banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

رحلة إلى كعبة الحبيب
ثقافتنا - العدد 11
عرفان
علي اللّهوردي خاني
1427

«ملخّص»
أحكام الشريعة الإسلامية جاءت لرسم حركة الإنسان في الساحة الاجتماعية وفي ساحة النفس الداخلية. وفصل الحركتين عن بعضهما لا يؤدّي الغرض من تشريع رسالة السماء.
وجميع ما نزل من تشريع على الصعيد الفردي والاجتماعي له معانيه التي يجب الانفتاح عليها كي تؤدّي هذه التشريعات دورَها في صناعة الإنسان.
الشريعة والطريقة في الفقه الإسلامي
وحدة الشريعة والطريقة
هدف الخلقة
هدف الخلقة وصولُ الانسان الى آخر مراتب الكمال أو الوصال. وأفضل طريق لتحقيق هذا الهدف هو المنهج الاسلامي بأصوله وفروعه. المعارف والاحكام الإلهية على صعيد النظر والعمل متعدّدة متكثرة على الظاهر، ولكن الدين في نظرة شاملة وأصيلة ليس سوى توحيد الله تعالى، لأن الفروع ناشئة عن أصلها، ووجودها إنّما هو لنموّ الأصل وتقويته، ودرجة عطائها يتوقف على ميزان الارتباط والاهتمام بالاصل. إذن مهما ارتقت درجة التوحيد والإخلاص اقترب طريق الوصول الى الفلاح. يجب أن تخلو النية من الأهواء النفسية والأنانية، وأن تكون قائمة على الطاعة والشكر ومقرونة بالمحبّة والرغبة، وأولئك الذين لم ينالوا حظاً من عبادتهم ولم تؤدّ العبادة الى لين قلوبهم فإنما يعود ذلك الى عدم الإخلاص في النية.
تقسيم علماء الدين الى علماء شريعة وطريقة لا اعتبار له ولا أساس. الشريعة والطريقة واحدة وهي تعاليم الاسلام، الشريعة عين الطريقة، والطريقة عين الشريعة. وهل ثمّ طريق لتحقيق سعادة الانسان سوى تعاليم الاسلام؟
أكثر الناس يتمسكون بالقشر الظاهر من الأحكام وهم غافلون عن باطنها وحقيقتها، ظانين أن المقصود من العمل بالأحكام حفظ الظاهر وكسب الجنة، بينما الهدف الأساس انتشال البشر من ظلمات زنزانة الطبيعة المادية، وبلوغهم ذروة الرفعة والرتبة الإنسانية، والارتقاء من الحياة الموقتة الى الحياة الابدية والنِعم الخالدة.
هؤلاء لا يعلمون أن الجنة دار الكرامة ومقرّ المقربين وأولياء الله، ومن لم يصل الى كمال المرتبة الانسانية لايشمّ رائحة الجنة. والتكامل ليس بالقول، ولكن بالعلم والعمل والمعرفة والتقوى وحبّ الله. لذلك وضع الشارع المقدس خلوص النية أساساً للعبادة. وهذا يتحقق في حالة معرفة المعبود، وإلاّ ماكانت ثمة عبادة.
علم الشريعة هو الأول وهو الآخر، وهو الظاهر وهو الباطن. هو مبدأ العمل بوجه وغاية العمل بوجه آخر. ومن لم يصل الى معرفة الحق، ولم يستسلم للعبودية لا يدخل حريم القدس ولا ينكشف اليه طريق الباطن.
إذن، في مرحلة الابتداء: الايمان والعلم بالشريعة، وفي مرحلة الكمال: الايمان والعلم بالشريعة، غير أن التفاوت بينهما كالذي بين الأرض والسماء. الأول: قشر ومجاز، والآخر: لبٌّ وحقيقة. لأن تعاليم الإسلام جامعة لكل الفضائل وشاملة لجميع الكمالات، ومصدر كل علم، لكن التوصل الى الحقيقة يستلزم دقة النظر والخلوّ من الأغراض النفسية. النفس المملوءة بالأنانية والذاتية والأغراض والأهواء المختلفة لا تصل الى الحقيقة أبداً. حامل مثل هذه النفس اكتفى من الكل بالجزء، ومن البحر بالقطرة، ومن رؤية الشمس الساطعة بالذرّة، ظاناً أنه بلغ نهاية سلّم الكمال الانساني، نعوذ بالله من الغرور وخداع النفس والأوهام الشيطانية.
لا يملك الجميع قابليةَ الاستماع الى أسرار معارف الحقيقة، من هنا فإن سفراء ربّ العالمين بيّنوا الشرائع لجميع الناس، لكن أسرار الحقيقة لم يعرضوها على جميعهم. لأن فهم الأسرار على غاية من الصعوبة، ولا يتيسّر هذا الفهم إلاّ بمخالفة النفس وأهوائها. ولو أنّ واحداً مِن أهل الأسرار عمد الى إشاعة الأسرار والمعاني فإنّ ألسنة السطحيين تتجه إليه بالطعن والإنكار. وحدث ذلك عملياً حين تصدّى جمع من غوّاصي بحر الحقيقة الى استخراج لآلئ الأسرار والمعاني من الأهداف الالهية، وإظهارها، فتعرّضوا جرّاء ذلك الى طعن الجاهلين ولومهم ونسبوهم الى الزندقة والإلحاد، وصدرت الفتاوى بقتل بعضهم.
نعم، فهم الأسرار لا يتيسّر لجميع الناس، ومن الأولى أنّ يبيّن أهلُ الله الأسرار بالإشارة، كي ينال كل واحد نصيباً من المعرفة الكمالية وإلاّ: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ .
أكبر مانع أمام فهم الحقائق هو النفس، إذ إنها تأسر العقل بشراك هواها ورغباتها وعاداتها التي نشأت عليها سنين متمادية، وتوقع الإنسان غالباً في خطأ عند القبول أو الرفض، حتى أن الخطأ يسري أيضا الى الأمور البديهية. ولو أن السالك استطاع بالرياضة والمجاهدة أن يلجم تدخّل النفس في المدركات الوجدانية فإنّ ذهنه يخلو من الصور المحسوسة والموهومة، ويستطيع أن يسير في عالم المعقولات ، ويتحرر من قيود النفس.
مايوصل السالك الى الكمالات المعنوية إنما هو تهذيب الأخلاق وتصفيتها مما يعكرها من الأهواء والمعاصي والرذائل، وتزيينها بالخصال والصفات الجميلة والكمالات المعنوية التي توصل السالك الى المقصود. هذا الأمر يستلزم معرفة النفس والقلب وفهم الفضائل والرذائل ليبدأ بتطهير القلب وتنوير النفس. المتظاهرون بالعرفان الذين أرضوا أنفسهم بالظواهر والالفاظ، يجرّهم التشدّق بمصطلحات العرفان ومفاهيمه الى الظلمة ويجعل قلوبهم منكوسة وباطنهم مظلماً، وممارستهم لهذا العرفان الظاهري يكرّس أنانيتهم، مما يؤدي الى صدور ادعاءات سخيفة وشطحات مريبة عنهم.
أصحاب الرياضات الذين مارسوا الرياضات بطريق الظاهر هم أيضا لم يؤدّ بهم سلوكهم العلمي والارتياضي الى الفلاح بل زاد من ظلمة قلوبهم. فالعلم، الذي يؤدي عادة الى الفلاح والنجاة، صار هاهنا سبباً للهلاك والى الانغماس في الجهل والاستتار.
على سالك طريق الله إذن أن يراعي كمال الدقة في تحصيل أي فرع من فروع العلوم والمعارف الالهية، وأن يواظب على مراقبة نفسه كمراقبة الطبيب الحاذق الحنون، وأن لا يغفل عن الاستعاذة بالله في تفتيش عيوبه وسيرته وسلوكه.
سالك طريق الله يجب أن يعلم أنه غير قادر على مقاومة العدوّ، الذي طمع في أنبياء الله وأوليائه، دون الاستعانة به سبحانه، ولولا بارقة لطف ورحمة منه سبحانه ما نجا أحد من إضلال هذا العدوّ وغوايته ودفعه نحو تيه الظلمة والشقاء.
ظاهر الاحكام وباطنها
الإنسان لا يعيش في عالم كله معنويات، لذلك لا يمكن أن تكون كل تجليات حركة الإنسان في هذا العالم روحانية ومعنوية، من هنا لابدّ أن تكون كل حركة ظاهرية في الكائن البشري معبّرة عن سيره المعنوي والإلهي . جميع الطاعات والعبادات تنهض بهذه المهمة.
كل آية في القرآن لها ظاهر وباطن، ولكل بطن أيضا بطن، حتى البطن السابع، وهذا الرقم كناية عن الكثرة. وهكذا جميع التكاليف والواجبات والأحكام الإلهية لها ظاهر وباطن، لذلك لايوجد حكم من الأحكام أو أمر من الأوامر إلاّ وتضمّن توصية بباطن العبادة الى جانب التأكيد على العمل الظاهري.
العلم بظواهر الأحكام، مهما اقترن بالعمل، لايمكن أن يبلغ بالإنسان الى الهدف الحقيقي دون علم بباطن الأحكام الإلهية. العامل بظواهر الأحكام لا يتمتع ولا يتلذذ إلا بالظواهر، ومايحصل من ذلك من بصيص نور سرعان ما ينطفئ ، لكن الذين استطاعوا – بتوفيق من الله – أن يعلموا ويعملوا بباطن الشرع المقدس أيضاً فإن نورانيتهم تشعّ من المصباح الإلهي الساطع، وهذا المصباح أوقده الله تبارك وتعالى في قلوبهم ولا ينطفئ أبداً.
لا تقبل عبادة عند الله دون توفّر ظروف الباطن، وأداء التكليف الظاهري يؤدي الى تقوية الروح لأداء التكليف الباطني. العلم والعمل بظواهر الإحكام يُعدّان السالك في الواقع لقبول باطن الأحكام. من هنا إذا لم يستطع فرد أن يجمع الشروط الظاهرية للأحكام، فإن نفسه وقلبه لا يتهيّئان لقبول باطن الأحكام.
العبادات والطاعات والأوراد والأذكار الإلهية على قسمين: بعضها تكون الظروف الباطنية فيها كافية وإن لم يقترن بها أثر من الظاهر مثل الذكر القلبي. وقسم آخر، وإن توفّر فيها درجة من الظروف الباطنية، هي غير مقبولة عند الله سبحانه، مالم تجتمع الشروط الظاهرية. وفي هذه العبادات تكون الشروط الظاهرية ذات أثر في توفّر الظروف الباطنية، وعدم مراعاة الظاهر يضرّ بتوفر ظروف الباطن، لذلك لابدّ من اقتران شروط الظاهر والباطن ليبلغ العمل درجة القبول بإذن الله تعالى.
العمل بباطن الشريعة هو السير نحو الله بمشاعر الباطن. وكما أنّ على البدن الظاهري عبادات مفروضة، كذلك على البدن الباطني عبادات مفروضة. لقد أخطأ أولئك الذين تمسكوا بالظاهر وتركوا الباطن، أو تمسكوا بالباطن وتركوا الظاهر. فالاعتدال إذن هو السعي لإصلاح الاثنين معًا كي تنال المطلوب ، وهكذا فعل عرفاء طريق الحق.
إصلاح الباطن أصعب من إصلاح الظاهر، ومن كان باطنه أسوأ من ظاهره فهو منافق. المؤمن من كانت خلوته مثل طلعته، بل إنه في خلوته أكثر رغبة وحرصًا على الذكر والعبادة والطاعة، وعندئذ يتوفر الإخلاص.
توفر الإخلاص غير ممكن دونما رياضة ومجاهدة، لكن طالب الكمال والوصال بحاجة لكي يتهيأ للرياضة والمجاهدة أن يكون على وعي بالأوامر والنواهي. قد تبدو معرفة هذه الأمور غير مهمة للوهلة الأولى، لكنّ أهميتها تتبين إذا تتبعنا ماصدر عن العلماء والقضاة من أحكام دينيّة. فكثيراً ما تكون تلك الأحكام بعيدة عن الشريعة بسبب عدم الإلمام الشامل والوعي الكامل بأهداف الشريعة السمحاء.
ولابد لمن يريد أن يتصدّى لأمور الدين أن يجمع بين العلم بظواهر الأحكام والعلم ببواطنها. إذ الاكتفاء بالظاهر قد يوقع العالم والقاضي في خطأ عند إصدار أحكامه وآرائه. العقل الظاهر قد يحكم بوجوب عمل منهيٍّ عنه، أو باجتناب عمل ينبغي العمل به، من هنا فان العلم ببواطن الأحكام من الفرائض الالهية، القضاة والحكّام الإلهيون هم الذين يجمعون بين علم الظاهر وعلم الباطن، فمعيار العلمية لا يقتصر على العلم بظواهر الأحكام.
لو أن أحداً استطاع استخراج ظواهر الأحكام من نصوص القرآن والسنّة، فليس بمقدوره أن يفهم بواطنها بعقله وفكره، اللهم إلاّ أن يتتلمذ على أستاذ كامل إلهي يجعل عقله سليماً بـإرشاده.
سالك طريق الحق عليه أن يعلم أنّ قلّة الرياضة – إن كانت مقرونة بالمعرفة والتفكير – ففيها خيرٌ كثير، وكثرة الرياضة دونما تعرّف وتفكير فيها خيرٌ قليل. ثمة أفراد دخلوا مرحلة الرياضة والمجاهدة دونما فهم لهذه الحقائق، وحركتهم هذه لم تؤدّ إلاّ الى ضياع عمرهم وابتعادهم عن بلوغ هدف الكمال. هؤلاء قدّموا ثروتهم الأساسية والباطنية المتمثلة بالمعرفة قرباناً على مذبح شهواتهم، والحال أن الفرد لو أدّى في الظاهر آلاف الأعمال العبادية والخيرية دون هذا الثراء الأساسي الإلهي لما اقترب من الله، لأن هذه الأعمال تكون مقبولة من المتقين.
من هنا يتوجّب على المجاهد أن ينهى النفس عن هواها ولذائذها المادية غير المشروعة نهيًا صارمًا مهما تحمّل من صعوبات، ومهما لامه اللائمون من الغافلين المتهافتين على متاع الدنيا.
والحرص على حصول رضا الناس سمٌ مهلك وخطر على الفرد وعلى المجتمع لأن الإنسان في هذه الحالة يجب أن يكون إمّعة وأن يفقد البصيرة في معالجة دائه وداء المجتمع. من هنا فإن تحمّل الرياضة والمجاهدة ذو آثار إيجابية على الفرد وعلى المجتمع، وذو عطاء للبشرية جمعاء. ومادام السالك لا يوطّن نفسه على ذلك فلا ينهض من نوم الغفلة ولا يَزول من أمامه ستار الأوهام.
نعم، مازلتَ تعيش ذاتيتك وأناتيتك وكبريائك فما عرفتَ العبودية، ومادمتَ لم تخرج من قوعة ذاتك فما عرفت الحقّ سبحانه. مادمتَ لم تُفنَ من ذاتك لا يُكتب لك البقاء به سبحانه. ومادمتَ لم تقطع الطريق الطويل بخطوات يحدوها الأمل لا تصل الى منزل الأمن والأمان. ما لم تتحمل أعباء المجاهدة والرياضة لا تنال الراحة. ومالم تتذوق مرارة الفراق لا تحظى بحلاوة الوصال. ما لم تطفئ نار غضبك لا تنال رحمة ربّ العالمين. ومالم تتجشّم عناء الصبر على المصاعب لا تبلع لذّة حلاوة النعيم الدائم. ومالم تترك اللذات الحسيّة السرابية لا تنال الحياة الأبدية والنعيم الروحي الخالد.
أما إذا تقلّدت عِقد عبوديّة ربّ العالمين فإنك تبلغ درجة سلطان السلاطين، وإذا زهدت في الدنيا واعتزمت السفر الى الحقّ تعالى فإنك ستنال منزلة القرب، وإذا بلغت منزلة القرب الإلهي فستخضع لك كل الممكنات، وإذا قُدّر لك أن تكون دائم الحضور فإنك ستفعل الفعل الإلهي.
الاستمتاع بالنعم وترك الرهبانيّة
النظافة محبوبة عندالله سبحانه، ورعاية النظافة والطهارة من تعاليم الإسلام. والتأكيد كثير على نظافة الجسم واللباس، وقص الشعر وتمشيطه، واستعمال الطيب، حتى قيل: «النظافة من الايمان».
في الآيات الاولى المنزلة على الرسول(ص) أمر بالنظافة وخاصة نظافة الملبس:
وثيابك فطهّر. ومن اهتمام الإسلام بالنظافة تفضيله اللون الأبيض في اللباس، إذ يوجب الانبساط والانشراح ويظهر ماعليه من وسخ فوراً، ويتناسب أكثر مع رعاية النظافة، وفي الرواية: «البس البياض فإنه أطيب وأطهر».
وكان رسول الله(ص) حين يريد الزيارة يرتّب شعره ويجدّ ماوسعه في نظافة لباسه وجسده.
والجمال محبوب عند الله سبحانه : «إن الله جميل يحبّ الجمال»، والجمال الظاهر بعد رعاية النظافة والطهارة هو في تناسب الهندام. وجمال الباطن في تناسب الصفات الكمالية، وجمال الظاهر يتضاءل أثره إذا تجلّى الجمال الباطن.
نظافة الظاهر في نظافة الجسم والملبس، ونظافة الباطن في نظافة النفس والروح من العناصر غير الإلهية. أهل الإيمان يجب عليهم دائماً أن يراعوا في النظافة الباطن الى جانب الظاهر، وأن يجدّوا ويجتهدوا في نظافة الباطن. العمل بأحد الجانبين وإهمال الآخر ليس له وزن عندالله تعالى.
لو أنّ فرداً اهتمّ كلّ الاهتمام بنظافة جسمه وملبسه وبيته وأهمل نظافة الباطن فليس ذلك بمقبول عندالله سبحانه، وهذا ما نراه عند غير المتدينين الذين يهتمون بالنظافة الظاهرية دون اهتمام بنظافة الباطن. وعلى العكس ثمة أفراد ينحون منحى الرهبانية ويتظاهرون بالتصوف فيهملون الظاهر ظانـّين أنهم منشغلون بالتطهير الداخلي،هؤلاء أيضا لا تحظى أعمالهم بقبول الله سبحانه.
الاسلام واجه بشدّة كل إفراط أو تفريط في السلوك، وأمر أن يكون لكل من الظاهر والباطن نصيب، وأن يراعى جانب الاعتدال في كل منهما دون الوقوع فيما يقع به أهل الوسواس في التطهير والتنظيف، والقاعدة العامة أن «خير الأمور أوسطها».
في نصوص الكتاب المجيد أمر بالتمتع بنعم الله الإلهية وزينته التي وفّرها لعباده ونهي شديد عن ترك تلك النعم والطيبات. مثل قوله سحبانه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ . أئمة أهل البيت – عليهم السلام – كانوا يستندون إلى هذه الآية في مناقشتهم مع تيار التصوّف.
النجاسات والمطهرات الظاهرية والباطنية
النجاسات المعروفة في الفقه – إضافة الى آثارها السلبية المضرة الظاهرة – هي في المعنى تشير الى عوامل تلويث باطني ذات آثار مخربة على النفس والروح، ونكتفي بذكر بعضها. وهكذا الطهارات لها خصائص ظاهرية في التطهير كما لها خصائص باطنية. إثبات مضارّ النجاسات وإزالتها ممكنان بالعلم الظاهري، لكنّ النجاسات ذات الخواص الباطنية تمّ تبيينها وتعريفها عن طريق المعصوم(ع).
الخنزير حيوان نجاسته عينية، وأكل لحمه ، إضافة الى النجاسة والأضرار التي تثبتها العلوم الظاهرية، له آثار باطنية مثل تشديد الحرص وزوال الغيرة والمروءة. إزالة النجاسة الظاهرية قد تكون ممكنة مثل تحليل شحوم الخنزير بطريقة كيمياوية وتحضير حوامض من مستحضرات تلك الشحوم، لكن تجزئة هذه الشحوم لا يزيل تأثيرها الباطني.
أودع الله سبحانه كل صفات الحيوانات في الانسان، غير أن الإنسان مختار في تقوية هذه الصفات أو إضعافها. انحراف البشر ناتج أساساً من تقوية قواه الحيوانية. وثمة آيات وروايات تخاطب عادة من غلظت قواه الحيوانية. ومن بلغت خصاله الحيوانية غايتها لا يبقى فرق بينه وبين الحيوان، أي إنه يكون قد مُني بالمسخ، وقد قيل إن المسخ في السيرة لا في الصورة، وإن كانت الصورة تتأثر بهذا المسخ أيضا. وقوله سبحانه:
 فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ  فيه إشارة الى المسخ المعنوي لا الجسمي.
ومن النجاسات «الميتة» و«الدم» و«ما أُهلَّ به لغير الله». فالميتة تكون بسبب هرم أو مرض، والهرم يحصل نتيجة الانحلال التدريجي للأنسجة على أثر ضعف ومرض. وفي الحالتين يكون الدم المتبقي في الأنسجة مضرّاً بسبب ما أصابه من فساد شديد. والميكروبات فيه لا تتعقّم حتى بالنار ولا يزول مافيها من أضرار. لذلك فلحم الميتة يحمل ملايين الميكروبات فيها السموم الخطرة ولها آثارها التي يترتب عليها التهابات المعدة والأمعاء والتقيؤ والإسهال، وكل الشعوب المتحضرة في عالمنا تتجنب مثل هذه اللحوم. وعلم الطب أثبت أن الحيوان ذا اللحم الحلال إذا ذُبح بطريقة شرعية وخرج دمه من أنسجته فلا ضرر فيه.
ومن وجهة نظر الفقه الإسلامي، قذارة الحيوان لا تنحصر بالموارد بالمذكورة بل إن عدم رعاية شروط الذبح الشرعي مثل الاستقبال وذكر اسم الله يجعل الذبيحة محرمة ونجسة. وقد تبدو وضعية الذبيحتين على الطريقة الشرعية وغير الشرعية أنْ لا تفاوت بينهما من وجهة النظر المختبرية، لكنّ تأكيد الشرع على حرمتها يدلّ أن هذه الحرمة لها تأثير باطني علىالإنسان، ولعلّ من المعاني الباطنية لهذا الحكم الإلهي هو أن النفس إذا لم تُقدّم قرباناً على طريق الله، فإنها تبقى في ظلمة الغفلة والأنانية، وهي في المعنى ميتة وجيفة.
وتحريم أكل الدم ونجاسته في الفقه له ما يبرّره في العلوم الحديثة أيضا، فاحتمال وجود الميكروبات الضارة والسموم المؤذية في الدم كثير، فأغلبُ الأمراض نتيجةُ عفونةٍ في الدم، والدم ناقل الأمراض المعدية والفتّاكة، ولذلك جاء تأكيد الاسلام على حرمة الدم ونجاسته.
وكما أن الأوداج الأربعة في الذبح الشرعي يجب أن تقطع وأن يخرج الدم من جسد الحيوان كي تحلّ الذبيحة وتطهر، كذلك في تزكية النفس وتهذيبها، مالم يخلُ وجود السالك من الذاتية والأنانية لا تتطهّر نفس الإنسان ولا تحظى بالقرب الإلهي.
ومن أقسام النجاسة الكافر. فمهما راعى الكافر قواعد الصحة والنظافة الظاهرية لكنه ينجّس ما يلامسه مع الرطوبة، فهو في حكم الميتة، وإن بدا في الظاهر أنظف من الفرد المؤمن.
وللنجاسة معان مختلفة، بعضها يرتبط بالظاهر ، وبعضها بالباطن، ما يرتبط بالظاهر له تأثير عميق على الظواهر، ويمكن إزالة هذه النجاسة بعوامل ظاهرية حتى يتمّ التطهير، وقسم من هذه المطهرات مذكور في أحكام الفقه، لكن تطهير الباطن من الدنس لايمكن أن يحصل بالمطهّرات المذكورة.
بعبارة أخرى، مطهّرات الدنس الظاهري شيء ومطهّرات الدنس الباطني شيء آخر. الدنس الباطني يمكن تطهيره بعوامل داخلية، وآثار النجاسات الباطنية أشد من آثار النجاسات الظاهرية، مثلما الأمراض الباطنية أشدّ من الأمراض الجسمية. إذ إن القذارات الظاهرية يمكن ملاحظتها بسهولة ويمكن تنظيفها بالمطهرات فلا يعود لها أثر، لكنّ مطهّرات الدنس الباطني ذات خصائص باطنية أيضا. وأمّ هذه المطهّرات ارتباط القلب بالله سبحانه، حيث يكون القلب في مقام الانقطاع وفي مقام الاتصال بالله سبحانه كاتصال قطرات المطر بالبحر. وفي هذه الحالة تزول تلك الأوساخ ويسودُ الطُّهر، وتظهر الثمار الطيبة الإلهية من شجرة القلب الطيبة.
نجاسة الكافر تعود الى مافي باطنه من قذارة الكفر الذاتية. ولكن يطهر إذا تشرف بالدين الإلهي، مع أن ظاهره لم يزد عليه ولم ينقص منه شيئاً، ويكون مايلامسه طاهراً، اللهم إلاّ مالامسه برطوبة قبل دخوله في الدين الإلهي، فيجب تطهيره. من كل ماسبق نخلص الى أن بعض النجاسات ذات طابع باطني، وبتطهير الظاهر لاتزول آثاره الباطنية.
وكما أن هذه الأحكام تصدق بشأن الشرك والكفر الجلي، كذلك هي في المعنى تصدق في الشرك والكفر الخفي. فلو أزيلت السُتُر لظهرت آثار الشرك الخفي بادية في كثير من الناس الذين لم يتخلّصوا من ازدواجية العبادة في ذاتهم.
ياسالك طريق الحق! اعلم أنك يجب أن تدخل الى بيت أصنام النفس وتكسّرها الواحدة تلو الأخرى كي تصل الى المقام الإبراهيمي وتصبح خليلاً لله سبحانه.
إحدى أقسام النجاسات: المني. ومن شروط صحة العبادات الغسل من الجنابة. أيها السالك! لو أنّ قطرة من ماء دافق خرج من باطن الإنسان تثبت جنابته. ولكن هذا يمكن إزالته بالماء الطهور، أما إذا استقرّت ذرّة من دنَسِ الكِبَرِ في باطن الإنسان لما أمكن تطهيرها بكل مياه العالم. أيها السالك! الحياة الحقيقية هي ما تُنعم به الفتوح الإيمانية لا ما تقدّمه الروح الحيوانية. لو أنّ الانسان ملأ الدنيا بالعبادات والطاعات لا يصل الى ماوَصَل إليه مَنْ قطع خطوة على طريق التحرر من ذاتياته ولم يكرّس أنانيّته، فشرط قبول الطاعات التطهير من جنابة النفس.
ومن النجاسات المسكر، وقذارته بدرجة بحيث أن أحكام الفقه تقرر إخلاء ماء البئر إذاسقطت فيه قطرة من الخمر، حتى يطهر. يبدو في الظاهر أن قطرة المسكر ليست بالقدر الذي ينجّس ماء البئر أو يحوّله الى مسكر، ولكن دنسه الباطني لايزول بانعدام آثاره الظاهرية. والشرع المقدس يحكم بنجاسة ذلك الماء مالم تنعدم آثار تلك النجاسة من الظاهر والباطن.
شرب الخمر من المعاصي الكبيرة التي يجب اجتنابها، وهذه الظاهرة أنزلت بالبشرية خسائر فادحة على مرّ الاجيال حتى أن أئمة الدين اعتبروها رأس المعاصي. وفي الحديث أنها (الخمرة) مفتاح جميع المعاصي. والمدمن على الخمرة لا يسيء الى نفسه فحسب، بل إن الإضرار المترتبة قد تنتقل الى نسله، فتبقى الآثار السلبية بعد وفاته.
ومع بقاء هذه الآثار يبقى ذلك المدمن في العذاب الإلهي. والتوبة من الذنب تتحقق عندما يكون ذلك الذنب محصوراً في المذنب، أما إذا سرت آثار الذنب الى الآخرين وتعذّر إمكان إزالة تلك الآثار في حياة الإنسان، فقد لا تقبل له توبة. لذلك قيل: لا تذنبوا، أو ليكن – على الأقل – ذنبكم قد ماتت آثاره بموتكم. تعيين الحدّ على شارب الخمر وتشديده ليبلغ أحياناً درجة الإعدام إنما هو لكثرة مايترتب عليه من آثار سوء وفساد على صعيد الفرد والمجتمع.
المسكر يؤدي في الواقع الى غياب عقل الإنسان ووعيه، ويدفع به الى رقاد وغفلة بحيث تُشلّ عنده قدرة التفكير وتهبط الى أدنى حدّ.
والإنسان أضعف مايكون عندما يفقد وعيه وإدراكه ويعجز عن محاسبة مايضرّه وماينفعه. وعندئذ يبتعد كلّ الابتعاد عن المحاسبة اليومية للنفس. والسكر الناشئ عن الانحرافات السلوكية لايقلّ تأثيره عن سكر الخمور إن لم يَفُقها، ولهذا قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): «سُكرُ الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سكر الخُمُور». وما أكثر الخسائر الفادحة التي نزلت بالبشرية نتيجة سكر الغرور!!
وإذ كانت قطرة المسكر تنجّس ماء البئر فان اختلاط قطرة من خمرة الغفلة بالعلم والفضل وكمال الإنسان تلوّث روح الانسان، بل لعلّ اللوثة هنا أخطر لأنها لا تلوّث صاحبها فحسب، بل تمتدّ الى الآخرين أيضاً.
النجاسات المذكورة في الفقه لها مطهّرات مثل الماء والتراب والانقلاب والاستحالة.. وأمثاله. وهذه المطهّرات – إضافة الى قدرتها على التطهير الظاهري – لها دلالات على التطهير المعنوي أيضاً.
أحد أهم المطهّرات الماء، والماء إما باق على أصله وحقيقته فهو ماء مطلق، وإما أن يكون مخلوطاً بغيره بحيث لا يمكن إطلاق اسم الماء عليه عرفاً، فهو الماء المضاف كالعصير، وهو ليس بمطهّر، لكن ما يختلط بالماء، إذا لم يكن بدرجة من الكثافة بحيث يَسلب من الماء صفته المطلقة عرفاً، فهو مطهّر أيضاً. والماء المطلق ينقسم الى ماء جارٍ وكرّ وقليل، والماء الجاري والكرّ لا يتنجّس إذا لامس النجاسة إلاّ إذا تغيّر بأحد أوصاف النجاسة من لون وطعم ورائحة. والماء المضاف يتنجّس بمجرّد ملامسة النجاسة.
وفي لغة أسرار الوحي، الماء إشارة الى مايتفضّل به الله سبحانه من علوم ومعارف وكرم ورحمة ممّا يؤدي الى حياة القلوب الحقيقية والأبدية:  وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ .
الحقائق والعلوم والمعارف الحقّة في صدور الأصفياء مثل ماء زلال نزل في صدورهم من السماء أو تدفّق من عيون طاهرة مطهّرة. ولكن حين تجري هذه المعارف الإلهية من صدورهم الى صدور المتلقّين فإنها تمرّ عبر ما في داخل هؤلاء المتلقّين، فإذا كان هذا الداخل مفعماً بالذاتيات والأنانيات فإن هذه المعارف تتلوث، تماماً كما يتلوث مطر السماء بما يلاقيه في الجو والأرض من تلوّث. من هنا فإنّ السالكين يتحمّلون مسؤولية تزكية نفوسهم الى جانب تلقي العلم، وإذا لم تقترن العلوم الإلهية بالتزكية فإنها لا تكون مبعث نجاة ولا مصدر هداية، بل قد تكون عامل هدم وغواية.
أحكام المياه في عالم المعنى تشكل باباً من أبواب معرفة النفس. وفي الحديث عن الرسول(ص): «مثل المؤمن الخالص كمثل الماء» والصادق(ع) بعد أن يذكر خصائص الماء من صفاء ولطافة ورقة وتطهير، يشير الى أنّ الإنسان المؤمن في معاشرته مع الآخرين يجب أن يتحلّى بهذه الخصائص.
أصفياء الله لهم صفة البحر، لا ينفعلون بالتلوث، بل هم عامل تطهير القلوب. أما الذين لم تستو شخصيتهم على طريق الله فمثل الماء القليل ينفعلون بأقل مايلاقونه من تلوّث، فتتغيّر صفتهم ويسودها الخبائث. وبعض الناس مثل الماء الكرّ يقاومون الانفعال بالتلوّث بمقدار ماعندهم من طاقة المقاومة، ولكن حين تتراكم عليهم الخبائث يفقدون صفاتهم الأولية وينفعلون بهذه التراكمات، اللهم إلاّ إذا اتصلوا بالماء الجاري من الفيض الإلهي.
وفي مقابل العيون الجارية الظاهرية أودع الله سبحانه وتعالى في القلوب عيوناً جارية، وهذه العيون استلهاماً من قوله سبحانه:وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا هي مصادر علم الله، لكن الاستفادة المتواصلة من هذه العيون تحتاج الى كَرْيٍ وتنظيف مستمرين، والعامل الوحيد لهذا الكري( الاخلاص) بالمعنى الخاص السامي لهذه الكلمة، وبهذا التنظيف تتفجّر ينابيع المعرفة الصافية في أعماق الانسان: «ما أخلص عبداً لله عزّوجل إلاّ وجرت ينابيع الحكمة من قلبه الى لسانه».
المطر من المطهّرات التي تطهّر المتنجّس من فراش وأمثاله بمقدار نفوذ المطر فيه دونما حاجة الى عصر. وهطول أمطار الرحمة الإلهية على القلوب يطهّرها من الدنس والتلوّث بمقدار استعدادها دونما حاجة الى تحمّل ضغط الرياضات.
حمداً لله تبارك وتعالى أن أغدق علينا ألوان نِعَمه، فأوفى بعهده: أورثنا أرض المعرفة، وأنزل على قلوبنا من سماء الحقيقة وسحاب المكرمة مطر رحمة كلام الله والأنبياء والأوصياء والأولياء، وأضاء أرواحنا بنور المحبّة، وأثار في قلوبنا موجة العشق.
المطهّر الآخر، هو الحيوان الحيّ نفسه في تصرّفه. لو أنّ حيواناً حلال اللحم انحرف عن طبعه الأصلي واعتاد على أكل النجاسة، فلا يحلّ أكل لحمه إلاّ بعد أن ينقطع عن النجاسة، ويتعوّد من جديد لمدة مذكورة في كتب الفقه على أكل الطاهر من الطعام، وبذلك تعود الخلايا التي تأثرت بالنجاسة الى حالتها الطبيعية في المدة المحدّدة، وهذا هو الاستبراء.
أما الحيوانات التي حرّم الشارع أكل لحومها فهي لا تقبل الاستبراء، لأنّ خلايا مثل هذا الحيوان فيها من التلوث مالا يغيّره أكل الطعام الطاهر، ولذلك لايحلّ أكله، برياً كان أم بحرياً.
ومن أقسام المطهّرات الاستحالة وهو تبديل حقيقة الشيء الى حقيقة أخرى، فتتغير ماهيته وذاته، كاحتراق الخشب المتنجّس وتحوّلـه الى رماد، واحتراق الدم.
المتنجس قد يطهر بالحرارة العالية مثل طهارة الطين المتنجس بعد طبخه وتحويله الى فخار.. والعرفاء بحقّ قد أحرقوا ذاتياتهم في نار العشق الإلهي، وهذه النار هي النار المباركة التي يقول عنها سبحانه: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ، وهذه البركة أزلية ناتجة عن حالة «أشدّ حبّاً لله» أو «حبّاً لله»، ومنها تنطلق ماينعم به العارفون من حقّ اليقين أو عين اليقين، وفي الآية الشريفة المذكورة: «في النار» إشارة الى العشق أو «أشد حباً لله». و«حولها» إشارة الى «حُباً لله» وهذه هي الاستحالة المعنوية والإلهية.
والشمس مطهّر آخر تطهّر المتنجّس بالشروط التي حدّدها الفقه، ومن ذلك أن يكون سطوع الشمس مباشرة على الشيء وأن يكون المتنجّس مستقبلا للشمس. وفي المعنى الشمس إشارة الى الشمس المعنوية للعقل الإلهي، وآثارها في التطهير تفوق كثيراً الشمس الظاهرية، ومن هنا قال كبار العرفاء: أيها السالك! اعلم أنّ الشمس هو صورة عقلك الإلهي، وكما أن الشمس تنير العالم وتنضّج المواد الخام، وتحرق الزوائد، وأنها إن أشرقت تزيح الظلام وتبعث النور، كذلك إذا طلع العقل الإلهي من جانب الغيب ومن جَبَل جبلّة الإنسان، يتبدّل ظلام الجهل الى نهار العلم المضيء، وينضج ماكان فجّاً في الإنسان، ويحترق ما كان زائداً فيه، وينجلي ماكان في النفس من صفات، ويظهر ماخفي فيها، وتنحلّ المستعصيات، وتنكشف المغيبات، ويحيط الإنسان بنور العقل الإلهي على قدر وسعه بكنه كل الأشياء.
المطهرات المعنوية كثيرة، بعض أنواع التلوث لها مطهّرها المعين الذي يطهّرها دون غيره من المطهّرات. وبعض المطهّرات المعنوية لها صفة تطهير عامة من ذلك الاستماع الى آيات الذكر الحكيم.
بعض أنواع التلوّث تنفذ الى داخل الإنسان عن طريق السمع أو البصر وسائر الحواس الظاهرة، وبعضها ينفذ الى القلب عن طريق الحواس الباطنية على أثر ضعف القوى المعنوية. وفي مقابل كل ألوان التلوث هذه ثمة مطهر واقعي وباطني وهو الإصغاء الى كلام الله، خاصة حين يكون المستمع قد هيّأ نفسه للتلقي العملي.
كل محفل تُتلى فيه آيات الله البينات هو في الباطن ساحة الحضور الإلهي التي تتحقق فيها الأماني والأحلام، إنها ساحة التطهير الباطني. فكلام الله هو الذي ينعش الشجرة الطيبة في روضة القلب ويعيد لها الحياة بعد أن عصفت بها الذنوب ومنعتها من أن تؤتي أكلها كلّ حين.
الوضوء والغسل الظاهري والباطني
أحكام الإسلام ومنها الغسل لها فوائد ظاهرية وباطنية، فالغسل من الجنابة يذكر له الأطباء فوائد جسمية ترتبط بالقلب والكبد والدماغ والأعصاب. والتيمّم يحلّ محل الغسل إن تعذّر الحصول على الماء، وقد لايقوم تراب التيمم مقام الماء في فوائده الصحية، لكنه يؤدّي دور الطاعة والتسليم لأمر الله سبحانه.
التكاليف أصلية وتوصّلية. فالصلاة التي هي في حقيقتها عبادة ودعاء ومظهر للعبودية هي تكليف أصلي لايقبل التغيير، أما ما يتوصل به الى أداء هذا التكليف من وضوء وقعود وقيام وركوع وسجود، فهي تكاليف توصلية قابلة للتغيير والتبديل، وتتخذ صوراً أخرى عند الضرورة، وهذا التغيير لرفع الحرج وتوفير اليسر للإنسان:
 يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ . لكن الأصل – مع هذا التغيير – باق إذ لا يجوز ترك العبادة في أي ظرف من الظروف، لأن تركها يؤدّي الى ابتعاد الانسان عن فيض الحضور بين يدي الله سبحانه. وتبديل صور العبادة التوصلية في مواقع الضرورة إنّما يستهدف رفع حالة الإهمال والتساهل في استمرار الارتباط بالله سبحانه.
شرط الحضور بين يدي الله الخضوع والطاعة، وإذا تعذّر للسالك أن يستعمل الماء، فلابدّ أن يظهر خضوعه في التيمّم بالتراب ليعلن طاعته وتسليمه، فنفس اللجوء الى التراب فيه معنى الخضوع، إضافة الى مافي التراب من خصائص التطهير إذا كان نظيفاً:  فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً .
وسقوط تكليف الصلاة عن النساء في المحيض لايعنى سقوط العبادة عنهنّ، فهنّ مندوبات الى الذكر في أوقات الصلاة وفي غيرها، وسقوط تكليف الصلاة في هذه الحالة من أنواع التيسير على العباد ورفع الحرج عن النساء، إذ لا يخفى مايعتري المرأة عندئذ من حالة جسمية وروحية.
في أحكام الفقه أمر بالوضوء والغسل، وهما يؤديان الى تطهير الجسم لا الروح. تطهير الجسم بدون تطهير الروح لا يحقّق الهدف الأساس. منشأ كل الرذائل والمهالك هو النفس، وتعاليم الأنبياء والأولياء تؤكد تطهير النفس. تطهير النفس من العيوب أهم بكثير من التطهير من الحدث، لأن قذارات النفس قد تتراكم لسنين، لذلك تحتاج الى مجاهدة طويلة لتطهير النفس من العيوب.
تطهير الأحداث ممكن بالغسل والوضوء، وتطهير النفس إنما يتحقق بالعقل السليم. ومهما زادت درجة الإيمان والعلم والمعرفة ازداد العقل الباطن قوة كما ازدادت الطهارة القلبية يسراً.
روي عن الامام الصادق(ع) ضرورة إسباغ الوضوء. وإسباغ الوضوء في الظاهر إيصال الماء الى جميع أعضاء الوضوء، ورعاية الآداب والمستحبات فيه، لكن الطهر السابغ بالمعنى الباطن طهارة جميع وجود المتوضّئ والمصلي ظاهره وباطنه وقلبه وفكره من لوثة الذنب والرذائل الخلقية.
من هنا فإن للعارف الإلهي – إضافة الى الغسل والوضوء الظاهريين – غسلاً آخر ووضوءاً آخر. الوضوء والغسل من ماء العشق والانقطاع. الوضوء والغسل بماء العهد الإلهي. وإذا وجب الغسل والوضوء الظاهريان في بعض الأوقات، فإن على السالك العارف أن يكون دائمًا على وضوء وغسل باطنيين، لأن مهامّه تفوق مهام الآخرين.
وقال الأصفياء: «الوضوء انفصال والصلاة اتصال» وإذا لم يتحقق الانفصال في الوضوء لا يحصل الاتصال في الصلاة. وتكتمل الصلاة حين يجتمع الانفصال مع الاتصال. في هذا المقام ذاته تتبلور الجهة والقبلة الباطنية، ويتضح أن أحكام القبلة وصحة التوجّه إليها أو الانحراف عنها في الفقه هي في المعنى إشارات الى القبلة الباطنية الأزلية للقلوب.
التجلّي التام للقبلة الأزلية إنما يحصل في الإنسان الكامل حيث قلبه عرش الله تعالى. نعم، الإنسان الكامل هو القبلة الكل في حركة البشر التكاملية، إذ حركاته الجزئية والكلية هي مقتدى لجميع البشر، والتبعية له شرط حقيقي لنيل السعادة في الدنيا والآخرة.
حقيقة الصلاة وصلاة العارفين
أحبّ العبادات الى الله سبحانه وأهمّ فرائض الدين الصلاة. والنصوص الدينية في التأكيد على أهميتها مستفيضة. يقال في اللغة صلّى العصا بالنار أي ليّنها وقوّمها. والمصلّي باتجاهه الى المبدأ الأعلى وبالحرارة التي تحصل من الحركة الصعودية والقرب من مصدر الإشعاع الأزلي، يليّن نفسه ويقوّمها من الاعوجاج.
الصلاة تذكر في فروع الدين لكنها في الواقع لا تنفصل عن الأصول، الصلاة تبتّل وابتهال ومناجاة، وهي قطع مراحل التوحيد، والاّ ماكانت عمود الدين ولا مفتاح باب السعادة. أول سؤال في عالم البرزخ إنما يكون عن الصلاة، إن قبلت قبل ماسواها، وما أسعد مَن قبلت صلاته لدى ربّ العالمين!
ويكفي في عظمة الصلاة أنها بين العبادات مثل الإنسان بين سائر المخلوقات. العرفاء يسمونها العبادة الجامعة والمعجون الإلهي. كل واحد من الملائكة له حدّ معلوم لايتجاوزة إما أن يكون في حالة قيام وإما أن يكون في حالة قعود، أما الانسان، هذا السِّفر الكامل للوجود هو في حال قيام حيناً وفي حال قعود حيناً آخر، أو في حال سجود أو ركوع، ولكل عضو من أعضائه فعل خاص وأثر معلوم، وكل واحد من أفعال الصلاة له أيضاً أثر خاص.
الصلاة أسمى دروس المدرسة التربوية الإسلامية، الهدف من تشريعها توثيق الارتباط بين العبد وخالقه واستحكام العبودية. كثيرون هم المصلون، لكنّ القليلين هم الذين يعرفون ارتباط الصلاة بالروح والنفس. ولذلك فإن أكثر المصلين غافلون عن الهدف الأصلي للصلاة. ولا يجنون من ثمارها شيئاً، فصلاتهم لا تزكّي الروح ولا تبعث الطاقة في الإنسان، ولذلك فإن هؤلاء مع مواظبتهم على الصلاة سنين ليس فيهم مايردعهم عن الذنوب، بينما ينص القرآن على إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَـرِ. هؤلاء لم يؤدوا في الواقع حقيقة الصلاة بل اكتفوا بصورتها. القابعون خلف حجاب المادّة وجدران الطبيعة لا يعلمون عن عالم المعنى شيئاً. وأية خسارة يُمنى بها الإنسان أكبر من أن يمارس عمراً عبادة فيها كمال السعادة وكمال الإنسانية، لكنه لاينال منها أي حظ معنوي، بل تؤدي الى كدورة القلب وحجاب الظلمة.
للإنسان مقابل الأعضاء الظاهرية أعضاء قلبية وباطنية، فللقلب وجه وعين وأذن ولسان وسائر الأعضاء الباطنية. والذكر على نوعين: ظاهري وباطني. الذكر الظاهري يجري على اللسان الظاهر والذكر الباطني يجرى بلسان القلب، والسجود كذلك نوعان: سجود الجسد وسجود القلب. في الأول يضع الإنسان جبهته على الأرض، وفي الثاني يعفّر جبهة القلب بتراب الساحة الالهية، وذلك كمال تعظيم الله سبحانه.
وكمال القبول في الأعمال أن ينسجم عمل العضو الظاهري مع عضو القلب والباطن، والاّ ماكان للحركات الظاهرية وزن وقيمة. الذكر الظاهري على سبيل المثال تتحقق قيمته حين يكون مقترناً بذكر لسان القلب. وربّما كان لسان الظاهر ذاكراً ولسان الباطن ساكنًا، أو مشغولاً بما يتعارض مع لسان الظاهر.
الأعضاء الباطنية لايمكن قياسها بالأعضاء الظاهرية. الأعضاء الجسمية ترتبط بعالم الطين، والأعضاء الباطنية ترتبط بعالم القدس. الأعضاء الباطنية هي في الواقع القوى والكفاءات المعنوية في الإنسان، وهي بمنزلة الجناح المعنوي الذي يجعله في مرتبة لا تقل عن الملائكة.
الصلاة معراج المؤمن ووسيلة تحليقه، الإنسان يحلّق ويعرج بجناح إلهي، وهذا الجناح لايمكن مقارنته بالجناح الظاهري، نعم، العلم والعمل الإلهيان جناحان يحلّقان بالإنسان في عالم الحقيقة والمعنى.
كما أن للانسان بدناً مركباً من أعضاء ومن روح بسيطة هي منشأ أفعال الانسان وآثاره، كذلك الصلاة لها ظاهر هي أفعال الصلاة وباطن هو الإخلاص الذي يجعل أفعال الصلاة سببًا لحصول الثواب والقبول. وكما أن البدن دونما روح لا نفع فيه، كذلك الصلاة بدون إخلاص ليس لها مفعول. وخالص الإخلاص يتجلّى في عشاق الجمال والكمال الأزليين. هؤلاء قطعوا مراحل العبودية والتأمل بعشق ومحبّة وبلغوا أعلى مراحل الكمال وحقّقوا الأهداف السامية للخلقة.
والأصفياء صنفوا دوافع العبادة الى ثلاثة: الخوف، والرجاء، والحب، وكان لذلك عبادة العبّاد على ثلاثة أقسام أيضاً:
الأول – عبادة العبيد، للأمن من العذاب، والآية الكريمة: مالك يوم الدين فيها حثّ على ذلك الدافع.
الثاني – عبادة التجار، وهم الذين يعقدون الأمل على كسب نعيم الجنّة، والآية الكريمة: الرحمن الرحيم فيها إثارة لأشواق هؤلاء.
والثالث عبادة الاولياء، ودافعها العشق والحبّ لله سبحانه، وعبادة هؤلاء لاخوف من نار ولا طمع في جنة، بل هي محض الطاعة والشكر، وقوله سبحانه: إياك نعبد وإياك نستعين يستبطن من المعاني مايكمّل دوافع هذه المجموعة.
بين البدن والروح تعاشق، وكل واحد منهما يؤثر على الآخر، من هنا أُمِرنا في الصلاة بخشوع الجوارح لتتأثر بها الروح، وتتجه بشكل كامل الى المبدأ. وقال أهل المعنى: الخشوع أن لا يعلم المصلّي من هو على يساره أو على يمينه، وأن يغرق في بحر الشهود، وأن يذوب في شعلة آثار ظهور أنوار الجلال والجمال.
ظواهر الصلاة والعبادات تتطلب الطمأنينة، وللباطن طمأنينة أخرى. الطمأنينة القلبية هي سَكن القلب وهدوء البال، وفي أجوائها يؤدي المصلي عبادته وأذكاره. والعبادة التي تقترن باضطراب القلب وتزلزله لاتؤدي عطاءها المطلوب. ومن أسرار تأكيد المواظبة على العبادة واستمرار الذكر إيجاد حالة التأثر وانفعال القلب على أثر التكرار، كي ينال الذاكر حظّ القلب من الصلاة.
الصلاة والعبادة التي تقترن بغفلة القلب ليس لها أثر داخلي، ولا تتجاوز الظاهر وحدود البدن ولا يمكنها أن تدخل ساحة باطن النفس والملكوت الأعلى. ولعل مثل هذه العبادة تنمحي آثارها عن صفحة القلب تماماً عند سكرات الموت أو الأهوال والشدائد بعد الموت، ويلاقي الإنسان ربّه خالي اليدين.
ومن الآداب القلبية للصلاة وسائر العبادات بهجة القلب وانبساطه، وهذا مايؤدي الى نتائج طيبة، بل الى فتح بعض أبواب العلم وكشف بعض أسرار العبادة. على السالك أن يتجنب العبادة في وقت الضجر وإدبار النفس ، وأن يختار للعبادة وقتاً تكون فيه النفس على إقبال ونشاط، كي يشعّ عطاء نورها في القلب.
ومن أسرار العبادات والرياضات ونتائجها سيطرة إرادة النفس الإلهية على جنود مملكة البدن كي لا يصدر عنهم عصيان وتمرّد، ويستسلمون لملكوت باطن القلب، وليكون أمر الملكوت جارياً في الملك ونافذاً فيه، ولتقوى إرادة النفس المطمئنة، وتمسك بيدها زمام النفس الأمّارة والشيطان. وفي هذه الحالة ينساق جنود النفس من الإيمان الى التسليم ومن التسليم الى الرضا ومن الرضا الى الفناء، وهذا العطاء إنما يتحقق حين تؤدى العبادات عن بهجة وانشراح كي ينقدح في النفس الحبّ والعشق والأنس بذكر الله. الأنس بذكر الله من المهام التي تتطلب من السالك أشدّ الاهتمام.
ومن آداب الصلاة والعبادات مراعاة الاعتدال. وعلى السالك في كل مرتبة من مراتب السلوك بما في ذلك الرياضات والمجاهدات العلمية أو النفسية أو العملية أن يتعامل مع نفسه بالرفق والمداراة، لأن التشديد مع النفس يؤدي الى جماحها، إذ إن الضغط الشديد على مقتضيات الجسد قد يؤدي الى الانفجار وجماح الشهوات، وقد يؤدّي ذلك الى السقوط في مهاو لانجاة فيها. من هنا يتوجب على السالك أن يتعامل مع نفسه في أيام السلوك تعامل الطبيب الحاذق وبمقتضى الأحوال والأيام، وأن يسلك الطرق المشروعة في إطفاء نار شهواته، كي يكون ذلك عوناً له في سلوك طريق الحق.
ومن الآداب القلبية الهامة للعبادة الخوفُ والرجاء. المصلّي في حال الصلاة لابد أن يستشعر الطمع برحمة الله الواسعة والخوف من قهر الربّ وعظمة مقامه. الخوف والرجاء من العوامل الهامة لرقيّ العبد وتعاليه الى مقام العبوديّة. إذ بالخوف يستطيع أن يُلجم نفسه الأمّارة الجانحة الى الشهوات. وبالرجاء يسهّل عليه تحمّل مشاق العبادة وأتعابها . وفي القرآن حثّ وتحريض على هذين العاملين من عوامل السعادة، كقوله سبحانه في وصف المؤمنين: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً  والمصلي يحلّق بجناحي الخوف والرجاء في هذا السَّفَر الروحي ويطوي منازل هذا المعراج الحقيقي. وفي الروايات أنّ هذين الجناحين يجب أن يكونا متساويين.
الإنسان العارف بالحقائق له بين الواجب والممكن نظرتان: الاولى نظرة الى نقصانه الذاتي ونقصان جميع الممكنات، وفي هذه النظرة يعلم عيناً أو عملاً أن جميع الممكنات غارقة في بحر ظلمات الإمكان والنقص، بل إن هذا التعبير يفرضه ضيق مجال اللغة، وإلاّ فإن النقص والفقر من فروع الشيئية، لذلك فإن الانسان لو قدّم جميع العبادات والطاعات والمعارف الى ساحة الربوبية فليس له نصيب منها سوى الخجل والخوف والذلّة، فالمحامد كلها له، وليس للممكن فيها تصرف.
والأخرى نظرة الى كمال الواجب سبحانه وسعة رحمته، حيث أبواب رحمته ولطفه وعفوه مفتوحة أمام عباده دون أن تكون مسبوقة باستعداد الانسان وقابليته، وفي مسيرة الكمال يستطيع السالك بمثل هذا الخوف والرجاء أن ينال مقام الأولياء الأحرار، فتكون عبادته بعيدة عن خوف من نار أو طمع في جنة. في هذا المقام لا يطمع الإنسان بأمور دنيوية، بل إن قلبه ينشدّ بالحق دائماً، وينقطع عن كل انشداد بغير الحقّ سبحانه.
مراتب العبادة تتدرج بلحاظ كمية حضور القلب وكيفيته. كلما كان حضور القلب أكثر كانت العبادة أسمى. وفي نصوص كثيرة أن قبول الصلاة والعبادة يتوقف على حضور القلب.
والصلاة بلحاظ كيفيتها لها مراتب:
المرتبة الاولى، كمال التوجّه الى الالفاظ.
المرتبة الثانية، كمال التوجّه الى المعاني الظاهرة.
المرتبة الثالثة، كمال التوجّه الى باطن المعاني وعمقها.
والمرتبة الاخيرة فيها كمال التوجّه الى الباري سبحانه وتعالى، ومثل هذه العبادة لا تتحصّل إلاّ الى العارفين الكاملين والواصلين.
والعارفون على أثر تزكية النفس قد ألجموا الشهوات وراقبوا القلب حتى لم يعد فيه سوى ذكر الله في جميع الأحوال، وانجلت ظلمة نفوسهم وبلغوا حقيقة المعرفة، حتى لا يفارقهم الذكر القلبي والسجود القلبي. هؤلاء تيقنوا أنّ ماعندهم من نعمة فمنه سبحانه والله قادر على أن يزيد هذه النعمة أو يسلبها عنهم. فهو غني مطلق وماسواه فقراء ومحتاجون إليه. وكرر في كتابه الكريم الأمر بدعائه وضمن الاستجابة، ومع أنه تعالى وضع للعالم نظام الأسباب، فالمؤثر الحقيقي هو وحده دون سواه، هو الشافي وهو الرازق سواء توفرت الأسباب أم لم تتوفر.
حصول جميع الدرجات والمنازل السامية والسعادات الأخروية إنما هو نتيجة الطاعة وثمرة أشجار العبادة. ودرجة قيمة هذه العبادة يتوقف على درجة المعرفة والخضوع والخشوع. والطاعات وإن تنوعت فهي تعود بمجملها الى ثلاثة أنواع: القلبية والبدنية والمالية. الطاعات القلبية مثل التوحيد والتوكل والصبر والشكر والتسليم والرضا والصدق والمعرفة والمحبة وأمثالها. والطاعات البدنية على نوعين: الأول ما ارتبط بالحقّ سبحانه كالصلاة والصوم، والثاني ما ارتبط بالخلق وهو الإحسان بالمال والجسم والقيام بأداء حقوق العبودية. النوع الأول لا يتيسّر إلاّ لأرباب القلوب ولا تتأتّى هذه المعاني لأهل الغفلة. الغافلون إن أدّوا طاعة فإنما يؤدّونها عن عادة طبعوا عليها، ومثل هذه الطاعة كمثل جسد بلا روح، وليست بذات عطاء.
كل من سلك طريق الله سبحانه، وساق نفسه في ميدان الأفكار السامية والمجاهدات المتعالية وأبعد نفسه عن الانشغال بالعالم الظلماني وهمّ بطلب العالم الروحاني ستنزاح من أمامه أستار الأوهام، وسَيَعي أن الصلاة، حين تكون عن عادة أو عن خجل من الناس، إنما هي صورة الصلاة وصفتها الظاهرية، وأن لهذه الصفة موصوفاً ، ولهذه الصورة معنى، والمعنى الحقيقي للصلاة إنما يتحقق لدى مَنْ إذا همّوا بالعبادة يخرجون من الأطماع والحظوظ وينفضون أيديهم مما سوى الله، ويتمضمضون بشراب طهور من الذكر الإلهي، ويستنشقون بشذى نسيم الأسرار الإلهية، ويغسلون وجههم بماء المعرفة واليدين الى المرفقين بزلال التوكل، ويمسحون الرأس في حال تواضع وافتقار، ويمسحون الرجلين بملازمة إثبات قدم صدق، وحين يتوجهون الى صورة الكعبة يوجّهون القلب الى الكعبة الحقيقية.
وفي قولهم «الله اكبر» يرون ذرات الكائنات تنمحي في شعاع شمس كبرياء الله، وفي «بسم الله» يطلع صبح دولة العاشقين، وفي «الحمد لله» ينكشف إنعام ذات الباري سبحانه. يرون عمّال معمل التقدير كيف يقومون بتربية العالمين خلف ستار «ربّ العالمين»، فينهلون شراباً طهوراً من ساحل بحر الرحمانية من يد ساقي «الرحمن الرحيم» فيقع موج الإرادة الإلهية على مخموري ذلك الشراب ويسوقهم الى لجّة بحر رحمة الله الواسعة.
وحين يزول الوجود الموهم لهؤلاء ويلتقي بحر الأزل ببحر الأبد، تنجلي لهم حقيقة «مالك يوم الدين» فيأخذ سبّاحو بحار الحكمة بأيديهم ويأخذوهم الى الساحل، وحين يصحون ويعون يشدّون حزام «إياك نعبد» على أوساط أرواحهم، فيرددون: «وإياك نستعين» طالبين إمداد التوفيق والعناية، وينكشف معراج الترقي من الحضيض البشري الى سرادق الجبروت فيقال: «إهدنا الصراط المستقيم».
ويستحضرون رفاقاً كانوا يشربون معهم في مجلس عالم الأرواح شراب الخطاب فيقولون: صراط الذين أنعمت عليهم، ثم يرون المحرومين المهجورين والمردودين المخذولين القابعين في ظلمات الشك والشرك والراسفين في أغلال صفات القهر، فيصدر خطاب: غير المغضوب عليهم ولا الضالين. بعدها تُمطر العناية الأزلية بغزارة على رياض صدورهم، وتنمو من كل قطرة أزاهير العرفان ورياحين الإيقان في بستان القلوب.
لقد حرّر هؤلاء بفضل العناية الإلهية أنفسهم من الشواغل الدنيوية، وأناروا أبصارهم بكحل الهداية، وعكسوا على مرآة قلوبهم نقوش الحقائق، حتى فهموا أسرار الخلقة من إشادة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، فأنفقوا أنفسهم وأموالهم على طريق أداء فروض العبودية، وشمّروا عن ساعد الجدّ لخدمة إخوانهم المؤمنين، وربّوا أنفسهم من خلال تقديم أنواع المبرّات والإحسان، وأحيوا أسرار حقيقة إنما المؤمنون إخوة.. هذه الحقيقة التي كانت ميتة عند أهل الغفلة. وقد شبّه الرسول(ص) المؤمنين بالبنيان المرصوص يشدّ بعضه أزر بعض.
على الذين نالوا نصيباً من الإيمان واجب إذن أن يتعاضدوا في أمور الدين والدنيا، وأن يتساووا بحكم الأخوة الإيمانية في تحمّل تكاليف سفر الآخرة.
رجال طريق الحق اتضح لديهم بصفاء عقلهم وبإيمانهم خساسة الدنيا وحقارنها، هؤلاء استوعبوا أنواع مكر الدنيا وحيلها، وأبصروا بنور اليقين أن كل نعمة تقترن بغُصّة، وكل عطاء ممزوج بحرمان، وكل غُصنٍ من السرور يمتدّ من ألف ويل وثبور، وأي أنس يتهدده أنواع الفرقة، ولهذا أعرضوا عن زخارف الدنيا واغتنموا شوط العمر القصير لكسب النعيم الأبدي والفلاح السرمدي.
هؤلاء شطّار محلة الطريقة وفدائيو ميدان الحقيقة. إنهم أنزلوا الروح المقدسة من على ظهر الحدوث، وقاوموا النفس وجحافلها بصولة وبقوّة نار العشق، وطهّروا بيت الطبيعة من قذى الأخلاق البشرية، وخلعوا لوث نعال الدنيا والعقبى على بساط القرب، ودخلوا ميدان المحبّة يحدوهم نسيم شوق «يحبّهم ويحبّونه».
هؤلاء أدركوا حقيقة القيام والركوع والسجود والقعود، فالقيام مقام الاستكشاف والاستغراق والارتقاء والإنباء والإرشاد والاحتواء والاستواء والاهتداء والانبساط، والركوع مقام التواضع، والسجود مقام الانكسار وغاية العبودية، والقعود مقام الحضور والتمكن والاستقرار ورفع الأستار وكشف الأسرار.
وروي عن رسول الله(ص) قوله: «من أسلم فهو مِنّي»، والإسلام استسلام القلب. وأنت لا ترى جمال الإسلام إلاّ إذا رحلت من المعبود السرابي الى المعبود الحقيقي، وإذا كان ثمة من يسمي عبادة العادة إسلاماً، فهي في نظر العارفين ليست ذات وزن.
العارف طائر ملكوتي يحلّق في سماء الالوهية. العارف من كان جسمه في العالم الأدنى وقلبه في العالم الأعلى. العارف من اجتاز «لا إله» ووصل الى «إلاّ الله». و«لا إله» مقام العبودية والفطرة، و«إلاّ الله» مقام عالم الولاية والالوهية. الروح الكاملة هي التي وصلت الى «إلاّ الله» ومن لم يصل الى ذلك لم يبلغ كمال الروح. وهذه هي صلاة العارفين.
المساجد الظاهرية والباطنية
للمسجد في الشريعة الاسلامية حرمة خاصة وقداسة خاصة، وله أحكام بشأن الاعتكاف فيه وتطهيره وتعميره، ولهذه الأحكام أيضا ظاهر وباطن.
وفي الأخبار أن الأمة يأتي عليها زمان تكون فيه مساجدهم معمورة من حيث البناء لكنها مهدومة وخربة من حيث الهداية والإرشاد. خراب المساجد هنا لا يرتبط بظاهر البناء. وقد ترى مسجداً خرباً في ظاهره لكنه في غاية العمران، والعكس صحيح.
تعمير ظاهر المساجد من الأمور الفرعية لا الأساسية. إذ إن الأساس في عمران المساجد هو العمران الباطني، ومن يعمر مساجد الله في محتواها فله الأجر العظيم. ومن يسعى في تخريب هذا المحتوى فله جزاء في الدنيا والآخرة.
إضافة الى هذه المساجد ثمة مساجد أخرى هي عامرة على الدوام، حتى إذا خربت ماعادت مسجداً. هذه المساجد محفوظة من تطاول يد الأيام، ولو تعاضدت قوى الشرّ على هدمها ما وجدوا لذلك سبيلا. وهذه المساجد قائمة في قلوب العارفين بالله، وشُيدت بأمر الله ورعايته. هي خالية من الشياطين والأغيار ولا يعتريها خراب لا ظاهري ولا باطني. إنها عرش الله سبحانه ومطمح أنظار أحبّاء الله:  لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ  وهو معتكَفُ أولياء الله:  فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا .
الصوم الظاهري والصوم الباطني
الصوم من أهم العبادات. وفوائده الجسمية والروحية والأخلاقية لا تخفى، وأقل فوائده الجسمية معالجة كثير من الأمراض المعوية والأمراض الناتجة عن زيادة الوزن وتراكم الدهون، طبعاً مع مراعاة الاعتدال في تناول السحور والفطور. الأطباء للصوم، كما يَذكر الأطباء، أثر في معالجة ضغط الدم والتهاب المفاصل وبعض أمراض القلب.
بعض الأمراض طبعا لا يناسبها الصوم بل قد يضاعفها، وفي هذه الحالة يحرم على المريض أن يصوم، ولكن أثر الصوم على حفظ صحة الإنسان مما أجمع عليه الأطباء، والى ذلك يشير الحديث النبوي الشريف «صوموا تصحوا».
والقرآن بيّن الغاية من الصوم إذ قال: لعلكم تتقون أي لكي تتصاعد عند الصائم قدرة الانضباط وكبح جماح النفس فلا يرتكب المنكر. وكل ماقيل من فوائد الصوم الاجتماعية والنفسية إنما هو فرع لهذه الحقيقة الكبرى.
والصائم مأمور بالصوم الظاهري وبالصوم الباطني، فالصائم تصوم جوارحه الظاهرية والباطنية، ومن كان له عذر عن الصوم الظاهري فلا يعذر عن الصوم الباطني.
ظاهر الصوم الإمساك عن الطعام والشراب ومايرتبط بهما، لكن حقيقة الصوم هي الإمساك عمّا حرّم الله، وفي مرتبة أسمى الصوم الباطني هو الانقطاع عمّا سوى الله سبحانه.
الصوم الظاهري خاص بشهر رمضان، أما الصوم الباطني فهو عام لكل الشهور وكل آن، وليس ثمة عذر شرعي لتركه. وقال الأصفياء: «صوم النفس عن اللذات الدنيا أنفع الصيام».
أولياء الله يجتنبون نواهي الله ومحرماته في كل آن من حياتهم، والسالكون لهم مسؤوليات أكبر من غيرهم . هؤلاء يطلبون من الله خاصة في شهر رمضان كمال الانقطاع اليه سبحانه: «إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك».
من أحكام الصوم حرمة المأكولات والمشروبات، وهي في المعنى إشارة الى عزل الحواس في الخلوة عن تصرف المحسوسات، إذ التعلّق بالمحسوسات آفة الروح والقلب. ولو أن النفس، على أثر التمرين والممارسة في تزكية النفس، بلغت درجة النفس المطمئنة فإنها تخرج من دائرة تصرّف المحسوسات وتصل من المعقولات الى المحسوسات.
تحريم وصول الغبار الغليظ الى الحلق له في المعنى إشارة الى أن السالك يمنع حتى غبار تصرف المحسوسات وغبار التعلّقات من النفود الى نافذة القلب، لأن مثل هذا الغبار يؤدي الى تقوية النفس الأمارة وتقوية الصفات الذميمة، ويؤدي الى الإضرار بالروح. فالروح النفيسة إذا أنست بالنفس الخسيسة، تقترن بها لتهبط عن طريق النفاق الى أسفل سافلين.
أولياء الله في مراتب الصوم قالوا: صوم الجسد منعه من الطعام، وصوم القلب منعه من وساوس الآثام، وصوم الروح الإعراض عن التوجّه الى جميع الأنام. ومن أدّى الصوم الظاهري فإفطاره في نهاية النهار، ومن التزم بصوم المعنى فإفطاره عند لقاء ربّ العالمين.
من أهم شروط العبادة الإخلاص في النية: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ، وانقطاع أمل الشيطان في العابد: إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. كل العبادات يمكن أن يشوبها الرياء إلاّ عبادة الإمساك في الصوم.
الصوم باعتباره عملاً باطنياً وظلاً غير وجودي يبرز فيه الخلوص أكثر وتتجلّى آثار الخلوص فيه بشكل أوضح. من هنا حظي شهر الصوم بإضافة تشريفية، فكل الأشهر هي أشهر الله سبحانه، لكن رمضان اختص باسم «شهر الله»، مثلما نالت الكعبة اسم «بيتي» بينما كل الأماكن هي ملكه سبحانه.
الفرق بين الصوم وسائر العبادات هو أن العبادات الوجوديّة سبب تقرّب العباد الى الله، بينما الصوم، باعتباره عملاً باطنياً وفعلاً غير وجودي، هو سبب تقرب الله الى العباد.
حقيقة الدين العقيدة الخالصة والروح الطاهرة، والهدف من العبادات ترويض البدن كي تكون الروح، على أثر طهرها وقوّتها، عامل تحريك القوى المدركة، ولكي تنقلها من عالم الغرور الى عالم السرور، ومن دنيا الظلم والظلام الى عالم العدل والنور.
سبب تمرّد القوى وعصيانها شيئان: الأول الميل الى الشهوات البهيمية والثاني الكسل والبطر وطلب الراحة، وهو ما يتعارض مع الأغراض والمقاصد المعنوية والهدف الأساس للإنسان. وهذان السببان هما مصدر الأمراض الروحية والأخلاقيّة . ومعالجة هذا التمرد والعصيان تمرين البدن على العبادات وأهمها الصلاة والصوم والزكاة. الصوم كفّ النفس وهو ما يخالف هوى النفس وميولها . كلّما ضعف الجانب الحيواني قوي الجانب الملكوتي، إذ يزداد تشبّه الروح بما هي من عالمها.
رمضان اسم من الأسماء المقدسة الإلهية، ولذلك أوصونا بتسميته رمضان المبارك، فجلال الله وجماله والكمال الإلهي له تجلّ خاص في شهر الله. وعلى السالكين والعارفين أن يعدّوا أنفسهم لاستقبال هذا الشهر وأن يمعنوا النظر في دقائق أحكامه الظاهرية والباطنية.
الخمس الظاهري والخمس الباطني
الخمس فريضة شرعية، ولا يستطيع أحد أن يتصرّف بمال لم يستخرج خمسه، وإذا ترك أحد الخمس فهو من الظالمين الغاصبين، وإن أنكره فقد كفر.
والخمس (في مدرسة أهل البيت) معروض على المال المستحصل من: الغنيمة، والمعدن، والكنز، والغوص، والمال المخلوط بالحرام والأرض التي يشتريها الذمّي من المسلم، والمنافع والعوائد من المعاملات والمكاسب والتجارة والصناعة والزراعة، بل جميع عائدات السنة.
ولا يشترط البلوغ في أداء الخمس، وإذا اشترى أحدٌ لباساً من مال لم يستخرج خمسه فلا تصح الصلاة بذلك الملبس، وإذا اشترى به ماءاً لوضوئه وغسله، فلا يصح وضوؤه وغسله.
والخمس يقسم على ستة أسهم: ثلاثة للسادات (المنسوبين لأهل البيت) مستحقهم ويتيمهم وابن السبيل منهم، وثلاثة أسهم للإمام. وإن تعذّر تسليم المال الى الإمام أو نائبه، يُدفع الى الفقيه الجامع للشرائط، أي لمن وصل في علمه وعدالته وتقواه ومعرفته الى الحدّ الكافي.
والخمس يسمو على الزكاة، لأن منافع الخمس للعام والخاص وخاص الخاص ولاحدّ لعطاء خيراته خاصة فيما يرتبط بالآثار الباطنية، لكن خيرات الزكاة محدودة سواء من الناحية الدنيوية أو الأخروية.
وعن الامام علي بن موسى الرضا(ع) : أن الله تعالى أوصل سهم الرسول وذوي قرباه بسهمه إذ قال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ، مثلما جعل طاعتهم وولايتهم طاعة وولاية له سبحانه. ولهذا التشريف بالذات حرّم على أهل البيت وذريّتهم الصدقة، وخصّهم بما خصّ به نفسه.
الإنسان المؤمن حين يدفع خمس أمواله فإنه يثبت قدرته على أن يتحرر من الانشداد بمتاع الحياة الدنيا، ويجعل ماعنده تحت تصرّف شريعة ربّ العالمين. والسالك حين يبلغ درجة الكمال على طريق الحق فإنه أيضا قد سما على كل أنواع الانشداد بغير الله وجعل كل ماعنده تحت تصرف الله، وأذاب إرادته في الله سبحانه. وهذه هي غاية الإيمان، وهذه هي الدرجة التي تجعل الإنسان صابراً محتسباً مقاوماً لا يخشى إلاّ الله، وهذا هو سرّ كل ماحققه الإسلام من انتصارات على يد فئة المؤمنين التي جاهدت في سبيل الله حقّ جهاده.
والمعاني المعنوية لأحكام الخمس عميقة وواسعة نشير الى بعضها:
الغنيمة مايكسبه المسلم في حربه الكفار المحاربين، والجهاد قسمان: الجهاد الظاهر بقوّة السلاح، والجهاد الباطن بضبط النفس وتقويم الروح. وبالغنيمة يغنى الإنسان بجهاده الكفار، وبالتقوى يغنى القلب في مجاهدة النفس. وكما أن في مال الغنيمة سهماً لله وللرسول ولذي القربى من أهل بيت رسول الله، كذلك فيما يغنمه القلب لدى معاملات الحقيقة، لأصحاب الحقوق المذكورين سهم يتمثّل في الانشداد بهم والانقطاع عن غيرهم.
والغوص يدخل في إطار الاستفادة من النعم الالهية، ومن ذلك ما أودع في البحر من خيرات. لكنه في المعنى إشارة الى التمتع ببحر آخر هو بحر الباطن والحقيقة.
قال الأصفياء: علينا أن نغوص في أعماقنا كالغوّاص، وبمصابيح قويّة نافذة علينا أن نتفحّص داخلنا ونسلّط الضوء على أسرارنا الداخلية، ونبذل الجهد المعنوي. فما نحصل عليه من رقي وتوفيق يتوقف على مانبذله من سعي الى الله:  وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى .
أولياء الله وأصفياؤه بحار، وما أسعد السالكين الذين يستطيعون بـإرشاد المرشدين أن يغوصوا لاستخراج الدرر المودعة في هذه البحار.
القرآن الكريم بحر بعيد ساحله، ومعاني آياته لا تحصى، وكلّ منها مثل موج من أمواج البحر يعضد بعضها الآخر، وكما أنّ الغواصين قادرون على استخراج الدر من قاع البحار كذلك غوّاصوا بحور العلوم هم القادرون على استخراج درر القرآن الساطعة التامّة.
القرآن لا تُفنى عجائبه، وليس بوسع كل فرد أن يغوص في أعماق بحاره، غير أن العقلاء والأزكياء قد خاضوا غماره والتقطوا منه الدرر الكامنة في أحشائه بقدر ما عندهم من علم وتقوى، واقتبسوا من أنواره واقتطفوا من ثماره بنسبه ما عندهم من صفاء روحي، وأوصلوا حلاوة القرآن إلى حاسة ذائقتهم الباطنية وشذاه إلى مشامّهم الداخلية بقدر ما يتحلّون به من صحة الذوق. ولكنهم في المرحلة الأخيرة عليهم أن يعرضوا ما اجتنوه على الأخبار والتفاسير الصادرة عن آل بيت رسول الله(ص)، وأن لا يستندوا الى عقولهم فقط، إذ إن العقل البشري أقل من أن يستطيع بلوغ كنه الآيات. جميع الناس عالمهم وجاهلهم يجب أن يرجعوا إلى مدرسة أهل البيت(ع).
وفي مقابل الكنوز الظاهرية ثمة كنوز معنوية. وإحدى تلك الكنوز المعنوية العلم الإلهي. ومن استطاع بتوفيق الله أن ينال العلوم والمعارف الحقّة، فإن هذه العلوم هي في الحقيقة وديعة الله سبحانه في صدر هذا المتعلّم. وهذه أمانة فوق كل أمانة يجب أن تُردّ إلى أهلها.
ومتى ما عمل العالم الرباني بواجبه تجاه هذه الوديعة الربانية فهو خازن أمين خيّر لمولاه، وإن بخل على المحتاجين الحقيقيين فهو خائن لهذه الأمانة.
الذين يكنزون الذهب والفضة دون أن يؤدّوا واجبهم تجاه هذه الثروة فهم مُبشّرون بعذاب أليم: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ كذلك العلماء الذين يكنزون العلم ويحرمون منه المستحقين فهم في الدرك الأسفل من النار، لأن الخيانة في العلم أشدّ من الخيانة في المال.
البلدان التي تهتمّ بأمر التنمية تتّجه اليوم إلى ماعندها من ثروات مادية كالمعادن والنفط، بينما تغفل عن الثروات الهائلة الدفينة في داخل أفراد مجتمعاتها. فهي أغنى وأثمن من الثروات الظاهريّة. وقال أئمة الدين: «الناسُ معادنٌ كمعادن الذهب والفضة». وهذه المعادن الباطنية في البشر بحاجة إلى تعليم وتربية وفق معايير إلهية لاستخراجها واستثمارها والاستفادة من عطائها لصالح المجتمع.
العالم الرباني مَنجَم علمٍ ورحمة من لدن الله للمجتمع البشري، وفي المشروع الذي يقدمه للمجتمع قوّة أين منها القوى المادية. لكن العالم بدون عمل، مهما تحلّى بالعلوم، لا يجدي نفعاً، بل قد يصبح على المجتمع وبالاً.
العارفون الإلهيون والعلماء الربانيون هم الأبناء الحقيقيون لرسول الله(ص)، وأين هذه البنوّة من بنوّة النسب الجسديّة: «وكم بين الروح والجسد».
الفقر أقسام، فقر في المال، وفقر في الإمكانات العلمية والمعنوية، وقد يجتمع الفقران معاً. والفقير الحقيقي مَنْ افتقر إلى العلوم الإلهية، وكم من سالك يستشعر في نفسه الفقر والاحتياج المعنوي. وتوصية نبي الرحمة أن السالكين – بعد تزوّدهم من العلماء الربانيين – يحملون مسؤولية تعليم الآخرين.
وفي النصوص الدينية نهي عن ردّ السائل والفقير، إن كان سؤاله مشروعاً. وواجب المسلم أن يجيب على السؤال المشروع وإلاّ كان مسؤولاً أمام الله سبحانه. وقد يكون الجواب كتابة أو مشافهة أو بالعمل والفعل، والجواب بالعمل والفعل أولى.
ومن المستحقين للخمس اليتامى بالشروط التي تذكرها كتب الفقه. والتأكيد على حفظ مال اليتامى وصيانته من التلف والعدوان كثير في القرآن الكريم: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(النساء:10).
واليُتم أقسام: يُتمٌ بسبب فقدان الوالدين، ويُتمٌ بسبب فقدان الولي الإلهي والمعنوي. ويتم بالسببين معاً. من هنا ففقدان الأبوين معاً. ليس هو السبب الوحيد لليتم، واليتم الواقعي هو الانقطاع عن الولي المرشد الإلهي. وعن الإمام الحسن العسكري(ع): «أشد من يُتمِ اليتيم الذي انقطع عن أبيه، يُتم الذي انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه».
الزكاة الظاهرية وزكاة العارفين
الإيمان بوجوب الزكاة من ضروريات الدين ومنكرها كافر. المصالح الاجتماعية التي تترتب عليها كثيرة. فهي سبب بقاء المجتمع وتنظيم أموره. وهي من أعمال البرّ والإحسان، وتؤدّي إلى رفع الاحتياجات الفردية والاجتماعية. والإسلام أكد على أداء الزكاة وتوعد تاركها بالعذاب الأليم، والتارك للزكاة - إن لم يتب – اذا لم تستطع أن فمصيره الشقاء الأبدي.
الصلاة طبعاً أفضل العبادات، لكنّ انشداد الإنسان بالمال والمتاع يمنعه من الوصول إلى حقيقة الصلاة ويكون هذا الانشداد وبالاً عليه، وعلاج هذه الحالة بالزكاة. وهاتان العبادتان معاً تشكّلان سُدى العبودية ولُحمتها. ويكفي الزكاة أهمية أنها تقترن بالصلاة دائماً في السياق القرآني، لما بينهما من ارتباط وثيق. فلا صلاة بدون زكاة، ولا زكاة بدون صلاة.
وقد يتقدّم ذكر الزكاة على الصلاة كما في قوله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى،وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (الأعلى:14،15) ويعود ذلك أن بذل المال في الزكاة يحيي في النفس ملكة السخاء، ويطهّر القلبَ من الرذائل الخلقية كالبخل والحسد والقسوة، وبذلك يهيّئ الإنسان إلى الارتباط بالله في الصلاة. فالتطهير من مقدمات الصلاة، والطهارة الحقيقية تتوقّف على الطهارة الباطنية، وما لم يتطهّر القلب لا تتحقّق هذه الطهارة الباطنية، ولا تتم الصلاة بدونها. من هنا قيل: تطهّر أولا ثم توجّه إلى حريم ذلك الطُّهر.
الذهنية العامة غائبة مع الأسف عن فهم حقيقة الزكاة وأبعادها المعنوية، وتكتفي بمعناها الظاهر، ولا تعمل بهذا المعنى الظاهر أيضاً غالباً. ظاهر الأحكام أن الزكاة مفروضة على تسعة أشياء هي: الذهب، والفضة، والقمح، والشعير، والزبيب، والتمر، والإبل، والأبقار، والماشية.
لو تعمّقنا في معاني أحكام الزكاة لوجدنا معاني أخرى مستترة فيها. لذلك فالعقل الباطني والإلهي لا يحصر الزكاة في المواد المذكورة، بل حينما يكون القوت الغالب للناس أشياء أخرى فإن حكم الزكاة يشملها أيضاً.
ولكلّ واحد من الأمور المشمولة بالزكاة حدُّ نصاب. والزكاة تتعلّق بها حين تبلغ ذلك الحدّ، ودافع الزكاة لابدّ أن تتوفّر فيه شروط منها: البلوغ، والعقل، والحرية، وأن تكون تلك المواد تحت تصرّفه.
ذُكرت للزكاة معان عديدة، لكن الزكاة أصلاً هي أفضل الشيء والمختار منه. وفي الأحكام الفقهية أن الأحوط للمزكّي أن يدفع من أفضل ماله. على السالكين والعارفين أن يلتزموا بقواعد الزكاة الظاهرية وشروطها وبأحكام الزكاة الباطنية وتوفير ظروفها. الزكاة المقترنة بالصلاة في القرآن ليست هي فقط الزكاة الظاهرية، والزكاة التي نذكرها في خطاب زيارتنا لأولياء الله حين نقول: «أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة» هي حتماً زكاة لها أيضا معان أبعد من المعاني الظاهرية، لأن الزكاة حركة القلب نحو المولى. هذا المعنى للزكاة يضعه العارفون الإلهيون نصب أعينهم فيهبّون باشتياق لتقديم الزكاة على جميع النعم الإلهية. الأساتذة الإلهيون يقرّرون أن ما يُستحبُّ عمله للأفراد العاديين فهو واجب على العارفين. وما يُكره لعامة الناس يُحرم على العارفين.
حدّ النصاب، في عالم الحقيقة، له معنى آخر، وتعلّق الزكاة لا يقتصر على المواد التسع، بل إن جميع ما أنعم به الله على الإنسان قد بلغ كلٌّ منها حدّ النصاب. والذي يبيّن ويعيّن حدّ النصاب هو سعة القلب، القلب الذي له بالخالق كمال الاتصال.
زكاة النعم الإلهية يجب أن تصل إلى المستحقين. في عالم الحقيقة، حيث يقيم السالكون والعارفون الإلهيون كلّهم في تلك الديار، فقراء وأغنياء، مكلّفون بأخذ الزكاة وبإنفاق الزكاة.
في ديار العشق العارف هو الواصل الى ذروة الغنى، وهو مندفع لأداء الزكاة بكل رغبة، والسالكون عليهم أن يأخذوا الزكاة منه. فهو كوكب يسطع من أفق الإمامة، وكلامه قليل الحجم كثير المعنى، هو مرآة الجمال. فائدته تعمّ المبتدئ الناقص والمنتهي الكامل. إنه يوصل الحقّ لمستحقّيه، ويقدّم من منهل ماء حياة المعرفة شربة للعطشى فيزيدهم ألماً وذوقاً وعطشاً. طلاّب لقاء الله عليهم أن يجدّوا في التعليم والتعلّم، وأن يؤدّوا ما عليهم من زكاة على النعم التي أنعم الله بها عليهم بواسطة أولياء الله، بمقتضى: «إنّ لكلّ شيء زكاة»، و«أدِّ لكل ذي حقٍّ حقّه» وبذلك يزيدون من سعة قلوبهم لتبلغ حدّ النصاب. والمقصود بسعة القلب هو ما يستطيع الإنسان أن يبلغه من ثروة روحيّة تؤهّله للسير على طريق التكامل والاعتلاء.
ومن المؤسف جداً أن تاريخ المسيرة البشرية قد شهد أجيالاً من الناس يحلّون هذه الدنيا ويتحركون فيها أياماً، لكنهم يغادرونها دون أن تصل قلوبهم في سعتها حدّ النصاب.
أوانٍ صغيرة لها قدرة استيعاب البحار والمحيطات لكنها في طول مسيرتها الحياتية لا تجمع سوى ماء كدر ثم لا تلبث أن تزول. كل ما عندها من رأس مال حياتي تنفقه في إعداد شيء من الطعام واللباس والمأوى، وفي الصراع والتحايل من أجل لُماضة العيش.
حج الصورة وحجّ القلب
الحجّ من العبادات العظيمة التي يشترط فيها الجمع بين الشروط الظاهرية والشروط الروحية الباطنية. على الحاج أن يعرف بدقّة أحكام مناسك الحج ويؤدّيها كما وردت في الشريعة، لكنه يجب أن لا يغفل عن المحتوى الداخلي لهذه الأحكام.
الحاج يتّجه في الواقع للقاء الله. وهو، إضافة إلى مشاهدة الكعبة الظاهرية وزيارتها، ينال توفيق مشاهدة الكعبة الأزلية. والزيارةُ الظاهرية إشاراتُ مرورٍ وحركةٍ لمشاهدة جمال الحقّ سبحانه وكماله.
الطريق إلى الله ليس مثل الطرق الجغرافية التي يسلكها السائرون، فهذا الطريق ليس سوى القلب، من هنا فإنّ حجّ الصورة ميسور لجميع الناس، ولكن حجّ الحقيقة لا يتيسّر لجميعهم.
المقصود من حجّ الصورة الحجّ الظاهري، والغرض من حجّ الحقيقة معنيان: الأول، أداء المناسك مقروناً برعاية آداب التحوّل الروحي والنفسي. والعارف الواقعي يؤدّي ذلك قلباً لاستيعابه هذه المعاني. والثاني، الطواف الدائم للقلب حول جمال الكعبة الأزلي، وهو حج العارفين الحقيقيين. وبناءاً على هذا فإن حقيقة بيت الله هو قلب العارف الطاهر، إذ إنه عرش الله تبارك وتعالى.
أيها العارف، اطلب القلب فالحج حجّ القلب. في طريق حجّ الصورة لابدّ من بذل الدرهم والدينار، لكن حجّ الحقيقة يتطلب بذل الروح والقلب. ومن الذي يتيسّر له هذا الحج؟ إنه العارف الذي ينطلق بروحه:  مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً  (آل عمران:97).
يا مسافراً سلكتَ طريق الحقّ سبحانه ويمّمتَ وجهكَ صوب الكعبة الأزلية! عليكَ أن تعلم بأنك ولّيتَ وجهك صوب الحجاز وأدرتَ ظهرك إلى المجاز، وتزوّدت لطريقك بالتقوى وامتطيت مركب التوكّل، وشددت حبل تفكيرك بالعروة الوثقى، وفي هذه الحالة تزول الكثرة والصور المتعددة، لتذوب في عالم الحقيقة، وتغيب صور الرجال والنساء لأن جميعهم مستهلَكون في نور محض.
الحاج الذي يلبيّ دعوة الله يحل ضيفاً عليه سبحانه. الضيوف الحقيقيون والمدعوون الواقعيون هم الذين اجتازوا بفضل اللطف الإلهي عقبات الكثرة، ووصلوا إلى ساحة الوحدة، والذي يحول بين الإنسان ووصوله إلى الله هوالكثرة.
الركّع السجود الحقيقيون، الذين أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يطهّرا البيت لهم، هم أمة رسول الله(ص)، هؤلاء يتحلّون، إلى جانب أداء الاعمال الظاهرية والباطنية، بصلابة إبراهيم الخليل تجاه أعداء الإسلام، ورأفته تجاه المحرومين، إنهم الضيوف الحقيقيون لبيت الله.
لكنّ الملوّث لا يمكن أن يكون ضيفاً . للبيت الطاهر، التكبّر لا يستطيع أن يكون ضيف بيت المساواة والمواساة، وعبد الأهواء لا يتأتّى له أن يكون ضيف بيت الحرية. من كان في نفسه مئات الأصنام لا يقدر أن يكون ضيف بيت التوحيد، والغارق في بحر الكثرة لا يحلّ ضيفاً على بيت الوحدة.
الحجّ، في الحقيقة، سرٌّ من أسرار العزم على السفر إلى دار البقاء، والإحرام رمز من رموز الحشر، والحاج عليه أن يبلغ الذروة في هذه الحال المعنوية. الحجّ يذكّر الإنسان بأنه يطوي الشوط القصير من هذه الحياة لينتقل إلى دار البقاء، لذلك يدخل الحاج بدايةً إلى مقام التوبة والإنابة، ويبدأ بتصفية روحه وجسمه، ويتعهّد أن ينقاد بتوفيق الله لأمر الله سبحانه، ثم يستشعر ضرورة الاستفادة مما تبقّى من عمره، ليتلافى مافات، وعلى رأسها حقّ الناس، ثم حقّ النفس، ثم حق الله.
الحاجّ يجب أن يكون فارغاً من القلق على الأهل والعيال، لأن ذلك يضرّ بصفائه الروحي، من هنا فلابدّ أن يودّع الأهل ويَكِلُ أمرهم إلى الله وينطلق متحرراً من كل انشداد، ولا يضع نصب عينيه سوى كمال الحبيب وجماله، مُعِداً نفسه بكل وجوده إلى سفر الحج أو سفر الآخرة.
الإحرام ببساطته وتوحّد شكله بين الحجاح يرمز إلى المساواة وإلغاء الامتيازات الظاهرية. الكل على اختلاف مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية متساوون، ولافضل لأحد إلاّ بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  (الحجرات:13).
والحاج حين يصل الميقات يلبّي مجيباً دعوةَ الله وأذانَ إبراهيم في العالمين، وكلّما مرّ بمنعطف أو انحدر في واد أو رأى مَعلماً كرّر التلبية استحباباً وهو يتّجه إلى البيت العتيق. وما أعظم صوت التلبية خاصة حين ينطلق من حنجرة جموع الحجاج، فيدوّي هذا النشيد الالهي في الأرجاء.
الكعبة بيت الوحدة والحقيقة، ومركز العالم الإسلامي، ومنطلق النور، ومركز التوحيد. والطواف بالبيت العتيق من المناسك:  وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (الحج:29) وهو رمز حبّ الله الذي يبديه الحاج بالطواف حول البيت، معلناً الحبّ والولاء والطاعة.
وعرفات محل محدودٌ يقف فيه الحجاج تحت خيام بسيطة وفي جلسة بسيطة وإحرام بسيط موحّد ليرسموا صورة المحشر، لا هدف لهم فيها سوى التضرّع والدعاء، وطلب الرحمة عند جبل الرحمة، مستشعرين من الأعماق أن كل شيء مفارق حتما إلاّ العمل الصالح.
والأمر الإلهي بعد وقوف عرفات هو الإفاضة:  فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ  (البقرة:198) والمشعر الحرام يدخله الحاج بعد أن هيّأ نفسه في عرفات للدخول في الحرم الإلهي. والوقوف في المشعر ليلة العاشر من ذي الحجة هو محطة أخرى من محطات السير إلى الله والانشداد به سبحانه عبر الدعاء والتضرّع.
ويوم عيد الأضحى يتحرّك الحجّاج نحو منى ليؤدّوا فيها ثلاثة أعمال: الرمي، والنحر، والحلق أو التقصير. والرمي يرمز إلى مكافحة الشر. وكأنّ الحاج يريد أن يجسّد مافي نفسه من كراهية لقوى الشرّ المتجسّدة في الجمرات، فيرميها بالحصى، واستهداف الجمرات في الرمي يجسّد مفهوم التوجّه الجماعي نحو تحقيق الهدف المقدس المتمثل بمكافحة الجهل والقبائح.
والأُضحية ارتباط بحنيفية إبراهيم الخليل،إذ فدى الله سبحانه إسماعيلبذبح عظيم والسنّة جارية في أتباع الدين الحنيف. وبهذا النُّسك يحظى الفقراء بلحوم الأضاحي، وهو في المعنى إشارة الى ذبح النفس الأمارة بالسوء، ولا ذبح أعظم من ذلك.
والحاج عليه أن يحلق أو يقصّر وفيه طهارة ظاهرية ترمز إلى وجوب تطهير النفس من الأدران والأدناس.
ومِنى فيها تتحقّق أماني الوصال.. وهي تكمل شوط المشاعر: كمال المعرفة في عرفة، وكمال اليقين في المشعر الحرام، وكمال تحقق الوصال في مبيت منى.
وكمال الوصال يتحقق عندما ينقطع الطالب عن كل شيء ويتّجه بكل وجوده نحو المطلوب. ولـه علامات ومراحل: الأولى التضحية، والثانية قطع الارتباط بكل ما يشدّ الإنسان إليه، خاصة إذا كان ذلك الانشداد قوياً مثل تعلّق القلب بالأبناء، فالمقام المعنوي للإنسان عند الله يسمو بسموّ درجات الانقطاع. وإبراهيم عليه السلام طوى هذه المراحل بتوفيق الله، وبلغ بنفسه مرحلة الكمال.
إسماعيل عليه السلام كان طفلاً محبّباً لوالده، وكانت مسيرة الكمال تقتضي أن لا يتحوّل هذا الحبّ إلى عَقَبة تحول دون حركة الخليل على طريق المحبوب المطلق سبحانه. وجاء الامتحان العسير، فكانت الاستجابة التامة من إبراهيم والخضوع الكامل من إسماعيل لربّ العالمين:  قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى، قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (الصافات:102) وبذلك أثبت إبراهيم ما بلغه من مرحلة كمال الوصال.
إبراهيم عليه السلام كان مجهّزاً بالمعرفة واليقين قبل ذلك، وقبل أن يطوي مراحل عرفات والمشعر ومنى. كان قد بذل كل وجوده في سبيل الله، ثم انقطع عن كل الانشدادت الدنيوية حتى بلغ في خاتمة المطاف كمال المعرفة وكمال اليقين وكمال الوصال.
وبعد أداء المناسك الثلاثة يجب على الحاج أن يعود إلى مكة ليطوف ويسعى بين الصفا والمروة. والسعي يعمّق شعور الطالب بأن الوصول إلى المطلوب لا يتم إلاّ بالسعي المتوالي والهمّة العالية.
ومن الناحية الاجتماعية، الحج له عطاؤه الكبير في وحدة الأمة الإسلامية، وهو مظهر قوّة المسلمين وعظمة الإسلام وقدرته على خلق الجماعة البشرية المتعالية على التمييز العنصري والطبقي. وحركة الحجاج في أداء المناسك يمثل منهجاً متكاملاً لحركة الإنسان التكاملية نحو العلم والتفكير والتعمّق، ونحو صياغة محتواه الداخلي لتأمين سعادة المجتمع وصلاحه وأمنه وفلاحه.
والواقع أن فريضة الحج لوحدها كافية لرصّ صفوف المسلمين تجاه ما يواجههم من تحديات إن أحسنوا الأداء، وارتفعوا في مستوى فهمهم لعمق المناسك.
ويتحمّل المسلمون مسؤولية استثمار موسم الحج ليحوّلوه إلى مؤتمر علم وعمل يعيد لهم وحدتهم وعزّتهم وقوتهم وشوكتهم.
ذكر «المنافع» بصورة مطلقة للحج في كتاب الله العزيز: ليشهدوا منافع لهم يدعو المسلمين إلى التفكير في استثمار الموسم على مستوى متطلبات العصر. والمسلمون اليوم يواجهون مشاكل اقتصادية، ويستطيع الحج أن يكون فرصة لتعاون البلدان الإسلامية لتنمية اقتصادها وزيادة التبادل الاقتصادي بينها، كما يواجهون مأساة التفرّق والتمزّق وتجمّع الحج بما فيه من جوّ روحيّ وإنساني وعبادي قادر على رصّ الصفوف وإزالة الحساسيّات والتفاهم حول المشتركات، ويواجه المسلمون أيضا أخطاراً تهدّد هويتهم وثقافتهم وكرامتهم. وفي ساحة الحج يمكن تبادل التجارب والمعلومات ووضع الخطط والبرامج لصيانة الأمة من هذه الأخطار. وهذا كلّه لا يتيسّر - كما قلنا - إلاّ أن يفهم الحجاج مقصد هذه الفريضة، وأن يكونوا على مستوى المتطلبات الإسلامية لعصرهم، وأن يفهموا بأنهم يطوون طريق عشاق الجمال الأزلي، وأنهم يحملون مسؤولية دفع مسيرة أمتهم بل مسيرة البشرية نحو ساحل الأمن والسلام والإنسانية ورفض العدوان.
وحذار حذار من ضياع هذه الفرصة والانشغال في تلك الساحة المقدسة بأمور لا تتناسب مع عظمتها. إنها فرصة الانتهال من ماء الحياة، ليشحن الحاج روحه بالحيوية الإلهية، ثم يعود إلى بلده ليضخّ هذه الحياة في جسد أبناء أمته.
ولكي يبقى النور الإلهي في قلب الحاج بعد عودته لابدّ أن يراعي أموراً:
الاول: أن يبقى مراقباً لنفسه أمام غزو الشيطان.
الثاني: أن يراجع ملفّ أعماله السابقة.
الثالث: أن يعيش ما أدّاه من مناسك، ويتعمّق في فهمها ليعرف عظمة الفترة التي قضاها في أداء الفريضة.
الرابع: أن يفهم بأن انتهاء المناسك والخروج من الإحرام لا يعني أنه خرج من الإحرام المعنوي، فهو مُحرم في الساحة الإلهية حتى آخر عمره.
الجهاد الظاهري والجهاد الباطني
الجهاد من الفرائض الهامة في الإسلام، السالك يجب أن يُعدّ نفسه للجهاد الظاهري والباطني وتجديد العهد الإلهي. وفي المفاهيم الإسلامية ثلاثة أنواع من الجهاد في قوله سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (العنكبوت:69):
الأول – الجهاد في ساحة الحرب مع الأعداء الظاهريين.
الثاني – الجهاد في ساحة النفس مع الأعداء الباطنيين.
الثالث – الجهاد العلمي بالتعلّم والتعليم.
وفي كلّ نوع من هذه الأنواع شهادة. شهادة يصل اليها الإنسان ببذل المال والنفس على طريق الله سبحانه. وشهادة يصل بها الإنسان إلى مقام الشهود ويوصل غيره إليها، وشهادة يرتقي بها الإنسان عن طريق التعليم والتعلّم، ويدفع غيره على سلّم الارتقاء.
والشهادة من سبل وصول الإنسان إلى ذروة الارتقاء، وهذه الذروة لا يمكن أن يصل إليها الإنسان دفعة ودون مقدمات، بل لابد لمن يصل هذه الذروة أن يكون قد طوى مراحل التقوى وتجلّى نور الإيمان في قلبه.
الإنسان الذي يعدّ نفسه للشهادة لابدّ أن يكون قد أعرض عن كلّ ما يشدّه إلى ما يشدّ الناس العاديين من مال ومتاع، وربّى جميع ما فيه من طاقات روحية كامنة تستطيع أن تحلّق به إلى القمم والى ذلك الهدف المقدس.
الشهادة أن يقدّم الفرد حياته من أجل حياة أمته.
الشهادة تحرّرٌ من قفص الجسد المادّي، والحركةُ تجاه مقام الشهود الإلهي.
الشهادة فهم عميق للحياة الحقيقية السامية.
ودرجة الشهادة تختلف باختلاف درجة وعي صاحبها ومعرفته بالطريق الذي يسلكه. الحسين بن علي(ع) إنما كان سيد الشهداء لأنه، مع مكانته ومنزلته، قد طوى مسيرة شائكة في حياته دونما انحراف ودون أن تدنّسه الجاهلية بأدناسها أو تلبسه من مدلهمّات ثيابها، فدخل ساحة الشهادة في كربلاء لتكون أرض الشهادة هذه آخر مرحلة من مراحل تكامله وسموّه، حيث سجّل فيها أعظم صورة لشخصية الإنسان المتكامل الصامد على طريق هدفه الكبير، وهذه هي الحياة الإلهية.
نعم، الحياة الإلهية هي الحياة المنزّهة من الأدران، يرى فيها الإنسان نفسه يحثّ الخطى على طريق الكمال ليصل في نهاية الشوط إلى منطقة الجاذبة الإلهية، ومثل هذا الإنسان ذو تأثير مستمر في مجتمعه بحياته وبشهادته، يبعث وهو حيّ الموجةَ في أمته، وبعد شهادته تتصاعد هذه الأمواج بإذن الله ومشيئته ولا تَبلى مع الأيام.
الشهيد إنسان وفى بما عاهد الله عليه، وسار بصدق نحو مقام شهود جمال ربّ العالمين: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (الأحزاب:23) وكلّ من صَدَقَ ماعاهد الله عليه فهو في قائمة الشهداء، لأنه تدرّع بكل ما يتطلبه الجهاد من صفات. أليس الجهاد«لباس التقوى، ودرع الله الحصينة وجُنّته الوثيقة»؟! وهؤلاء المؤمنون منتصرون في مسيرتهم بوعد من الله سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي (المجادلة:21) فهي غلبة مسنودة إلى الله سبحانه: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ  (يوسف:21).
السالكون طريقَ الله يشتاقون إلى الشهادة لأنها ذوبان في ذات الله سبحانه، وهذا الذوبان يمكن أن يناله السالك في حركة باطنه نحو الله. معرفة النفس، وتسييرها على طريق الكمال، وصول إلى الله: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه». الشهيد من دخل الساحة الإلهية نازعاً عن نفسه كل ما يشدّه بالمال والمتاع:  فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (طـه:12) ولعالَم الشهادة مراتب ودرجات.
الشهادة لها شرط مهم هو أن تكون في سبيل الله، وهذا الشرط يعني أن يكون الدافع في الاستشهاد خال من أي تعلّق بعالم الإمكان، عندئذ يحظى الشهيد بمقام عند ربّهم ويحظى بالعطاء الإلهي المستمر: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران:169).
والقتل في سبيل الله إما أن يكون بالسيف الظاهر، أو بالسيف الباطن، القاتل في الأول: جيش الكفر والشيطان والقاتل في الثاني: جند الرحمة والإيمان.
مقام المقتول بالسيف الأول رفيع حتماً، لكنه لا يقلّ عن مقام المقتول بالسيف الثاني. بل لعلّ القتل بالثاني هو الجهاد الاكبر في تعبير رسول الله(ص) حين سمّى جهاد السيف بالأصغر، وجهاد النفس بالجهاد الاكبر. هو جهاد أكبر لأنه مواجهة حقيقية مع الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، وهو منطلق الجهاد بالسيف ومنطلق مقارعة الأصنام في المجتمع البشري.
والجهاد الثالث جهاد الدعوة إلى الله، وهداية البشرية بتعاليم السماء. وفي سورة الفرقان قولـه سبحانه: فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (الفرقان:52) إشارة إلى هذا النوع من الجهاد لأن الضمير في «به» يعود إلى القرآن، والجهاد بالقرآن هو حمل مشعل هدايته إلى العالمين.
وجهاد الدعوة هو الهدف الأساس من الجهاد بالسيف، لأن المقصد الأساس هو هداية البشرية، والسيف يُشهرَ حين يقف أمام هذه الهداية مانع لا يمكن إزالته إلاّ بالقوّة. هدف الإسلام هو إحياء الناس والدخول إلى قلوبهم، ليسيروا على طريق كمالهم المرسوم، وبلغ اهتمام الإسلام بالقلوب أن خصّص من بيت مال المسلمين سهماً لاستمالة المؤلفة قلوبهم وهم من الذين لا يؤمنون بالإسلام في المجتمع الإسلامي.
من هنا فإن المسلمين دائماً أمام جبهتين : خارجية ظاهرية، وداخلية باطنية، ولابدّ من الاستعداد والحذر المتواصل كي لا تخلو إحدى الجبهتين من عوامل ردع العدوّ المهاجم.
الدماء التي أريقت في سبيل الله غالية مقدسة حتماً، غير أنّ النصوص الدينية تفضّل عليها مداد العلماء: «مداد العلماء أفضل من دم الشهداء» وهذا التفضيل يبين مقصد الإسلام الأسمى، وهو التفكير والتعقّل وتفجير كل الطاقات العلميّة الخلاّقة في نفس الإنسان. والمقصود بالعلماء هنا طبعاً العلماء الذين يسخّرون وجودهم لشدّ الناس بالله، أي شدّهم بالكامل المطلق، وهو يعني دفع مسيرة البشرية على طريق كمالها المنشود. ولذلك كان النظر في وجه العالم عبادة، لأنه انشداد بالجمال الإلهي.
الإنسان أشرف مخلوقات الله، والمسيرة البشرية أشرف حركة في الكون من مبدئها حتى مقصدها، وهذه المسيرة قد يعتريها انحراف نتيجة الجهل وطغيان الأهواء والشهوات. لكن هذا الانحراف لا يتأصّل في المسيرة، بل يبقى طارئاً عارضاً يطلب النجاة والوصول إلى ساحل الأمان.
وجدان البشرية دائماً يمدّ يد الاستعانة إلى الدعاة والهداة إلى سبيل الله يطلب منهم المساعدة للتخلّص من السقوط في مستنقع الانحراف والضلال.
من هنا يتحمّل أصحاب الأقلام الملتزمة ودعاة الكلمة الإلهية مسؤولية كبرى في إنقاذ مسيرة البشرية من الانحراف. لا يجوز لهم أن يقفوا متفرّجين، ولا يجوز لهم أن يكتفوا بصبّ اللعنات على الانحراف والمنحرفين، بل المسؤولية الإلهية تفرض عليهم أن ينيروا الطريق للتائهين، وهو جهاد كبير ، بل أكبر.
واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
شروطه الظاهرية والباطنية
أداء كل أمر على النحو المطلوب يتوقف على مراعاة شروطه. وأهمها: العلم بالأصول والفروع والعمل بها. وليست هذه الأصول والفروع واحدةً في جميع الأمور، بل كل أمر وعمل له أركانه وكليّاته وجزئياته التي ينبغي مراعاتها، خاصة في جانبها الروحي الباطني. والاهتمام الأصلي للسالك إنّما هو بالأمور الباطنية والإلهية، دون أن يغفل قلبه لحظة عن الله سبحانه، رغم اهتمامه التام بالأمور الظاهرية.
السالك يجب أن يضع نصب عينيه أصول الأوامر الإلهية وفروعها، وأن يعلم بجميع جوانبها ويعمل بها. فإذا كان عالماً وعاملاً بالأصول فحسب، فإنّه لا يبلغ الهدف من عمله، وكذلك إذا كان عالماً وعاملاً بالفروع فقط دون اهتمام بالأصول فإنه لا ينهض أيضاً بالمسؤولية إلى درجة الكمال، ولا يكون عمله مقبولاً عند الله سبحانه.
أحد الامور المعنوية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الحقائق، وكفى بهذه الفريضة الإلهية أهمية أن تاركها، مع توفر الشروط، يعتبر ظالماً وشقياً، وقد يكون ذلك مبعث نزول البلاء. فقوم لوط لم يرتكبوا كلّهم ذلك العمل الشنيع، لكنهم تعرّضوا جميعاً للعذاب الإلهي بسبب تركهم النهي عن المنكر، أما حين تكون شروط هذه الفريضة غير متوفّرة أو يكون العمل بها ذا مردود سلبي، فالأولى ترك ذلك المكان، وإن تعذّر ترك المكان فلابدّ من العمل بسائر مراتب هذه الفريضة الإلهية.
قد يكون الأمر في ظاهره على شكل واحد، ولكنه في الباطن ذو أقسام وأنواع كثيرة، وعين البصيرة ينبغي أن ترى هذه الأنواع من نافذة الحقيقة، وتبيّن كيفية كل منها. أصحاب القلوب يجب أن يتوغلوا في باطن هذه الفريضة ببصيرة العقل والقلب، ثم يتصدّوا لإصدار أحكامهم في كل حالة من حالاتها.
من المؤكد أن العمل بكلّ أمر مقدس إلهي يختلف تأثيره الخارجي بحسب المقام المعنوي للعامل. فالأمر معلول الآمر، وكلّما كانت الدرجة المعنوية للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أسمى كان تأثير عمله أكثر.
من هنا فإن العمل بهذه الفريضة يتوقف على مايلي:
1ـ التعرّف على ماهو معروف وماهو منكر في الشريعة وعلى أرض الواقع، وبدون ذلك قد يقع الشخص في مفارقات، كأن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
2- أن يكون القائم بهذه الفريضة مؤمناً وعاملاً بها. لذلك فإن المتصدّي للدعوة إلى الله يجب أن يوطّن نفسه على تعميق الإيمان بما يدعو إليه، وعلى المثابرة التامة على العمل، وإلاّ كان مخاطباً بقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (الصف:2-3).
3- أن يكون هدف العامل بهذه الفريضة رضا الله سبحانه، وإن طرأ أدنى انحراف على هذه النية فلا قيمة لعمله ولا نتيجة لمسعاه. وحين تخلص النية يبتعد الفرد الداعية عن الانفعال والأهواء النفسية، وينظر إلى مخاطبه بحبّ وعاطفة ، ولا يلجأ إلى العنف والتقريع فذلك من انفعال النفس ومن عدم إخلاص النية.
وسبب نجاح دعوة الأنبياء ينطلق من هذا الإخلاص في النية، وهذا الإخلاص يجعل تعاملهم مع الناس إنسانياً يجتدب اليه القلوب ويأسر العواطف. ورسول الله(ص) حقّق نجاحه الباهر في دعوته بخلقه العظيم، فحوّل عرب الجزيرة الذين كانوا يتفاخرون بالإغارة والقتل والنهب والسبي إلى بشر يحملون أسمى العواطف الإنسانية تجاه بعضهم وتجاه الآخرين.
وإذا صدر من القادة الإلهيين موقف عنيف، فإنما ينطلق من حبّ ومشاعر إنسانية بعيدة عن الانفعال والهوى. فهم يغضبون لله كما يرضون لله. وإذا كان مخاطَبَهم سالكاً إلى الله فإنه يرى في تشدّدهم إنقاذاً ورحمة.
ومن مظاهر المحبّة في الإرشاد المرونة. والنصوص الدينية توصي بالمرونة، وهي غير المداهنة والتملّق. فالمتملّق يستهدف مصالحه الفردية، والمرونة هدفها تحقيق المصلحة الإسلامية العليا. وفي الحديث النبوي تشبيه للأفراد المرنين بالأشجار المخضرّة التي تنحني أمام العواصف لتحافظ على استمرار عطائها، بينما المتشدّدون كالأشجار اليابسة التي تنقلع أمام حوادث الزمان.
ومن مظاهر المحبة حسن الخلق، فحسن الخلق، كما ورد في النصوص، يحتّ السيئات، بينما سوء الخلق يذهب بالحسنات.
وللسالكين في رسول الله(ص) أسوة حسنة. صلح الحديبية مظهر من مظاهر مرونة هذا الرسول الكريم وعظمة خُلُقه. فلقد اعترضت قريش على كتابة: «بسم الله الرحمن الرحيم» في مطلع وثيقة الصلح، وقالت: عادتنا أن نكتب: باسمك اللهم، ولا عهد لنا بالرحمن والرحيم. فأمر الرسول كاتب الوثيقة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يكتب كما ذكرت قريش. ثم كتب الكاتب أن هذه الوثيقة أبرمت بين ممثل قريش ومحمد رسول الله، فاعترض القرشيون على ذلك زاعمين أنهم لو اعتقدوا بأن محمداً رسول الله ما حاربوه، ووافق النبي على حذف «رسول الله»، ومما أصرّت عليه قريشٌ وتضمنته المادة الثانية من الوثيقة، أن المسلمين ملزمون بإعادة من فرّ من قريش ولجأ إلى المسلمين في المدينة، بينما قريش غير ملزمة بـإعادة من فرّ من المدينة ولجأ إلى مكة، ووافق الرسول على ذلك أيضاً. وكان في هذه الموافقة هدف خفيّ هو أنّ الفارّ من مكة إلى المدينة يُعاد إلى مكة بعد أن يتعرّف على حقائق الدين المبين، وهذا العمل يعود بالنفع على الدعوة.
فالمرونة إذن ليست ذلّة، بل هي طريق إلى النجاح والعزّة حين تكون منطلقة من أهداف سامية، محافظة على مبادئ الاسلام.
وسالك طريق الحق حين يتعرّف هذه المفاهيم فإنه يواصل طريقه دون وقفة ودون تلكّؤ، ويرى أن الطريق أمامه مفتوحاً للعمل بالمعروف والنهي عن المنكر مادام منطلقاً من معنوياته لا من أهوائه وذاتياته.
وتطهير المحتوى الداخلي له أثر في تنظيم الأمور وسيرها وفق منهج قويم لا انحراف فيه ولا خبط ولا تبعثر. كثير ممن يهتم بنظم الأمور لا يستطيع أن يفعل شيئاً يحقّق هدفه لأنه لم ينظّم معنوياته وباطنه. والداعية إلى الله يحتاج أكثر من غيره إلى انتظام أموره لعظم مسؤوليته واتساع دائرة عمله، من هنا فإن أدنى شائبة في نيته تسيء إلى أعماله وتُربك انتظام أموره.
كان رسول الله(ص) جادّاً في تعليم أصحابه على ممارسة الأمور بانتظام تام حتى في دقائق الأمور.
حين وُضع الصحابي الكبير سعد بن معاذ في قبره أخذ الصحابة يحثّون عليه التراب بشكل عشوائي، فنهاهم الرسول عن ذلك، وبدأ يرشّ التراب بشكل منتظم على جثمانه، مشيراً إلى الصحابة بضرورة الانتظام حتى في هذا الأمر، رغم أن القبر سوف يتلاشى عاجلاً. وإذا كان نظم الأمور لازماً في هذا الأمر البسيط فما بالك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أيجوز أن يكون عشوائياً دون منهج دقيق؟! كلاّ طبعًا فإنه قوام استمرار حركة الأمة نحو أهدافها التكاملية.
والمنهج ينبغي أن لا يكون ذوقيًا، بل قائمًا على أساس عقلي مدروس، والعقل والقلب هبة إلهية قادرة على التمييز بين الحق والباطل، فما أيّده العقل أيّده الشرع، وما أيّده الشرع أيّده العقل.
أولئك الذين سخّروا قلوبهم وعقولهم لطاعة الله سبحانه يعلمون أن عطاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بمقدار حجم العمل، بل بمقدار الرصيد المعنوي الذي يدعم هذا العمل ويحثّ عليه.
تعاليم الدين دقيقة في ممارسة الأعمال، وفي توجيه حركة الأعمال نحو جذب المنافع ودفع المفاسد. هذا الجذب والدفع يشمل الجانبَ الظاهري من أعمال الإنسان والساحة الباطنية منه. والإنسان المتربّي بالتربية الإلهية يدرك بحسّه الروحي هاتين القوتين، ويمارسهما في أعماله وفي مشاعره. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمليتان تتجهان إلى تحقيق جذب المنافع ودرء المفاسد في المجتمع، كما أنهما بذاتهما تقومان على أساسٍ من تعاليم الجذب والدفع في النفس الإنسانية. من هنا كان التأكيد على الابتعاد عن تنفير الناس، وعن استفزازهم، وعن استثارة مشاعرهم في عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالتوصية مثلا بعدم التصريح والمواجهة العلنية أمام الناس في التذكير، بل بالإشارة والإيماء، وإن الداعية مكلّف بعدم التصريح حتى إذا لم تَجدِ الإشارة والإيماء نفعاً.
وعلينا بعد ذلك أن نتضرّع إلى الله سبحانه أن يوفقنا لأن نكون على مستوى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في أعمالنا الظاهرية وفي مشاعرنا الداخلية.
المعاملات الظاهرية والمعاملات الباطنية
المعاملات تدخل في إطار التشريع الإسلامي ولها معان ظاهرية مبينة في كتب الفقه، كما لها معان باطنية واسعة الأبعاد نكتفي بالإشارة إلى بعضها.
المعاملات مشروعة وغير مشروعة، وغير المشروعة تؤدّي إلى أضرار جسيمة، والمشروعة لها قوانين وتعليمات لابدّ من تعرّفها كي لا يقع الفرد في ورطة المحرمات.
والمعاملات المشروعة – كما ألمحنا – ظاهرية وباطنية، أو ماديّة ومعنوية.
لو تأملنا عميقاً في المعاملات المعنوية لألفينا أنفسنا في تعامل دائم، تُرى كم هي أرباحنا وخسائرنا في هذه المعاملات، من هنا جاء التحذير من الخسائر في المعاملات المعنوية، هذه الخسائر التي تدفع اليها الرغبات الآنيّة السطحية: «أكرم نفسك عن كلّ دنيّة وإنْ ساقتك إلى الرغائب».
الخسائر في المعاملات المعنوية تكون على حساب طاقاتنا الروحية والمعنوية، وعلى حساب عمرنا، أي على حساب أثمن ما يملكه الإنسان من رصيد حياتي. فالانجراف وراء الاهواء ثمنه إضعاف إرادة الإنسان وقواه الانسانية، وهي خسارة أين منها خسارة الذهب والفضة والأموال الثمينة.
وثمة أناس واعوانَ في هذه المعاملات الروحيّة، حين يُقدمون على معاملة يحسبون لكمالهم المعنوي كلّ حساب، فيدخلون مع الكامل المطلق في تعامل ذكي، يقبلون شروطه ويسيرون وفق ما أراده، فيعطيهم ما أرادوا من كمال وسعادة وخير في الدنيا والآخرة.
لقد وهبَ الله سبحانه المؤمنين الأنفس والأموال، ثم طلب منهم أن يهبوا ما أعطاهم في سبيل الله وليكون ثمن ذلك الجنّة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ  (التوبة:111).
والواقع أن الإنسان بما يمتلكه من مكانة في الكون لا ينبغي له أن يبيع نفسه بثمن بخس لقاء شهوات عابرة أو لذّات سحطية أو مكاسب آنية، بل لابدّ أن يكون ثمن ذلك هو السعادة الابديّة: الجنّة. يقول أمير المؤمنين عليّ(ع) مرغباً عبادَ الله الصالحين في هذه المعاملة الرابحة التي لا يحظى بها إلاّ «الاحرار» ومحذراً من المعاملات الخاسرة: «ألا حرٌّ يَدَعُ هذه اللماظةَ لأهلها، فإني لا أرى لأنفسكم ثمناً إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها إلاّ بها».
الميراث الظاهري والميراث المعنوي
الإرث الظاهري معلوم، وطريقة تقسيمه معروفة في كتب الفقه، وهذا الإرث خاص بذوي الوارث، أما الارث المعنوي فليس محدوداً بفئة بل هو مما يناله كلّ الطالبين.
وهذا الإرث هو الذي نردّده في نصوص خطابنا لأولياء الله: «السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله.. السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله. السلام يا وارث أمير المؤمنين…».
الأولاد الصالحون مما يتركه السعداء من إرث للبشرية، ولذلك كان هذا الإرث من مضامين دعوات الأنبياء:  فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً ،يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً (مريم:5-6).
وما يقدّمه الأنبياء من عطاء يحمله الأولياء الصالحون، وهم العلماء الحقيقيون الذين يوقظون في البشرية دافع الحركة نحو تكاملها المنشود، ولذلك كان العلماء ورثة الأنبياء: «العلماء ورثة الأنبياء». ومثل هؤلاء العلماء يواصلون مسيرة الأنبياء في هداية المجتمعات الإنسانية نحو حياة أفضل.
وليس علم هؤلاء الإنبياء وورثتهم من النوع الذي يحدّه كتاب أو قرطاس بل هو واسع سعة تأثيرهم في حركة المجتمع. إنه الإيمان الذي يشكل شرارة حركة الانطلاق:
 أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ  (المجادلة:22) .
وهذا الإرث المعنوي من الانبياء إلى العلماء مفخرة ومسؤولية. مفخرة تأهّلهم لأن يكونوا هداة البشرية إلى الله، ومسؤولية تجعلهم أمام حفظ الأمانة، وتجاوز كل عقبات النفس الأمارة كي ينالوا هم من معين الرضا الإلهي، ويغدقوا على المجتمعات البشرية من هذا المعين، ليذوقوا شراب الوصال الطهور.
الإرث المعنوي يحتاج إلى عَقِب يتمتع بهذا الإرث، والعقيم محروم من العَقِب. تعاليم الأنبياء تحول دون أن يكون الإنسان عقيماً، وتعمل على أن يرتبط الإنسان بأبناء روحيين يرثون علمه ومعنوياته، وهؤلاء هم الأولاد الصالحون للعالم الربّاني.
رابطة الأبوّة والبنوّة في إطار الدين رابطة روحية أين منها الرابطة النسبية، وهذه هي أبوّة إبراهيم عليه السلام لأتباع الدين الحنيف:  مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ (الحج:78).
القَسَم الظاهري والقَسَم المعنوي
للقسم الظاهري أحكام منها: أن يكون في أمر مشروع، وأن يكون الفرد الذي يصدر عنه القسم عاقلاً بالغاً قاصداً واعياً وأن يكون القسم بالله سبحانه، وأن ينطق الفرد به، وإلاّ كان لاغياً. ولدى توفّر الشروط يجب العمل بالقسم كاملاً غير منقوص، وإذا تخلّف عن ذلك فعليه الكفّارة.
والسالكون إلى الله في قلوبهم عَهد وَقسَم. وهذا القسم يجعلهم في جدّ واجتهاد متواصلين في اتجاه التوبة النصوح حتى يتجلّى نور الحقّ في قلوبهم.
يتواصل هذه القَسَم والعهد مع الإنسان حتى آخر حياته، فيلتزم بأدائه حتى يردّ الأمانة إلى بارئها ويرجع إلى ربّه راضياً مرضيّاً:  يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجر:27- 30).
وهكذا النذر فهو نوع من العهد والقسم له شروطه الخاصة ويوجب الوفاء به إذا توفّرت الشروط، والسالكون نذروا أنفسهم ووجودهم وطاقاتهم في سبيل الله ولابدّ أن يفوا بنذرهم حتى يلاقوا ربّهم راضين مرضيّين.
مزرعةُ القلوب
حديث الروح في النصوص الدينية ينطق غالباً بلغة الحياة الطبيعية. ومن مظاهر الحياة الطبيعيّة الزراعة، والزراعة من المصطلحات التي ذكرت في هذه النصوص المقدّسة لبيان قوانين الإنماء الروحي. بلغة الزراعة هذه بيّن أولياء الله العلاقة بين الدنيا والآخرة: «الدنيا مرزعة الآخرة»، فالانسان يحصد في الآخرة ما بذره في الدنيا.
والفرق بين القلوب ذكرته الروايات بنفس اللغة، حيث بيّنت أن من الأرض ماهو مستعدّ للإخصاب والإنبات، وبعضه صلدٌ لا ينفذ فيه ماء ولا يخرج منه زرع. ولا يمكن لكلام الله أن يدخل القلوب إلاّ إذا وجد أرضًا مستعدّة للهداية عندئذ يتحقق قوله سبحانه:  إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أقْوَمُ  (الاسراء:9).
وإذا كانت الأرض بحاجة إلى إحياء لتثمر وتنبت كذلك القلوب بحاجة إلى إحياء، وحياة القلوب بالانصياع لمشروع التكامل الالهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (لأنفال:24).
والكلمة الطيبة بكل ما تعنيه هذه العبارة من نداء إلهي ومن توجيه نحو ربّ العالمين وهداية إلى طريق الكمال شبهها القرآن بالشجرة الطيبة. وتتميز هذه الشجرة بثبات الأصل، وتجذّرها في الأرض، وبارتباطها بالسماء وما تعني السماء من علوّ وارتفاع وسموّ، كما تعني أيضا استمرار العطاء على مرّ العصور والأزمان:  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا  (ابراهيم:24-25).
والكلمة الخبيثة التي تنطلق من دوافع الشهوة والحرص والطمع، والبعيدة عن مسيرة التكامل نحو الله مثل شجرة خبيثة، ليس لها جذور، وليس لها ثبات واستقرار: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (ابراهيم:26).
الدعاة إلى الله يتحملون مسؤولية إعداد قلوب الناس عامة والشباب والناشئة خاصة لتنمو فيها الشجرة الطيبة، وتبعدهم عن الشجرة الخبيثة، وعن الشجرة الجهنمية التي تنمو في جوّ غضب الله: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (الصافات:64).
عليهم أن يعرفوا بأنّ مهمتهم الأساسيّة ليست التعليم، بل التزكية، لأن التزكية هي أساس نموّ الكائن البشري، وهي إعداد للتربة التي تنمو فيها العلوم نمواً طبيعياً تكاملياً سامياً. على المربي أن يرعى ما أودعه الله في قلب الإنسان من بذور الخير والفضيلة ويرعاها، ويزيل مما يحيط بها من آفاق وطفيليات وحشرات، كي تنبت وتثمر وتؤتي أكلها.
من يفتقد التزكية لا يحقّ له أن يتصدى لمسؤولية التربية والتعليم، لأن هذه المهمّة تتجه إلى تغذية الروح، ولابدّ أن يكون ثمة تجانس بين الغذاء ومقدّم الغذاء. البدن المادّي يحتاج إلى غذاء مادّي لكن الجانب الروحي بحاجة إلى غذاء روحي. وكما أنّ البدن المادي إذا جاع لا يمكن إشباعه بالتربية والتعليم كذلك الجانب الروحي من الإنسان لا يشبع بالطعام المادي، إذ هو بحاجة إلى غذاء روحي يساعده على السير نحو الله، فالروح تطلب الكامل المطلق سبحانه. معشوقها هو الله تعالى.
المربّون الإلهيون مزارعون يثيرون أرض القلوب، ويحرثون الأرواح ويُعدّون النفوس، وينثرون بذور المعارف والعلوم في مزرعة الأرواح، ويتعهّدون الزرع بالرعاية حتى يبلغوا به شجرة طوبى.
نعم، إن بذور العشق قد ألقيت في قلب الإنسان منذ أن خوطب بقوله سبحانه:
ألستُ بربكم؟ لكن هذه البذور لا تبلغ درجة كمالها دون تربية وتعهّد واهتمام. فقد تندثر هذه البذور تحت ركام الشهوات والأهواء وغلظة الطابع البهيمي، فتحرم من القدرة على التكامل والنمو.
وفي تربية هذه البذور وتعهّدها بالرعاية ينقسم الناس على ثلاثة أصناف:
أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون. أصحاب اليمين، هم الذين لم تصل البذور الروحية في قلوبهم درجة الكمال، لكنها أيضا لم تندثر تحت ركام الجسد المادّي. إن لم يُقدّر لها أن تنمو فإنها أيضا لم تنقص ، هؤلاء ناجون وبلغوا درجتهم الروحية.
وأصحاب الشمال، هم الذين أساءوا إلى البذور الروحية في نفوسهم وأضرّوا بها، وأخلّوا بنظام نموّها، إنهم غلبت معاصيهم على طاعاتهم، ويساقون إلى النار كي تنتزع عنهم آثامهم ويبلغوا درجتهم الروحيّة بنقصان.
والسابقون ، هم الذين تعهّدوا بتربية تلك البذور وبلغوا كمالهم المطلوب، وهم أيضا على صنفين:
الأول: أولئك الذين صانوا أنفسهم عن التلوث بالمعاصي منذ بداية مسيرتهم الحياتية حتى نهايتها، وسعوا في تربية بذورهم الروحيّة: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى (الانبياء:101).
والثاني: هم الذين انساقوا في بداية المسير على طريق أهوائهم النفسية، لكنهم بفضل الله أعرضوا عن المراتع البهيمية والمراتب الحيوانية وسعوا في تربية بذورهم الروحية وبلغوا الكمال المنشود. وإنما سمّوا سابقين لأنهم سبقوا أصحاب اليمين وأصحاب الشمال.
أصحاب اليمين اتبعوا العقل، وأصحاب الشمال انساقوا وراء الهوى، والسابقون توجّهوا نحو العشق. والعقل يبلغ بالعاقل إلى المعقول، والهوى يقذف بصاحبه إلى الهاوية، والعشق يصل بالعاشق إلى المعشوق.
وهذا التوفيق يحصل عن طريق تربية أولياء الله، الذين يسقون بذور الروح من ينبوع الرحمة الإلهية، وينمّوها بالكلمة الطيبة، ويغيّرون محتوى الإنسان ليشرق عليه فجر العشق وتنزاح عنه الظلمات. وكما أن للطبيعة ربيعاً تحيا فيه الأرض وتهتزّ وتخرج الطيبات كذلك الروح لها ربيع باطني. وكما أنّ نموّ البذور يحتاج إلى شمس فلكية كذلك الروح تحتاج إلى الشمس الملكية لتستثير فيها أشواق العاشقين. وإذا كانت الأرض تعود إلى السبات في الشتاء بعد حياتها، فإن حياة القلوب تبقى نابضة بالحيوية والنشاط: «قلب المؤمن لا يموت أبداً».
طوبى لمن بلغ تلك الدرجة حيث «لا مريدَ ولا مُراد، ولا خبر ولا استخبار، ولا حدّ ولا رسم ، وهو كلٌّ بكلّ».

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 697)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 773)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 741)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 634)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب - القسم السابع وا لأخير - 1   (بازدید: 1254)   (موضوع: )
• رحلة إلى كعبة الحبيب - القسم السابع وا لأخير - 2   (بازدید: 1329)   (موضوع: )
• رحلة إلى كعبة الحبيب / القسم الأول   (بازدید: 746)   (موضوع: عرفان)

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 634)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 697)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 773)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 741)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب / القسم الأول   (بازدید: 746)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]