banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

القيم الإسلامية الحاكمة لتنمية المجتمع 2/2
ثقافتنا - العدد 16

رفعت العوضي
1428

ملخّص
ثمة علاقة مستحكمة بين الاقتصاد والقيم الأخلاقية، هذه القيم توجّه المشروع الاقتصادي في مجال الإنتاج ومجال التوزيع. ومن القيم الإسلامية في الاقتصاد الإسلامي: الإيمان بالغيب، ومبدأ الحليّة، ومنع الظلم، ومنع الضرر، والالتزام بالأمانة، وتحقيق العدل، وواجبات الأغنياء، وإعطاء الفهم الصحيح لأصل الملكية (الاستخلاف).

وقد يكون من المفيد في هذا الصدد التعريف ببعض القيم الأخلاقية الواقعية على الأفراد في الاقتصاد.
1ـ الإيمان بالغيب:
يعتبر الإيمان بالغيب إطارًا عامًا يغلف الاقتصاد الإسلامي، وفي هذا الإطار يعمل البعد الأخلاقي. والإيمان بالغيب يشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الحق تبارك وتعالى وقد ذكرت أربع منها في قوله تعالى: )آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( (البقرة/ 285).
يقترح أن يدرس هذا الموضوع من خلال دراسة آيات قرآنية ربطت بين الإيمان بالغيب وبعض الموضوعات الاقتصادية.
يقول الله تعالى: )الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (البقرة/ 1-5).
افتتحت سورة البقرة بهذه الآيات، وربط في الآيات بين الإيمان بالغيب وبعض الأمور، ومنها أمران اقتصاديان هما الرزق والإنفاق، ويدخل في الغيب الإيمان بالله وبشرائعه واليوم الآخر أما الرزق وهو الأمر الاقتصادي الأول الذي ربط بالإيمان بالغيب فله معان كثيرة. اقتصاديًا يمكن أن يقال إنه يتضمن الدخل الذي يحصل عليه الشخص وهو دوري وكذا الثروة التي يمتلكها وهي مخزون، وتفسير الرزق على هذا النحو هو في إطار ما قاله المفسرون عن هذا المصطلح. ومن قولهم عن ذلك إن الرزق «هو ما يناله الإنسان من موجودات في هذا العالم الذي يسد به ضروراته وحاجاته. فيطلق على كل ما يحصل به سد الحاجة».
أما الأمر الاقتصادي الآخر الذي تناولته الآيات وربطته بموضوع الإيمان بالغيب فهو الإنفاق. وللإنفاق معناه الاصطلاحي الخاص به في علم الاقتصاد، ولكن المراد به في هذه الآيات هو الإنفاق في وجوه الخير والمصالح العامة.
ما سبق من تفسير معاني المصطلحات الثلاثة: الغيب والرزق والإنفاق، يجعل هذا البحث يهتم بهذه الآية وبغيرها من الآيات التي تحمل معنى أن الإسلام يربط أمور الاقتصاد بالغيب، بل يجعل العمل الاقتصادي متفرعًا عن الإيمان بالغيب. ويوجد في القرآن الكريم آيات أخرى كثيرة تربط الأمور الاقتصادية بالغيب.
إن ربط الاقتصاد الإسلامي بالإيمان بالغيب له توظيفاته المتعددة، وذلك من حيث مصدر المعرفة، ومن حيث الجزاء في الآخرة، وكذلك من حيث ضبط السلوك الاقتصادي للفرد.

2- المشروعية (مبدأ الحلية):
القيمة الأخلاقية الكبرى التي ربطها الإسلام بالاقتصاد هي المشروعية. وتمثل الوعاء الذي يوضع فيه كل أمر اقتصادي سواء أكان هذا الأمر يتعلق بسلوك الفرد منتجًا أو صانعًا أو تاجرًا أم بسلوك الدولة في جميع وظائفها ومسؤولياتها الاقتصادية، وسواء كان هذا الأمر في إطار محلي أم على مستوى دولي، وسواء كان هذا الأمر على مستوى شخصية طبيعية أم اعتبارية.
عبر القرآن الكريم عن المشروعية بمصطلح الحلال، ولهذا التعبير دلالته التي يمكن أن تستشف من الآراء التي قالها المفسرون للآيات التي جاء بها هذا المصطلح. ومن آيات القرآن الكريم التي ربطت الاقتصاد بالحلال ما يلي:
ـ ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ( (البقرة/ 168).
) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ( (المائدة/ 88).
) فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ( (النحل/ 114).
هذه بعض آيات القرآن الكريم التي ربطت بين الاقتصاد والحلية، وفي القرآن الكريم آيات أخرى كثيرة تتضمن هذا المعنى. فيما يلي نعرض آراء المفسرين التي جاءت عند تفسير الآية الأولى وهي آية سورة البقرة. وما يقال في تفسير هذه الآية يمكن أن يقال عن غيرها.
جاء عن الشيخ محمد عبده عند تفسيره لآية سورة البقرة المذكورة: «الطيب ما لا يتعلق به حق الغير، وهو الظاهر، لأن المراد بحصر الحرام فيما يذكر المحرم لذاته الذي لا يحل إلا للمضطر، وبقي المحرم لعارض فتعين بيانه وهو ما لا يتعلق به حق الغير ويؤخذ بغير وجه صحيح، كما يكون في أكل الرؤساء بلا مقابل إلا أنهم رؤساؤهم المسيطرون عليهم، وكذلك أكل المرؤوسين بجاه الرؤساء، فإن كلا منهما يمد الآخر ليستمد منه في غير الوجوه المشروعه التي يتساوى فيها جميع الناس».
وللشيخ سيد قطب في تفسير هذه الآية معنى قريب من المعنى المشار إليه سابقًا. أما القرطبي فمما جاء عنه في تفسير الآية: «.. ولا يكون المال حلالاً حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت والغلو والمكروه والشبهة».
وقد أشار القرطبي إلى معنى له أهميته وهو أن الآية بدأت بقوله تعالـى: )يا أيها النّاس( وهذا لفظ عام. ومما جاء عن الرازي في تفسيره هذه الآية: «الحلال وصف بأنه طيب، والمراد منه ما لايكون متعلقًا به حق فإن أكل الحرام وإن استطابه الآكل فمن حيث يفضي إلى العقاب يصير مضرة ولا يكون مستطابًا».
3- عدم الظلم (منع بعض المعاملات لما فيها من ظلم):
للإسلام موقف ضد بعض المعاملات ومنها الربا والاحتكار. كتب الفقه صريحة في سبب منع هذه المعاملات، فالإسلام وقف ضد التعامل بها وذلك لأنها تتضمن ظلمًا، ولأنها تولد العداوة والبغضاء بين الناس.
إذا أخذنا الغرر على سبيل المثال، فهو موضع مناقشة واسعة بين الفقهاء وميزوا بين الغرر الذي لا يمكن الاحتراز عنه والغرر الذي يمكن الاحتراز عنه. وفي كل ما قالوه من تفصيلات حول هذا الموضوع فإن شاغلهم كان يتجه لكيف يتحقق هدف التشريع الإسلامي وهو منع الظلم في المعاملات بين الناس ، ومنع ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء بينهم.
نفس الأمر بالنسبة للاحتكار، لقد ربطوا منعه باستغلال حاجة الناس وخاصة فيما يتعلق بالأقوات. وإذا حللنا اختلافات الفقهاء حول السلع التي يدخل فيها الاحتكار نجد أن شاغلهم كان مع تحقيق هدف التشريع الإسلامي وهو منع الظلم والاستغلال بين الناس في المعاملات الاقتصادية.
هكذا يمكن تتبع الأنواع المختلفة من المعاملات التي للإسلام موقف ضدها، وسوف نتبين أن ذلك كان بهدف وضع قيمة أخلاقية تدور عليها أحكام الفقه الاقتصادي وهو منع الظلم في التعامل الاقتصادي. والظلم الاقتصادي الممنوع يشمل الفرد في كل أنشطته الاقتصادية، كما يشمل الظلم أيًا كان نوعه، ويشمل أيضًا الدولة بوظائفها الاقتصادية الرقابية وغيرها.
4- منع الضرر:
بعض السلع تحمل ضررًا فاعتبرها الإسلام من السلع الخبيثة لذلك منع بيعها وشراءها وكل ما يتعلق بذلك. ومن هذه السلع: الخمر والخنزير والميتة. فضرر هذه السلع واضح لذلك منع الإسلام الاتجار فيها. والهدف الواضح من ذلك هو الضرر. لهذا يصبح منع الضرر ضمن القيم التي تنظم عمل الاقتصاد الإسلامي. وإذا كان كان النوع السابق من المعاملات محرمًا لما فيه من ظلم، فإن منع الاتجار في بعض السلع محرم كذلك لما فيه من ضرر.
إن التشريع الإسلامي يمد منع الاتجار في بعض السلع إلى منع بيع الأعيان التي يمكن أن تؤدي إلى معصية الله أو تعين على ذلك، وذلك عند التحقق من أنها تستخدم في معصية أو تعين عليها.
5- تحقيق الأمانة:
المعاملات الاقتصادية بين الناس الأصل فيها الإباحة، لكن إذا شاب معاملة من المعاملات غش أو تدليس فإن الإسلام يمنع ذلك، توجد هنا قيمة تتمثل في تربية الإنسان على الصدق والأمانة في المعاملة. بل إن الإسلام مد المنع إلى معاملة فيها نوع خفي من الغش، هذه المعاملة هي النجش، ويعني الزيادة في سعر السلعة ممن لا يريد شراءها وإنما ليغري غيره بشرائها فهذا غش خفي، وهو يخل بالأمانة والصدق في المعاملة بين الناس.
هكذا يكون الإسلام منع الظلم، ومنع الضرر، وألزم بالأمانة في المعاملات في سلوك الوحدات الاقتصادية، سواء كانت هذه الوحدة شخصية طبيعية أو تنظيميًا أيًا كان نوعه.
6- تحقيق العدل:
البحث في الفقه كشف عن أن الفقهاء وهم يعرضون المعاملات المباحة شرعًا ربطوا مشروعية المعاملة بسبب عام وهو تحقيق العدل. على سبيل المثال: المضاربة ومشروعيتها على النحو الذي شرعت به، بل وبالتفصيلات التي ناقشها بها الفقهاء، كل ذلك مربوط إلى أن المضاربة على النحو الذي شرعت به تضمن تحقيق العدل بين طرفيها وهما العمل ورأس المال.
الفقهاء وهم يعرضون هذه الأمور عن المضاربة تكلموا صراحة أو ضمنًا عن أن ذلك معتبر لتحقيق العدالة بين المشتركين في هذا النشاط الاقتصادي، أي أن محور الارتكاز الذي دار عليه التشريع كان لضمان تحقيق العدل بين الأطراف المتعاقدة في عمل اقتصادي معين. وهكذا يكون العدل قيمة تدور عليه أحكام الفقه الاقتصادي. يسري هذا الحكم على الشخص الطبيعي، ويسري أيضا على الشخص المعنوي في صورة تنظيم مهني أو حرفي أو غيره.. إن الإخلال بالعدل يتصور في التنظيمات أكثر من الفرد الطبيعي، ولذلك يكون هذا الحكم له سريان على هذه التنظيمات.
وصفوة القول إن القيم الأخلاقية التي ذكرت، والواقعة على الأفراد، لها وظائف كثيرة اقتصادية وغيرها، ومن هذه الوظائف تحقيق التنمية وتأمينها، وما نقطع به هو أنه بدون هذه القيم الأخلاقية فإنه لن يمكن تحقيق تنمية أو تأمينها إذا تحققت.
خامسًا: قيمة الصلاح الاقتصادي التي يلتزم بها الغني:
تعرض هذه الدراسة قصة قرآنية عن أحد الأغنياء، وقد تضمن العرض القرآني لهذه القصة القيم الأخلاقية التي يجب أن يلتزم بها الغني، بحيث تؤمن الحياة الاقتصادية تنمية وغيرها.
بعد عرض هذه القصة القرآنية بمعانيها الأخلاقية عرض البحث فكرة مختصرة عن مبدأ الاستخلاف.
يبدأ القرآن الكريم قصة قارون على النحو الآتي: )إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ( (القصص/ 76).
البغي هو أول شيء سجل على قارون. وقد أفاض المفسرون في تفسير البغي، ومما قالوه:
ـ بغيه أنه استخف بالفقراء ولم يرع لهم حق الإيمان ولا عظمهم مع كثرة أمواله.
ـ البغي: هو الظلم.
ـ بغى عليهم: طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده.
ـ بغى عليهم: تجبر وتكبر عليهم وسخط عليهم.
الأمر الثاني: الذي سجله القرآن الكريم على قارون هو البطر والازدهاء. قال المفسرون إن الفرح الذي اعتبر أحد المآخذ التي سجلت على قارون هو البطر والازدهاء، وهو فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال.
الأمر الثالث: قال عنه القرآن الكريم: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ( (القصص/ 77)، يسجل القرآن الكريم على قارون أنه لم يأخذ بالمنهج الإلهي القويم، المنهج الذي يعلق قلب واحد المال بالآخرة ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة الدنيا.
الأمر الرابع: قيل في تفسير الإحسان هنا إنه يشمل «الإحسان مطلقًا، بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر»، وقيل المراد: أحسن بشكرك وطاعتك الله كما أحسن إليك.
الأمر الخامس: حكاه القرآن الكريم بقوله: ) وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(، الفساد في الأرض المنهي عنه هو ما كان عليه من الظلم والبغي. والإعجاب بقوته.
الأمر السادس: حكاه الله تعالى في قوله: ) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( (القصص/ 79).
أخذ على قارون، في هذا الشأن أنه عندما خرج بأظهر زينة وأكملها جعل فئة من الناس بسبب مظهره تتهافت نفوسهم وتتهاوى، وهذه الفئة ألهتها زخارف الدنيا عما يكون في مطاويها من سوء العواقب.
من قصة قارون، وبناء على ما قاله المفسرون عما جاء فيها، يمكن استنتاج القيم الأخلاقية العاملة على الاقتصاد على نحو ما يلي:
أـ منع الاستخفاف بالفقراء.
ب ـ منع نقص الفقراء حقهم.
جـ - منع الطغيان.
د ـ منع التجبر والتكبر على الناس.
هـ - منع البطر والازدهاء.
و ـ الأخذ بقسط معتدل من متاع الدنيا.
ز ـ طلاقة الوجه وحسن اللقاء مع الناس.
ح ـ منع الظلم والبغي.
ط ـ منع بطر النعمة والإعجاب بالقوة.
ي ـ منع فتنة الغير بما يملك الشخص.
الفهم الصحيح لأصل الملكية: ملكية الاستخلاف
1ـ لا يمكن دراسة التنمية بانفصال عن نمط الملكية السائد في المجتمع، وذلك لأسباب كثيرة، منها:
أـ يوزع الدخل المتولد في الاقتصاد على عوامل الإنتاج التي ساهمت في إنتاجه وهي تجمع في العمل ورأس المال والأرض. والأخيران يعبران عن الملكية.
ب ـ أهمية الملكية لا تقتصر على أنها مصدر للحصول على جزء من الدخل المتولد في الاقتصاد وإنما تتعدى ذلك، والملكية من المحددات الرئيسية لنمط العلاقات الاجتماعية بين فئات المجتمع. ومن المسلم به أن العلاقات الاجتماعية لها دورها في الحصول على فرص عمل أحسن، وفرص نشاط اقتصادي أوسع..
ج ـ الحديث عن الملكية ينصرف إلى الملكية الخاصة والملكية العامة.
2- الاقتصاد الإسلامي يرتبط بأصل للملكية هو مبدأ الاستخلاف. وهو مبدأ حاكم على الملكية الخاصة وعلى الملكية العامة. قبل تقديم مناقشة عن هذا المبدأ وعن آثاره الاقتصادية نرى ضرورة الإشارة إلى خطأ يمكن أن يقع في دراسة هذا الموضوع وهو الاعتقاد أن ملكية الاستخلاف تمثل نوعًا ثالثًا من أنواع الملكية، إن هذا المبدأ هو الإطار القيمي الذي يحكم الملكية، من حيث استثمارها، ومن حيث العائد الذي يتحقق منها.
3- مبدأ الاستخلاف يجد دليله في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى، من هذه الآيات:
ـ )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( (البقرة/ 30).
- ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ( (الأنعام/ 165).
_ )هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَسَارًا( (فاطر/ 39).
ـ )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( (النور/ 55).
جاء في تفسير معنى خليفة: «الخليفة في الأصل الذي يخلُف غيره أو يكون بدلًا عنه في عمل يعمله، والمراد من الخليفة هنا المعنى المجازي وهو الذي يتولى عملاً يريده المستخلِف مثل الوكيل والوصي، أي جاعل في الأرض مديرًا يعمل ما نريده في الأرض، فالخليفة هنا هو الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف في مملوكاته».
4- يحدد مبدأ الاستخلاف طبيعة الملكية في الإسلام، سواء خاصة أو عامة. إنه يجعل هذه الملكية تستمد مشروعيتها من تشريعاته الله سبحانه وتعالى. غرس هذا المبدأ في نفس المالك، فرد أو دولة، يجعله يتصرف على أنه وكيل على ما في يده، وبموجب هذه الوكالة فإنه يلتزم بالتشريعات المنظمة للملكية، من حيث الوسائل التي يكتسبها بها، ومن حيث الطرق التي يستثمرها بها، ومن حيث الالتزامات (الاجتماعية) التي يكلف بها بسبب هذه الملكية، مثل الزكاة.
5- مبدأ الاستخلاف له رباطه الوثيق مع موضوع تنمية المجتمع. إنه يوجد البيئة العقيدية التي يقبل فيها من بيده الملكية أن يوظف هذه الملكية في معالجة مشكلات المجتمع. هذا الأمر عبّر عنه الفقهاء بقولهم: للملكية وظيفة اجتماعية.
6- جاء الإسلام بتشريعات متنوعة يستهدف بها علاج التخلف والقضاء عليه. مبدأ الاستخلاف يعطي الغطاء الرقابي لتنفيذ هذه التشريعات، وذلك لأن المخاطب بهذه التشريعات مستخلف على ما في يده، وهذا يوجد نوعًا من الرقابة، وهي رقابة ذاتية إيمانية، وهي أرقى أنواع الرقابة.
7- قد يواجه المجتمع حالات استثنائية تخلق له مشكلات خاصة، مبدأ الاستخلاف يجعل المالك يشارك بإيجابية في متطلبات كل مرحلة.

المناقشة السابقة عن مبدأ الاستخلاف يستنتج منها ما يلي:
ـ مواجهة التخلف لعلاجه والقضاء عليه تتطلب بيئة عقيدية صحيحة تحكم الملكية، ويوفر مبدأ الاستخلاف هذه البيئة العقيدية.
ـ بناء على هذه النتيجة تقبل نتيجة أخرى هي أن مبدأ الاستخلاف من أساليب القضاء على التخلف، هذا المبدأ وإن لم يمكن ترجمته في أسلوب مادي إلا أنه يهيمن على كل الأساليب المادية التي تواجه بها مشكلة التخلف.
ـ يعطي مبدأ الاستخلاف الأساليب الإسلامية لمواجهة التخلف صبغة تجعلها متميزة. هذا التميز يجيء من انطلاق هذه الأساليب من مبدأ مهيمن عقيديًا على من تقع عليه الالتزامات للمشاركة في مواجهة التخلف. ويمكن أن يوضح هذا المعنى بالآتي: إن المستخلف يلزم المستخلَف بأن يجعل جزءًا مما استخلف فيه للقضاء على التخلف.
صفوة القول إن آيات سورة القصص تحكي قصة رجل غني آتاه الله مالاً وفيرًا، من خلال هذه القصة أعطت تعليمات بقيم أخلاقية يجب أن يلتزم بها الغني في أي زمان وأي مكان.
تحليل القيم الأخلاقية التي تضمنتها القصة يبين أن هذه القيم تعمل على مساحة واسعة، بحيث تشمل العلاج الأخلاقي للغني نفسيًا وماديًّا، وكذلك العلاج الأخلاقي لغيره من فئات المجتمع نفسيا وماديًّا. وعملت القيم الأخلاقية أيضًا على إيجاد توازن صحيح بين الدنيا والآخرة.
إذا انضبط سلوك الغني بهذه القيمة الأخلاقية ذات العناصر المتعددة فإن الاقتصاد ينمو ويؤمن نموه، يتكامل مع ماجاء في قصة قارون من قيم القيمة الكبرى التي تترتب على مبدأ الاستخلاف.
سادسًا: قيمة الصلاح الاقتصادي التي يلتزم بها الفقير:
تعرض هذه الدراسة قيمة الصلاح الاقتصادي عند الفقير من خلال المدخل العقيدي. وقد تم اختيار كتاب من كتب التراث الإسلامي لدراسة هذه المسألة.
1ـ مفهوم العقيدة:
العقيدة من الألفاظ الكلية، وهي تدل على مفهوم عام لكل ما يعقد المرء عليه عزمه ويجعله مناط تصميمه مهما كلفه من أمر. المعنى الاصطلاحي للعقيدة أنها مجموعة من قضايا الحق المسلمة بالعقل والسمع والفطرة يعقد عليها الإنسان قلبه ويثني عليها صدره جازمًا بصحتها وقاطعًا بوجودها وثبوتها. وتوضح معنى العقيدة المقولة التالية:
«اعلم أن الأحكام الشرعية منها ما يتعلق بكيفية العمل وتسمى نوعية وعملية، ومنها ما يتعلق بالاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية. العلم المتعلق بالأولى يسمى علم الشرائع والأحكام، وبالثانية علم التوحيد والصفات، ويقال عنه علم أصول الدين»([1]).
في إطار هذا المعنى للعقيدة تكون العناصر الداخلة في صحة العقيدة الاقتصادية كثيرة منها الفهم الصحيح للقضاء والقدر بشأن الفقر.
2- الفهم الصحيح للقضاء والقدر بشأن الفقر:
أ- قد يعتقد بعض الفقراء أن الفقر الواقع عليهم هو قضاء وقدر من الله سبحانه وتعالى. هذا الاعتقاد إن وجد فإنه يؤدي بالفقير إلى ألا يحاول علاج الفقر الواقع عليه. هذه القضية فطن إليها أحد المفكرين المسلمين منذ ستة قرون سبقت هو أحمد بن علي الدلجي([2]) وناقشها في كتابه الفلاكة والمفلوكون (الفقر والفقراء). وتمثل الآراء التي عرضها الدلجي تصورًا للفهم الصحيح للقضاء والقدر بشأن الفقر، لذلك نعرض هذا الآراء.
ب ـ خصص الدلجي الفصل الثاني من كتابه للموضوع الآتي: خلق الأعمال وما يتعلق به. وقد كتب في بيان السبب في بحث هذا الموضوع ما يلي: «الغرض من هذا الفصل إقامة الحجة على المفلوكين وقطع معاذيرهم وإلجامهم عن التعلق بالقضاء والقدر، وأنه متى نعيت عليهم فلاكتهم أو نودي عليهم بها كان ذلك لأنهم إما فاعلوها استقلالاً أو مشاركة...> ([3]).
الفصل الأول في كتاب الدلجي عن تحقيق معنى مفلوك، أي تعريف الفقير، بعد هذا التعريف يدخل مباشرة في الفصل الثاني إلى مناقشة قضية القضاء والقدر وتعلق الفقراء (الباطل) بها. يدل هذا على أن الدلجي يعتبر مناقشة هذه القضية الواجب الأول في موضوع دراسة الفقر والفقراء، بعبارة أخرى، إن دراسة الفقر تبدأ بهذا الموضوع وهو إبطال تعلق الفقراء بالقضاء والقدر، وبالتالي إبطال استسلامهم للحالة التي هم عليها من الفقر، وإبطال تعلقهم بأن ذلك خارج عن إرادتهم.
ج ـ لإبطال تعلق الفقير بالقضاء والقدر ولإثبات مسؤوليته عن فقره عرض الدلجي الأدلة التالية([4]):
ـ الفقير فاعل فقره إما استقلالا أو مشاركة.
ـ يتفق العلماء على أن القضاء والقدر لا يحتج به.
ـ حركة العبد للسعي تجامع التعلق بالأسباب ولا تنافيها.
ـ الاكتساب لإحياء النفس ولغير ذلك واجب.
ـ الرسول (ص) قال للأعرابي لما أهمل بعيره وقال توكلت على الله: «أعقلها وتوكل على الله».
ـ ليس من شرط التوكل ترك الأسباب، فإن ذلك حرام في الشرع ولا يتقرب إلى الله بمحارمه.
ـ الله قال: )خٌذُوا حِذرَكُم( (النساء/ 71).
ـ وجود المال في اليدين لا في القلب ودخول الدنيا على العبد وهو خارج عنها لا ينافي الزهد.
د- الأدلة التي عرضها الدلجي تبطل تعلق الفقراء بالقضاء والقدر لتبرير قبولهم الفقر. يمثل هذا العنصر الأول في صحة العقيدة الاقتصادية. هذا العنصر له أهميته، بل له الأهمية الأولى بين الأساليب التي يواجه بها الفقر، أو التي يعالج بها الفقر. وذلك لأنه يبدأ بعلاج الفقر بتصحيح عقيدة الفقير، ولأنه يجعل العلاج من الفقير نفسه، لأنه يحمله المسؤولية، مسؤولية تنبع من العقيدة.
هذا الأمر له أهمية في حياتنا المعاصرة، حيث إن هناك من يفسر تخلف المسلمين بارتباطهم بالقضاء والقدر وقعودهم عن العمل. والدلجي يبطل الفهم الخاطئ في هذه القضية.
والخلاصة أن تصحيح العقيدة الاقتصادية عند الفقير بشأن القضاء والقدر له توظيفاته الاقتصادية المتعددة، من هذه الوظائف أنه يدفع الفقير للعمل ليقضي على فقره، ويحبب إليه المال فيسعى إلى الحصول عليه وامتلاكه، ويدفعه لاعتبار العنصر المادي في الحياة.
إن قيمة إبطال تعلق الفقير بالقضاء والقدر من أهم يلزم للمجتمعات الإسلامية المعاصرة والتي يمكن بدورها أن تساهم في التنمية وفي تأمينها.
سابعًا: قيمة ثقافة المقاومة لتنمية المجتمع:
1- العوامل الخارجية وتنمية المجتمع
أـ لا تقتصر العوامل الفاعلة في تنمية المجتمع على العوامل الداخلية وحدها، وإنما يدخل في ذلك العوامل الخارجية، وهذه العوامل الخارجية تعمل في اتجاهين، أحد الاتجاهين إيجابي والآخر سلبي.
ب ـ العلاقات الاقتصادية الدولية تشمل تبادل السلع والخدمات والخبرات الفنية ورؤوس الأموال قد تحفز التنمية وتدعمها، وهنا يكون لها تأثير إيجابي، ولكنها من وجه آخر قد تعوق التنمية بل وتضرها، وهنا يكون لها تأثير سلبي.
ج ـ العوامل الخارجية التي تؤثر في تنمية المجتمع لا تقتصر على العلاقات الاقتصادية الدولية وإنما تدخل فيها العلاقات السياسية، لا يستطيع أحد أن ينكر أثر التوجيهات السياسية مباشرة للدولة الكبرى أو من خلال المنظمات الدولية.
د- أخطر العوامل الخارجية المؤثرة في تنمية المجتمع يتمثل في التدخل العسكري، ويتحقق ذلك عندما تتدخل دولة كبرى بقواتها العسكرية لتعويق التنمية في دولة أخرى أو تحطيمها، وهذا أحد الدوافع في التدخل العسكري الخارجي، ولا شك أن هناك دوافع أخرى.
2- تجارب معاصرة على أثر العوامل الخارجية على تنمية المجتمع:
ما سبق ذكره عن أثر العوامل الخارجية في تنمية المجتمع له ما يؤيده في التاريخ المعاصر، ومن ذلك ما يلي:
أـ تعتبر تجربة مصر في التنمية من أوضح النماذج التي يظهر فيها أثر العوامل الخارجية في تعويق تنمية المجتمع أو تحطيم التنمية ويظهر ذلك من الآتي:
ـ الاحتلال البريطاني لمصر في عام 1882م والذي حطم تجربة التنمية التي كانت قد بدأت منذ عام 1816م مع محمد علي.
ـ العدوان العسكري في عام 1967م والذي حطم منجزات التنمية التي كانت قد تمت في مصر.
ـ أثبتت دراسات كثيرة الأثر السلبي في التنمية الذي أوجدته سياسات المنظمات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، ويظهر هذا الأثر السلبي بوضوح بعد أن أخذت مصر بسياسة الحرية الاقتصادية منذ سبعينيات القرن العشرين.
ب ـ أزمة تجربة التنمية في النمور الآسيوية في عام 1997م، ويعنينا منها على وجه الخصوص حالة إندونيسيا، وتعتبر حالة إندونيسيا حالة معقدة تداخلت فيها العوامل الداخلية والعوامل الخارجية. وإذا كانت العوامل الخارجية قد بدأت بسياسات لدول كبرى ولمنظمات دولية فإنها اكتملت بالتدخل العسكري (تيمور وغيرها).
ج ـ ضرب تجربة التنمية في الجزائر تعتبر حالة نموذجية لصعوبة التمييز بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية وأثر ذلك سلبيّا في تجربة التنمية. بل يحتمل أن يكون قد حدث تحالف آثم بين العوامل الداخلية والخارجية.
د- تحطيم تجربة التنمية في العراق بل وتحطيم العراق تعتبر حالة نموذجية للتدخل العسكري المباشر في تحطيم التنمية.
3- ثقافة المقاومة
المناقشة السابقة عن الأثر السلبي للعوامل الخارجية على التنمية يرقى إلى أن يكون حجة ودليلا على خطورة هذه العوامل، وهذه الخطورة تصبح بدورها مبررًا للبحث عن وسائل للمواجهة، وتتعدد وسائل المواجهة، والوسيلة التي نهتم بها هنا هي ما نسميه ثقافة المقاومة.
تعني ثقافة المقاومة أن يربى أفراد المجتمع على مقاومة الخطر الخارجي أيّا كان شكله، دينيا أو عسكريًّا أو سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا.
أـ تتضمن هذه التربية أنه لا يمكن تحقيق أي نوع من التقدم أو الحفاظ على أي تقدم قد تم إنجازه إلا بتسليح أفراد المجتمع بثقافة تجعله يقاوم الخطر الخارجي أيًّا كانت الصورة التي يأخذها هذا الخطر، تدخل عسكري أو تدخل سياسي أو تدخل اقتصادي أو تدخل ثقافي تربوي.
ب ـ يدخل في ثقافة المقاومة أن التسليم الجزئي للأجنبي ـ سواء جاء هذا التسليم بقبول مطالب سياسية أو اقتصادية أو ثقافية تربوية ـ سوف يؤدي بالحتم إلى قبول ما هو أسوأ حتى يصل الأمر إلى قبول التدخل العسكري.
ج ـ يدخل في ثقافة المقاومة أيضا التربية على أن الهروب من المواجهة لن ينجي الهارب وبالتالي لن ينجي وطنه. يظهر هذا الأمر على وجه الخصوص في التدخل العسكري، إن الهروب من مواجهة هذا النوع من التدخل لن ينجي الهارب ولن ينجي وطنه.
د - يدخل في ثقافة المقاومة قبول التضحية، وتتدرج التضحية حتى تصل إلى التضحية بالنفس.
المؤسسات المسؤولة عن ثقافة المقاومة متعددة، تبدأ هذه المؤسسات بالأسرة وفيها المسجد والمدرسة والمؤسسة الإعلامية بكل تنوعاتها ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية. بل إن الفرد نفسه يصبح مسؤولاً عن تعليم نفسه ثقافة المقاومة وتدريب نفسه على ذلك.
4- ثقافة المقاومة في الإسلام:
للإسلام منهجه في ثقافة المقاومة. وأهم ما نستطيع تقديمه من عناصر هذه الثقافة يجمع في الآتي:
أـ تبدأ ثقافة المقاومة الإسلامية بالتربية العقيدية، وهذه التربية تجد كل عناصرها في الفترة التي قضاها المسلمون في مكة المكرمة. التربية العقيدية مثلت حجر الأساس في غرس ثقافة المقاومة عند المسلمين. وأهم نتائج التربية العقيدية على ثقافة المقاومة للفترة التي عاشها المسلمون في مكة المكرمة أنها ربتهم على الصمود والثبات على الحق.
ب ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عناصر ثقافة المقاومة الإسلامية. ومن الخطأ أن يقتصر عمل ذلك على العمل الداخلي وإنما يمتد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى المجالات الخارجية. نعطي مثالًا: الذين أتيح لهم أن يكونوا مسيطرين على أجهزة الإعلام في عالمنا الإسلامي عليهم واجب أن يجهروا بالحق في وجه الخطر الخارجي، إن هذا الأمر هو تدعيم لثقافة المقاومة عند الأمة الإسلامية.
ج ـ يربي الإسلام المسلم على التضحية ولو وصل الأمر إلى حد التضحية بالنفس. يقول الله تعالى: ) إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( (التوبة/ 111). هذه الآية الكريمة تربي المسلم على التضحية ولو بالنفس، والتربية على التضحية بالنفس أقوى أنواع التربية على ثقافة المقاومة.
صفوة القول إنه إذا لم تتعلم الأمة ثقافة المقاومة وتمارسها ممارسة كاملة فلن يؤمن تحقيق أي نوع من التنمية..

الهوامش:
--------------------------------------------------------------------------------
[*] - أستاذ الاقتصاد الإسلامي ـ جامعة الأزهر.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - د. سامي حجازي، العلاقة بين العقيدة والأخلاق في الإسلام، رسالة دكتوراه، كلية أصول الدين، جامعة الأزهر، ص 4، 62، 69.
[2] - الدلجي: أحمد بن علي بن عبد الله شهاب الدين الدلجي، ولد في عام (770هـ - 1368م) في مدينة دلجة، في جنوب مصر. وقد عرف بأنه: فاضل مصري، تعلم في مصر واشتهر في دمشق، اشتغل بالفلسفة، وله مؤلفات منها: الفلاكة والمفلوكون، وشرح تسهيل الفوائد لابن مالك، وكانت وفاته بمصر في عام (838هـ - 1435م). انظر الزركلي (خير الدين)، الأعلام في قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، (دار العلم للملايين ، لبنان).
[3] - أحمد بن علي الدلجي، الفلاكة والمفلوكون، مطبعة الآداب، النجف، بغداد، ص 11.
[4] - المرجع السابق، ص 8 ـ 21.

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• القيم الإسلامية الحاكمة لتنمية المجتمع 1/2   (بازدید: 2663)   (موضوع: )

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية   (بازدید: 2732)   (نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر   (بازدید: 2651)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة   (بازدید: 4194)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة   (بازدید: 6849)   (نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ   (بازدید: 2882)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي   (بازدید: 3253)   (نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان   (بازدید: 4255)   (نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا   (بازدید: 2147)   (نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن   (بازدید: 4151)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي   (بازدید: 1352)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي   (بازدید: 4058)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية   (بازدید: 1214)   (نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين   (بازدید: 2170)   (نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة   (بازدید: 1819)   (نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة   (بازدید: 1639)   (نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة   (بازدید: 1023)   (نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب   (بازدید: 1061)   (نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي   (بازدید: 1540)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها   (بازدید: 843)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان   (بازدید: 888)   (نویسنده: سيد موسى الصدر)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]