من حلب إلى أصفهان(عاصمتان للثقافة الإسلامية)
|
ثقافتنا - العدد 9
ثقافة
محمد قجة
1427
لم يكن اختيار منظمة المؤتمر الإسلامي لمدينتي حلب وأصفهان عاصمتين للثقافة الإسلامية مصادفة ولا افتعالاً. ففي ضوء المعايير التي اعتمدت لاختيار المدن بعد مكة المكرمة كان الدور الثقافي والتراثي في المقام الأول. وفي هذا المجال تحتل أصفهان المرتبة الأولى خارج نطاق المدن العربية. ولو أحصينا عدد العلماء والأدباء والباحثين الذين ارتبط اسمهم بمدينة أصفهان لاقترب هذا العدد من مائتي اسم بعضهم كثير الشهرة مثل أبي الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني، والعماد الأصفهاني المؤرخ والوزير للدولة الأيوبية، وعشرات المحدثين وعلماء الدين واللغة والأدب. وفي هذا الجال تأتي مدينة «بغداد» متفوقة في نسبة الأعلام الذي نسبوا إليها ويحملون لقب «البغدادي» بينما تحتل «حلب» المنزلة الثالثة في هذا السياق متساوية مع مدينة الري فيمن يحمل لقب «الحلبي» أو «الرازي» بينما تبقى المرتبة الثانية لأصفهان. ولكن هذا المعيار لم يكن كافياً لوحده، وبتفسيره الحرفي.. بل إنه يشمل نوعية الفترات المتألقة. وفي هذا السياق تحتل مدينة حلب المرتبة الأولى منفردة بالبلاط الحمداني الباذخ أيام «سيف الدولة» الذي يقول فيه الثعالبي: «إن العلماء والأدباء والشعراء الذين اجتمعوا في حلب أيام سيف الدولة، لم يشهد أي بلاط لخليفة أو سلطان أو ملك أو أمير ما يماثلهم». وبعضهم كان الأول في ميدانه على مرّ التاريخ الإسلامي: الفارابي: الأول في الفلسفة والموسيقى. المتنبي: الأول في الشعر العربي بصورة مطلقة. الصنوبري: الأول في شعر الطبيعة. أبن جني: الأول في خصائص اللغة. أبو فراس الحمداني: الأول في فروسية الشعر. الخوارزمي: صاحب المنطق والأدب والحكمة. أبو علي الفارسي وابن خالويه وأبو الطيب اللغوي: وهم أوائل في علوم اللغة. وقد أحصا الخالديان أكثر من عشرة آلاف بيت شعري قيلت في سيف الدولة. إلى جانب ذلك ارتبط اسم كثير من الشعراء والأدباء بمدينة حلب على مر العصور، كالبحتري ومحبوبته علوة الحلبية، والمعري الذي كانت أمة من بني سبيكة من حلب. وكتب حول هذه المدينة روائع مؤلفاته، مثل رسالة الغفران، والصاهل والشاحج. ويقول في رسالة الغفران إن الله تعالى اختار طباخين من حلب ليكونوا مسؤولين عن مطبخ الجنة، وذلك في الرحلة المتخيلة لعلي بن القارح الحلبي التي كتبها أبو العلاء المعري تحت عنوان «رسالة الغفران». وكان معيار العمارة ماثلاً في الأذهان لاختيار المدينة التي تسمى عاصمة الثقافة الإسلامية. وفي هذا المجال تتفوق حلب على أصفهان وعلى غيرها من مدن العالم الإسلامي لتوفر شروط فيها لا تتوفر في سواها وهذه الشروط هي: 1ـ إن العمارة الإسلامية في حلب تشمل سائر الوظائف العمرانية: فالعمارة الدفاعية تمثلها القلعة والأبواب والأبراج والأسوار والأنفاق المحفورة تحت المدينة. وتنفرد قلعة حلب بأنها الأقدم في العالم 7000 ق. م بموجب اللقى الأثرية التي تم العثور عليها. كما أنها الأكبر داخل مدينة مع خندقها الدفاعي المحكم وشبكات الأنفاق تحتها وحولها والدور التاريخي والسياسي والعسكري والثقافي الذي لعبته مدى عمرها. والعمارة الدينية ممثلة بالمساجد التي يزيد عددها على ألف مسجد في حلب الكبرى، والكنائس التي تزيد على خمسين كنيسة. وبعض هذه الجوامع يعود إلى القرن الهجري الأول، جامع الشعيبية في باب انطاكية الذي يعود إلى عام 16هـ. والجامع الأموي الكبير الذي يعود إلى عام 98هـ وهناك مساجدتمثل كافة العصور الإسلامية التي عرفتها حلب باختلاف طرازها المعماري من سلجوقية وزنكية وأيوبية ومملوكية وعثمانية وحديثة. وفي حلب عدد من الزوايا والتكايا الصوفية تمثل الطرق الصوفية المختلفة من مولوية وقادرية ونقشبندية وشاذلية.. الخ. أما العمارة المدنية فهي تضم سائر حاجات الحياة اليومية من أسواق وخانات وقيساريات وحمّامات وبيمارستانات وحارات ودور مختلفة وقساطل وخانقاهات ومدارس.. وكل هذه الوظائف المعمارية تراها في حلب بأعداد كبيرة. وبعضها تنفرد به حلب، كالأسواق المسقوفة وعددها(39) سوقاً تتمحور حول سوق مركزي مستقيم ممتد من باب انطاكية حتى مدخل سوق الزرب أمام القلعة. 2- وهذا التميز بالوظائف العمرانية يقابله تميز زمني، ففي مدينة حلب يطل التاريخ منذ الألف العاشر قبل الميلاد في تنقيبات «تل القرامل». وفي حلب تتعانق الحضارات عبر آلاف السنين، ويزيد عددها على ثلاثين حضارة من أبرزها السومرية والأكادية والعمورية والبابلية والآشورية والكلدانية والحثية والميتانية والمصرية والأخمينية والآرامية والهِلنستية والرومانية والبيزنطية والممالك العربية قبل الإسلام. وصولاً إلى الحضارة الإسلامية التي استوعبت كل تلك الحضارات في ردائها السمح المرن المعترف بالآخر. وخلال العصور الإسلامية المتتابعة نجد في مدينة حلب نماذج عمرانية تعود إلى كل تلك المراحل التي عرفتها الدول المتتالية منذ العصر الراشدي حتى العصر الحديث مروراً بكل الدول التي عرفتها حلب والتي تركت كل منها بصمات عمرانية خاصة في المدينة. ولعل الفترة الأيوبية شهدت غنىً في الحركة العمرانية، وكذلك الأمر بالنسبة للتطور الاقتصادي الواسع في مطلع العصر العثماني وما رافقه من عمارة ضرورية كالخانات والأسواق والقيساريات. أما مدينة أصفهان فهي من المدن القديمة في جمهورية إيران الإسلامية، وهي تتوسط إيران بها نهر يدعى «زندروذ» ويسميه أهلها «نيل أصفهان» وعليه مجموعة من الجسور التاريخية الجميلة. وكلمة اصفهان أو اصبهان فيها وجوه ومعان لعل أقربها «المعسكر» ويبدو أنها كانت مركزاً لتجمع الجند والفرسان فحملت هذا الاسم. ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان: إن أرض اصفهان صلبة، وتربتها لا تفسد فيها اللحوم، وهي صحيحة الهواء خالية من جميع الهوام. وهي من أعلام المدن وأعيانها ويسرفون في عظمها حتى يتجاوزوا حد الاقتصاد وحولها 16 رستاقاً وكل رستاق (360) قرية بين قديمة ومحدثة وقد فتحها المسلمون عام 19هـ صلحاً بموجب معاهدة وقعها عبد الله بن عتبان. ومن يومها تدخل أصفهان في نطاق التاريخ الإسلامي وتتعاقب عليها الأحداث والدول ويشهد العصر العباسي قيام الدول المستقلة أو شبه المستقلة في شرق العالم الإسلامي من غزنوية وسامانية وبويهية وسلجوقية ومغولية وصفوية وقاجارية، وصولاً إلى العصر الحديث. وتحتفظ اصفهان بروائع معمارية من العصور الإسلامية التي تعاقبت عليها وبخاصة من الفترة السلجوقية وما بعدها. ولكن أهمية العمارة الإسلامية في اصفهان تتجلى بروعتها وإبهارها في الفترة الصفوية حينما أصبحت اصفهان عاصمة الدولة الصفوية بعد سقوط «تبريز» بيد العثمانيين. ويحلو لأهالي اصفهان وصف مدينتهم بأنها «نصف جيهان» أي نصف الدنيا. وتتوسط مدينة أصفهان القديمة ساحة هائلة تدعى «نقش جيهان» أي صورة الدنيا. وقد أطلق عليها حديثاً تسمية «ميدان الامام الخميني» وهذه الساحة الاسطورية تضم فعلاً صورة الدنيا بعمارتها الفنية المتنوعة من جوامع ومدارس وقصور وأسواق. ويحمل ذلك كله طابع الطراز المحلي من الزخارف والفسيفساء بألوانها المتناوية بين الأبيض والأرزق. ويقف جامع الامام علماً معمارياً فريداً. وهو الجامع الاكبر في اصفهان، وجامع الشيخ لطف الله والمئذنتان المتحركتان وقصر علي قابو. وتحيط بساحة «نقش جيهان» سلسلة الأسواق العجيبة المسقوفة والمكشوفة وهي أسواق تجد فيها المصوغات الذهبية والفضية، والنحاسيات، والخشبيات، والأقمشة المزركشة، والاحجار الكريمة والسجاد الباهر الباذخ الذي لا يمثاله أي سجاد في العالم. والجولة في أسواق اصفهان تحملك فورا إلى أسواق المدن الإسلامية القديمة فكأنك في حلب أو دمشق أو فاس أو تونس أو دلهي القديمة أو القاهرة القديمة مع التميز في أسلوب البناء وزخارفه. وإلى جانب معياري التراث الثقافي والعمارة. كانت هناك أسئلة حول الدور الاقتصادي للمدن. وفي هذا الاطار تشكل مدينة حلب أهم حلقة على طريق الحرير العالمي، لوقوعها على مفترق طرق يربط شرق آسيا بالأناضول ثم أوربا. ولوقوعها على مسافة متساوية تقريباً بين الفرات والبحر المتوسط حيث كان الفرات ممراً مائياً تجارياً للسفن القادمة من جنوبه، وكان ميناء «بالس» (مسكنة حالياً) مرسى للسفن. وتكمل القوافل طريقها إلى حلب عبر الجمال، ومنها إلى ميناء اسكندرون على المتوسط. وهذا ما يفسر الحجم الهائل للخانات التي كانت مستعدة لاستقبال القوافل المؤلفة من آلاف الجمال دفعة واحدة. وكان ما يباع في حلب في يوم واحد يحتاج إلى ثلاثة أشهر لكي يباع في القاهرة. وتحتفظ حلب بخانات قديمة منها خان البنادقة الذي يعكس الاتفاقية التجارية التي وقعها الظاهر غازي الأيوبي ملك حلب ومندوب البنادقة «بيترومارينياني». وليس غريباً أن أوائل القنصليات الأجنبية أسست في حلب، وأول غرفة تجارية كانت فيها، وأوائل المصارف، ورغم افتتاح قناة السويس عام 1869 وفقدان حلب جزءاً كبيراً من تجارتها. إلا أنها احتفظت بمركز تجاري متميز خلال الفترات اللاحقة. أما أصفهان فتلعب دوراً اقتصادياً بارزاً لوقوعها في مركز متوسط في إيران ولشهرتها الكبيرة في الصناعات التقليدية وبخاصة السجاد العجمي الفاخر، والصناعات النحاسية والخشبية والحريرية وصناعة الذهب والفضة إلى جانب كونها مركزاً صناعياً وتجارياً هاماً في الوقت الحاضر. وتتميز مدينة حلب باحتضانها للتراث الموسيقي بشقيه المشرقي والمغربي فقد غدت حلب مركز إشعاع تلتقي عنده الدراسات الموسيقية. ويكفي أن نذكر في هذا المجال قدوم الفارابي وفي وقت مبكر إلى حلب ليكون واسطة العقد في بلاط سيف الدولة الحمداني. كما جاء اصفهان أبو الفرج الاصفهاني يحمل كتابه «الأغاني» وهو أهم كتاب من نوعه في تاريخ الأدب العربي والغناء والموسيقى. وقد تخطّى أبو الفرج الاصفهاني كل سلاطين عصره بمن فيهم خليفة بغداد واختار أن يأتي إلى حلب ليقدم كتابه إلى أميرها الجليل سيف الدولة. كما جاء بعد ذلك بأكثر من قرنين المؤرخ والوزير العماد الأصفهاني ليكون واحداً من أركان الدولة الأيوبية في بلاد الشام ومصر. و ورثت حلب الموشح الأندلسي وطورته حتى غدا لدينا لون متميز اسمه الموشح الحلبي، ونشأت عن ذلك القدود الحلبية الشهيرة. وتطور عن ذلك الغنى الفريد في الإنشاد الديني من خلال الزوايا الصوفية والفرق العديدة المستمرة خلال القرون حتى يومنا هذا. وأصبحت حلب بذلك عاصمة الطرب بجانبيه الديني والوجداني، وخرج منها أعلام كبار أغنوا الساحة الموسيقية بتراث واسع لا حدود له. وبناء على هذه المعايير جميعاً وافق المؤتمر الإسلامي على اختيار كل من حلب واصفهان عاصمتين للثقافة الإسلامية لعام 1247هـ - 2006، بعد أن تم اختيار مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2005. وبذلك تكون كل من حلب وأصفهان قد جاءتا في المقام الثاني بعد مكة المكرمة. ويهدف هذا الموضوع أساساً إلى إبراز الوجه الحضاري المرن المتسامح للحضارة الإسلامية. وقد نصح المؤتمر الإسلامي بإجراء الاستعدادات اللازمة للاحتفالات التي تستمر عاماً كاملاً، وذلك بتشكيل اللجان المتخصصة وتأمين الأموال اللازمة، ووضع البرامج للأنشطة المتعددة من ندوات ومحاضرات ومعارض ومطبوعات وحفلات فنية وتراثية وترميم المباني الأثرية ونشرات للتعريف بالمدينة صاحبة الاحتفال. ولوحات تعريفة وإعلانات تلفزيونية ومجلة خاصة، وتغطية إعلانية واسعة بالصحافة والإذاعة والتفلزيون واللقاءات الواسعة في المنتديات والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس. وتنظيم زيارات للوفود المشاركة إلى المتاحف والاماكن الأثرية. وتنظيم مسابقات وأمسيات أدبية وشعرية وفنية ومسرحيات وأفلام سينمائية وتلفزيونية ووثائقية. ومن المهم تنظيم حفل افتتاح ضخم يغطي عدداً كبيراً من الأنشطة الإعلامية والثقافية والفنية والمعروضات. ودعوة أسماء بارزة من أنحاء العالم لحضور هذا الحفل. إن هذا المناسبة الهامة الفريدة فرصة لا تتكرر. ومن واجبنا التصدي لكل المصاعب التي قد تعترض طريقنا في تنفيذ المشروعات والأنشطة المبرمجة مهما كان حجمها كبيراً ومحاورها متشعبة. والسباق الجميل المشروع بين حلب وأصفهان سوف يحدد مَنْ منهما سيكون لها السبق المجلي.
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• إصفهان.. عاصمة الثقافة الإسلامية
(بازدید: 1028)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• إصفهان.. عاصمة الثقافة الإسلامية
(بازدید: 714)
(نویسنده: سعد بن الحسين المافرّوخي الاصفهاني)
• وثيقة من واقعنا الثقافي
(بازدید: 548)
(نویسنده: الشيخ فيصل المولوي)
• وقفة عند إعلان العواصم الثقافية للعالم الإسلامي
(بازدید: 1035)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• ايران و مصر ثقافيا
(بازدید: 520)
(نویسنده: صادق خورشا)
• سبل تنشيط العلاقات الثقافية بين الايرانيين و العرب
(بازدید: 990)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• سياسة تغريب العالم الاسلامي
(بازدید: 558)
(نویسنده: محمد عللوه)
|