنج على شرف الزوجات. ثالثـاً: ميدان الناشئة والشـباب يرى الكواكبي قبل أكثر من قرن من اليوم أن هناك شباناً يحبون "التفرنج" ويقلدون الغرب بسطحية. بينما هناك شبان يحافظون على دينهم وكرامتهم. وفي سياق هذين النموذجين من الناشئة والشبان يوضح الكواكبي الصفات التي يريدها لدى شباب عصره وهي: آ-النبل والجهد والعمل. ب-العاطفة الدينية العميقة. ج-العاطفة الوطنية. يقول الكواكبي: «ثم قال: وليعلم أن الناشئة الذين تعقد الأمة آمالها بأحلامهم عسى يصدق منها شيء، وتتعلق الأوطان همتهم عساهم يأتون فعلاً مذكوراً، هم أولئك الشباب ومن في حكمهم المحمديون المهذبون، الذين يقال فيهم أن شباب رأي القوم عند شبابهم الذين يفتخرون بدينهم فيحرصون على القيام بمبانيه الأساسية نحو الصلاة والصوم، ويتجنبون مناهيه الأصلية نحو الميسر والمسكرات. الذين لا يقصرون بناء القصور الفخر عظام نخرها الدهر، ولا يرضون أن يكونوا حلقة ساقطة بين الأسلاف والأخلاف، الذين يعلمون أنهم خلقوا أحراراً فيأبون الذل والإسار. الذين يودون أن يموتوا كراماً ولا يحيون لئاماً، الذين يجتهدون أن ينالوا حياة رضية، حياة قوم كل فرد منهم سلطان مستقل في شؤونه لا يحكمه غير الدين، وشريك أمين لقومه يقاسمهم ويقاسمونه الشقاء والهناء، وولد بار بوطنه لا يبخل عليه بجزء طفيف من فكره ووقته وماله. الذين يحبون وطنهم حب من يعلم انه خلق من ترابه. الذين يعشقون الإنسانية ويعلمون أن البشرية هي العلم، والبهيمية هي الجهالة. الذين يعتبرون أن خير الناس أنفعهم للناس. الذين يعرفون أن القنوط وباء الآمال والتردد وباء الأعمال. الذين يفقهون أن القضاء والقدر هما السعي والعمل. الذين يوقنون أن كل ما على الأرض من أثر هو من عمل أمثالهم البشر، فلا يتخيلون إلا المقدرة ولا يتوقعون من الأقدار إلا خيراً. وأما الناشئة المتفرنجة فلا خير فيهم لأنفسهم فضلاً عن أن ينفعوا أقوامهم وأوطانهم شيئاً وذلك لأنهم لا خلاق لهم، تتجاذبهم الأهواء كيف شاءت، لا يتبعون مسلكاً ولا يسيرون على ناموس مطرد، لأنهم يحكمون الحكمة فيفتخرون بدينهم ولكن لا يعلمون به تهاوناً وكسلاً. ويرون غيرهم من الأمم يتباهون بأقوامهم ويستحسنون عاداتهم ومميزاتهم فيميلون لمناظرتهم، ولكن لا يقوون على ترك التفرنج كأنهم خلقوا أتباعاً. ويجدون الناس يعشقون أوطانهم فيندفعون للتشبه بهم في التشبيب والإحساس فقط، دون التشبث بالأعمال التي يستوجبها الحب الصادق. والحاصل أن شؤون الناشئة المتفرنجة أيضاً لا تخرج عن تذبذب وتلون ونفاق، يجمعها وصف:"لا خلاق لهم". والواهنة خير منهم، متمسكون بالدين ولو رياء، وبالطاعة ولو عمياء، على أنه يوجد في المتفرنجة أفراد غيورون كالراسخين من أحرار الأتراك، الملتهبين غيرة تقتضي احترام مزيتهم». والكواكبي يعيب على رجال الدين عدم إحساسهم بالمسؤولية وتقصيرهم في توجيه الناشئة نحو المثل والقيم الأخلاقية. وهو يشتد في حملته على هؤلاء الواهنة من رجال السياسة وشيوخ دين وسراة قوم متخاذلين: «وهؤلاء الواهنة يحق لهم أن تشق عليهم مفارقة حالات ألفوها عمرهم، كما قد يألف الجسم السقم فلا تلذ له العافية. فإنهم منذ نعومة أظفارهم تعلموا الأدب مع الكبير، يقبلون يده أو ذيله أو رجله، وألفوا الاحترام فلا يدوسون الكبير ولو داس رقابهم. وألفوا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق. وألفوا الانقياد ولو إلى المهالك. وألفوا أن تكون وظيفتهم في الحياة دون النبات، ذاك يتطاول وهم يتقاصرون، ذاك يطلب السماء وهم يطلبون الأرض كأنهم للموت مشتاقون. وهكذا طول الألفة على هذه الخصال قلب في فكرهم الحقائق، وجعل عندهم المخازي مفاخر، فصاروا يسمون التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحة، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضاء بالظلم طاعة. كما يسمون دعوى الاستحقاق غروراً، والخروج عن الشان الذاتي فضولاً، ومد النظر إلى الغد أملاً، والإقدام تهوراً، والحمية حماقة، والشهامة شراسة، وحرية القول وقاحة، وحب الوطن جنوناً». رابعــاً- في ميدان العلاقات الاقتصادية يتحدث الكواكبي خلال الاجتماع الثالث، يوم الخميس 18 ذي القعدة 1316 هـ، وعلى لسان الفقيه الأفغاني فيقول: «وذكر أن الداء العام فيما يراه هو الفقر الآخذ بالزمام، لأن الفقر قائد كل شر، ورائد كل نحس، فمنه جهلنا، ومنه فساد أخلاقنا، بل منه تشتت آرائنا حتى في ديننا، ومنه فقد إحساسنا، ومنه إلى كل ما نحن فيه، أو نتوقع أننا سنوافيه. فهذه فطرتنا، لا نقص فيها عن غيرنا، وعددنا كثير، وبلادنا متواصلة، وأرضنا مخصبة، ومعادننا غنية، وشرعنا قويم، وفخارنا قديم، فلا ينقصنا عن الأمم الحية غير القوة المالية، التي أصبحت لا تحصل إلا بالعلوم والفنون العالية، وهذه لا تحصل إلا بالمال الطائل، فوقعنا في مشكل الدور، وعسى أن نهتدي لفكه سبيلاً، وإلا فيحيق بنا ناموس فناء الضعيف في القوي وبيننا الجاهل والعالم. ومن أعظم أسباب فقر الأمة: أن شريعتنا مبنية على أن في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للبائس والمحروم، فيؤخذ من الأغنياء ويوزع على الفقراء، وهذه الحكومات الإسلامية، قد قلبت الموضوع، فصارت تجبي الموال من الفقراء والمساكين وتبذلها للأغنياء ». ويركز الكواكبي في هذا الجانب على النقاط التالية: آ-قوة المال وعلاقته بالاستبداد. ب-العلاقة بين الاستبداد السياسي والاستبداد الاجتماعي ج-العلاقة بين قوة المال والتحصيل العلمي د-صلة كل القضايا الاقتصادية بالدين والمجتمع والسياسة. هـ- الدعوة إلى وضع ميزانيات منهجية مدروسة مبرمجة. ز-الدعوة إلى معيشة الاشتراك العمومي. خ-إن الأموال موجودة لدى المسلمين ولكنهم لا يحسنون التصرف بها. ط-الشريعة الإسلامية وضعت الأسس الكفيلة بالعدالة الاجتماعية ي- ضرورة اهتمام المسلمين بتطوير حياتهم اليومية من حيث أيام العمل والعطل والاستراحات والترفيه. وهذا مجمل قول الكواكبي في هذا الميدان: «والشريعة الإسلامية، هي أول شريعة ساقت الناس والحكومات لأصول البودجة المؤسس عليه فن الاقتصاد المالي، الإفرادي والسياسي. ويخيل لي أن سبب هذا الفتور، الذي أخل حتى في الدين، هو فقد الاجتماعات والمفاوضات، وذلك أن المسلمين في القرون الأخيرة قد نسوا بالكلية حكمة تشريع الجماعة والجمعة وجمعية الحج، وترك خطبائهم ووعاظهم، خوفاً من أهل السياسة، التعرض للشؤون العامة. كما أن علماءهم صاروا يسترون جبنهم بجعلهم التحدث في الأمور العمومية والخوض فيها من الفضول والاشتغال بما لا يغني، وأن إتيان ذلك في الجوامع من اللغو الذي لا يجوز، وربما اعتبروه من الغيبة أو التجسس أو السعي بالفساد، فسرى ذلك إلى أفراد الأمة، وصار كل شخص لا يهتم إلا بخويصة نفسه وحفظ حياته في يومه، كأنه خلق أمة واحدة، وسيموت غداً، جاهلاً أن له حقوقاً على الجامعة الإسلامية والجامعة البشرية، وأن لهما عليه مثلها، ذاهلاً عن انه مدني بالطبع، لا يعيش إلا بالاشتراك، ناسياً أو جاهلاً أوامر الكتاب والسنة له بذلك (مرحى). ثم بتوالي القرون والبطون على هذه الحال، تأصل في الأمة فقد الإحساس، إلى درجة أنه لو خربت هذه الكعبة، والعياذ بالله تعالى، لما تقطبت الحياة اكثر من لحظة، ولا أقول لما زاد تلاطم الناس على سبعة أيام، كما ورد في الأثر، لأن المراد بأولئك الناس أهل خزينة العرب إذ ذاك. وإذا دققنا النظر في حالة الأمم الحية المعاصرة، وهي ليس عندها ما عندنا من الوسائل الشريفة للاجتماعات والمفاوضات، نجدهم قد احتالوا للاجتماعات ، ولاسترعاء السمع والاستلفات بوسائل شتى: 1-منها تخصيصهم يوماً في الأسبوع للبطالة والتفرغ من الأشغال الخاصة، لتحصل بين الناس الاجتماعات، وتنعقد الندوات، فيتباحثون ويتناجون. 2-ومنها تخصيصهم أياماً، يتفرغون فيها لتذاكر مهمات الأعمال لأعاظم رجالهم الماضين، تشويقاً للتمثل بهم. 3-ومنها إعدادهم في مدنهم ساحات ومنتديات، تسهيلاً للاجتماع والمذاكرات وإلقاء الخطب وإبداء التظاهرات. 4-ومنها إيجادهم المنتزهات الزاهية العمومية، وإجراء الاحتفالات الرسمية والمهرجانات بقصد السوق للاجتماعات. 5-ومنها إيجادهم محلات التشخيص المعروف(بالكوميديا) و (التياترو)، بقصد إراءة العبر واسترعاء السمع للحكم والوقائع، ولو ضمن أنواع من الخلاعة التي اتخذت شباكاً لمقاصد الجمع والإسماع، ويعتبرون أن نفعها أكبر من ضرر الخلاعة. 6-ومنها اعتناؤهم غاية الاعتناء بتعميم معرفة تواريخهم الملية، المفصلة المدمجة بالعلل والأسباب، تمكيناً لحب الجنسية. 7-ومنها حرصهم على حفظ العاديات المنبهة، وادخار الآثار القديمة المنوهة، واقتناء النفائس المشعرة بالمفاخر. 8-ومنها إقامتهم النصب، المفكرة بما نصبت له من مهمات الوقائع القديمة. 9-ومنها نشرهم في الجرائد اليومية كل الوقائع والمطالعات الفكرية». ويضع الكواكبي في بحث «الاستبداد والمال» أصولاً وفق منهجيته التي يدعوها الإسلامية للإصلاح الاقتصادي، وخلاصتها: آ-تقرير أنواع العشور والزكاة وتقسيمها على أنواع المصارف العامة وأنواع المحتاجين حتى المدينين. ب-تقرير احكام تمنع التواكل الارتزاق وتلزم كل فرد بالعمل. ج-ترك الأراضي الزراعية ملكاً لعامة الأمة يعمل بها الفلاحون ويؤدون إلى بيت المال ضريبة الخمس. د-وضع قواعد شرعية عامة وجزئية والطلب من الحكومة ان تنفذها. هـ- أن يكون إحراز المال بوجه مشروع ومن غير احتكار. و-أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة. خامســاً- في ميدان التعليم: أفرد الكواكبي في قانون الجمعية الذي أقر يوم الاثنين 29 ذي القعدة 1316 هـ عشر قضايا لمعالجة موضوع التعليم. كما تحدث في مقدمة القانون عن حالة الفتور والجهل وتهاون العلماء وضرورة التنوير بالعلم والتعليم. وهذه القضايا من الرقم 27 حتى الرقم 36. وهي على النحو التالي: قضية (27): إيقاظ فكر علماء الدين إلى الأمور الخمسة الآتية، وتنشيطهم للسعي في حصولها ومساعدتهم بإرادة أسهل الوسائل وأقربها، وهي: 1-تعميم القراءة والكتابة مع تسهيل تعليمهما. 2-الترغيب في العلوم والفنون النافعة التي هي من قبيل الصنائع مع تسهيل تعليمها وتلقيها. 3-تخصيص كل من المدارس والمدرسين لنوع واحد أو نوعين من العلوم والفنون ليوجد في الأمة أفراداً نابغون متخصصون. 4-إصلاح أصول تعليم اللغة العربية والعلوم الدينية وتسهيل تحصيلها، بحيث يبقى في عمر الطالب بقية يصرفها في تحصيل الفنون النافعة. 5-الجد وراء توحيد أصول التعليم وكتب التدريس. قضية (28): السعي في تأليف متون مختصرة بسيطة واضحة على ثلاث مراتب: 1-لتعليم المبتدئين أو المكتفين بالمبادئ. 2-لتعليم المنتهين الطالبين الإتقان. 3-لتعليم النابغين الراغبين في الاختصاص. قضية (29): الاهتمام في جعل المتعلمين والمعلمين على أربع مراتب: 1-العامة ومعلموهم أئمة المساجد والجوامع الصغيرة. 2-المهذبون ومعلموهم مدرسو المدارس العمومية والجوامع الكبيرة. 3-العلماء ومعلموهم مدرسو المدارس المختصة بالعلوم العالية. 4-النابغون ومعلموهم الأفاضل المتخصصون. قضية (30): السعي لدى أمراء الأمة بمعاملة كافة طبقات العلماء معاملة الأطباء، أي بالحجر رسمياً على من يتصدر للتدريس والإفتاء والوعظ والإرشاد ما لم يكن مجازاً من قبل هيئة امتحانية رسمية وموثوق بها تقام في العواصم. قضية (31): التوسل لدى الأمراء أن يعطوا لأحد العلماء الغيورين في كل بلدة صفة محتسب ديني على جماعة المسلمين في تلك البلدة، ويجعلون له مستشارين منتخبين من عقلاء الأهالي، وتكليف الجمعية الاحتسابية بأن تقوم بالنصيحة للمسلمين بدون عنف، وبتسهيل تعميم المعارف والمحافظة على الأخلاق الدينية. قضية (32): التوسل لنيل العلماء ما يستحقون من رزق وحرمة، ومنعهم عن كل ما يخل بصفتهم وشرفهم. قضية (33): التوسل لحمل أهل الطرائق على الرجوع إلى الأصول الملائمة للشرع والحكمة في الإرشاد وتربية المريدين. وتكليف كل فرقة منهم بوظيفة مخصوصة يخدمون بها الأمة الإسلامية من نحو اختصاص فرقة القادرية مثلاً بإعاشة وتعليم الأيتام، وأخرى بمواساة المساكين وأبناء السبيل، وجماعة بتمريض الفقراء والبائسين، وفئة بالتشويق إلى الصلاة، وغيرها بالتنفير عن المسكرات. ونحو ذلك من المقاصد الخيرية الشرعية، فيكون عملهم هذا عوضاً عن العطل والتعطيل. قضية (34): حمل العلماء والمرشدين وجمعيات الاحتساب على السعي لإرشاد أفراد الأمة، خصوصاً أحداثها، إلى قواعد معاشية وأخلاقية متحدة الأصول تلائم الإسلامية والحرية الدينية، وتفيد تريض الأجسام وتقوية المدارك، وتثمر النشاط للسعي والعمل، وتولد الحمية والأخلاق الشريفة. قضية (35): تعتني الجمعية بصورة مخصوصة بوضع مؤلفات أخلاقية ملائمة للدين والزمان، وتكون على مراتب من بسيطة ومتوسطة وعالية، بحيث تقوم هذه المؤلفات مقام مطولات الصوفية. ونقوم بوضع مؤلفات اللغة، وسطى عربية لا مضرية ولا علمية، وجعلها لغة لبعض الجرائد ولمؤلفات الأخلاق ونحوها مما يهم نشره بين العوام فقط. قضية (36): تعتني الجمعية في حمل العلماء وجمعيات الاحتساب على تعليم الأمة ما يجب عليها شرعاً من المجاملة في المعاملة مع غير المسلمين، وما تقتضيه الإنسانية والمزايا الإسلامية من حسن معاشرتهم ومقابلة معروفهم بخير منه، ورعاية الذمة والتأمين والمساواة في الحقوق، وتجنب التعصب الديني أو الجنسي بغير حق. كما يخصص الكواكبي في كتابه الهام، "طبائع الاستبداد" بحثاً كاملاً بعنوان:"الاستبداد والتربية". ويركز في هذا البحث على النقاط التالية: آ-التربية ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس. ب-الاستبداد عدو التربية وسبب فسادها. ج-التربية تمر بمراحل حسب العمر ولكل مرحلة دور ورائد تربوي: الأم – الأب – المعلم – المجتمع..... د-التربية الفردية جزء من التربية الاجتماعية ومن القانون العام. هـ- الحكومات هي التي تتولى مسؤولية التربية. و-التربية علم وعمل. ز-التربية هي هدف الأمم وبدونها لا تقوم لها قائمة. وهذه أمثلة من آراء الكواكبي في الميدان التربوي: «التربية ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، فأهم أصولها وجود المربين وأهم فروعها وجود الدين.وجعلت الدين فرعاً لا أصلاً، لأن الدين علم لا يفيد العمل إذا لم يكن مقروناً بالتمرين. وهذا هو سبب اختلاف الأخلاف من علماء الدين عند الإسلام عن أمثالهم من البراهمة والنصارى، وهو سبب إقبال المسلمين في القرن الخامس وفيما بعده، على قبول أصول الطرائق التي كانت لباً محضاً لما كانت تعليماً وتمريناً أي تربية للمريدين، ثم خالطها القشر، ثم صارت قشراً محضاً، ثم صار أكثرها لهواً أو كفراً. والاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن، وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق، وأما العبادات منه فلا يمسها لأنها تلائمه في الأكثر. ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات فلا تفيد في تطهير النفوس شيئاً، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر لفقد الإخلاص فيها تبعاً لفقده في النفوس، التي ألفت أن تتلجأ وتتلوى بين يدي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرياء والخداع والنفاق، ولهذا لا يستغرب في الأسير الأليف تلك الحال، أي الرياء، أن يستعمله أيضاً مع ربه، ومع أبيه وأمه ومع قومه وجنسه، حتى ومع نفسه. التربية تربية الجسم وحده إلى سنتين، هي وظيفة الأم أو الحاضنة، ثم تضاف إليها تربية النفس إلى السابعة، وهي وظيفة الأبوين والعائلة معاً، ثم تضاف إليها تربية العقل إلى البلوغ، وهي وظيفة المعلمين والمدارس، ثم تأتي تربية القدوة بالأقربين والخلطاء إلى الزواج، وهي وظيفة الصدفة، ثم تأتى تربية المقارنة، وهي وظيفة الزوجين إلى الموت أو الفراق. ولا بد من أن تصحب التربية من بعد البلوغ، تربية الظروف المحيطة، وتربية الهيئة الاجتماعية، وتربية القانون أو السير السياسي، وتربية الإنسان نفسه». «الحكومات المنتظمة، هي التي تتولى ملاحظة تسهيل تربية الأمة من حين تكون في ظهور الآباء، وذلك بن تسن قوانين النكاح، ثم تعتني بوجود القابلات والملقحين والأطباء، ثم تفتح بيوت الأيتام اللقطاء، ثم تعد المكاتب والمدارس للتعليم من الابتدائي الجبري إلى أعلى المراتب، ثم تسهل الاجتماعات وتمهد المسارح وتحمي المنتديات، وتجمع المكتبات والآثار، وتقيم النصب المذكرات، وتضع القوانين المحافظة على الآداب والحقوق، وتسهر على حفظ العادات القومية، وإنماء الاحساسات المالية، وتقوي الآمال، وتيسر الأعمال، وتؤمن العاجزين فعلاً عن الكسب من الموت جوعاً، وتدفع سليمي الجسام إلى الكسب ولو في أقصى الأرض، وتحمي الفضل وتقدر الفضيلة. وهكذا تلاحظ كل شؤون المرء ولكن من بعيد، كي لا تخل بحريته واستقلاله الشخصي، فلا تقرب منه إلا إذا جنى جرماً لتعاقبه، أو مات لتواريه». «التربية علم وعمل. وليس من شأن الأمم المملوكة شؤونها، أن يوجد فيها من يعلم التربية ولا من يعلمها. حتى إن الباحث لا يرى عند الأسراء علماً في التربية مدفوناً في الكتب فضلاً عن الأذهان. أما العمل فكيف يتصور وجوده بلا سبق عزم، وهو بلا سبق يقين، وهو بلا سبق علم. وقد ورد في الأثر«النية سابقة العمل». وورد في الحديث:«إنما الأعمال بالنيات». بناء عليه ما أبعد الناس المغصوبة إرادتهم، المغلولة أيديهم، عن توجيه الفكر إلى مقصد مفيد كالتربية، أو توجيه الجسم إلى عمل نافع كتمرين الوجه على الحياء والقلب على الشفقة». «ثم أن التربية التي هي ضالة الأمم وفقدها هو المصيبة العظمى، التي هي المسألة الاجتماعية حيث الإنسان يكون إنساناً بتربيته، وكما يكون الآباء يكون الأبناء، وكما تكون الأفراد تكون الأمة، والتربية المطلوبة هي التربية المرتبة على إعداد العقل للتمييز، ثم على حسن التفهيم والإقناع، ثم على تقوية الهمة والعزيمة، ثم على التمرين والتعويد، ثم على حسن القدوة والمثال، ثم على المواظبة والإتقان، ثم على التوسط والاعتدال، وأن تكون تربية العقل مصحوبة بتربية الجسم، لأنهما متصاحبان صحة واعتلالاً، فإنه يقتضي تعويد الجسم على النظافة وعلى تحمل المشاق، والمهارة في الحركات، والتوقيت في النوم والغذاء والعبادة، والترتيب في العمل وفي الرياضة والراحة، وأن تكون تلكما التربيتين مصحوبتين أيضاً بتربية النفس على معرفة خالقها ومراقبته والخوف منه. فإذا كان لا مطمع في التربية العامة على هذه الأصول بمانع طبيعة الاستبداد، فلا يكون لعقلاء المبتلين به إلا أن يسعوا أولاً وراء إزالة المانع الضاغط على العقول، ثم بعد ذلك يعتنوا بالتربية حيث يمكنهم حينئذ أن ينالوها على توالي البطون والله الموفق». وهكذا يبرز موضوع التربية والتعليم واحداً من أبرز الموضوعات التي شغلت الكواكبي في حياته وكتاباته، مؤكداً على مدى ما يلحقه الاستبداد من ضرر بالعملية التربوية،، ومؤكداً دور العلم في تحرير الشعوب، ودور العلم في القضاء على الاستبداد. وكان الكواكبي يرى أن العلوم الدينية لا تكفي وحدها بل لا بد من رفدها بالعلوم الفلسفية والطبيعية والأدبية في سبيل تنوير أذهان الناشئة. سادسـاً- في المنهج والبرنامج: لم يكتف الكواكبي بوصف الداء وشرح أسبابه وأعراضه بل إنه انتقل إلى رسم العلاج بمنهجية عالية ودقة، مستخدماً في ذلك لغة رصينة أكاديمية، وبرنامجاً واعياً للإصلاح يشمل ميادين المجتمع. وقد رأى الكواكبي أن الاستبداد هو على العلل في ميادين الفكر والسياسة والتربية والخلاق والمال. ولكنه لم يكتف بموقف البكاء على الأطلالـ بل انه شخص لنا المرض وشرع يصف العلاج على الفور. ولعنة الاستبداد تقابلها لدى الكواكبي بدائل دعا إليها تتمثل في: أ- المساواة, ب- الحرية. ت- العدالة. ث- الشورى الدستورية. وللوصول إلى هذه البدائل الإيجابية، لا بد من توفر مبادئ للعمل خلاصتها: 1-إن الأمة لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية. 2-الاستبداد لا يقاوم بالشدة بل بترقي الأمة في الإدراك والإحساس والتعليم والتحميس. 3-قبل مقاومة الاستبداد يجب تهيئة البديل. والبديل الشامل لكل هذه الأسس والمبادئ هو المنهج الذي يسميه الكواكبي:«الإسلامية». وهي البديل العام عن الاستبداد في شتى ميادين الحياة والفكر. وخلاصة رأي الكواكبي في هذا المجال مطالبته بنظام حكومي قانوني قائم على أساس الشورى مستمد من الشريعة، هذه الشريعة التي تحمل أفضل القواعد الأساسية في السياسة والتربية والاقتصاد وكل شؤون الحياة. ونموذج ذلك دولة الرسول الكريم والخلفاء الراشدين. وهكذا فالإسلامية تشمل بدائل المساواة والحرية والعدالة والشورى إلى جانب التكافل الاجتماعي لقد قدم الكواكبي برنامجاً للإصلاح تفوق في عصره على البرامج التي كانت مطروحة. ولا يزال مشروعه حياً بعد أكثر من قرن من طرحه. ولا زلنا بحاجة إلى استحضار الكواكبي في حالة الانهيار التي نعيشها. الهوامــش -الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص 15 وما بعدها. مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت 1995. - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص 21 . مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت 1995 - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص94-99. مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت 1995 - تابيرو، الكواكبي تامفكر الثائر، بيروت 1981. -الكواكبي، الأعمال الكاملة، ص 484. - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص495 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان،ص 305 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص306. مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص376. مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص382/384. مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص384 وما بعدها. مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص486 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت -سورة النساء 148. - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص487 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص488 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص490 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص 491/492 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص 494 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص360/361مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص368 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت -تابييرو، الكواكبي المفكر الثائر، ص 368. - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص370 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص371 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص372/373 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص372 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص305 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص473 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص474 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - تابييرو، الكواكبي المفكر الثائر، 146. - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص306 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص307 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - البودج: (الميزانية). - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص481/482 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص 496-504 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت -الكواكبي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد جمال طحان، ص382 مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت - محمد جمال طحان، الاستبداد وبدائله في فكر الكواكبي، ص 334، دمشق 1992. -نوربير تابيرو، الكواكبي/ ص 164. - محمد جمال طحان، الاستبداد ، 368. أهم المراجع 1-الكواكبي أم القرى دار الشرق العربي/ بيروت 1991 ط4 2-الكواكبي طبائع الاستبداد دار الشرق العربي/ بيروت 1991 ط3. 3-الكواكبي الأعمال الكاملة . 4-الكواكبي الأعمال الكاملة تحقيق د. محمد عمارة القاهرة 1970 5-جان داية صحافة الكواكبي سلسلة فجر النهضة2 مؤسسة فكر للأبحاث والنشر بيروت 1984 ط1 6-محمد جمال طحان الاستبداد وبدائله في فكر الكواكبي اتحاد الكتاب العرب/دمشق 1992 7-أحمد امين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث القاهرة- مكتبة النهضة 1992 8-محمد احمد خلف الله الكواكبي- حياته وآراؤه القاهرة – بلا تاريخ 9-عباس محمود العقاد الرحالة ك القاهرة 1959 10-قدري قلعةجي عبد الرحمن الكواكبي بيروت 1963 11-محمد راغب الطباخ إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء حلب 1989 ط2 12-د.سهيل الملازي الطباعة والصحافة في حلب دار يعرب/دمشق 1996 13-فيليب دي طرازي تاريخ الصحافة العربية بيروت 1933 14-جورج كتوره طبائع الكواكبي في طبائع الاستبداد بيروت 1987 15-نوربير تابييرو الكواكبي المفكر الثائر بيروت 1981 16-عدد من المؤلفين مهرجان الكواكبي القاهرة 1960 17-سعد زغلول الكواكبي، الكواكبي/سيرة الذاتية بيروت 1998 18-حسين السعيد عبد الرحمن، الكواكبي(جدلية الاستبداد والدين) قم/2000
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• التغيير الإسلامي في إيران من منظور حضاري
(بازدید: 1098)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• انتشار الرسوم المسيئة لشخصية برؤية ثقافية حضارية رسول الاسلام (ص)
(بازدید: 882)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• تعليم العربية لغير الناطقين بها وسيلة حوار بين الحضارات
(بازدید: 1706)
(نویسنده: محمد الجعيدي)
• دور زينب بنت علي في مسيرة الحضارة الاسلامية
(بازدید: 1727)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• عاشوراء بمنظار حضاري
(بازدید: 1463)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• عبدالرحمن الكواكبي من روّاد الاستنهاض الحضاري
(بازدید: 1350)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مالك بن نبي والإنسان ومسار الحضارة
(بازدید: 1464)
(نویسنده: أسعد السحمراني)
• محمد إقبال وتجديد التفكير الديني في الاسلام
(بازدید: 2349)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• مسألة «المهدي المنتظر» برؤية حضارية
(بازدید: 1137)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• نحو فهم حضاري لتاريخنا الإسلامي معركة الطف نموذجًا
(بازدید: 1038)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• الثقافة بين التخلف والتخلق
(بازدید: 1088)
(نویسنده: الدكتور خالد زهري)
• الثقافة والحضارة
(بازدید: 2449)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• الجمع بين الاصالة والمعاصرة
(بازدید: 1840)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• الحضارة والتفاعل الحضاري
(بازدید: 1183)
(نویسنده: عبد الله الفريجي)
• تحديات تأهيل العقل المسلم في المشروع الحضاري
(بازدید: 932)
(نویسنده: الدكتور عبدالناصر موسى أبوالبصل)
• رؤية السيد الشهيد الصدر لمسألة التنمية
(بازدید: 1452)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مستقبل الإسلام في ضوء التحديات الراهنة
(بازدید: 1432)
(نویسنده: حسن حنفي)
• وسطية الحضارة الإسلامية
(بازدید: 847)
(نویسنده: أحمد الطيب)
• ابن المقفع بين حضارتين دراسة فكرية نقدية و أدبية
(بازدید: 2055)
(نویسنده: حسين علي جمعة)
• اعلان طهران حول الحوار بين الحضارات
(بازدید: 1019)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
|