الجمع بين الاصالة والمعاصرة
|
ثقافتنا - العدد 6
دراسات حضارية
الشيخ محمود محمدي عراقي
1426
سبيلنا الوحيد للمحافظة على هويتنا - الجمهورية الاسلامية الايرانية نموذجاً - «ملخّص» الجمع بين الاصالة والمعاصرة هدف سعى اليه كل الاصلاحيين الاسلاميين على مرّ التاريخ. غير أن أمتنا التي تتجه اليوم لاستعادة هويتها ووجودها ومكانتها بين أمم الأرض تواجه خطة يُراد بها دفعها نحو الانفعال سواء على صعيد التمسك بالثوابت أو على صعيد الانفتاح والمعاصرة. التجربة الاسلامية في ايران نموذج من نماذج مشاريع الجمع بين الاصالة والمعاصرة. وقد حققت بهذا الجمع مكتسبات تستحق الدراسة والنقد. مقدمة كل المدارس الفكرية تُقرّ دون شك بوجود عناصر ثابتة في الانسان الى جانب وجود عناصر متحركة فيه. الثبات في طبيعة الكائن البشري يتطلب دائماً تشخيص دائرته كي لا يختلط بالجانب المتحرك، ويؤدّي بالتالي الى الركود والجمود باسم المحافظة على الثوابت، وهكذا الجانب المتحرك المتغيّر لابدّ من تشخيصه كي لا يؤدّي الافراط فيه الى الانفلات وضياع الهويّة والشخصيّة الانسانية. نحن اليوم نستشرف باذن الله مستقبلاً تستأنف فيه أمتنا حركتها الحضارية، وكلّ الظروف القاسية المرّة التي نمرّ بها هي في اعتقادنا مخاض لابدّ منه لصحوتنا ولعودتنا الى أنفسنا وهويتنا والى ممارسة دورنا المطلوب على ظهر الارض باعتبارنا أبناء الرسالة الخاتمة. وهذه المرحلة تتطلب أكثر ما تتطلب الابتعاد عن الافراط والتفريط، واتخاذ جانب الاعتدال والوسطية في أعمالنا ومشاريعنا ، ومن هذه المتطلبات المحافظة على عنصري الأصالة والمعاصرة في مواقفنا وتخطيطنا. الانفعال إنّ السير في اتجاه مستقبلنا الحضاري سوف لا يكون مفروشاً بالزهور دون شك، فهو طريق ذات الشوكة، وأخطر عقبات هذا الطريق هو مايُرادُ لنا أن نقع فيه من انفعال. أعداء مسيرتنا الحضارية المستقبلية سوف يثيرون في الأجواء ما يدفعنا الى حالات انفعالية في مواقفنا السياسية والفكرية والاقتصادية، ونشاهد اليوم بوضوح هذا الدفع نحو الانفعال ضمن إطار المواقف السياسية والاعلامية والثقافية والتعليمية، من هنا فإن تنسيق العمل الاسلامي يجب أن يتجه أول مايتجه نحو وقاية المسيرة من ردود الفعل التي يراد أن ننزلق فيها. مما لاشك فيه أننا حين ندعو الى الاعتدال والوسطية فاننا لا نتخذ هذا الموقف استجابة لما يحيط بنا من ظروف وضغوط، بل ننطلق من صميم منهجنا الاسلامي الذي جعلنا أمة «وسط» ودعانا «للتي هي أقوم» ونهانا عن «الشطط» و«الزلل» وأمرنا بالحكمة والتدبّر والتعقّل. والانفعال في اتخاذ الموقف بين «الأصالة» و«المعاصرة» مشهود اليوم على الساحة الاسلامية على أثر خطة شاملة نشهد معالمها في كل الساحات السياسية والعسكرية والاقتصادية. ومن مظاهر هذا الانفعال باسم التمسك بالأصالة هو بروز النظرة المتخلفة للاسلام هنا وهناك، وإثارة التعصّب المقيت الخالي من التفكير وعزل المرأة عن المجتمع، واستباحة دماء الأبرياء وتكفير هذا وذاك وأمثال ذلك من الصور المؤلمة التي أساءت الى الاسلام الى حدّ كبير. ومن مظاهر الانفعال باسم التمسك بالمعاصرة هو هذه الضجّة المشهودة اليوم على كلّ ثوابتنا الاسلاميّة، وهذه المراجعة المنفعلة لكل ما يرتبط بهويتنا وشخصيتنا الاسلاميّة. نحن لا نشك في أن هذا الانفعال ينطلق أكثر ما ينطلق من واقعنا المتخلّف ومن الوقفة التي أصابت مسيرتنا الحضارية منذ قرون، ولكن لا نشك أيضا أن وراء هذه المواقف المنفعلة خطّة عالميّة يُراد لنا بها أن نقع في هذا الانفعال إفراطاً أو تفريطاً، كي نبتعد عن أهدافنا وعن مسيرتنا الحضارية. ونقترح في هذا المجال التنسيق بيننا لاعلاء الصوت الأصيل المعاصر، فهو الصوت الذي يجب أن يتبلور اليوم لتقديم النموذج الاسلامي الذي ينأى عن الجمود والتقليد الأعمى، كما ينأى في الوقت نفسه عن الهزيمة والذوبان. المشاريع التي ظهرت في القرن الماضي جامعة بين الاصالة والمعاصرة كثيرة، واكتفي بذكر نموذج منها وهو مشروع الجمهورية الاسلاميّة الايرانية باعتباره محاولة معاصرة جادّة للجمع بين صيانة الهويّة والتجديد الحقيقي. بداية لابد أن أذكر أن هذه التجربة لم تستطع أن تشق طريقها حتى الآن على النحو الذي رسمته في دستورها لأسباب تعرفونها، فهي منذ ولاتها ولاتزال تواجه حرباً شرسة في مختلف المجالات، وتعاني من ضغوط تَهُدّ الجبال، من هنا فان الطريق أمامها طويل لتحقيق ما تصبو اليه من عدالة اجتماعية واقتصادية وتربية اسلامية رائدة وتحقيق كامل للمشروع الاسلامي.. لكنها مع كل هذه العقبات الهائلة استطاعت بفضل هذا الجمع بين الأصالة والمعاصرة في إطار الاسلام أن تحقّق منجزات تستحق الوقوف عندها، وأكبر هذه المنجزات هو مقاومتها لهذه الضغوط التي أدّت الى انهيار كثير من الانظمة وتراجعها على الساحة الدولية. وأقف عند بعض نماذج الجمع بين «الاصالة» و«المعاصرة». في حقل النظام السياسي لقد ساد في الاذهان ردحاً من الزمن أنّ النظام الاسلامي مقترن بسيطرة السلطان أو الخليفة، وأن الحكم فيه لله وليس للشعب أي دخل فيه. ومن هنا كان أنصار الديمقراطية يقفون في الاتجاه المضاد لانصار النظام الاسلامي، لكن الجمهورية الاسلامية، أقرّت النظام الذي تشارك فيه الجماهير مشاركة فاعلة واسعة والذي يقرّ تداول السلطة ومشاركة الشعب في اتخاذ القرار ضمن إطار الاسلام، وضمن إطار النظام الاسلامي الذي اختارته الجماهير بالتصويت الحرّ. في الحقل الاصلاحي ظنّ بعضهم أنّ الاسلام ثابت وهذا الثبات يرفض الاصلاح، من هنا سادت ذهنية تقسيم التيارات الى «أصولية» و«إصلاحية»، غير أن القيادة الاسلامية في إيران وضعت مشروع الاصولية الاصلاحية للجمع في هذا المشروع بين الثوابت وبين الاصلاح المطلوب بسبب تغيّر ظروف الزمان والمكان، وهو جمع ينطلق من صميم المنهج الاسلامي، ويفوّت الفرصة على مشاريع الاصلاح المفتعلة التي يُراد فرضها من الخارج. في الحقل الاجتماعي حاول الخائفون من مشروع الأصالة الاسلامية تصوير المجتمع المسلم بأنه مجتمع تكايا وطقوس وأوراد ولحى وعزل للمرأة عن المجتمع وانصراف عن الزينة والجمال. والجمهورية الاسلامية تثبت اليوم لكل من يزورها خلاف هذه النظرة، فمظاهر الجمال في المدن هدف تسعى اليه الحكومة حثيثاً، والمرأة تشارك الرجل في كل الشؤون العلمية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وثمة سعي حثيث (مع وجود عقبات طبعا) لإحلال العدالة الاجتماعية والتأمين ومكافحة البطالة والأميّة. في الحقل العلمي الاسلام حياة، والجهل عدوّ الحياة، ومن هنا كان نشر التعليم العام من أكبر مابذلته الجمهورية من جهود، مع الأخذ بنظر الاعتبار الانفجار السكاني في المجتمع، والتعليم إجباري للذكور والاناث، كما أن الاهتمام جادٌّ بالدراسات العليا وحقول البحث العلمي، والتطوّر المشهود اليوم في حقل الصناعات المختلفة إنّما هو نتيجة لهذه الجهود المبذولة في حقل البحث العلمي. وهذا يؤيّد ظاهرة اقتران الاسلام بالعلم، ويدحض ماشاع في الأذهان بشأن اقتران الدين بالجهل. في الحقل الفني شاع في الأذهان أيضاً أن الاسلام يتعارض مع الفنون السينمائية والموسيقية والمسرحية، وكنّا نحن قبل قيام الدولة الاسلامية نشكك في إمكان أن تكون هذه الفنون رائجة في المجتمع الاسلامي. لكن التجربة في إيران أثبتت إمكان ارتفاع هذه الفنون الى ذروتها في إطار الالتزام الاسلامي. الافلام التي تُنتج في ايران اليوم تحصد الجوائز العالمية رغم ابتعادها عن كل ظواهر الابتذال في الافلام الغربية، والموسيقى في ايران ارتفعت لتقدّم أروع بكثير مما كانت عليه من قبل، وهكذا الفنون المسرحية والتشكيلية تطورت بشكل هائل وبدأت تدخل المسارح والصالات العالمية، مع الحفاظ على أصالتها. * * * ليس هدفي استعراض كل الحقول، بل الهدف هو الإشارة الى وجود تجربة حيّة في الجمع بين الاصالة والمعاصرة، وهي تجربة لاقت جفاء كبيراً لأسباب عديدة، وحريٌّ بنا ونحن نواجه التحدّي الكبير في محاربة أصالتنا الاسلامية باسم التغيير والاصلاح والتجديد، أن نقدّم مخزوننا العلمي والعملي الذي هو خير دليل على أن رسالتنا الاسلاميّة رسالة إنسانية متطوّرة متجدّدة إصلاحية على الدوام في إطار أصول الفطرة الانسانية.
|
مقالات أخرى من هذا الكاتب |
• ابن ميثم البحراني وعصره
(بازدید: 1085)
(موضوع: شخصيات)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها
(بازدید: 843)
(موضوع: )
• التفاعل الحضاري في التاريخ الإسلامي - ايران نموذجاً
(بازدید: 1558)
(موضوع: دراسات حضارية)
• الحداثة
(بازدید: 698)
(موضوع: فكر إسلامي)
• انتشار الرسوم المسيئة لشخصية برؤية ثقافية حضارية رسول الاسلام (ص)
(بازدید: 882)
(موضوع: دراسات حضارية)
• وثائق / برنامج التعاون المشترك
(بازدید: 1132)
(موضوع: ملتقيات)
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• التغيير الإسلامي في إيران من منظور حضاري
(بازدید: 1098)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• انتشار الرسوم المسيئة لشخصية برؤية ثقافية حضارية رسول الاسلام (ص)
(بازدید: 882)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• تعليم العربية لغير الناطقين بها وسيلة حوار بين الحضارات
(بازدید: 1706)
(نویسنده: محمد الجعيدي)
• دور زينب بنت علي في مسيرة الحضارة الاسلامية
(بازدید: 1727)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• عاشوراء بمنظار حضاري
(بازدید: 1463)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• عبدالرحمن الكواكبي من روّاد الاستنهاض الحضاري
(بازدید: 1350)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مالك بن نبي والإنسان ومسار الحضارة
(بازدید: 1464)
(نویسنده: أسعد السحمراني)
• محمد إقبال وتجديد التفكير الديني في الاسلام
(بازدید: 2349)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• مسألة «المهدي المنتظر» برؤية حضارية
(بازدید: 1137)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مشروع الكواكبي اجتماعياً وتربوياً
(بازدید: 1312)
(نویسنده: محمد قجة)
• نحو فهم حضاري لتاريخنا الإسلامي معركة الطف نموذجًا
(بازدید: 1038)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• الثقافة بين التخلف والتخلق
(بازدید: 1088)
(نویسنده: الدكتور خالد زهري)
• الثقافة والحضارة
(بازدید: 2449)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• الحضارة والتفاعل الحضاري
(بازدید: 1183)
(نویسنده: عبد الله الفريجي)
• تحديات تأهيل العقل المسلم في المشروع الحضاري
(بازدید: 932)
(نویسنده: الدكتور عبدالناصر موسى أبوالبصل)
• رؤية السيد الشهيد الصدر لمسألة التنمية
(بازدید: 1452)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مستقبل الإسلام في ضوء التحديات الراهنة
(بازدید: 1432)
(نویسنده: حسن حنفي)
• وسطية الحضارة الإسلامية
(بازدید: 847)
(نویسنده: أحمد الطيب)
• ابن المقفع بين حضارتين دراسة فكرية نقدية و أدبية
(بازدید: 2055)
(نویسنده: حسين علي جمعة)
• اعلان طهران حول الحوار بين الحضارات
(بازدید: 1019)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
|