ثقافتنا - العدد 6
قرآن
محمد مهدي الآصفي
1426
«ملخّص» الدخول الى ساحة الحياة من مدخل صدق والخروج منها من مخرج صدق هي تلخيص لمسيرة الانسان الصالح الذي يؤدي رسالته في الحياة بما ينفع نفسه ومجتمعه. والصدق هذا يكون مع الله ومع الناس ومع النفس، والكذب يكون كذلك معها جميعا. والدخول الصادق بحاجة الى عزم الانسان، والى الاستعانة بربّ العالمين، كي يحصل له وضوح الرؤية في التمييز والفرز بين مسيرة الصدق ومسيرة الكذب. وقُلْ ربِّ أدْخِلْنِي مُدْخل صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرج صِدْقٍ واجْعلْ لِي مِنْ لدُنْك سُلْطانا نصِيرا (الاسراء:80) . نتحدث عن هذه الآية الكريمة ضمن أربع نقاط : 1- ماذا نسأل الله ؟ وكيف ندعو الله ؟ . 2- الصدق . 3- مداخل الحياة ومخارج الحياة . 4- السلطان النصير وفيما يلي توضيح وشرح لهذه النقاط الأربع : -1- ماذا نسأل الله ؟ وكيف ندعو الله ؟ : قبل كل شيء يعلّمنا القرآن في هذه الآية الكريمة : ماذا ندعو وماذا نطلب من الله تعالى ,إذا وقفنا بين يدي الله للدعاء وهو أمر هام بالغ الأهمية في حياة الإنسان . فإن الدعاء مفتاح كنوز رحمة الله . ومن المهم أن يعرف الإنسان ماذا يطلب من الله ، إذا فتح بالدعاء كنوز رحمة الله . إن الله تعالى كريم ولا أكرم منه ، وجواد ولا أجود منه ، وكل كرم أو جود في نفوس عباده فهو رشحة من كرمه وجوده . والكريم يحب العطاء والجود ، ويحب أن يُسأل فيعطي ، ويدعى فيستجيب . فهو تعالى يطلب منّا أن ندعوه ونسأله ونطلب منه يقول تعالى: ادعوني ... إِنّ الّذِين يسْتكْبِرُون عنْ عِبادتِي سيدْخُلُون جهنّم داخِرِين (غافر:60) . وهو عز شأنه يضمن لهم الاستجابة إذا دعوه: ادعوني أستجب لكم . ويعلمنا كيف ندعو: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (لأعراف:55). ويعلمنا أنّ الدعاء في حالة الاضطرار أقرب الى الاستجابة من أي شيء آخر . أمّنْ يُجِيبُ الْمُضْطرّ إِذا دعاهُ ويكْشِفُ السُّوء (النمل:62) ويعلمنا الله تعالى ماذا ندعو، وماذا نطلب منه تعالى في الدعاء . فليس من بأس على الإنسان أن يطلب من الله تعالى كل ما يهمه من أمر دنياه وآخرته ، وكل ما يريد ، وكل آماله وأمانيه في هذه الدار وتلك . بل يعلّمه الله تعالى أن يسأله حسنات الدنيا والآخرة جميعا: ومِنْهُمْ منْ يقُولُ ربّنا آتِنا في الدُّنْيا حسنة وفِي الآخِرةِ حسنة وقِنا عذاب النّارِ (البقرة:201). وإذا كان المسؤول كريما يحث على السؤال ، ويحب العطاء ، فإن من أقبح اللؤم أن يبخل السائل في السؤال ، فلا ينبغي أن يمنع الإنسان عن السؤال عِظمُ المسؤول إذا كان السؤال من عند الله تعالى . ولا ينبغي أن يحتقر الإنسان طلبا إذا كان السؤال من عند الله. فإن الله تعالى يحب السؤال من عباده فيما جلّ وقلّ ، وفي كل حاجة ، جلت أو قلت ، حتى لو كان «ملح عجينة ، أو علف دابة ، أو شسع نعله» كما ورد في الحديث ...فإن الله يحب أن يسأل حتى في الأمور الحقيرة من حياة الإنسان . فلا يستكثر الإنسان طلبا بين يدي الله ، ولا يستقل طلبا . وكل شيء ، مهما عظم من حاجات الإنسان وطلباته ، حقير الى جانب عظمة الله تعالى وكبريائه وسلطانه . فلا يعجز الله سؤال ، مهما عظم وكبر في نفس السائل ، ولا يحتقر الله تعالى سؤالا مهما كان حقيرا في عيون الناس . ويعلمنا الله التعميم في الدعاء: ربّنا آتِنا في الدُّنْيا حسنة وفِي الآخِرةِ حسنة وقِنا عذاب النّارِ . ويعلمنا ماذا نسأل من عند الله من أمور ديننا وآخرتنا إذا وقفنا بين يدي ربنا موقف السؤال والدعاء . وها أنا أقدم إليكم غررا من أدعية القرآن : ربّنا أفْرِغْ عليْنا صبْرا وثبِّتْ أقْدامنا وانْصُرْنا على الْقوْمِ الْكافِرِين (البقرة:250) ربّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نسِينا أوْ أخْطأْنا ربّنا ولا تحْمِلْ عليْنا إِصْرا كما حملْتهُ على الّذِين مِنْ قبْلِنا ربّنا ولا تُحمِّلْنا ما لا طاقة لنا بِهِ واعْفُ عنّا واغْفِرْ لنا وارْحمْنا أنْت موْلانا فانْصُرْنا على الْقوْمِ الْكافِرِين) (البقرة:286) ربّنا اغْفِرْ لنا ذُنُوبنا وإِسْرافنا فِي أمْرِنا وثبِّتْ أقْدامنا وانْصُرْنا على الْقوْمِ الْكافِرِين) (آل عمران:147) قال ربِّ اشْرحْ لِي صدْرِي، ويسِّرْ لِي أمْرِي، واحْلُلْ عُقْدة مِنْ لِسانِي،يفْقهُوا قوْلِي ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا (الممتحنة/4). وفي القرآن طائفة من الأدعية ، هي من غرر الأدعية ، تعلمنا ماذا نسأل الله ، وماذا ندعو ونطلب من الله . وبين أيدينا هنا دعاء من أدعية القرآن: وقل رب أدخلني مدخل صدق ، وأخرجني مخرج صدق ، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ...وفي هذا الدعاء يعلمنا الله أفضل مداخل الحياة ومخارجها ...وهو الصدق ، ويعلمنا أن نسأل الله في حياتنا مداخل الصدق ومخارج الصدق في حياتنا . إن هذه الآيات تعلمنا ماذا نسأل ونطلب من عند الله ، كما تعلمنا ماذا نحتاج إليه من هذه الدنيا . فقد يخفى على الإنسان ما يحتاج إليه في هذه الدنيا وتشغله حاجاته الآنية وشهواته وأهواؤه عما يحتاج إليه في هذه الدنيا ، ويتوقف عليه سعادته . فيعلمنا الله ما نحتاج إليه ، كما يعلمنا ما نطلبه منه تعالى . -2- الصدق : الصدق يأتي بمعنيين ، التطابق بين القول والواقع ، والتطابق بين القول والرأي . فإذا أخبر الإنسان على خلاف الواقع ، كان كاذبا ، كما لو ادّعى المعرفة بالطب ، ولم يكن الأمر كذلك . وقد يكون الخبر متطابقا مع الواقع ، ولكنه لا يتطابق مع إيمان المتكلم وعقيدته ورأيه ، فيكون الخبر كاذبا ، رغم تطابقه مع الواقع . يقول تعالى : إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (المنافقون:1) وللصدق أقسام : الصدق مع الله ، الصدق مع الناس ، الصدق مع النفس . وبالمقابل : الكذب ينقسم كذلك الى الأقسام الثلاثة المتقدمة . الصدق مع الله : الصدق مع الله في العهد والخطاب . الصدق في العهد الوفاء بما عاهد الله تعالى عليه . يقول تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا. وهؤلاء الذين يمدحهم الله بالصدق ، هم الذين وفوا بما عاهدوا الله عليه من الإيمان بالله والعبودية والعبادة والطاعة ورفض طاعة الشيطان والطاغوت . يقول تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى (لأعراف:172) وقد تعهد الإنسان ، في هذا العهد بالإيمان بالله والعبودية والطاعة ورفض طاعة الشيطان والطاغوت ، وأن يتخذ الشيطان عدوا : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين . فإذا عصى الإنسان الله تعالى ، وأطاع الشيطان فقد كذب في العهد الذي عاهد الله تعالى به . وكذلك, قد يكون الصدق مع الله في الخطاب ، فإذا خاطب الله تعالى في صلاته ، وقال: إياك نعبد وإياك نستعين كان صادقا في خطابه مع الله في توحيد العبادة وتوحيد الاستعانة .فإن تقديم المفعول على الفعل, في هذه الآية في العبادة والاستعانة, بمعنى توحيد العبادة والاستعانة . ولن يكون العبد صادقا في هذا وذاك في هذا الخطاب إلا إذا رفض كل طاعة من دون طاعة الله، فإن كل طاعة نحو من العبادة. وعبادة الشيطان في قوله تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين هي طاعته ، ومن يطع أهواءه وشهواته وينقاد لها من دون الله فقد اتخذها إلها يعبد من دون الله . يقول تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه (الفرقان/42 ). فمن أطاع هواه أو أطاع الشيطان أو الطاغوت من دون الله فقد عبده ، وهو نحو من الشرك في العبودية , وهو يتنافى مع الخطاب التوحيدي في إياك نعبد . وكذلك الشطر الثاني من خطاب التوحيد في سورة الحمد ، وهو إياك نستعين , فإذا كان يرى أن السوق والتجارة والأدوات التي سخّرها الله تعالى لرزق الإنسان هي مصدرٌ لرزقه ...فإن ذلك نحو من أنحاء الشرك الذي يجافي التوحيد في الاستعانة . ولا بأس على الإنسان أن يتعامل مع السوق والتجارة وسائر الأدوات التي سخّرها الله تعالى لرزقه ، شريطة أن يتم هذا التعامل بذهنيته أنها أدوات مسخّرات لرزق الإنسان من جانب الله ، وأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين . ولا ضير على الإنسان أن يراجع الطبيب ، ويأخذ الدواء ، إذا كان يتعامل مع الطبيب والدواء بأن الله تعالى قد سخّرهما لخدمة صحة الإنسان وسلامته وأن مصدر الشفاء هو الله تعالى فقط: وإذا مرضت فهو يشفين . وأمّا إذا تعامل مع الطبيب والدواء ، ومع السوق والتجارة بذهنيّة أنها مصادر رزقه وسلامته ، ومع القوة والسلاح بأنهما مصدر النصر، فهو من الشرك في الاستعانة الذي يجافي الخطاب التوحيدي في إياك نستعين في سورة الفاتحة . الصدق مع الناس : والنحو الآخر من الصدق : الصدق في التعامل مع الناس في العهد والخطاب ، فمن يحييّ الناس بتحية الإسلام ، ويعلن لهم بذلك السلام في العلاقة والتعامل والمعاشرة ، والتجارة والصحبة ...ثم يمارس الغش معهم في التجارة ، والبخس في التعامل وسوء النية، وسوء الظن والمكر والكيد في التعاشر ، فهو كاذب بالضرورة . إن من يعلن للناس «السلام» في لقائه وعلاقاته لابد أن يلتزم بالسلام في السر والعلن ، وفي الحضور والغياب ، وفي داخل نفسه ، وعلى طرف لسانه ، وفي التجارة والصداقة ، والتعامل والمعاشرة. الصدق مع النفس : وهذا باب آخر من أبواب الصدق ، والإنسان كما يتعامل مع الآخرين ، يتعامل مع نفسه ، وكما يتصف تعامله مع الآخرين بالصدق ، والكذب ، والخيانة ، والغش ، والخداع ، والمكر ، والاستقامة، والأمانة ، والسلامة ، كذلك يتصف تعامله مع نفسه بهذه الأوصاف جميعا فهو قد يخادع نفسه: يخادعون أنفسهم . وقد يهلك نفسه: يهلكون أنفسهم . وقد يسرف على نفسه: أسرفوا على أنفسهم . وقد يظلم نفسه: ظلموا أنفسهم . وقد يضلّ نفسه: وما يضلون إلاّ أنفسهم . كذلك قد يكذب على نفسه، يقول تعالى : انظر كيف كذبوا على أنفسهم . فقد يرتكب الإنسان ذنبا أو ظلما فيتعرض لتوبيخ شديد من ناحية الضمير ، والضمير يقسو على صاحبة في التوبيخ والتأنيب كلّما وقع صاحبه في ظلم أو عصيان . فيحاول الإنسان أن يتخلص من تأنيب الضمير ، فيعمل في تبرير ما صنعه من الظلم لنفسه ، ويبررّ لنفسه ما ارتكبه من ذنب وظلم ، حتى يريح نفسه من تأنيب الضمير ...وهذا نحو من ممارسة الكذب مع النفس . ولو كان يتقبّل قسوة التأنيب من ناحية الضمير ، ويتحمل مرارته ، ويندم ، ويتوب الى الله لكان أسلم له ولعاقبته . إن هذا الصدق مع النفس مُرٌّ لاشك فيه ، ولكن مرارة هذا الصدق خير للإنسان من الراحة التي يكسبها الإنسان عندما يكذب على نفسه . فرز الصادقين عن الكاذبين في الفتن : ولا يكاد ينفرز الصادقون عن الكاذبين في أيام العافية واليسر , وفي المداخل السهلة للحياة , ولكي يتم فرز الصادقين عن الكاذبين لابد من المرور بالفتنة , والأيام الصعبة , وظروف الضراء والبأساء .... ففي هذه الظروف فقط ينفرز الصادقون من الكاذبين . إنّ مخاض الصدق مخاض صعب . تأملوا في هذه الآيات الكريمة من أوائل سورة العنكبوت : الـم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون . ولقد فتنّا الذين قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا , وليعلمنّ الكاذبين (العنكبوت 1-2). وقد أمرنا الله تعالى أن نتحرى الصادقين في هذه الفتن , ونبحث عنهم , فان معيّة الصادقين تعصم الإنسان من مضلات الفتن . يقول تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله , وكونوا مع الصادقين عاقبة الصادقين : وإذا بخس الناس قيمة أهل الصدق , فلم يعرفوا لهم في هذه الدنيا منزلتهم وموقعهم من الله , فإن الله تعالى يرفعهم يوم القيامة: يوم ينفع الصادقين صدقهم (المائدة/119) , ويقعدهم عنده . ولست أعرف موقعا لعباد الله من الله تعالى أقرب إليه عزّوجلّ من ومواقع الصادقين عنده يوم القيامة: في مقعد صدق عند مليك مقتدر (القمر/55). -3- مداخل الصدق ومخارج الصدق في الحياة للحياة مداخل ومخارج فإن الإنسان يدخل الحياة الزوجية بالزواج ، ويخرج منها بالموت أو الطلاق . ويدخل الإنسان مرحلة الشباب ويخرج منها . ويدخل الدراسة الجامعية ويخرج منها . ويدخل السوق صباحا ويخرج منه مساء . ويدخل السوق في مستقبل حياته التجارية ، ويخرج منها نهاية النشاط التجاري من عمره . ويدخل الشراكة مع شريك في السوق ، ويخرج من الشراكة بالموت أو الفسخ . ويدخل الصداقة ، ويخرج منها . ويدخل الجيش ويخرج منه . ويدخل عالم السياسة والإعلام ، ويخرج منها .....وهكذا. بل يدخل الحياة بالولادة والبلوغ العقلي ويخرج منها بالموت . والسؤال : كيف يجب أن يدخل الإنسان الحياة ، وكيف يخرج منها ؟ يعلمنا القرآن أن خير مداخل الحياة ومخارجها هو الصدق . ويدعونا القرآن أن نسأل الله تعالى الصدق في دخول الحياة وخروجها: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق . والناس قد يدخلون الحياة صادقين ، ويخرجون صادقين ، وهم قليلون . وقد يدخلون الحياة كاذبين ويخرجون كاذبين وهم كثيرون ، للأسف . وهناك من يدخل الحياة كاذبا ويخرج منها صادقا وهم قليلون . وهناك من يدخل الحياة صادقا ، ولكنه يخرج منها كاذبا ، وهم كثيرون . فهذه أربع طوائف من الناس ، نتحدث عنهم إن شاء الله في تفسير هذه الآية . الطائفة الأولى : الذين يدخلون الحياة صادقين ، ويخرجون صادقين ، وهم الذين يأمرنا القرآن أن ندعو الله تعالى أن نكون منهم ...وهم قليلون . يدخل الحياة الزوجية ليصون نفسه من الحرام ، وليرزقه الله الذرية الصالحة ، ويخرج منها بصون نفسه عن الحرام وبذرية صالحة . ويدخل الإعلام ليقول كلمة الحق ، وليعكس الخبر الصحيح ، وينصح الناس، ولا يغشهم ويحترم الرأي العام ، ويخرج من عالم الإعلام بنصيحة الجمهور وتوجيه الرأي العام ، وتصحيح الأفكار والآراء . ويدخل عالم السياسة ليخدم الناس من خلال المواقع السياسية والإدارية ، ويخرج منها بعد عمر يقضيه في هذه المواقع بخدمات جليلة للناس ، وبالنصيحة لله ورسوله وكتابه ، وبنصيحة الناس . ويدخل الدراسة الجامعية ليطوّع العلم لخدمة الناس ويخرج منها بخدمة الناس، يتلقى العلم ليكشف الحقيقة , وليخدم الناس , وليعرج إلى الله . وهذا هو العلم الذي تضع الملائكة أجنحتها تحت قدم طالب العلم رضى بما يصنع , كما ورد في الحديث , لا أولئك الذين يطلبون العلم للزهو والرئاء والتظاهر وخدمة الذات . وهكذا ... الطائفة الثانية : الذين يدخلون الحياة كاذبين ، ويخرجون كاذبين ، وهم مع الأسف كثيرون . يدخل عالم السياسة وهو يعلن خدمة الناس بالشعارات الانتخابية المنمقة . وهو لا يطلب من هذه الشعارات التي يرفعها إلا تضليل الناس وخداعهم ، والوصول الى أهدافه السياسية من خلال تضليل الرأي العام ، ويسعى بكل وسيلة لاجتذاب الأضواء وإبراز الأنا ، وإزالة منافسيه ، بأي ثمن ، ويخرج عن الحياة السياسية بطائفة واسعة من الجرائم ، والاضطهاد ، والقتل ، والتخريب . كان يقول لي صديق عاش أياما مع طاغية العراق صدام حسين : إنّ صداما قال لنا في بعض مجالسه الخاصة : إن السياسي يتكلم بشكل ويعمل بشكل آخر ، ويفكر بشكل ثالث (مكعب الكذب!!) . وقد أرانا الله تعالى خروج طاغية العراق عن عالم السياسة بما لاحّد له من الجرائم، والتخريب ، والإفساد ، والاضطهاد ، والقتل ، والتعذيب ، والحروب ، والدمار, والذل, والهوان ,والخزي ,والعار . ويدخل عالم الإعلام ليتعلم الكذب في عرض الخبر وتحريفه واختلاقه ، ويخرج بتضليل الرأي العام ، وإفساد أفكار الجمهور وتصوراته وخداعه عن أهدافه ومقاصده. ويدخل الجامعة ليطوّع العلم لخدمة ذاته ومنافعة الشخصية ، ويخرج من الجامعة بأعمال علمية تخريبية ، كالأسلحة الجرثومية ، والكيماوية ، والأسلحة النووية ذات التأثير التخريبي الهائل ...وهكذا . - 3 - العلاقة بين مداخل الحياة ومخارجها هناك , من غير شك علاقة بين مداخل الحياة ومخارجها ,ولكنها علاقة غير حتمية , كما سوف نرى. فمن يدخل الحياة من مداخل الصدق يسهل عليه أن يخرج عن الحياة من مخرج الصدق . ومن دخل الحياة من مداخل الكذب والشر يشقّ عليه أن يخرج من ساحة الحياة من مخارج الصدق إلا أن يشاء الله , وهو أمر عزيز ونادر . الطائفة الثالثة : وهم أولئك الذين يدخلون الحياة من مداخل الكذب . ولكن الله تعالى يرزقهم الصدق في الخروج من الحياة , وهم قلة نادرة من الناس ولكنه أمر حاصل فعلا. فقد خرج «الحرّ بن يزيد الرياحي» رحمه الله من داره بالكوفة لقتال الحسين , وكان أول من قطع الطريق على الحسين بن علي (ع)، ولكن الله تعالى رزقه الشهادة مع الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه . وهذه الحالة نادرة ولكنها حصلت على كل حال في مواضع من التاريخ، ولكن هذا الرزق والتوفيق الإلهي الذي تناله هذه الطائفة لا يحصل بصورة اعتباطية ومن غير موازين وحساب . فإن رزق الله تعالى وتوفيقه ورحمته وعنايته على عباده قانون كسائر سننه في خلقه. فلم يكن رجوع الحُرّ (ره ) إلى رشده صدفة، فقد كان «الحر» حرا حتى عندما كان قائدا عسكريا في جيش بني أمية، ولم يكن تبعا لابن زياد ولا معه في الجهاز الأموي وكان يملك قراره، ولما خيّره الحسين (ع) بأصحابه أن يصلّي بصلاته . قال للحسين (ع) بل تصلي ونصلي بصلاتك . وحينما أمر أصحابه أن يسدوا الطريق على الحسين (ع) ليأخذ الحسين (ع) مخفورا الى ابن زياد للكوفة قال له الحسين (ع): ثكلتك أمك، فأجابه الحر ( ره ) : أما والله لو قالها غيرك في هذا الموقف لم أترك ذكر أمه كائنا من كان، ولكن مالي الى ذكر أمك من سبيل إلا ما أحسن ما نقدر عليه. لقد كان الحر قائدا عسكرياً عند بني أمية، ولكنه كان يحمل في نفسه عمقا من الضمير والنبل والأصالة وسلامة النفس لم تكن عند غيره من قادة جيش بني أمية في معركة الطف مثل عمر بن سعد والشمر وحرملة بن كاهل الأسدي. وهذه الأصالة والنبل والمخزون الكبير من الضمير الذي كان يختزنه « الحر» في أعماق نفسه أدركته في اللحظات الأخيرة وأنقذته من نار جهنم وهو على شفا حفرة منها. فقال لصاحبه وهو يعجب لما يرى عليه من علامات القلق والخوف والارتباك في ساحة الطف يوم عاشوراء : والله إنّ أمرك لمريب ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك . فما هذا الذي أرى منك ؟ فقال له : إني والله أخيّر نفسي بين الجنة والنار فوالله لا أختار على الجنة شيئا ولو قُطّعت وحُرّقت ..... ثم ضرب فرسه ملتحقا بالحسين (ع) . الطائفة الرابعة : وهم أولئك الذين دخلوا الحياة من مداخل الصدق وخرجوا من مخارج الكذب. دخلوا صادقين مع الله ومع أنفسهم ومع الناس، وخرجوا كاذبين، يكذبون على الله وعلى أنفسهم وعلى الناس في تبرير مواقعهم الباطلة . وأحاديث الارتداد والمرتدين – على سبيل المثال – معروفة. - 4 - السلطان النصير أن يدخل الحياة من مداخل الصدق ويخرج منها من مخارج الصدق أمرٌ فيه مشقّة. فقد يلتبس على الإنسان الأمر في تشخيص الصدق والكذب . دخل رجل من جند الامام علي(ع) على الامام في حرب البصرة . وقد هاله قتال أم المؤمنين عائشة والزبير وطلحة من كبار أصحاب رسول الله (ص) وهو لا يدري كيف يدخل مع الامام حربا لقتال أم المؤمنين عائشة واثنين من كبار أصحاب رسول الله ( ص ) . جاء الى الامام(ع) يبثّ إليه ما في نفسه . فقال له الامام (ع) : «ويلك إنك لملبوس عليك، اعرف الحق تعرف أهله» . وكانت غلطة السائل أنه كان يقيس الحق بالأفراد , فيقع في هذا الوهم , ولو كان يعكس الأمر لما وقع في مثل هذا الوهم. وهذا هو الوجه الأول من مشقة الدخول والخروج من مداخل الصدق ومخارج الصدق في الحياة، وهو الوجه المعرفي من القضية، والوجه الآخر لهذه المشقة وجه الممارسة والفعل وهو غير وجه المعرفة والنظر، فليس كل من عرف الحق عمل به، وليست معاناة الناس في الصدق والحق في المعرفة والنظر فقط، وإنما في العمل والممارسة أيضا. فان الطريق الى الصدق والحق طريق شاق وشائك والناس يميلون الى غير ذات الشوك ولكي يسلك الإنسان سبيل الصادقين لابد له من أن يستعين بالله تعالى ليجعل له سلطانا نصيرا في كل هذه المراحل يمكّنه من تشخيص مداخل الصدق ومخارجه , ويمكّنه بعد ذلك من الدخول في مداخل الصدق والخروج من مخارج الصدق : والهدى والنور كله من الله : ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (النور /40 ). والحول والقوة والسلطان وكل شيء في هذا الكون لله تعالى : ذلكم الله ربكم ,لا اله إلا هو , خالق كل شيء (الأنعام /102 ). فإذا أراد الإنسان مداخل الصدق ومخارج الصدق في الحياة فليطلبها من الله , فإنها بيده، وإذا صحّ عزم الإنسان على ذلك فإن الله يهبها لمن يجتهد في ابتغائها , من غير حساب . واليك تفصيل هذه النقطة : إن الإنسان لا يحتاج في ذلك الى أكثر من هداية ربانية ليميّز الصدق من الكذب , ويميز مداخل الصدق ومخارجه من مداخل الكذب ومخارجه . وهذا هو الأمر الأول الذي يحتاجه الإنسان ويحتاج فيه إلى أن يعينه الله تعالى , ويأخذ بيده لسلوك مداخل الصدق ومخارج الصدق في حياته، وهذا هو الجانب العملي من هذه القضية . والله تعالى يتكفل لعباده الأمرين إذا وجد من عبده عزما صادقا واجتهادا في ابتغاء الصدق في دخول ساحات الحياة والخروج منها يقول : وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت:69) وتجمع هذه الآية على اختصارها كل النقاط صدق العزم والاجتهاد من العبد. والهداية الربانية تمنح العبد نورا وبصيرة فيعرف بها الصدق عن الكذب ,والحق عن الباطل ,ومداخل الصدق عن مداخل الكذب في الحياة . والمعية الإلهية لعبده تمنح العبد الحول والقوة والمقاومة لسلوك طريق ذات الشوكة في ساحات الحياة: وإن الله لمع المحسنين . وفي سورة «العصر » نجد وصفاً دقيقا للمؤمنين , في منهج تعاطيهم للصدق والحق في الحياة , في مرحلة التعريف والتشخيص , وفي مرحلة العمل والسلوك والممارسة . فيصفهم الله بالتواصي بالحق في معرفة الحق وتشخيصه ...ويصفهم بالتواصي بالصبر على مرارة الحق ومشقته في مرحلة العمل: وتواصوا بالحق, وتواصوا بالصبر . وكل منهما يحتاج الى التواصي بين المؤمنين , التواصي بالحق , ليهتدوا الى الحق , فإن الحق أقرب الى رأي الجماعة الهادية من رأي الفرد .. والتواصي الجمعي يعصم الرأي من الضلال والشطط . ولا يقل عناء الإنسان في سلوك طريق الحق عن عنائه في معرفة الحق . وإذا كان يحتاج في معرفة الحق الى الهداية والتواصي بتعريف الحق , والدعوة الى الحق ، فهو يحتاج في مرحلة السلوك والعمل الى الصبر على تحمل مرارة الحق وعنائه . والتواصي بالصبر هو السبيل الصحيح للمصابرة , وعناء الحركة , ومعاناة السلوك، فان التواصي بالصبر يخفف عن الإنسان معاناة العمل والجهد. ومعنى التواصي في هذه الآية الكريمة , هو التعاطي الجمعي للتوصية بالحق , والتوصية بالصبر . من خلالها , وذلك قوله تعالى واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وكل منهما يحتاج الى التواصي بين المؤمنين، التواصي بالحق، ليهتدوا الى الحق، فإن الحق أقرب الى رأي الجماعة الهادية من رأي الفرد.. والتواصي الجمعي يعصم الرأي من الضلال والشطط. ولا يقل عناء الإنسان في سلوك طريق الحق عن عنائه في معرفة الحق. وإذا كان يحتاج في معرفة الحق الى الهداية والتواصي بتعريف الحق، والدعوة الى الحق، فهو يحتاج في مرحلة السلوك والعمل الى الصبر على تحمل مرارة الحق وعنائه. والتواصي بالصبر هو السبيل الصحيح للمصابرة، وعناء الحركة، ومعاناة السلوك، فإن التواصي بالصبر يخفف عن الإنسان معاناة العمل والجهد. ومعنى التواصي في هذه الآية الكريمة، هو التعاطي الجمعي للتوصية بالحق، والتوصية بالصبر. وخلاصة هذا التفصيل الذي تحدثنا عنه في التعريف بالصدق والحق في مرحلة المعرفة، والقدرة على تحمل مرارة الحق والصدق ومعاناته في مرحلة العمل، هو أن الانسان إذا أراد أن يتيسر له الدخول في الحياة من مداخل الصدق والخروج من الحياة من مخارج الصدق، لابد له أن يضع يده بيد الله تعالى، ويستعين به، ويطلب منه تعالى: أن يجعل له من لدنه سلطاناً نصيراً، يمكّنه من معرفة مداخل الصدق ومخارجه، ومن الدخول والخروج من خلالها ، وذلك قوله تعالى: واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً.
|