banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

رحلة إلى كعبة الحبيب
ثقافتنا - العدد 13
عرفان
علي اللّهوردي خاني
1427

التوبة إزالة الموانع والعوائق
أقسام أفعال العباد
بعد تحقق الإيمان، الأمر الثاني في سلوك طريق الحق سبحانه إزالة الموانع من طريق السير وتذليل العوائق، وبدون ذلك لا يتيسّر السلوك المعنوي. ومن تلك العوائق والموانع المعاصي والسيئات، وهي ما يمكن إزالتها بالتوبة.
السالك طريق الحق عليه أن يعلم أن أفعال العباد على خمسة أقسام:
الأول : الفعل الواجب، وهو مالا يجوز تركه.
الثاني: الفعل الحرام، وهو مالايجوز ارتكابه.
الثالث: الفعل المستحب، وهو ماكان العمل به أفضل من تركه.
الرابع: الفعل المكروه، وهو ماكان تركه أفضل من العمل به.
الخامس: الفعل المباح، وهو ماكان العمل به وتركه سيّان.
القسمان الأولان واجبان على السالك أعني فعل الواجب وترك الحرام. التوبة الواجبة لا تنحصر بالأقوال والأحوال والجوارح ، بل تشمل أيضاً كل الجهات حتى مايخطر في ذهن الإنسان من فكر وخيال. وسالكو طريق الحق يرون ارتكاب المكروه وترك المستحب هو من باب ترك الأولى، ويرون التوجه الى غير الحق من الذنوب.
الوصول الى المقصد يتوقف على شرطين:
الأول : العلم بأقسام الأفعال، وما يوصل منها العبدَ الى الكمال.
الثاني: تفهّم نتائج حصول الكمال.
السالك الذي توفّر فيه هذان الشرطان، لا يعمد الى ارتكاب ذنب طبعاً، وإن صدر عنه ذنب يعالجه بالتوبة.
التوبة، باب إلهي مفتوح
معنى التوبة الرجوع عن معصية الله استجابة لأمره. والتوبة من أعظم المنازل البشرية، والوسيلة الوحيدة للنجاة والرقي والتقدّم في الحياة الدنيوية والأخروية. إذ إن مصدر كل الآفات إنما هي ظلمة الذنوب، وحقيقة التوبة إنما هي تطهير ماران على القلب من أدناس وأوزار وماجعل تلك الجوهرة الطاهرة الساطعة صدئة معتمة.
أول منازل العارفين التوبة. التوبة مفتاح الخيرات وأصل جميع المبرّات. وليس للملوثين بالذنوب مطهّرٌ سوى التوبة. وليس للغارقين في بحر المعاصي سفينة توصلهم الى ساحل النجاة سوى الإنابة. ولما كانت التوبة وسيلة لإنقاذ النفس من مهالك الذنوب كان التسويف في أمر التوبة من الظلم الصريح بالنفس.
التوبة والإنابة من الفرائض المقرّرة. الآيات والبيّنات القرآنية والشواهد العقلية على وجوب التوبة والإسراع فيها كثيرة. التائب محبوب الله سبحانه:  إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وفي الحديث: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
بشأن رأفة الله ورحمته يكفي أنه سبحانه ينظر الى عباده وخلقه بصفتين: الاولى ـ صفة الربوبية أو الرحمانية، والأخرى صفة الرحيميّة، في نظر الرحمانية، التي هي عامة لكل المخلوقات، يستوي المؤمن والكافر. خلقهم جميعاً ليتحقق هدفه من الخلق، ويمدّهم جميعاً من رزقه وعطائه وفقاً لحكمته البالغة، بينما رحيميته سبحانه خاصة بالمؤمنين.
التوبة باب مفتوح للرحمة الإلهية. والانسان، في أي حالة كان، لو ثاب قلبياً الى بارئه، فلا يجد في الساحة الإلهية ما يبعث على اليأس والقنوط. فهو سبحانه قال: لا تقطنوا من رحمة الله. ووصف نفسه بأنه «سريع الرضا». لذلك من الممكن أن يقترن التحوّل القلبي بصعود الإنسان الى مقام معنوي رفيع وبتكريم الإنسان لأن يرتفع الى أسمى المناصب الإلهية ليدخل ساحة ربّ العالمين بتوبة نصوح وبوجه أبيض.
من النتائج المترتبة على التوبة كما في النصوص الدينية:
1ـ الحطّ من الذنوب: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
2- تبديل السيئات الى حسنات:  فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً .
3- أن تشمله دعوات حملة العرش:  فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ .
4- الحبّ الإلهي : إنّ الله يحبّ التوابين.
من بشارات القرآن أنه فتح أمام المؤمنين أبواب التوبة إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ .
إنها دعوة لكل المؤمنين تقول لهم: إن ساحة التوبة هي ساحة الترحيب بالمذنبين وغسل أدرانهم، فاخرجوا يا عبادي من اليأس الى الأمل، ومن ظلمات الذنب الى نور التطهير. عليكم الطاعة وعليّ القبول، عليكم السؤال وعليّ العطاء، عليكم التوبة وعليّ المغفرة.
أيها الانسان! الى أين أنت ذاهب؟! ومن الذي تطلب وتريد؟! والى من تتجه في قضاء حاجتك؟! والى أي طبيب تحمل آلامك؟! الشفاء مني، والإجابة مني، الماء في ساقيتي، الراحة في ساحتي، الطرب في طلبي، الأنس بجمالي، السرور بالبقاء معي، الفرح في لقائي. أولئك الذين تحققت آمالهم قد قطعوا مراحل هذا الطريق. وهكذا كان أحبّائي.
أيها الترابيّ! لقد أودع الله فيك كنوزاً عظيمة، فاتجه الى باب رحمته، حيث صوت الملك ينادي: أيها المعذّبون تعالوا ! فهاهنا محطّ راحتكم، والله سبحانه ينادي: أيها المنكسرة أجنحتهم، أيها المنكسرة قلوبهم، أيها المسحوقون، يا من فقدتم قدرة التحليق والطيران، تعالوا، فهاهنا شفاء أجنحتكم وقلوبكم، أيها الإنسان المعاق عن التحليق، إجهد لتكون في مقام والذين جاهدوا
فينا لنمنّ عليك بجناحين من أشعة أنوارنا، فتكون من المشمولين بسنّة
لنهدينّهم سبلنا. لقد كنت تسعى أن تطير بحولك وقوتك، تعال لتسمو بحولنا وقوتنا، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم.
أيها السالكون ! لو أعطانا الله عمر نوح، وصرفنا كل هذا العمر الطويل في الشكر على ما أنعم، فلا نستطيع أن نؤدي حقّ نعمة ولايته لنا في الدنيا والآخرة: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أيها الانسان! أتعلم ماذا قال ربّ العالمين بحقّك حين قال الملائكة:
أتجعل فيها من يُفسد فيها ويَسفِِك الدماء؟ قال لهم: إني أعلم مالا تعلمون، أي إنكم أيها الملائكة لا تعلمون شيئاً عن أسرار ربوبيتنا، ولا عن ألطافنا على العالمين. إنْ كانوا عصاة أعدناهم الى جادة الطاعة، وإن كانوا بعيدين قرّبناهم، وإن كانوا أذلة صيرناهم في كنفنا أعزّة مكرّمين. أنتم أيها الملائكة تنتظرون الى مافي ظاهر هذا الانسان من جفاء، ونحن ننظر الى مافي باطنه من صفاء. تنظرون الى مافي جوارحهم من خلاف، وننظر نحن الى مافي قلوبهم من وفاق…
التوبة شفيع مطاع، تزيل آثار الذنوب، التائب الحقيقي مع من لم يذنب قطّ سيّان: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له». ويأتي النداء من الربّ الجليل: أن يا ملائكتي وسكان سماواتي، دعوا عبادتكم في هذه الساعة، فقد جاءنا عبد تائب منيب، قوموا لاستقباله، وانثروا له طيب الاستغفار ، تناولوا دموع الندم التي ذرفها في توبته وأودعوها في خزانة الرحمة، ونحن في يوم القيامة نرسل «رضوان» ليأخذ بيده:فأولئك الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات (الفرقان/70).
أين هذا العبد المذنب النادم الذي يعاهد ربّه في هذه الساعة المقدسة، ويعتزم طلب رضاه سبحانه، ويهمّ بإزالة غبار الأغيار من صفحة مرآت قلبه، ويربط وجوده بخالقه وبارئه؟!
ليست التوبة مطهّراً إلهياً فحسب، بل هي أيضا زينة معنوية. كل عضو تناسبه زينة معينة، بعض أنواع الزينة تناسب الوجه ولا أثر لها على سائر الأعضاء، لكن بعض أنواع الزينة عامة لكل الأعضاء. من هنا فالزينة منها ماهو خاص ومنها ماهو عام، وهذا يصدق أيضاً على الزينة الباطنية.
بعض القوى الباطنية لها زينة خاصة تؤدي الى تقويتها وتعميقها، لكن بعض أنواع الزينة المعنوية تؤدي الى تصعيد كل القوى الباطنية للإنسان، وتزيد من مصالحه الأخروية والمعنوية.
التوبة أسمى أنواع الزينة التي تناسب كل الحواس والقوى الباطنية، ومن تزيّن بها كان في الدنيا والآخرة من السعداء.
التوبة يقظة الروح
التوبة نوع من التحوّل وانقلاب الحال في السالك. يتفق أحيانا أن يرى بعض الأفراد في يقظتهم أو في منامهم أو في حالة بين اليقظة والنوم، أموراً أو أن يسمعوا بها أو يستشعروها فتُحدث فيهم انقلاباً ينتشلهم من مسيرة حياتهم العادية ويعيدهم الى سلوك طريق الحق. وهذه في الحقيقة جذبة ترشدهم مثل كوكب الهداية الى طريق الصواب.
السالك في المرحلة الأولى يعاني من الحيرة، لأنّ دافعه هو الإحساس بالحاجة الى رفع النقص، لكنه لا يعرف الطريق. وليس له هدف واضح ومطمئن، اللهم إلاّ بواسطة مرشد إلهي يَهَبُ له الاطمئنان. مبدأ النجاة وبداية الحركة تجاه الكمال يتمثل في الطلب. الله سبحانه وتعالى فيّاض لكن الطلب هو شرط الاستفاضة.
التوبة يقظة الروح من الغفلة كي يشخّص الانسان أخطار الطريق، ويُعرض عن أخطاء الماضي، مما يؤدي به الى ترك المعاصي ويوجد فيه العزم على عدم العودة الى تلك الأخطاء.
من أراد أن يسلك طريق الدعوة الى الله فلابدّ أن يبدأ بنفسه، ينبغي أن يبدأ من التوبة، أي أن يثور على نفسه الأمارة، وينهض لمقارعتها ظاهراً وباطناً، وإلاّ فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وهكذا كانت سيرة الدعاة العظام.
إقبال النفس على التوبة يتمّ برعاية شروط:
الأول ـ ملاحظة الآيات والأخبار الواردة بشأن الإنذار والتحذير وتخويف المذنبين.
الثاني ـ ملاحظة حال المذنبين التائبين.
الثالث ـ ملاحظة حالات العقاب التي نزلت بالأمم المنحرفة، كالتي نزلت بأمم الأنبياء السالفين.
الرابع ـ ملاحظة الأحكام الصادرة بخصوص المعاصي الكبيرة.
الخامس ـ التفكير في وجود الخالق سبحانه وقدرته وعظمته ورحمته، وأنه هو وحده المستحق للحمد والعبادة.
التوبة وشروطها
التوبة حصيلة تركيب بين العلم بعقوبة الذنب وبين تفهّم أخطاره وآفاته، ونتيجة ذلك التركيب الندم على مامضى وفوات المطلوب. هذا الندم ينتج عنه معنى آخر وهو الاهتمام بتدارك مافات.
التوبة ـ إذن ـ تشتمل على جانبين، أحدهما يتعلق بالزمن الماضي، والثاني بالحاضر والمستقبل. ما يرتبط بالماضي هو الأسف والندم على ماصدر من ذنب في زمن مضى، وتلافيه:
1ـ مع الله الذي عصاه.
2- مع النفس حيث عرّض النفس للنقصان والانحطاط وغضب الله.
3- مع غيره من الناس ممن أساء إليهم بقول أو فعل.
ما أنزله بغيره من ضرر لابد من تلافيه، وأداء حقه، وإلاّ فــإن توبتـــه لا تقبل. فإذا كان قد أضرّ بالقول فعليه أن يعتذر، وإن أضرّ بالفعل والمال فلابدّ من الجبران وإعادة الحقّ أو التعويض بصورة تؤدي الى رضا المتضرّر، أو تحمّل ماعيّنه الشرع من تعزير. وما عمله مع نفسه عليه أن يجبره بالانقياد الى أمر الله سبحانه وتحمل العقوبة الدنيوية، وبشأن حق الله أن يعود الى بارئه بالرياضة والعبادة.
أما ما يتعلق بزمان الحال والمستقبل فعليه أن يعتزم عزماً قاطعاً على ترك المعاصي وإطاعة أمر الله سبحانه.
التوبة ـ في الواقع ـ تلتئم من ثلاثة عناصر:
الأول ـ الندم على مامضى من زلاّت.
الثاني ـ ترك المعاصي في الحال والعزم على عدم العودة اليها في المستقبل.
الثالث ـ التطهير من المظالم والخصومات.
التوبة عقد القلب على ترك المعصية والإقبال على الطاعة، واستدامتها مشروطة بكسر الشهوة والجهاد مع النفس. فالسالك إن يكن مراقباً لأحوال نفسه فمن الممكن في كل آن أن تندلع في قلبه الأهواء النفسية وتتجه به الى المعصية وتطيح بالأساس الذي قامت عليه التوبة.
لكل عضو توبة: توبة القلب النية على ترك الحرام، توبة العين غضّها عن المحرمات، توبة اليد كفّها عن المنهيات، توبة الرجل ترك التردّد على الملهيات، وتوبة الأذن صيانتها من استماع الاباطيل.
لو قصد أحد الخدمةَ فطهارته المطلوبة ظاهرة، ولو قصد أحدٌ القربةَ فطهارته باطنة. طهارة الظاهر بالماء، وطهارة الباطن بماء التوبة والرجوع الى الله سبحانه.
وبعبارة أخرى التوبة لها ثلاثة شروط: الندم، والاعتذار، والإقلاع. الندامة للقلب، والاعتذار للسان، والإقلاع للأعضاء والجوارح.
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال لقائل بحضرته أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ، أَ تَدْرِي مَا الاسْتِغْفَارُ ، الاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ ، وَ هُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى ، وَ الثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً ، وَ الثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللَّهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ ، وَ الرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا ، وَ الْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالاحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَ يَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ ، وَ السَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاوَةَ الْمَعْصِيَةِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ» .
نعم هذه هي التوبة الحقيقة، وهكذا فعل طلابها الحقيقيون. وقال العلماء الربانيون والعرفاء الإلهيون: إن حقيقة التوبة تنطوي على ثلاثة أشياء: تعظيم الذنب، واتهام التوبة، وأداء الحقوق. وتعظيم الذنب هو أن السالك يرى ذنبه كبيراً وإن كان في الظاهر جزئياً. واتهام التوبة أن يرى السالك توبته ناقصة، بأي نحو تمت هذه التوبة.
من هنا فإن الشخص التائب ينبغي أن يغسل باطنه بماء الحسرة ، وأن يعترف عند بارئه بمعاصيه، ويستشعر الندم على مامضى والتأسف على مافات، وأن يحبس النفس عن الشهوات النفسية، ويستكثر ذنبه، ويلجأ الى الله سبحانه، ويوطّن نفسه على الرياضة وأن لا ييأس من رحمة الله، وبذلك يتخلّص من العقاب الإلهي: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر:53)
أسباب الإصرار على الذنوب وعلاجه
أهمّ الأمور للطالب أن يبادر الى التوبة ويترك التسويف والتأخير، فأهل التسويف يواجهون خطرين عظيمين: الأول أنهم يصابون بقسوة القلب بعد تراكم المعاصي، وبذلك تصدأ مرآة القلب ويتعذّر جلاؤها وتبقى غالباً على هذه الحال. الثاني إمكان أن يعاجلهم الموت ويضيق عليهم الوقت فلا يستطيعون أن يهيئوا مستلزمات التوبة.
وفي كتاب الله العزيز أن ملك الموت يأتي الإنسان فيرى الحقيقة التي غفل عنها، ويستشعر ضرورة التوبة التي طالما سوّف فيها فيقول:  رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ  (المؤمنون:99 -100) فيأتيه الجواب القاطع:  كَلاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون:100).
سبب الإصرار على الذنوب شيئان: الغفلة والشهوة، ولايزول الإصرار إلاّ بازالة هذين العاملين. فإزالة الأشياء بأضدادها. رفع الغفلة بالعلم ورفع الشهوة بالصبر. أما العلم المطلوب في هذا الباب: فهو اكتمال الإيمان بأصل الشرع والإيقان بأن السعادة الأخروية بالطاعة، والشقاء الأبدي بالمعصية، وهكذا تصديق الأنبياء والرسل والأوصياء، إذ من المحال أن يشوب أقوالهم كذب، وبهذا العلم تزول الغفلة.
وفي هذا الباب ثمة حاجة إلى الصبر إضافة إلى العلم. إذ حين تغلب الشهوة وتضغط مشتهيات الطبع يصبح العِلمُ مغلوباً إذا لم تعالج الحالة بالصبر. وطريق علاج الشهوة يكمن في استشعار ضرر الذنوب التي قد تنطوي على لذّة عارضة، لكنها مقرونة بعقوبة دائمة.
لو قيل إن ترك الذنوب غير ممكن إلاّ بالصبر، والصبر لا يتحقق إلاّ بالخوف من العاقبة، والخوف من العاقبة لا يحصل إلاّ بواسطة العلم بضرر الذنوب، وتصديق ذلك لا يمكن أن يحصل إلاّ بتصديق الله ورسوله، ومن هنا فإنّ المصرّ على الذنوب يستلزمه أن لا يكون مؤمناً، فجواب ذلك:
الإصرار على الذنوب قد يكون نتيجة فقدان الإيمان وقد يكون عن ضعف إيمان. وهكذا يمكن بشكل عام أن يجتمع هذا الإصرار مع الإيمان. فارتكاب المعاصي ممكن مع حالة تصديق الرسل والايمان بحقّانية الانبياء وبالعذاب الأخروي.
أسباب الإصرار على الذنوب أربعة:
الاول: أن العقاب موعود ولذّات المعاصي حاضرة، وطبيعة النفس أنها تستجيب للحاضر أكثر من الغائب، من هنا تتجه إلى الذنوب.
الثاني:قوة استيلاء الشهوات والمشتهيات، وصعوبة الرجوع عنها بعد استمرار العادة على ارتكاب المعاصي. لذلك قد يتحقق الإيمان وتحصل معه أيضا المعاصي. فالمريض يؤمن بعلم الطب ونصائح الطبيب، ولكن مع ذلك قد يبادر إلى مخالفتها كأن يشرب الماء المثلّج عند اشتداد العطش.
الثالث: أن أكثر أهل الايمان على عهد مع أنفسهم بالتوبة وتكفير السيئات بالحسنات وتلافي مافات، ولكنهم مع اتصافهم بالإيمان يُبتلون بالتسويف وتأخير التوبة.
الرابع: الاعتماد على فضل الله وعفوه، وعلى أنّ المعاصي ليست أسباباً ملزمة للعقوبة، وعلى أن العقوبة قد تعوّض بالعفو. ولعلّ هذا السبب ينضمّ اليه سبب آخر يؤدي إلى هدم أساس الإيمان، وهو الشك في صدق الرسل وفي تحقق ما جاؤوا به من وعد ووعيد.
ولكل واحد من الأسباب المذكورة علاج:
علاج الأمر الأوّل بالتفكّر في قرب حلول الوعد الالهي، وفي ضآلة مدة زمان الدنيا بالنسبة إلى الآخرة. وأية خسارة أكبر من أن يُعرّض الإنسان نفسه لعقوبة طويلة الأمد من أجل معصية في وقت عارض سريع الزوال.
على الإنسان أن يعود إلى نفسه ويفكر مليّاً في حاله. إذا أمره طبيبٌ أن يكفّ عن عمل معين، يسبب هلاكه، فإنه يستجيب طبعاً لأوامر الطبيب، أليس من الأولى أن يستجيب لأوامر الأنبياء وهم المبعوثون من ربّ العالمين، ليحذّروه من مصير فيه العذاب الأليم؟! العقل يقضي بالضرورة ترك ما تترتب عليه أضرار جسيمة وعواقب سيئة.
وعلاج الأمر الثاني بالتأمل فيما يترتّب على الانجرار ساعة وراء الشهوات النفسية من عقوبة أخروية لأزمانٍ متمادية. إذا كان الفرد لا يستطيع أن يغضّ الطرف عن لذّة فانية عارضة في الدنيا، فكيف يغضّ الطرف عن لذائذ أخروية دائمة؟!
تفاصيل النعم الأخروية المذكورة في النصوص الدينية لاحدّ لها ولا حصر، وهي بايجاز «مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» بينما الدنيا بكل مافيها من نعم محفوفة بالبلايا والأخطار.
وعلاج الأمر الثالث المتمثل في التسويف وتأخير التوبة إنما يكون بالتفكير في الأجل المتوقّع كل آن. ولعلّه يصل دون أن يكون ثمة مجال للتوبة: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ  (لقمان:34).
أضف إلى ذلك أن التوبة تزداد صعوبة مع استمرار العادة على الذنب حتى تصبح التوبة متعذرة بعد أن تترسخ هذه العادة وتطغى الشهوات النفسية وتسيطر على وجود الإنسان. فالانسان إذا وجد صعوبة في قلع غرس شجرة لا ينبغي له أن يؤخّر عمله إلى أيام وسنين أخر، لأن ذلك سيؤدّي إلى ضخامة الشجرة وتجذّرها، وبالتالي إلى تعذّر اقتلاعها. وفي الخبر أن أكثر استغاثة أهل جهنّم وعويلهم إنّما هو من التسويف في التوبة!
وعلاج الأمر الرابع التذكّر والتوجّه، فمن غير المعقول انتظار العفو والشفاعة دون إعداد الأسباب. فسنّة الله اقتضت أن تجري الأمور بأسبابها. ولا يمكن تحقق الأمور دون سعي وجدّ واجتهاد، وهكذا تحقّق العفو والمغفرة. لا يمكن أن نتوقّع إثمار الأشجار دون تعهّدها بالسقاية والحماية، ولا يمكن أن نتوقع من السماء أن تمطر ذهباً وفضّة، وإن كان ذلك ليس بالمحال على الله سبحانه، لكنه خلاف سنة الله: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (الأحزاب:62).
وفي الحديث النبوي: «ليس الإيمان بالتمني أو الترجّي بل الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل».
وعن الامام الباقر(ع) تأكيد على أن أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ليس بالادّعاء، وإنما بالعمل وترك المعاصي يقول:
«أيكتفي من انتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟! فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتقى الله وأطاعه … والله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة وما مَعَنا براءة من النار ولا على الله لأحدٍ من حجّة. من كان لله مطيعاً فهولنا وليّ ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنالُ ولايتنا الاّ بالعمل والورع» .
وعلاج الشك في صدق الأنبياء والرسل (عليهم السلام) إنما يكون في التفكير بالمقدمات اللازمة لتصديقهم والإيمان برسالاتهم وما أخبروا عنه من أمر الآخرة. ويمكن أن نلجأ في هذا الأمر إلى وسيلة قريبة من الفهم، وهي أننا لو تنازلنا عن مرتبة الإيمان اليقيني إلى احتمال صدق الانبياء(ع). وعلى فرض هذا الاحتمال فإن تارك المعاصي ناج من العقاب الأخروي حتماً، وإن ارتكب الذنوب فهو معرض للعذاب ونكال الآخرة حتماً. ولذا ليس من العقل أن يتعرض الإنسان إلى المحرمات والخطايا حتى مع فرض احتمال الآخرة.
التوبة حتى حضور الموت
يقبل الله سبحانه وتعالى التوبة من عباده حتى يتوفاهم. فعلى المكلف على أيّ حال أن لا يغفل عن نفسه، وأن لا يسمح للشيطان أن يستولي على قلبه. قلب الإنسان يتقبل الحسنات الملائكية وكذلك يتقبل الوساوس الشيطانية. حين تفعل الوساوس الشيطانية فعلها يحصل شوق ثم عزم في اتجاه ارتكاب الذنب. وهذا العزم يدفع الأعضاء والجوارح على الحركة لصدور الذنب. أما تأثير الحسنات الملائكية فيبعث شوقاً في القلب نحو الحق سبحانه ويحول دون الشوق إلى الذنوب. لأن الآثار تزول بزوال الأسباب.
الله سبحانه وصف نفسه بالتوّاب والرحيم والغفّار، ووعد التائبين بالمغفرة والرضوان، وفتح باب التوبة حتى حضور الموت، لذلك وجب على العباد أن لا يعصوا هذا الربّ الرؤوف، وإن اتفق أن غلبتهم النفس الأمارة فعليهم أن يسرعوا بالتوبة والاستغفار ويطلبوا منه سبحانه وتعالى عدم العودة إلى الذنب، كي لا ينفذ الشيطان ثانية إلى قلوبهم.
الشيطان يسري تأثيره في البدن، لذلك لابد من التسلح بقوّة من الإيمان قادرةٍ على مواجهة مثل هذا العدوّ للتخلص من هذه المهلكة والدخول في ساحة المخلَصين. فالشيطان قال:  لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ،إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (صّ: 82 - 83).
لزوم التوبة الدائمة
قال الذاكرون إن صلاح الإنسان وفساده يرتبط بقلبه. قلب الإنسان في أغلب الأحيان متذبذب.
لذلك كان أولياء الله العظام دائماً في مقام التوبة، فالسالكون عليهم أن يكونوا في هذا المقام عند كل صلاة. قال أولياء الله: المؤمن من كان دائماً
في مقام التوبة وإلاّ كان ظالماً: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(الحجرات:11).
التوبة عودة إلى الحقّ سبحانه، والرجوع عن مخالفة أمر الحق إلى الحق، ومن يميل من المخالفة إلى الموافقة، ومن العصيان إلى الطاعة، ويكفّ عملياً عن الانحراف، فهو في مقام التوبة. التوبة عودة عن الخطأ إلى جادة الصواب، وعدول عن الباطل إلى الحق.
المكلف لدى أدائه التكاليف قد يكون في حالتين: أن تكون التكاليف منسجمة ومتفقة مع روحه، أو أن تكون مخالفة لروحه. حين تكون الحالة حالة موافقة وانسجام فإنّ وجهة المكلف إلى الحق وهو من التائبين. وحين تكون حالُه مخالفةً فإن المكلف معرض عن أوامر الحق وهو من الظالمين. فالظالم وجهته إلى الباطل. والتائب وجهته إلى الحق والى المعارف الحقة. لما كان السالك في سيره يميل دائماً من المخالفة إلى الموافقة، ومن العصيان إلى الطاعة، ويتجه إلى تفضيل أوامر الحق على أوامر النفس، فهو في مقام التوبة. لأن الذنب ليس سوى مخالفة أمر الحق سبحانه وإرادته.
والتوبة تستلزم معرفة أوامر الله ونواهيه، وبدون ذلك لا يمكن معرفة الذنب، ولذلك قيل لا تصحّ التوبة إلاّ بعد معرفة الذنب. لابدّ إذن من معرفة الذنب أولاً ثم التوبة.
والندم على المعصية يجب أن يكون عن فهم لقبح المعصية وعمّا تجلبه من سخط الله سبحانه. فالذنب يهبط بالانسان من مكانته السامية، وإذا كان الذنب مقروناً بلذّة فهي لذّة كاذبة حتماً وحقيرة مادامت تؤدي إلى غضب الله سبحانه. والأنبياء العظام جاؤوا ليرشدوا الناس إلى طريق الحق. والكتب السماوية إنما هي لتمييز الحق عن الباطل. وإن تطهّر القلب بتعاليم السماء فسينجلي ما أُلهم به من تمييز بين الفجور والتقوى:فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا (الشمس:8). وبهذا التشخيص سينال الإنسان توفيق التوبة، لأن الله سبحانه وتعالى شاءت إرادته أن يرزق مثل هذا الإنسان التوبة الصحيحة: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ  (النساء:27).
التوبة النصوح
الله سبحانه وتعالى رؤوف بعباده، ولذلك كان الخطاب القرآني مفعماً بالدعوة إلى التوبة والإنابة وعدم القنوط من رحمة الله، كما جاء حثّ النبي والرهط الكريم من آله- عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه - على التوبة الخالصة، كي تتوفّر للإنسان ظروف العفو والمغفرة.
فالمزارع الذي ينثر البذور ويتعهدها بالسقاية والاهتمام هو الذي يستطيع أن يتوقّع رحمة ربّ العالمين في الإنبات والإثمار. والتوبة هي أيضا مثل هذا السعي الذي يستنزل الرحمة والعفو والمغفرة.
والتوبة الخالصة ينبغي أن تكون لوجه الله سبحانه دون أن يشوبها ريبٌ ورياء وشهرة. وقال بعضهم إن التوبة ينبغي ألاّ تكون طمعاً في جنة أو خوفاً من عقاب. لكن أهل العلم قالوا إن مثل هذه التوبة أيضا لا تخلو من أجر وليس في صحتها إشكال. لأنها مطلوبة أيضا عند الحبيب. فابتغاء وجه الله لا يتنافى مع ذلك الطمع والخوف المعنويين.
قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً 
(التحريم:8) وقيل في «النصوح» إنه فردٌ ضالّ اهتدى إلى توبة حقيقية ماعاد بعدها إلى الذنب أبداً. والتوبة النصوح أن تكون خالصة من الشوائب وبنيّة رضا الله سبحانه. وفي هذه الحالة يظهر في القلب الخشوع والانكسار، ويَزول منه الحقد والحسد وسائر الصفات الرذيلة، وتتصاعد فيه الهمة نحو كسب رضا الله سبحانه.
لابدّ من نثر بذور ترك المعاصي في القلب ليحصل كمال الإخلاص، ولابدّ من الإيمان بأنّ ساحة النبوة والإمامة معرّاة ومبرّاة من أدران كل القبائح والمعاصي.
من علائم قبول التوبة وغفران الذنوب انشراح الصدر وزوال ظلمة القلب. وبزوال ظلمات القلب يحصل الصفاء بين العبد والمعبود وينتج عنه أنس العبد بالمعبود.
السالك يختلف ماضيه عن مستقبله، إنه اليوم في حال وغداً في حال آخر، إذ هو في تكامل مستمر، وما كان يستسيغه بالأمس قد يكرهه اليوم، وإذا تساوى يوما السالك فهو مغبون.
وارتقاء السالك على سلم الكمال المعنوي والروحي، يستلزم وصول النفس إلى مقام السلم. وبدون السلم فإن للنفس دَخَلاً في الأمور، وكل ما للنفس فيه دَخَل فهو ناقص حتماً. التوبة الحقيقية هي التوبة الربانية، هي التوبة التي يريد الله سبحانه للتائب حقيقتَها وثبوتَها.
أحوال التوبة النصوح ومقاماتها وأركانها
قال العارفون إن حصول مقام التوبة النصوح يتوقف على تقدم ثلاثة أحوال واقتران أربعة مقامات ومداخلة خمسة أركان.
الأحوال الثلاثة هي: الانتباه، والزجر، والهداية.
الانتباه: حالة تهبط على القلب في بداية التوبة، فتوقظه من نوم الغفلة.
الزجر: حالة تنتشل القلب من المكوث في منازل الغرور والضلالة.
الهداية: حالة تهدي القلب إلى الطريق المستقيم.
والمقامات الأربعة المقترنة بالتوبة هي: الأول رؤية عيوب الأفعال، والثاني الرعاية، والثالث المحاسبة، والرابع المراقبة .
رؤية عيوب الافعال: أن لا ينظر التائب إلى أعماله بعين الاستحسان، بل يراها معيبة غير مكتملة، إذ براءة الأعمال من شوائب تدخّل النفس والهوى غير ميسّرة إلاّ لأهل النهايات. وخلوص الأعمال من المؤثرات النفسانية أمر يحصل لأهل التحقيق بالنظر الدقيق.
الرعاية: أن يحافظ على ظاهره وباطنه باستمرار من قصد المخالفة والميل إليها. لو أن شخصاً تاب من معصية، ثم حين يراها أو يسمع بها أو تمرّ على خاطره يستشعر حلاوة ولذّة، فإنه لم يتب. فالتائب الواقعي إذن يراعي باستمرار ظاهره وباطنه، ويسعى أن يزيل التلذّذ في نفسه من ذكر الذنب. فارتكاب المعصية ذنب ظاهر، والتلذّذ بذكرها بعد الترك ذنب باطن. ولو لم يثمر سعيه في إزالة التلذّذ المذكور فعليه أن يحافظ في قلبه على إنكار هذه الحالة ويتضرع إلى الله تعالى أن يوفقه لإزالتها من خاطره وللانشغال بالعبادة والطاعة.
المحاسبة: أن يكون متفقّداً ومتفحّصاً لأفعاله وأحواله، وأن يحصيها في كل يوم بل في كل ساعة ويكون مطّلعاً على نفسه. والمحاسبة قسمان: قبل العمل وبعد العمل.
المحاسبة قبل العمل: أن يتّقي موجبات المعاصي. وإذا مرّ شيء بخاطره أو عزم على فعل اقتضاه خاطره، فعليه أن يتفقّد ويتفحّص فيما إذا كان هذا العمل مقترناً برضا الله سبحانه أو من مقتضيات النفس. فإذا كان من القسم الأول أمضاه، وإلاّ أنكر على النفس ميلها ورغبتها فيه.
والمحاسبة بعد العمل: هي التفحّص فيما صدر عنك في آخر كل يوم بل في آخر كل ساعة. فإذا كان طاعة من طاعات الله شكرت الله سبحانه وحمدته، وإن كان معصية ندمت واستغفرت وأنكرت على النفس ذلك.
المراقبة: أن تلاحظ الرقيب باستمرار. أي ترى الله سبحانه في كل أفعالك وأعمالك رقيباً ومطّلعاً عليك.
والأركان الخمسة التي يقوم عليها بناء التوبة ويتوقف عليها قبول التوبة لدى الله سبحانه فهي: الأول ـ أداء الفرائض. الثاني ـ قضاء مافات. الثالث ـ طلب الحلال الصرف. الرابع ـ ردّ المظالم. الخامس ـ مجاهدة النفس.
أداء الفرائض: وهوأن يلتزم بالأوامر والمنهيّات الشرعية في أوقاتها المعيّنة. ومن هذه الفرائض تعلّم الواجبات والمحرمات قدر الامكان.
قضاء مافات: أن يقضي مافاته من واجبات وعبادات وطاعات، سوى ماليس له قضاء، إذ يكفي فيه مجرّد الندم والعزم على فعل الواجب.
طلب الحلال: بتصفية الطعام والشراب واللباس والمسكن من شوائب الحرمة والشبهة، ففي تصفيتها آثار عامة على تصفية الباطن، والشريعة أمرت بذلك.
ردّ المظالم: بإبراء الذمّة من حقّ الناس، وهذا القسم من براءة الذمة من المهمات. فإضاعة حقّ الله يكفي فيها الندم والعزم الدافع. أما جبران إضاعة حقّ الغير فلا سبيل إليه سوى رضا صاحب الحق. لذلك كان التشديد فيه أكثر.
تحقّق من ذلك أنّ ردّ المظالم في تحقّق التوبة ضرورة لازمة. ولو كانت المظلمة مالاً والعين موجودة ردّها على صاحبها، وإذا كان صاحبها غائباً طلب الوصول اليه، وإن تعذّر تصدّق عنه. وإذا كان صاحبها ميتاً سلّم المظلمة إلى الوارث، وإن تعذّر تصدّق. وإن تَلَفَت العينُ تلافى بالمثل أو بالقيمة، وإن جَهَل المقدار أعطى أو تصدّق بالقدر الذي يُبرئ الذمّة.
وإن كانت المظلمة من قبيل الجرائم برّأ ذمته بالقصاص أو الدية أو الاستحلال. وإن كانت من قبيل هتك العرض طلب الاستحلال بالمعذرة، وإن كان صاحب الحقّ ميتاً أو كانت غيبته غير منقطعة استغفر له وأكثر من الحسنات.
مجاهدة النفس: أن يفطم نفسه من المألوفات ويمنعها من الشهوات للتعوّد على ترك اللذات الطبيعية وعلى عدم التلذّذ من تذكر المألوفات المحرّمة، ليستوي ظاهره وباطنه في التوبة، وليكون في أداء الفرائض صابراً راضياً، عندئذ تكون توبته حقيقية.
وفي الأخبار أن رجلاً من الأمم السابقة تاب إلى الله سبحانه وقضى سنوات في العبادة والطاعة، ولكن علامات قبول التوبة لم تظهر عليه. ذكر حاله إلى أحد أنبياء زمانه وطلب منه أن يدعو لقبول توبته، فتضرّع النبي إلى الله، فجاء الخطاب: وعزّتي وجلالي لا أقبل توبته لأن حلاوة ذلك الذنب الذي تاب عنه لاتزال في قلبه.
التوبة مركبة من الندم والعزم. وقد تكون التوبة كاذبة ولا يصدق على صاحبها اسم التائب. علامة صدق العزيمة أن لا يعود اليها بين حين وآخر، وأن يكره أهل المعصية وأن لا يلتذّ من رؤية المعصية وسماعها، بل يرى استكراهها في نفسه. والذي يعين على صدق العزيمة العزلة. أي هجر أصدقاء السوء والصمت وقلّة الطعام وإحراز القوت الحلال ومطالعة الآيات والاخبار.
درجات التوبة
للتوبة مراتب: توبة العامة من الزلّة، وتوبة الخواص من الغفلة، وتوبة خواصّ الخواص من رؤية الاوصاف البشرية.
توبة العامة من المعصية بالطاعة. وتوبة الخواص بالانتقال من الطاعة إلى التوفيق. أي أن لا يروا طاعتهم بل يروا كل شيء توفيقاً. وتوبة خواصّ الخواص أن يريدوا الانتقال من رؤية التوفيق إلى مشاهدة الحقّ تعالى.
«أعوذ بعفوك من عقابك» فيها إشادة إلى توبة العامة. و«أعوذ برضاك من سخطك» اشارة إلى نظر الخواص. و«أعوذ بك منك». إشارة إلى نظر خواصّ الخواص.
قال العارفون: التوبة على قسمين: توبة الإنابة وتوبة الاستجابة. توبة الإنابة هي أن يتوب خوفاً من العقاب الالهي. وتوبة الاستجابة أن يتوب خجلاً من الكرم الالهي.
يقول سبحانه: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ  (الزمر:54) ومقام الإنابة أسمى من مقام التوبة. التوبة عودة العبد من المعصية إلى الطاعة. والإنابة عودة العبد إلى الله تبارك وتعالى بقلبه.
الإنابة هي القدوم من وادي النفاق إلى وادي السكينة بقدم التسليم.. هي القدوم من وادي البدعة إلى وادي المحبة بقدم الصدق.. هي القدوم من وادي التفرّق إلى وادي الجمع بقدم الانقطاع.. هي القدوم من وادي الدعوى إلى وادي التفريد بقدم الافتقار.
وللتوبة درجات:
الاولى ـ توبة العمّال، وهي الرجوع عن الأعمال الطالحة إلى الأعمال الصالحة.
الثانية ـ توبة المتقين، وهي الرجوع عن فضول العيش والشبهات وأكثر المباحات.
الثالثة ـ توبة الزهّاد، وهي الرجوع عن الغفلة إلى الحضور، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة عنها.
الرابعة: توبة المقرّبين، وهي رجوع التائب عن حسناته إلى الله تعالى. وقيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين، فبعد الانتقال إلى درجة المقربين تصبح حسنات الذين دونهم من درجات سيئات، ويتوبون منها.
الخامسة توبة الموحدين وهي الرجوع عمّا سوى الله إلى الله سبحانه.
إذا كنت ترى التوبة حسنة من حسناتك فهي ذاتية ينبغي أن تتوب منها، وعليك أن تعلم أن تيسير هذه الحالة لطف خفي إلهي.
وقيل أيضاً: إذا عاد شخص إلى طاعة الله خوفاً من عقاب فعودته تسمى توبة. وإذا عاد طمعاً في الثواب فعودته إنابة، وإذا عاد امتثالاً للأمر وإيماناً باستحقاق العبودية، لا خوفاً من عقاب أو طمعاً في ثواب، فإنه صاحبُ أوبَة.
العارفون يطلقون اسم التوبة المطلقة على كل توبة تصدر عن المؤمنين مالم يصلوا إلى درجة الولاية والعروج إلى ذروة المقربين:  َتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور:31)، أما توبة العارفين فهي الإنابة:
 وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ(قّ:33) وتوبة الأنبياء والأوصياء وأهل التوحيد يسمونها أوبة: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (صّ:30).
الهوامش:
- الكافي، ج 1، ص 460.
- مستدرك الوسائل. ج 14، ص 101.
- الكافي، ج 3، ص 324.

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 697)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 702)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 773)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 634)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب - القسم السابع وا لأخير - 1   (بازدید: 1254)   (موضوع: )
• رحلة إلى كعبة الحبيب - القسم السابع وا لأخير - 2   (بازدید: 1329)   (موضوع: )
• رحلة إلى كعبة الحبيب / القسم الأول   (بازدید: 746)   (موضوع: عرفان)

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 634)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 697)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 702)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 773)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب / القسم الأول   (بازدید: 746)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]