المشروع الحضاري الجديد
|
رسالة التقريب - العدد ٢٩
دراسات حضارية
حسن حنفي
1421
«ملخص» العوامل المساعدة على بقاء المجتمع وحضارته اثنان: السلطة في المجتمع، والدين في الحضارة ومن اجتماع السلطة والدين ينشأ المشروع الحضاري لكل مجتمع ماضي المشروع الحضاري الإسلامي بدأ من تحويل بؤرة الحضارة من الشعر إلى الوحي، وتحويل الوحي إلى علوم إنسانية ورياضية وطبيعية وحاضر المشروع الحضاري يشهد محاولات نهضة عربية إسلامية حديثة برزت فيها ثلاثة تيارات لها منطلقات متمايزة: الدين في الحركة الإصلاحية، والدولة أو السياسة في الفكر الليبرالي، والعلم في التيار * - الدكتور حسن حنفي معروف بجرأته في قراءته للواقع وللتراث وفي اقتراحاته للمشروع المستقبلي، وقد لا نوافق على هذا الرأي من آرائه أو ذاك، ولكننا نحرص - من منطلق التقريب - على طرح كلّ الآراء على ساحة البحث والمناقشة، فالتحديات أمامنا كبيرة، وتتطلب منا سعة صدر كبيرة في معالجة قضايانا المصيرية. (١٠٩) العلماني أما مستقبل العصر فيتوقف على التحرر من التراث الغربي الوافد، والتنظير المباشر للواقع لتجاوز ثقافة النص وعقلية التأويل ومنهج القراءة المباشر ويستطيع المشروع الحضاري وفق هذه الأسس أن يضع الأمة في سياقها التاريخي وأن يدخلها في نظام العالم والتعامل معه من موقع الندبة والاستقلال. أولاً: المجتمع والحضارة والتاريخ لكل مجتمع مشروع حضاري، به يوجد في ذاكرة البشر، وبه يساهم في مجرى التاريخ المتصل للحضارة الإنسانية فقد أبدع المجتمع الصيني حضارته وكذلك أنتج المجتمع الهندي حضارته وأتت الحضارات القديمة كلها في بابل وآشور وكنعان وفينيقيا ومصر القديمة واليونان تعبيراً عن مجتمعاتها. وصلة المجتمع بحضارته على أربعة أنواع: الأول استمرار الحضارة باستمرار المجتمع كما هو الحال في الهند والصين وفارس ومصر والعراق واليمن وهو ليس مجرد افتراض عقلي، بدليل وجود حضارات قديمة وحديثة في كلّ منها وما تزال المجتمعات التاريخية قادرة على الإبداع والثاني اندثار الحضارة باندثار المجتمعات، مثل حضارات المتاحف وعلوم الأنثروبولوجيا، وحضارات بعض القبائل السامية القديمة والرابع اندثار الحضارة مع بقاء المجتمعات، مثل مجتمعات الهنود الحمر في معسكرات العزل Reservations في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي حالة تدل على مدى القهر والكبت فما من مجتمع إلا وهو قادر على توليد حضارة ولو بمعنى أسلوب الحياة والتصور للعالم وهو ما تخطط له القوى الاستعمارية الكبرى في تحويل الأمم إلى (١١٠) حضارات بلا شعوب وتاريخ بلا مجتمعات. والسؤال الآن: ما هي العوامل البنيوية المساعدة على بقاء المجتمع وحضارته إذا ما توافرت إمكانيات التواصل المادي من حيث الغذاء والأمن، الغذاء للبقاء الداخلي والأمن للبقاء ضد المخاطر الخارجية؟ عاملان: السلطة في المجتمع، والدين في الحضارة. فلا يوجد مجتمع بلا سلطة والحضارات التاريخية إنّما نتجت في مجتمعات تقوم على سلطات مركزية كما هو الحال في مصر والصين وعلى ضفاف الأنهار الكبرى لتنظيم الري وتوجيه الدورات الزراعية [١] ومن اجتماع السلطة والدين ينشأ المشروع الحضاري لكل مجتمع ولا تعني صلة الاستمرار بين المجتمع والحضارة صفة الثبات فالمجتمعات تتغير، والحضارات تتغير بتغير المجتمعات ثم تتغير المجتمعات نفسها بتغير الحضارات عن طريق تقدم أساليب الحياة ووسائل العمران. ولكن السؤال: ماذا يتغير وماذا يبقى؟ هل تتغير بنية المجتمع وطبيعة الشعب ومزاجه وروح الحضارة أم أن ما تتغير هي الوسائل المادية التي يستعملها المجتمع ومظاهر العمران وأشكال المدنية وتظل بنية المجتمع والحضارة قائمة؟ تبقى السلطة المركزية وتبقى الشخصية الوطنية، الولاء للدولة، وروح الجماعة، ويبقى الدين، وهو مثل الفن أحد أشكال الإبداع الحضاري، كبؤرة تنتج منها أشكال أخرى مثل الفلسفة والعلم، خاصة عندما يتحول إلى اعتقاد. نشأت كبرى الحضارات الإنسانية من الدين، الصين والهند وفارس والعراق ويتغير طبقاً لحاجات المجتمع فإذا ما ساد الدين الشعائري الخارجي كما هو الحال في الهندوكية وديانات الصين القديمة واليهودية ظهرت تيارات إصلاحية دينية من داخلها لتبشر برؤية أخلاقية روحية للدين مثل الكونفوشيوسية والبوذية والمسيحية ففي كل دين تياران: تيار محافظ شعائري خارجي رسمي مؤسسي، وتيار (١١١) تقدمي روحي أخلاقي صوفي فردي لم تنشأ رؤية ثالثة للدين، الدين السياسي الاجتماعي من أجل تنظيم المجتمع ونشأة الدولة مثل الدين الإسلامي، يعيد بناء الشعائر والطقوس على أسس روحية وأخلاقية، ويخرج الدين من نطاق الإيمان والفرد إلى نطاق العقل والجماعة فيكتمل الدين باعتباره علماً إنسانياً. وتنطبق هذه المبادئ العامة على الحضارات الإسلامية التي نشأت أولاً في شبه الجزيرة العربية ثم امتدت منها عبر الفتوح بفضل العرب والعجم والبربر أساسا إلى مناطق شاسعة في آسيا وأفريقيا ثم إلى أوروبا غربها وجنوبها وشرقها ثم إلى شمالها وعبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كان للعرب حضارتهم قبل الإسلام وكانت هناك سلطة القبيلة وشيخها وكانت هناك ديانات العرب: الحنيفية، واليهودية، والنصرانية بالإضافة إلى ديانات الصابئة والمجوس والوثنية، وتغير المجتمع العربي بفضل الإسلام كدين جديد، وجامع للديانات السابقة، متمماً لدين إبراهيم، ومصححاً لمسار اليهودية والمسيحية، ومطهراً كعبة إبراهيم من الأوثان وأنشأ الإسلام سلطة جديدة في المجتمع بديلاً عن سلطة القبيلة، تفاعلت مع الدين الجديد، وخرجت للحضارة الإسلاميّة نتيجة لهذا التفاعل ولما كانت طبيعة السلطة تفترض المعارضة، فهناك حاكم ومحكوم، أنقسم الإبداع الحضاري إلى ثقافتين: ثقافة الحاكم وثقافة المحكوم، عقائد السلطة وعقائد المعارضة، شريعة الأشراف وشريعة العامة انعكس الصراع على الدين فنشأ الصراع الديني تعبيراً عن الصراع السياسي فأصبح الدين والدولة واجهتين لعملة واحدة يغذيان بعضهما البعض، مرة لصالح الحاكم وهو الأغلب، ومرة لصالح المحكوم وهو الأندر. (١١٢) ثانياً: ماضي المشروع الحضاري بدت ملامح المشروع الحضاري العربي الإسلامي في الماضي على النحو الآتي: ١ - تحويل بؤرة الحضارة من الشعر إلى الوحي لذلك قيل «عليكم بشعر جاهليتكم ففيه تفسير كتابكم» بالرغم من التنبيه إلى أن القرآن ليس بالشعر ولا بالسجع ولا بالقصص وأجريت الدراسات على جماليات الشعر العربي وجماليات القرآن الكريم وتمت مقارنة بعض مقاطع الشعر العربي مع بعض آيات القرآن الكريم المتشابهة لقد دخل القرآن قلوب العرب عن طريق الشعر وذوق العربي الأدبي قبل أن يدخل إليه كنظام تشريعي أخلاقي سياسي اجتماعي وكتب عبد القاهر الجرجاني «أسرار البلاغة» و «دلائل الإعجاز» لبيان وظيفة التخيل في الشعر وفي القرآن واستمر ذلك حتّى سيد قطب في «التصوير الفني في القرآن» و «مشاهد القيامة في القرآن» و «النقد الأدبي، أصول ومناهجهه» و «في ظلال القرآن». ٢ - تأسيس التوحيد كعقيدة شاملة للعرب وللإنسانية جمعاء لقد قامت محاولات عدة قبل ظهور الوحي لتوحيد القبائل، وعبر شعر الصعاليك عن هذه الأمنية، فجعل الوحي هدفه تكوين دولة قاعدة للوحدة قبل أن تنطلق الوحدة تصوراً وفتوحاً خارج بلاد العرب، ابتداء من وحدة الشخصية بين القول والعمل، بين الفكر والوجدان، أي بين الخارج والداخل منعاً للنفاق والجبن والكذب والخوف، ثم الفتح والانطلاق في حركة تاريخية جديدة لتوحيد القبائل العربية، ثم وراثة إمبراطوريتي الفرس والروم المتناحرتين بعد أن أنهكتهما حروب الغزو المتبادل بهدف الغزو والتوسع والسيطرة على العالم واستعباد الشعوب. (١١٣) ٣ - تحويل قيم الوحي إلى علوم إنسانية ورياضية وطبيعية من أجل إقامة حضارة علمية إنسانية يكون العلم فيها مساوياً للدين ومرادفاً له يتحول الدين إلى حضارة، وتتكون الحضارة من مجموعة من العلوم العلم كله نسق فكري منظم للتعرف على إحدى موضوعات الطبيعة أصبحت الحضارة الإسلاميّة نموذجاً لحضارة العلم والفكر والفن، يتبارى فيها المفكرون والعلماء والأدباء مع الخلفاء والأمراء والقضاة والفقهاء وبالرغم من عدم وجود الطباعة فإن الإنتاج الحضاري وصل إلى حد مازلنا حتّى الآن نجمعه ونحققه وننشره وكان الإنسان يضحي بحياته من أجل معرفة شيء ولو في النزع الأخير. وتحقق هذا المشروع في التاريخ، وفي الحضارة الإسلاميّة عبر مرحلتين: ازدهار في القرون السبعة الأولى، وتوقف في القرون السبعة التالية نشأت الحضارة الإسلاميّة في مرحلتها الأولى في القرنين الأول والثاني ثم بلغت الذروة في عصرها الذهبي في القرنين الثالث والرابع ثم بدأت في الهبوط منذ هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس وتقنين الأشعرية عقيدة للسلطة والدعوة إلى التصوف طاعة للجماهير وانتشر التصوف في القرنين السادس والسابع باستثناء ازدهار الفلسفة في الأندلس على يد ابن رشد في القرن السادس ولكنه في هذا الصقع البعيد كان بعيداً عن قلب الحضارة في المشرق فلم يؤثر ولم يغير مسار التاريخ بل أثر في الحضارة الأوروبية وهي تنهي عصرها الوسيط وتبدأ عصورها الحديثة ثم ظهر ابن خلدون ليؤرخ لهذه القرون السبعة الأولى محدداً قانون النهضة والسقوط، من البدو إلى الحضر، ومن الحضر إلى البدو من جديد في أربعة أجيال. في هذه المرحلة الأولى نشأت العلوم النقلية الخمسة، أولا: علوم القرآن، وعلم الحديث وعلم التفسير، وعلم السيرة، وعلم الفقه من أجل تدوين علوم (١١٤) الوحي، النص الأول القرآن، والنص الثاني (الحديث) ثم تفسير النص الأول (التفسير) وكتابات السيرة الذاتية لصاحب النص الثاني (السيرة) أسوة بأهل الكتاب، ثم تقنين قولـه وفعله وإقراره إلى فقه للناس جميعاً باستقلال عن شخصيته وسيرته. و (الفقه) وهو عبارة عن العلوم التي مازالت حتّى الآن الأكثر تأثيراً والأشد حضوراً في الثقافة الوطنية وفي وجدان الأمة عبر المساجد والمعاهد الدينية والجامعات الإسلاميّة والدروس الدينية وصفحات الفكر الديني في الصحف اليومية والبرامج الدينية في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة. ثم نشأت العلوم العقلية النقلية الأربعة التي زاوجت بين حجة الشرع وحجة العقل، علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وعلوم الحكمة، وعلم التصوف وتم تأسيس نظريات للعلم تجعل الحجة النقلية وحدها ظنية إن لم تقترن بها الحجة العقلية وتأسست العقليات في علم أصول الدين، نظرية الذات والصفات والأفعال، الذات الخالص، أوصافه وصفاته وأسماؤه التي تعبر عن القيم الإنسانية العامة التي يتفق عليها البشر جميعاً وثبت في الأفعال أن الإنسان حر مختار مسؤول، وأنه قادر بعقله على إدارك الحسن والقبيح، وان قانون الاستحقاق كل حسب عمله، عام وشامل كما استطاعت المعتزلة صياغة أصول خمسة تعبر عن تصور الحضارة للعالم لتحديد الصلة بين الوعي الفردي (الحسن والقبح العقليان، والمنزلة بين المنزلتين) والوعي الاجتماعي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والوعي الشامل (التوحيد، والعدل). ونشأ علم أصول الفقه ليضع قواعد للتشريع حتّى يستوعب الوقائع المتجددة، ويستنبط لها أحكام بعد إدراكها تحت الوقائع المنظمة المتشابهة الأولى لذلك أصبح الاجتهاد أحد مصادر التشريع ووضعت القواعد الفقهية (١١٥) العامة التي تعبر عن روح الشريعة مثل: ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن، لاضر ولا ضرار، الضرورات تبيح المحظورات، درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، عدم جواز تكليف مالا يطاق، المصلحة أساس الشرع… الخ [٢]. واستطاعت علوم الحكمة نقل التراث اليوناني الوافد، والفارسي والهندي، وتلخيصه وشرحه وتمثله، ثم إبداع تراث مثله يحتويه ويعيد إليه التوازن ويكمله ويدخله في تصور أعم تتم فيه الوحدة العضوية بين الموروث والوافد. وصاغت حكمة ثلاثية: المنطق، والطبيعيات، والإلهيات وجعلت الإنسان عاقلاً، يعيش في الطبيعة ومتصلاً بالعقل الفعال، وجوداً بين عالمين أثبتت بالعقل وحده الأسس العامة للتصور الإسلامي للعالم، وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس وتصورت مدينة فاضلة يعيش فيها الإنسان ويحقق ذاته طبقاً لقدراته، مدينة يترأسها الفيلسوف، مدينة الحكمة والفضيلة [٣]. وأخيراً استطاعت علوم التصوف أن تبدأ بالتجربة الإنسانية، وأن تؤسس علماً ذوقياً، وتصف الطريق إلى أعلى بعد أن استعصى العالم على التغير كان إنقاذ النفس هو الباقي الممكن بعد أن استحال إنقاذ الغير بعد تقطيع الرقاب من أئمة آل البيت والخارجين على الظلم والفساد كما استحال تغيير الضمير والكذب على النفس والرضا بالأمر الواقع وصفت المقامات والأحوال، واكتشفت عالم الذاتية، وتم رد الاعتبار إلى التوحيد، فضم الحق والخلق، الله والعالم، المثال والواقع بعد أن قضت عليه ثنائيات المتكلمين بين الخالق والمخلوق، القديم والحادث، الممكن والواجب، العلة والمعلول، النفس والبدن…. الخ. ثم تأسست العلوم العقلية الخالصة توحد بين الوحي والعقل في العلوم الرياضية، وبين الوحي والطبيعة في العلوم الطبيعية، والوحي والإنسان في (١١٦) العلوم الإنسانية اللغة والأدب للجغرافيا والتاريخ فظهرت وحدة الوحي والعقل والطبيعة كنموذج فكري يمثل مركزية المشروع الحضاري الذي أصبح بعد نقله نموذجاً لباقي الحضارات الموازية التي تعيش في كنف الحضارة الإسلاميّة كاليهودية في الغرب الإسلامي، في إسبانيا، والمسيحية الشرقية في الوطن العربي. ثم توقفت الحضارة الإسلاميّة عن الإبداع بعد أن توقف المجتمع الإسلامي وحلت الذاكرة محل العقل، والتدوين محل التأليف في القرون السبعة التالية، في العصر المملوكي التركي كان الفتح داخل البلاد الإسلاميّة أكثر من خارجها، أقرب إلى السيطرة من إحدى الدول الإسلاميّة وإحدى القوميات منها إلى توحيد الأمة وكان الانتشار في أوروبا الشرقية أقرب إلى الهيمنة التركية منه إلى الفتح الإسلامي وكان الإنتاج الحضاري إما في الموسوعات والمدونات الكبرى أو في الشروح والملخصات أو في بعض جوانب العلوم المنطقية والرياضية والطبيعية المستقلة نسبياً عن العلوم النقلية والعلوم النقلية العقلية واستمر الحال كذلك على مدى خمسة قرون حافظت الحضارة على نفسها ضد عوامل الفقد والضياع وبدت فتوحات الدولة العثمانية فتوحات قوة أكثر منها فتوحات عقيدة ومع ذلك انتشرت الحضارة الإسلاميّة في أفريقيا، نظراً لأن الإسلام دين الطبيعة ينتشر بين القبائل الطبيعية من أجل تأكيد ثقافاتها المحلية وهويتها الوطنية وتطويرها نحو الكمال من حيث نظافة البدن والكرامة الإنسانية بين القبائل في مواجهة موجات التغريب إثر التبشير والاستعمار الغربي. ثالثاً: حاضر المشروع الحضاري وعلى مدى قرنين من الزمان، منذ القرن الماضي، وفي نهاية القرون السبعة (١١٧) التالية - مرحلة التوقف والتدوين والعمل بالذاكرة - بدأت محاولات النهضة العربية الإسلاميّة الحديثة بداية بحركات الإصلاح الديني من داخل العلوم النقلية الأربعة وتوجيه النص والتراث نحو الواقع لمواجهة تحديات العصر، الاستعمار والهيمنة من الخارج والقهر والتخلف من الداخل وعاد المشروع الحضاري الإسلامي يحدد هدفه من جديد بعد هدفه الأول، التوحيد في التصور، والفتح في الأرض، والعمران في المجتمع، وإعادة الفاعلية إلى التوحيد، وتأكيد الحرية الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، والتقدم. ومن خلال أربعة أجيال بدأ الإصلاح يخبو، جيلاً وراء جيل. فإثر تعاليم الأفغاني، كان الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، قامت ثورة عرابي، وتم احتلال مصر. فآثر تلميذه محمّد عبده التطور البطيء عن طريق إصلاح التعليم واللغة العربية والمحاكمة الشرعية وليس بالضرورة عن طريق الانقلاب على السلطة «لعن الله ساس ويسوس» فلما قامت الثورة الكمالية في تركيا في ١٩٢٣ ارتد تلميذه محمّد رشيد رضا عن حزب الإصلاح وآثر العودة إلى السلفية كرد فعل جديد على استيلاء حزب الاتحاد والترقي العلماني على السلطة، أنصار القومية الطورانية ويحيى الأمل من جديد في الفكر الإصلاحي على يد تلميذه حسن البنا محققاً حلم الرائد الأول الأفغاني لتأسيس حزب إسلامي وبعد اغتياله في ١٩٤٩ وصدام الإخوان المسلمين مع الضباط الأحرار في ١٩٥٤ ثم في ١٩٦٥ صراعاً على السلطة ظهر الإسلام الغاضب المنتقم الذي يكفر المجتمع إثر الاضطهاد والتعذيب في السجون وخرج في هذا الظرف النفسي «معالم في الطريق» لسيد قطب و «الفريضة الغائبة» «لمحمد عبد السلام فرج» وأخيراً «ميثاق العمل الإسلامي» الذي يشرع لاغتيال العلمانيين. (١١٨) ودخل الإسلام أيضاً في تفاعل مع التنوير الغربي عند الطهطاوي اعتماداً على الحسن والقبح العقليين. ظل أشعرياً في التوحيد وأصبح معتزلياً في العدل مثل محمّد عبده في «رسالة التوحيد» واستطاع تأسيس فكر الدولة المصرية الحديثة في «مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية»، موحداً بين الصناعة «اندوستريا» والعمران، «فليكن هذا الوطن مكان سعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع». وفي نفس الوقت رأى الآخر من منظور الأنا، والأنا من منظور الآخر في «تلخيص الابريز في تلخيص باريز» متجاوزاً صدمة الحداثة إلى فكر جديد يمتزج فيها الوافد بالموروث، وصياغة مشروع حضاري جديد يلبي مطالب المجتمع الحالي وحاجاته إلى الحرية، سواء كانت من الشورى أو من «الشرطة»، والمساواة، سواء كانت من مبادئ الثورة الفرنسية أو من الشريعة الإسلاميّة، والعدالة الاجتماعية، سواء كانت من الاشتراكية الغربية أو من التضامن الاجتماعي الإسلامي وبعد انهيار دولة محمّد علي وسيطرة الغرب على اقتصاديات مصر جاء الجيل الثاني، أحمد لطفى السيد، أكثر انحيازاً للغرب مقطوع الصلة بالتراث القديم، ومؤصلاً الديمقراطية في كتاب «السياسة» لأرسطوطاليس وليس الشورى فتحول إلى حزب للأقلي ة والى أب للدولة المصرية الوطنية التي ليست مركزاً لدائرتين أخريين الوطن العربي والعالم الإسلامي ثم جاء طه حسين في مستقبل الثقافة في مصر» ليجعل ثقافة مصر جزءاً من ثقافة البحر الأبيض المتوسط تدور في فلك الغرب بعيداً عن الثقافات في إيران وتركيا والهند والصين التي تدور في فلك الشرق لتحرير معاهدة، والتي كان من شروطها أن تصبح مصر قطعة من أوروبا كما كان يريد إسماعيل وبالرغم من عودة العقاد إلى نوع من التوازن بين الموروث والوافد وأحياناً لصالح الموروث على حساب الوافد إلاّ أن هذا التيار انصب في (١١٩) النهاية الليبرالية الغربية. وأصبح أحد امتداداتها خارج حدود الغرب، وأحد مصادر التغريب في حياتنا الثقافية المعاصرة. ثم أصبح العلم والعلمانية نموذجاً صريحاً للمشروع الحضاري عند شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى ويعقوب صروف بعد أن انعدم التأصيل لذلك في الموروث أو كاد فنظرية التطور نموذج العلم والتي حاول الأفغاني تأصيلها عند إخوان الصفا وأبي العلاء المعري وأبي بكر بن بشرون وجدها شبلي شميل عند دارون فقط والعلمانية التي هي جوهر الشريعة الإسلاميّة الوضعية التي تقوم على المصالح العامة في غياب سلطة دينية وفي حضور سلطة سياسية تمثل إرادة الأمة وإرادة من الغرب «الدين لله والوطن للجميع». صحيح أن شبلي شميل حاول تأصيل علوم العمران والفلك والطبيعة في القرآن الكريم، ولكن محاولته كانت محدودة الأثر، ضعيفة، تهدف إلى رد الموروث إلى الوافد أكثر مما تهدف إلى رد الوافد إلى الموروث كما هو الحال عند طنطاوي جوهري ثم اختفى هذا القليل عند فرح أنطون فالمجتمعات على الإطلاق دون آية فروق نوعية بينها لا تتقدم بالضرورة إلاّ بالنموذج العلمي العلماني الغربي كما اختفى عند يعقوب صروف وسلامة موسى كما بدأ في «هؤلاء علموني» كلهم غربيون ولايوجد عربي مسلم واحد علمه شيئاً ولا حتّى الكندي والرازي وابن الراوندي وابن رشد وابن حيان وابن الهيثم الّذين علموا الغرب واستمر أيضاً عند زكي نجيب محمود ممثلاً في الوضعية المنطقية والمنهج التحليلي الذي اختص به الغرب وحده في حين غاب الموروث في اللغة العربية الانشائية، وغابت الثقافة العربية في ثنائية السماء والأرض، الشرق الفنان والغرب العالم صحيح أن ذلك التيار كان نافذه على الثقافة العلمية الغربية ولكنه ظل محدود الأثر، تروجه الصفوة، وينتسب إليه أحياناً أقباط (١٢٠) مصر ونصارى الشام [٤]. وبالرغم من أن هذه التيارات الثلاثة لها منطلقات متمايزة، الدين في الحركة الإصلاحية، والدولة أو السياسة في الفكر الليبرالي، والعلم في التيار العلماني إلا أنها جميعاً تشترك في الهدف، الغرب نموذج التحديث، الغرب الحديث في الحركة الإصلاحية، والغرب المستنير في الفكر الليبرالي، والغرب العلمي في التيار العلمي وقد انتهت هذه التيارات الثلاثة في أجيالها الحالها الحالية إلى تمايز بين اتجاهين متخاصمين: السلفية كرد فعل على الاتجاهات الثلاثة في الفكر العربي المعاصر وأخذها الغرب نموذجاً للتحديث، والعلمانية التي ضمت الليبرالية والماركسية والقومية والاشتراكية ويمكن رصد السمات العامة للحالة الراهنة للحركة السلفية على النحو الآتي: ١ - البداية بالإيمانيات والإلهيات وليس بالعقليات والانسانيات دفاعاً عن حقوق الله وحقوق الإنسان أولى بالدفاع فالمشروع الحضاري الجديد من مقتضيات الإيمان تنفيذاً للأمر الإلهي وليس من متطلبات العصر، حاجاته إلى إعمال العقل والدفاع عن كرامة المواطن وحقوق الإنسان، يعتمد على النص قال الله وقال الرسول أكثر مما يعتمد على العقل وتحليل العلل المادية المكونة للواقع والدفاع على السلوك كما هو الحال في نظرية العلم في علم الأصول. ٢ - استعمال تطبيق الشريعة الإسلاميّة كوسيلة للضغط الاجتماعي، وليس للثورة الاجتماعية، كفرض إلهي وليس تعبيراً عن مصالح الناس، مطالبة للناس بواجباتهم قبل إعطائهم حقوقهم، وتقديم الحدود والعقوبات على تطبيق النظام الاقتصادي والاجتماعي والتربوي، والبداية بالشكليات والمظاهر الخارجية وبالتستر والحجاب قبل النزول إلى رحاب الفضاء والسعي في ربوع الأرض. ٣ - تقليد القدماء إحساساً بالعجز أمام العصر الذهبي الأول فما ترك السلف (١٢١) إلى الخلف شيئاً. ﴿فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات﴾. نشأت الحركات السلفية والعودة إلى الأصول هروباً من الحاضر وتعويضا عن أزماته في عظمة الماضي والاقتداء بنموذجه وسنن أبطاله مع أن الحاضر مملوء بنماذج الجهاد في جنوب لبنان وفي فلسطين وفي أفغانستان. ٤ - رفض الواقع، والعجز عن التعامل معه، والخروج عليه وتكفيره، والوقوع في جدل إما… أو، الكل أو لا شيء، الإسلام أو الجاهلية، الإيمان أو الكفر، الله أو الطاغوت ولا مصالحة بينهما، بقاء أحدهما مرهون بالقضاء على الآخر ولا حل لهذا الصراع إلا بالاستعانة على السلطة، بتنظيم سري أو علني. وبالتالي وجب قلب نظام الحكم وتأسيس الحكومة الإسلاميّة فإن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن ولما كانت عيون السلطة في كل مكان نشأ الصراع بين هذه النظم والجماعات الإسلاميّة إلى حد العنف المتبادل، وإراقة دماء المسلمين بالقتل من طرف والاغتيال من طرف آخر. ٥ - رفض الحوار مع التيارات الفكرية الأخرى واتهامها بالعلمانية وتكفيرها لأنها تفصل بين الدين والدولة، ولا تطبق الشريعة الإسلاميّة، فالجماعات الإسلاميّة وحدها تمتلك الحقيقة، وغيرها في الضلال والبهتان، منطق الفرقة الناجية مقابل الفرق الهالكة وحتى دون اعتبارهم من المؤلفة قلوبهم ممن لهم حق في بيت المال، وهم جميعاً أبناء وطن واحد. ٦ - ردة البعض منهم إلى النقيض، فالنقيض يولد النقيض، والطرف ينقلب إلى الطرف المضاد، فيتحول إلى قومي أو اشتراكي أو ماركسي أو ليبرالي جذري، أو ينشغل بالتجارة وشؤون الدنيا بعد أن تشبع بشؤون الدين ويصبح الدين وسيلة للغطاء والتستر على مناهج الحياة استغلالاً للبسطاء. ويمكن رصد أهم سمات التيار العلماني على النحو الآتي: (١٢٢) ١ - نقل فكر وافد من الغرب، غريب على الثقافة الموروثة مزاحم لها، مما يسبب نوعا من ازدواجية الولاء في الثقافة بين الموروث والوافد، وخلق صراع بين ثقافتين، الموروث يكفر الوافد، والوافد يخون الموروث، وشق الأمة نصفين، يتصارعان على السلطة، ويتعاون كل منهما مع الأجنبي الدخيل المتفق معه في الأهداف والمصالح، فتضيع وحدة الأمة ووطنية أبنائها. ٢ - الولاء الفكري للغرب، والتبعية له والنقل منه قال ماركس في الماركسية، وقال جون ستيوارت مل في الليبرالية، وقال هيجل ونشته في القومية، وقال سان سيمون وبرودون في الاشتراكية، نقلاً بنقل، نقل عن السلف أولًا ونقل عن الغرب ثانياً، سلفيون وعلمانيون سواء بسواء. وغالباً ما يكون الولاء الفكري مقدمة الولاء السياسي. ٣ - الانفصال عن التراث القديم الذي تحول إلى ثقافة شعبية موروثة ومعاداته والخصومة معه، وبالتالي العزلة عن الجماهير والترفع عليها ومخاطبتها بلغة لا تفهمها، والتحول إلى نخبة مثقفة وحاكمة تشكو سلبية الجماهير تجاهها ومن سيطرة الجماعات الإسلاميّة عليها، مع أنّه قد يكون في بعض جوانب التراث ما تدعو له العلمانية من عقل وعلم وتقدم وإنسانية وحرية ومساواة وعدالة اجتماعية. ٤ - الترويج للعلمانية الغربية، ونقل أشكال التعارض بين السلطتين الروحية والزمنية، وحله بفصل الدين عن الدولة على الطريقة الغربية، وإغفال خصوصية الثقافات والمجتمعات، فالشريعة الإسلاميّة شريعة وضعية تقوم على رعاية مصالح الناس، والإسلام بين علماني في جوهره، خال من أية سلطة دينية، والإمامة عقد وبيعة واختيار والإمام ممثل للأمة وليس ممثلاً لله. ٥ - الترويج لأسطورة الثقافة العالمية واعتبارها مرادفه لكل الثقافات (١٢٣) المحلية وبديلاً عنه، لا فرق في ذلك بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، مع أن كل علم هو تعبير عن رؤية للعالم، وجزء من المكون الحضاري، وعلى كل منها التأقلم معها والتخلي عن خصوصيتها العالمية الثقافية الغربية، وهو ما عرف في الانثروبولوجيا الثقافية باسم التثاقف أو المثقافة - Acculturation الثقافة الغربية هي الثقافة العالمية التي على كل ثقافة تمثلها، ثقافة العقل والعلم والإنسان والحرية والتقدم المساواة، ثقافة التنوير وحقوق الإنسان، في حين أن الثقافات المحلية مرادفة للخرافة والسحر والدين والقهر والتخلف والتعصب واللاعقلانية. ٦ - ونظراً لأن هذا لا يستديم، فإنه كثيراً ما تحدث ردة عليه في حياة الفرد على نفسه، وانتقاله من العلمانية إلى السلفية أو انقلاب المجتمع على نفسه من النقيض إلى النقيض [٥]. والطبيعي هو الانتقال من السلفية إلى التنوير، وإيجاد متطلبات العلمانية في عقلانية المعتزلة وابن رشد وعلمية وتجريبية أصول الفقه، وواقعية الشريعة، وإنسانية التصوف. وقد نشأت محاولات عديدة في الجيل الحالي من المفكرين وأساتذة الفلسفة لإعادة الوحدة إلى الثقافة الوطنية بين الموروث والوافد من أجل تجاوز ثنائية الحالة الراهنة للمشروع الحضاري بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر، بين الفلسفة والعلمانية، والتمسك بالشرعيتين معاً، شرعية الماضي وشرعية الحاضر ضرورة الأصالة والحاجة إلى المعاصرة فاتهمت بالتوفيقية والجمع بين المتناقضات من أجل استمرار الصراع على السلطة باسم الثقافة، تهدف هذه المحاولات إلى توسيع رقعة الوافد والارتباط بالموروث، وهي محاولة صعبة عادة ما تنتهي إلى الآتي: ١ - يتم التجديد لحساب الوافد وبفضله، فهو الوسيلة والغاية، البداية (١٢٤) والنهاية أكثر مما تم لحساب الموروث الذي تكمن وظيفته فقط في الحامل والوعاء ومن هذه المحاولات الماركسية العربية، والشخصانية الإسلاميّة، والاشتراكية العربية فهي قراءات ماركسية ووجودية وشخصيانية واشتراكية لبعض جوانب التراث الإسلامي أو قراءة إسلامية لبعض المذاهب الفلسفية الغربية. ٢ - يتم إخراج المذهب الغربي من بيئته واجتثاثه من جذوره، وإطلاقه من نسبيته، وجعله حقيقة مطلقة، جعل البالون كرة مصمتة، وأحد الاجتهادات الحقيقة عينها، وبالتالي إعطاء الآخر أكثر مما يستحق وإعطاء الأنا أقل مما تستحق. ٣ - يتم اجتزاء جوانب من الموروث تتفق مع الوافد وفصلها عن تراثها الذي نشأت فيه، وبالتالي رد الكل القديم إلى الجزء الجديد المقروء بعين الوافد، فيتم التعامل مع الأنا بانتقائية يحددها الوافد. ٤ - الوقوع في التشتت المذهبي والحيرة بين التيارات ومعايير الاختيار والقضاء على التصور الكلي للعالم الذي كان وما يزال أهم سمات الموروث، وطغيان فقاقيع الهواء وتفجرها على رمال الشاطئ، أقرب إلى الزبد الذي يذهب جفاء دون ما ينفع الناس. تظل معظم هذه المحاولات مرفوضة من الطرفين، من أنصار الوافد وأنصار الموروث، ومعزولة عن الواقع وجماهير الأمة، محاولات للنخبة ولكبار الأقلام، مجرد اجتهادات فكرية وأدبية من النجوم الزاهرة في المجتمع المطلعة على آخر ما أنتجه الغرب من فلسفات ومازالت مرتبطة بتراثها وأرضها. ٥ - تحل هذه المحاولات ثنائيات الثقافة في أذهان المثقفين كأفراد، ولكنها لا تحل الخصومة في المجتمع بين قوتين رئيستين فيه: السلفية والعلمانية. ما (١٢٥) أسهل أن يتم التوفيق في الذهن حيث الكلمات والألفاظ والمعاني حرة طليقة، وما أصعب أن تتم المصالحة والنفوس غاضبة والقوى متصارعة في الواقع، هذه هي الحالة الراهنة للمشروع الحضاري للجيل الحالي وإرث عصر النهضة [٦]. رابعاً: مستقبل المشروع الحضاري وانقضت القرون السبعة الثانية كي تنتهي الدورة الثانية للحضارة الإسلاميّة ويبدأ القرن الواحد والعشرين [٧]. ومهمة هذه الدورة التاريخية الثالثة إقالة محاولات عصر النهضة من عثرتها وإعادة الوحدة الثقافية للأمة بين السلفية والعلمانية، وتجاوز محاولات التجديد من الخارج، من أجل إيجاد وحدة عضوية تنبع من مصالح الناس ومتطلبات العصر فيمكن تطوير الحركة السلفية عن طريق إعادة بناء التراث القديم ويمكن أيضاً تحجيم الحركة العلمانية عن طريق نقد التراث الغربي ويمكن ثالثا تجاوز محاولات التجديد من الخارج عن طريق التنظير المباشر للواقع ومن ثم تكون مهمة المشروع الحضاري في المستقبل على النحو الآتي: ١ - إعادة بناء التراث القديم بما يتفق مع ظروف العصر فقد تغيرت المرحلة التاريخية كلها من عصر الفتوحات الأولى إلى عصر الهزائم المتتالية، من فتح القدس إلى احتلالها، ومن وحدة الأمة إلى فرقتها، ومن الوقوف أمام إمبراطوريتي الفرس في الشرق والروم في الغرب إلى التبعية للروم الجدد بعد انهيار نظم الشرق، ومن الاستقلال والإبداع إلى التبعية والتقليد ومن الريادة والصدارة إلى التقهقر والتراجع. كان الوحيد حيث العهد فنشأت العلوم المحافظة عليه، العلوم النقلية الخمسة وقد استمرت هذه العلوم الآن وحققت غاياتها في المحافظة على (١٢٦) القرآن، وتدوين الحديث وظهور التفاسير، وكتابة السيرة، وتقنين الفقه والآن تبدو الحاجة ملحة إلى إعادة بنائها طبقاً لحاجات جديدة: أولوية الواقع على الفكر في أسباب النزول، والزمان والتطور في الناسخ والمنسوخ [٨]، التفسير الموضوعي للقرآن لمعرفة التصور الإسلامي للعالم، النقد الداخلي للحديث لعقلانية وواقعية المتن وليس لصحة السند، التفسير الشعوري والاجتماعي للقرآن وليس التاريخي واللغوي والأدبي والكلامي والفلسفي والصوفي والفقهي، وتحويل السيره إلى قدوة وبطولة بدلاً من تشخيص صاحبها في حياتنا حتّى انقلب النموذج والقدرة إلى عبادة الأشخاص، ثم إعطاء الأولوية للمعاملات على العبادات في الفقه بعد أن عرفنا العبادات…. في حين عزت علينا أحكام الاقتصاد والسياسة والاجتماع [٩]. كما نشأت العلوم العقلية والنقلية في ظرفها التاريخي الماضي، في عصر الفتوحات، ظهرت فيها نغمة الزهو والانتصار كما عكست الصراع الداخلي على السلطة بين الحاكم والمحكوم ففي علم أصول الدين انتصرت الدولة للأشعرية كعقيدة رسمية لها وكفرت المعارضة، الشيعة والخوارج والمعتزلة ونحن نشكو الآن من ضعف المعارضة وسلبية الناس وتواكلهم، واعتمادهم على النصوص، وكثرة القول وقلة العمل وحصر الإمامة في قريش أو في الجيش إن مستقبل علم أصول الدين مرهون بالانتقال من الاشعرية عقيدة السلطة إلى الاعتزال، المعارضة العلنية في الداخل، وليس الشيعة المعارضة السرية أو الخوارج المعارضة العلنية المسلحة في الخارج، فعيون السلطة وشرطتها في كل مكان كما هو اختيار الجماعات الإسلاميّة المعاصرة، والانتقال من الذات والصفات والأفعال من الله إلى الإنسان الكامل، ومن النقل إلى العقل، ومن الجبر والكسب إلى خلق الأفعال، ومن النبوة والمعجزة إلى الوعي التاريخي (١٢٧) واستقلاله عقلاً وإرادة، ومن المعاد إلى المستقبل، ومن الإيمان والعمل إلى وحدة النظر والعمل، ومن الإمامة إلى المؤسسات، ومن الفرق الهالكة والفرقة الناجية إلى التعددية والحوار الوطني [١٠]. وفي علم أصول الفقه استقر النص، وأعطيت له الأولوية على الواقع والآن نعاني من ضياع المصالح، ونشعر بالحاجة إلى ضرورة الاجتهاد من جديد، ليس كأصل رابع من أصول الشريعة، بل كأصل أول يتلوه الإجماع ثم السنة ثم الكتاب في ترتيب تصاعدي بدل الترتيب التنازلي القديم نبدأ من الواقع إلى النص كما بدأ القدماء من النص إلى الواقع فالمصلحة لا تعارض النص والبداية بالواقع والزمان المتجدد أقرب إلى أسباب النزول أو إلى الناسخ والمنسوخ. وفي علوم الحكمة لم تعد الثقافة اليونانية هي الوافدة، بل الثقافة الغربية التي مازلنا نترجم القدماء على مدى جيلين، حنين بن إسحق وإسحق بن حنين، ثم بدأ الإبداع المستقل عند الكندي والرازي ومن ثم يمكن إنشاء علوم حكمة جديدة تتعامل مع الوافد الغربي الجديد، وننتقل من عصر الترجمة والشرح والتلخيص إلى مرحلة الإبداع والتأليف، ومن الإعجاب بسقراط وأفلاطون وأرسطو إلى الإعجاب بديكارت وكانط وهيجل، ومن الحكمة الثلاثية القديمة: المنطق والطبيع يات والإليهات إلى الحكمة الشعورية الجديدة، عالم الشعور وعالم الآخرين وعالم الأشياء وأخيراً في علوم التصوف نشكو الآن من سيادة الطرق الصوفية على حياة الناس، والعزلة عن العالم والإغراق في الروحانيات يمكن إذن إعادة بناء علوم التصوف بحيث يعود إلى العالم من جديد بدلاً من الهرب إلى الله، ويتحول الطريق الصوفي الرأسي إلى طريق أفقي، ومعراج القدس إلى مسار في التاريخ وتحرير القدس، والمقامات إلى مراحل للتطور، والأحوال النفسية المتضادة إلى جدل المجتمع والتاريخ، وتكون الغاية القصوى البقاء وليس الفناء. (١٢٨) وبعد أن توقفت العلوم العقلية الخالصة، ولم نعد نبدع في العلوم الرياضية أو الطبيعية أو الإنسانية ونعتمد في ذلك على العلوم الغربية الوافدة، ولم تشفع لنا دروس تاريخ العلوم عند العرب لأنها مجرد عرض لمآثر القدماء وكأنها تاريخ صرف دون دراية بنشأتها ودون تطويرها، تكفينا العزة، يمكن استئناف عمل العقل من جديد بعد معرفة الموروث والوافد فنحن أسعد حظاً من القدماء. إذ تعامل القدماء مع الوافد اليوناني والهندي والفارسي ولم يكن لديهم موروث خاص، ونحن نتعامل مع الوافد الغربي وموروثنا القديم. ٢ - التحرر من التراث الغربي الوافد الذي أصبح بديلاً من حيث المصدر عن الموروث القديم وإن كان يقوم بنفس الوظيفة، وهو الأسر الثقافي للعقل والتبعية الثقافية للذهن، وذلك عن طريق رده إلى حدوده الطبيعية وإرجاعه إلى ظروف نشأته وإثبات تاريخيته، وبأنه ثقافة محلية مثل غيره من الثقافات، وأن أسطورة الثقافة العالمية إنّما غايتها الهيمنة على مقدرات الشعوب من خلال السيطرة على أجهزة الإعلام ودور النشر وبذلك تنتهي علاقة ثقافة المركز بثقافات المحيط، وينتهي مركب العظمة عند الآخر ومركب النقص عند الأنا. ويتحول الآخر من مصدر للعلم إلى موضوع للعلم، ومن دارس إلى مدروس، ومن ذات إلى موضوع، كما يتحول الأنا من موضوع للعلم، ومن مدروس إلى دارس، ومن موضوع إلى ذات ومن ثم تنتهي التبعية للغرب، وينتهي عصر الريادة له وتعود إلى الثقافة الوطنية وحدتها بين الموروث والوافد، وتتحرر الأنا من أسرها مرتين، الأسر للماضي والأسر للمستقبل لصالح الوعي بالحاضر. يمكن - إذن - رصد مصادر الوعي الأوروبي، المصدر اليوناني الروماني وبيان كيف تغلب الروماني على اليوناني فيه، والمصدر اليهودي المسيحي، (١٢٩) وبيان كيف تغلب اليهودي على المسيحي به، والبيئة الأوروبية نفسها، وبيان كيف كانت الدعامة المادية للمصدرين الماديين المطابقين ويمكن رصد تكوين الوعي الأوروبي منذ النشأة في العصور الحديثة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبلوغ الذروة في القرن التاسع عشر ثم الوصول إلى نهاية البداية في النصف الأول من القرن العشرين، وبداية النهاية في النصف الثاني منه لقد بدأ الوعي الأوروبي بثنائية قضت على وحدته، نزوع عقلي مثالي إلى أعلى انتهى إلى الصورية والتجريد وفقدان الحياة، ونزوع حسي تجريبي إلى أسفل انتهى بمحاولة لرتق الفتق في الظاهريات وفي فلسفات الحياة واعتبار كلا النزوعين بعدين للشعور توالت المذاهب الفلسفية بين البداية والنهاية بعضها من بعض طبقاً لقانون الفعل ورد الفعل من المثالية إلى الواقعية إلى المثالية الجديدة إلى الواقعية الجديدة، من الكلاسيكية إلى الرومانسية إلى الكلاسيكية الجديدة إلى الرومانسية الجديدة عيوب كل مذاهب سابق هي مميزات كل مذهب لاحق، ومميزات كل مذهب سابق هي عيوب كل مذهب لاحق. كل مذهب يهدم ويبني، وتتوالى المذاهب، ما يتم هدمه بالأمس يعاد بناؤه اليوم وما يتم بناؤه اليوم يعاد هدمه في الغد تكافأت الأدلة وتساوت ا لمذاهب وتعادلت الرؤى فنشأت الحيرة وعم الشك فيها جميعاً وانتهى الوعي الأوروبي إلى النسبية واللاأدرية وصب في النهاية في العدمية بدأ الواقع الأوروبي عارياً من أي غطاء نظري بعد عصر النهضة وهدم الأغطية النظرية القديمة الوافدة إليه من الكنيسة وأرسطو والعرب ثم حاولت المذاهب الفلسفية إيجاد أغطية نظرية بديلة، فحطمها الوعي الأوروبي واحداً تلو الآخر حتّى أصبح عارياً من جديد يحاول رد الاعتبار إلى ما هدم أولاً فنشأت الاتجاهات المحافظة فيه كرد فعل على العدمية، وليبدأ ربما دورة تاريخية جديدة ابتداءً من عصر (١٣٠) وسيط جديد وحد بين الواقع والقيمة في البداية ثم فصل بينهما في النهاية فانقلب من التنوير إلى التنوير المضاد، ومن النزعة الإنسانية إلى النزعة العنصرية، ومن التحرر إلى الاستعمار، ومن تحرير العبيد لديه إلى استعباد باقي الشعوب تكونت العقلية الأوروبية بفعل هذا التطور التاريخي للوعي الأوروبي، عقلية تجزيئية لا ترى من الواقع إلا أحد جوانبه ثم ترد الكل إليه. المعرفة إما حسية أو عقلية أو وجدانية، وليست كل ذلك في نفس الوقت والمذاهب السياسية إما ليبرالية رأسمالية أو اشتراكية جماعية، دون الجمع بينهما الفن إما شكل أو مضمون، إما للفن أو للحياة، حتّى ضاعت الحقيقة الشاملة وتاهت بين الأجزاء وتم تقسيم النشاط الذهني بين الدين والعلم والفلسفة، بين النظر إلى أعلى والنظر إلى أسفل أو النظر إلى الأمام ونشب خصام بين الميادين الثلاثة إما الدين وأما العلم وإما الفلسفة [١١]. ٣ - التنظير المباشر للواقع لتجاوز ثقافة النص وعقلية التأويل ومنهج القراءة إلى رؤية الواقع المباشر، وتنظيره تنظيراً مباشراً دون قراءته من خلال نص مسبق موروث أو وافد، وبذلك يستمر المشروع الحضاري في إبداع نصوص جديدة وليس فقط في قراءة نصوص قديمة وإعادة الاختيار بين البدائل، وتعود الحضارة من جديد كما نشأت أول مرة نشأة تلقائية باجتهاد عقلي خالص في ظرف تاريخي محدد وربما بمشروع توحيد جديد للعالم المتحرر حديثاً شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وصياغة مثل جديدة للعالم خالية من الهيمنة والعنصرية والصهيونية من أجل حوار متكافئ بين الحضارات وحوار عادل بين الشعوب فتعود لأسباب النزول دلالتها، أولوية الواقع على الفكر الواقع هو الذي يستدعي الفكر، الواقع يسبق الفكر ولا يسبق الفكر الواقع كذلك يأخذ الناسخ والمنسوخ دلالته في التطور والزمان والتقدم، تغير الفكر بتغير (١٣١) الواقع، فالواقع مصدر الخصب والحيوية والنماء. مازالت قضية تحرير الأرض التحدي الأكبر لنا فالبرغم من أننا عشنا عصر التحرر من الاستعمار المباشر إلا أننا مازلنا نرزخ تحت الاستعمار الاستيطاني في فلسطين يحتل مزيداً من الأراضي عاماً بعد عام من ١٩٤٨ إلى ١٩٥٦ إلى ١٩٦٧ إلى ١٩٨٢، توسعى وراء توسيع، من إسرائيل النكبة إلى إسرائيل الكبرى. هل يمكن إقامة لاهوت الأرض، وإيجاد العلاقة بين الله والأرض في علم كلام جديد في مستقبل المشروع الحضاري ﴿رب السموات والأرض﴾، ﴿هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله﴾ هل يمكن إقامة فقه للأرض، وتفسير للأرض، ومسيرة للأرض، وفلسفة للأرض، وتصوف للأرض، وجغرافيا للأرض، وتاريخ للأرض وليس فقط لغة الأرض وأدب الأرض؟ هذا هو السبيل الأبقى لبقاء سيناء ولولاء البدو للوطن الأم ولتحرير القدس وللحفاظ على العراق والبوسنة والهرسك وبورما أمام العدو، جعل الله والشعب والأرض ثالوثاً مقدساً في إله واحد [١٢]. ومازلنا نعيش قهر المواطن وكبت الحريات وتعذيب المخالفين في الرأي في النظم التسلطية التحدي أمامنا، كيف يمكن صياغة نظرية في الحرية تبحث عن معوقاتها في ثقافتنا ووجداننا، وتحاول تأصيلها في الشهادة باعتبارها شهادة على العصر في فعل النفي «الإله» نفي آلهة العصر المزيفة ثم فعل الإثبات «إلاّ الله» المبدأ الواحد الحق الذي يتساوى أمامه الجميع، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الدين والنصيحة، وفي نظام الحسبة، وفي الجهر بالحق، فالساكت عن الحق شيطان أخرس [١٣]. وتزداد قضية العدالة الاجتماعية تأزماً بزيادة البون الشاسع بين الأغنياء والفقراء، فأغنى أغنياء العالم منا وأفقر فقراء العالم منا كيف نعمل على تقريب (١٣٢) الهوة بين الطبقات، والانتقال من الملكية إلى الاستخلاف، وأن يكون للانسان حق التصرف وحق الانتفاع وحق الاستثمار، وليس حق الاكتناز وحق الاستغلال وحق الاحتكار، وأن مصالح الناس وأدوات الإنتاج كالزراعة (الماء والكلأ) والصناعة (النار) في أيدي الأمة، وأن العمل مصدر القيمة وليس المضاربات والعمولات والسمسرة وتجارة المخدرات؟ ولما كنا نعاني من التجزئة والقطرية والخلافات إلى درجة الاقتتال والحروب الأهلية يكون المشروع الحضاري الجديد مشروعاً وحدوياً بالضرورة، تعبيراً عن التوحيد في الفكر والواقع، توحيداً بين الشعوب دون فرق في لون أو جنس أو عرق أو دين تاريخنا وثقافتنا ولغتنا وأهدافنا ومصالحنا واحدة وهذا لا ينفي التعدد، فالوحدة هدف ومصير والآراء مختلفة ومتعددة، تعددية في النظر ووحدة في العمل ولما كنا شعوباً تعتمد على غيرها في الغذاء والكساء والسلاح والعلم فإن التنمية المستقلة تصبح هدفاً قومياً عاماً ومطلباً وطنياً بحيث يتم تحرير الإرادة الوطنية من الضغوط الأجنبية يتوجه المشروع الحضاري المستقبلي إلى التنمية المستقلة، تنمية الموارد الطبيعية، المادية والبشرية، اعتماداً على الذات وقد سخرت الطبيعة لإرادة الإنسان وصالحه كما استعمر الله الإنسان في الأرض ليعمرها المشروع الحضاري الجديد مشروع تنموي بالضرورة يقوم على فعل الإنسان في الطبيعة واستخلاف الله له في الأرض. ولما كنا نعاني من التغريب في حياتنا ومن التبعية في ثقافتنا وسلوكنا فإن الدفاع عن الهوية والأصالة أحد المطالب الرئيسية للجميع، وبسببه تخرج الحركة السلفية مناهضة للتغريب المفاصلة هنا ضرورية «لكم دينكم ولي ديني» ورفض التقليد والتبعية يساعد على الحفاظ على الهوية المشروع (١٣٣) الحضاري الجديد يثبت الهوية في مواجهة التغريب، ويتمسك بالأصالة ضد التبعية. وأخيراً، لما كنا نعاني من سلبية الجماهير وعدم اقتناعها بأي شيء يفعلون لأجله أي شيء فإن الإحساس بالأمانة والرسالة والإعداد بالمستقبل يساعد على القضاء على فتور الأمة الذي حاول الكواكبي من قبل القضاء عليه في «أم القرى» إن المشروع الحضاري ليس فقط مشروعاً فكريا بل هو مشروع للتحقيق من خلال تجنيد الناس له حتّى إلى قوة اجتماعية ومسار تاريخي [١٤]. إن هذه التحديات الرئيسية في الواقع في حاجة إلى نظير مباشر لها يسمح بالتعددية في الفهم والتفسير ومناهج التحليل والأطر النظرية واجتهاد جميع المدارس والتيارات الفكرية فالحق النظري متعدد، والحق العملي واحد كما يقول الأصوليون القدماء وجبهة وطنية واحدة ممثلة لجميع الأطراف قادرة على تحقيق هذا المشروع الحضاري الجديد دون استئثار طرف واحد بالسلطة مع استبعاد الأطراف الأخرى. من هذه الجبهات الثلاث تتم صياغة المشروع الحضاري الجديد قد لا تكون متساوية في الأهمية بالضرورة أو ذات عمق واحد في الوعي القومي فالذات القديم أعمق الجبهات الثلاث يمتد أربعة عشر قرناً لو كان إسلامياً، وعشرين قرناً لو كان قبطياً وثلاثين قرناً لو كان مصرياً قديماً أعماق ثلاثة متداخلة في التاريخ لها مركز واحد هو الوعي القومي كالدوائر المتداخلة في الحاضر، مصر مركز الوطن العربي والعالم الإسلامي وشعوب آسيا وأفريقياً وأمريكا اللاتينية وقد تتفاوت هذه الجبهات الثلاث من حيث اتساع القاعدة الجماهيرية فالجبهة الأولى أكثر اتساعاً في قاعدتها الجماهيرية ومنها تخرج الحركة السلفية المعاصرة، والجبهة الثانية أقل اتساعاً، قاصرة على النخبة المثقفة أما (١٣٤) الجبهة الثالثة فهي أقلها اتساعاً، نظراً لأنها تعتمد على الخطاب السياسي الذي ينقصه التصديق مازال الفكر غائباً عنه تاركاً مجاله للأدب، والشعر والرواية والقصة ومعاناة الناس. ويستطيع المشروع الحضاري الجديد أن يضع الأمة في سياقها التاريخي، وأن يدخلها في نظام العالم والتعامل معه من موقع الندية والاستقلال وكانت الأمة باستمرار في علاقة مع الآخر منذ نشأتها من الشرق والغرب، مع الفرس والروم ثم مع التتار والمغول والصليبيين، مع المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، والآن بقيت الأمة في علاقة مع الغرب كانت هذه العلاقة باستمرار عبر التاريخ على التبادل إذا كانت الأمة في موقع الأستاذ كان الغرب في موقع التلميذ، كما كان الحال في عصرنا الذهبي الأول وفي قروننا السبعة الأولى العصر الوسيط الأوروبي وإذا كانت الأمة في موقع التلميذ كان الغرب في موقع الأستاذ كما الأستاذ كما هو الحال في عرص التوقف والتدوين في قروننا السبعة الأخيرة، العصور الأوروبية الحديثة كل منا لعب دور الأستاذ والتلميذ مرتين نحن - إذن - على أعتاب دورة تاريخية ثالثة، من القرن الخامس عشر حتّى القرن الواحد والعشرين عندنا، ومن القرن الواحد والعشرين حتّى القرن الثامن والعشرين عندهم. يتعامل كلانا مع موقع الندبة كل منا أستاذ فيما يعلم وتلميذ فيما لا يعلم فلا يوجد معلم أبدي يعطي من طرف واحد ولا يأخذ شيئاً ولا يوجد تلميذ أبدي يأخذ من طرف واحد ول ا يعطي شيئاً المشروع الحضاري الجديد قادر على الحوار بين الحضارات من موقع الندية والتكافؤ وليس من موقع الدونية تجاه الآخر الذي يتعامل معنا من موقع التفوق والعظمة إن المشروع الحضاري الجديد لا تتم صياغته إلاّ في فلسفة جديدة للتاريخ تجعل الوعي بالفكر وعياً بالتاريخ. (١٣٥) ١ - جمال حمدان: شخصية مصر، ثلاثة أجزاء عالم الكتب، القاهرة ١٩٨١. ٢ - أنظر رسالتنا الأولى (بالفرنسية) Essai sur la science des Fondements de la ’Exegese’Les Me thodes d Comprehen sion ilm Usul al - Fiah Le Caire. ٣ - أنظر دراستينا «الفارابي - شارحاً أرسطو» و «ابن رشد شارحاً أرسطو» في «دراسات إسلامية» ص ١٤٥ - ١٧٢ الانجلو مصرية القاهرة ١٩٨١. ٤ - انظر دراستنا «كبوة الإصلاح»، دراسات فلسفية، ص ١٧٧ - ١٩٠ الانجلو المصرية القاهرة ١٩٨٧. ٥ - هذه هي حالة خالد محمّد خالد، وإسماعيل مظهر، وعادل حسين، وإبراهيم شكري، ومحمد عمارة. ٦ - انظر «أزمة التغير الاجتماعي» في «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» ص ٣٧ - ٧١، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة ١٩٨٠. ٧ - انظر حوارنا مع محمّد عابد الجابري في «حوار المشرق والمغرب»، مدبولي، القاهرة ١٩٩٠. ٨ - الوحي والواقع دراسة في أسباب النزول، الإسلام والحداثة، دار الساقي، لندن ١٩٩٠. ٩ - انظر دراستنا «مناهج التفسير ومصالح الأمة» في «الدين والثورة في مصر» الجزء السابع «اليمين واليسار في الفكر الديني»، مدبولي، القاهرة ١٩٨٩. ١٠ - انظر دراستنا «تاريخية علم الكلام» مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الأول، يونيو ١٩٩٢. ١١ - انظر كتابنا «مقدمة في علم الاستغراب» الدار الفنية، القاهرة ١٩٩١. ١٢ ـ God Community and Land Theology of Land in Religious dialogue and revolution pp. ١٧٥ - ٨٢ Anglo egyptioan bookshop Cairo ١٩٧٧. ١٣ - «ماذا تعني شهادة ألا إله إلاّ الله؟ » في «الدين والثورة في مصر» الجزء السابع «اليمين واليسار في الفكر الديني» ص ١٤٧ - ١٦١. ١٤ - أنظر دراستنا «الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره المستقبلي» دراسات فلسفية، ص ١٩١ - ٢٢٧، الانجلو المصرية، القاهرة ١٩٨٧.
|
مقالات أخرى من هذا الكاتب |
• الاسلام و الغرب
(بازدید: 841)
(موضوع: فكر إسلامي)
• مستقبل الإسلام في ضوء التحديات الراهنة
(بازدید: 1432)
(موضوع: دراسات حضارية)
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• التغيير الإسلامي في إيران من منظور حضاري
(بازدید: 1098)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• انتشار الرسوم المسيئة لشخصية برؤية ثقافية حضارية رسول الاسلام (ص)
(بازدید: 882)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• تعليم العربية لغير الناطقين بها وسيلة حوار بين الحضارات
(بازدید: 1706)
(نویسنده: محمد الجعيدي)
• دور زينب بنت علي في مسيرة الحضارة الاسلامية
(بازدید: 1727)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• عاشوراء بمنظار حضاري
(بازدید: 1463)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• عبدالرحمن الكواكبي من روّاد الاستنهاض الحضاري
(بازدید: 1350)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مالك بن نبي والإنسان ومسار الحضارة
(بازدید: 1464)
(نویسنده: أسعد السحمراني)
• محمد إقبال وتجديد التفكير الديني في الاسلام
(بازدید: 2349)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• مسألة «المهدي المنتظر» برؤية حضارية
(بازدید: 1137)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مشروع الكواكبي اجتماعياً وتربوياً
(بازدید: 1312)
(نویسنده: محمد قجة)
• نحو فهم حضاري لتاريخنا الإسلامي معركة الطف نموذجًا
(بازدید: 1038)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• الثقافة بين التخلف والتخلق
(بازدید: 1088)
(نویسنده: الدكتور خالد زهري)
• الثقافة والحضارة
(بازدید: 2449)
(نویسنده: زكي الميلاد)
• الجمع بين الاصالة والمعاصرة
(بازدید: 1840)
(نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• الحضارة والتفاعل الحضاري
(بازدید: 1183)
(نویسنده: عبد الله الفريجي)
• تحديات تأهيل العقل المسلم في المشروع الحضاري
(بازدید: 932)
(نویسنده: الدكتور عبدالناصر موسى أبوالبصل)
• رؤية السيد الشهيد الصدر لمسألة التنمية
(بازدید: 1452)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مستقبل الإسلام في ضوء التحديات الراهنة
(بازدید: 1432)
(نویسنده: حسن حنفي)
• وسطية الحضارة الإسلامية
(بازدید: 847)
(نویسنده: أحمد الطيب)
• ابن المقفع بين حضارتين دراسة فكرية نقدية و أدبية
(بازدید: 2055)
(نویسنده: حسين علي جمعة)
|