banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

العشق عند مولانا جلال الدين الرومي
ثقافتنا - العدد 16

رئيفة ابو رأس
1428

ملخّص
العشق هو الحنين إلى الأصل، وهو الذي يخلّص الإنسان من العيوب. ويرتبط العشق بإدراك الجمال، والحياة بكل مظاهرها تعبّر عن تجليات العشق، وثمرة العشق تتجلّى في مواهب تفتح المواهب في نفس العاشق. والتجاذب بين العاشق والمعشوق يخلق حركة نحو الكمال.

مولانا جلال الدين الرومي
إنّ موضوع العشق عند مولانا جلال الدين الرومي يتّصل برؤيته العميقة لمنزلة الإنسان وموقعه في مراتب الوجود، فإذا كان ابن عربي يرى أنّ الإنسان هو مختصر العالم الكبير، فإنّ مولانا يرى فيه <العالم الأكبر>.
ومن هنا فقد اتّخذت وجهة العشق لديه منحىً متميّزًا ينسجم وأذواق هذه الحقيقة الوجوديّة الهائلة.
لقد شغلت علاقة المخلوق بخالقه الوجدان الجماعي للبشريّة بصورة عامّة، لكنّها أخذت بعدًا أعمق لدى الوجدان الصوفي الذي حاول إدراك أذواق هذه العلاقة بظاهرها وباطنها، بكلّيّاتها وتفصيلاتها، ببساطتها وتعقيدها، فبرز ذلك كلّه في الآثار الصوفيّة الشعريّة والنثريّة لكونها مرايا الأرواح الذائقة للمعاني.
وروح مولانا هي واحدة من هذه الأرواح التي أوت إلى جناب الحضرة الإلهيّة فذاقت معاني الوصال في حضرة القرب، وعبّرت عن ذلك بفنون القول نثرها وشعرها، بعد أن قال صاحبها وقد أدرك فاعليّة العشق: <أمر العشق كلامي فظهر، ما جدوى المرآة إن لم تعكس الصور> (1).
إنّ هذا التصريح لدى مولانا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ أزمّة الصياغة الفنّية عنده هي في قبضة المعاني العلويّة المتنزّلة على أرض كيانه الروحي، كما يدلّ على أنّ صناعة الكتابة لديه لم تخضع لمحض التنظيم العقلاني، بل جاءت في إطار هندسة روحانيّة تستمدّ هيئتها من المبدع الأوّل خلاّق الصور بعمومها، وخلاّق الصور في مرآة وجدان مولانا بخصوصيّته البيانيّة ولغته المتميّزة التي ارتقى بها وارتقت به إلى صفة العالميّة.
وعلى الرغم من هذه القدرة التعبيريّة المتجلّية في إبداعات مولانا الكتابيّة، أحسّ بضيق العبارة وعدم تمكّنها من إدراك غاية الإشارة، لأنّ الكثافة تعجز عن مجاراة اللطافة وما تتضمّنه من طوالع ولوامع وبوارق ذات وهج نوري رفيع يدقّ معناه وتخفى رموزه.
ونتيجة لإحساس مولانا بضيق العبارة عن إدراك مرامي الإشارة، فقد لجأ إلى لغة أرقى، يمكن أن تستوعب هذه المعاني والرموز والأسرار بما تملكه من طاقة تعبيريّة تجريديّة سامية ألا وهي لغة الموسيقا، فالأسرار -كما يقول مولانا- كلّها مخفيّة في وتري الجهير والخفيض(2).
واللافت للنظر أنّ مولانا في حديثه عن الموسيقا عبّر عن ذلك بقولـه: <أنين الناي والرباب>، وقال في أنين الناي:
نََوْحة الناي لفحةٌ من سعيرِ
تلــــك نــــــارٌ بقلبه وهُيامُ

لاهَواءٌ فلا تكن بالغريرِ
حــــين جاشت من الغرامِ المُدامُ(3)

فما الداعي إلى هذه التعبيرات التي تشفّ عن الحزن والألم؟ ربّما نرى في نصّ <شكوى الناي> أو <أنشودة الناي> في مطلع المثنوي ما يجيب عن هذا التساؤل؟
<استمع إلى هذا الناي يأخذ في الشكاية، ومن الفرقات يمضي في الحكاية. منذ أن كان من الغاب اقتلاعي، ضجّ الرجال والنساء في صوت التياعي. أبتغي صدرًا يمزّقه الفراق، كي أبثّ شرح آلام الاشتياق. كلّ من يبقى بعيدًا عن أصوله، لايزال يروم أيّام وصاله. نائحًا صرت على كلّ شهود، وقرينًا للشقي وللسعيد. ظنّ كلّ امرئٍ أن صار رفيقي، لكنّه لم يبحث من داخلي عن أسراري. وليس سرّي ببعيد عن نواحي، لكن العين والأذن قد حُرمتا هذا النور.
وليس الجسد مستورًا عن الروح، ولا الروح مستورة عن الجسد، لكن أحدًا لم يؤذن له بمعاينة الروح. وإنّ هذا الأنين نار وليس هواء، وكل من ليست لديه هذه النار ليكن هباء. ونار العشق هي التي نشبت في الناي، وغليان العشق هو الذي سرى في الخمر>(4).
إنّ من يقرأ هذا النصّ يدرك مدى العلاقة بين السماع والعشق لدى مولانا، كما يدرك نغمة الحزن المنبعثة منهما معًا. فالعشق مؤلم للروح ومؤلم للنفس لأنّه مرتبط بالحنين إلى الأصل، إلى الحبيب الذي تأوي إلى حضرته القلوب، وتحسّ بالضياع والشتات إن هي فارقته وابتعدت عنه.
هذا المعنى المتجلّي في العشق هو ذاته المتجلّي في أنين الناي. وهذا ما نراه واضحًا في قول مولانا: <كلّ من يبقى بعيدًا عن أصوله، لا يزال يروم أيّام وصاله>(5).
ولمّا كان العشق يخلّص ذات الإنسان من العيوب، ويرفعها إلى آفاق الحرية، فقد رأى فيه مولانا سرّ الحركة الناشئة عن الطرب الروحانيّ وقال: <لقد سما الجسد الترابيّ من العشق حتّى الأفلاك، وحتّى الجبل بدأ في الرقص وخفّ. أيّها العاشق، لقد حلّ العشق بروح طور سيناء، فثمل الطور وخرّ موسى صعقًا>(6).
ولعلّ رقص الجبل فيه إشارة إلى نشوة الجسد الترابي الذي تعتريه الهزّة الروحانيّة الناشئة عن العشق وما يتعلّق به من أسرار الوصال، وهذا يقودنا إلى مدى العلاقة القائمة بين الحركة المعبَّر عنها بالرقص من جهة، وبين العشق من جهة أخرى، ليتكامل لدينا مشهد اللذّة العلويّة التي أسكرت مولانا فعجز عن الإفصاح عنها باللغة، ولم يجد أمامه إلاّ الرقص والسماع في سموٍّ تجريديٍّ ترتفع آفاقه حتّى تبلغ عنان سماوات الغيوب وفيوضاتها النوريّة.
إنّ ماهيّة العشق ظلّت عصيّة على التعبير لدى مولانا حتّى قال: <وكلّ ما أقوله شرحًا وبيانًا للعشق، أخجل منه عندما أصل إلى العشق نفسه>(7).
فمولانا يرى أنّ التعبير بالحال، أقوى من التعبير بالمقال عندما يستولي العشق على الذات وفي ذلك يقول: <وبالرغم من أنّ تفسير اللسان موضح ومبين، لكنّ العشق أكثر وضوحًا دون لسان>(8).
ولذلك فالقلم الذي هو آلة التعبير عن المخزون المعنوي لدى المرء يقف عاجزًا أمام طاقة العشق التي تفني ذاتيّته وتبدّد قدرته- يقول مولانا: <ومهما كان القلم مسرعًا في الكتابة، فإنّه عندما وصل إلى العشق تحطّم وصار بددًا>(9).
ويذهب مولانا إلى أنّ الإدراك العقلي له أفق محدود لا يمكنه أن يتخطّاه، فالعشق إحساس وذوق، وارتباطه بالوجدان أعمق، وهو يفصح عن هذا المعنى بقوله: <والعقل في شرحه عجز كحمار في وحل، فشرحُ العشق إحساس يتحدّث به العشق نفسه>(10).
ربّما كان موضوع العشق المرتبط بإدراك الجمال هو السبب الرئيس في إشارة مولانا السابقة إلى ارتقاء المعنى حتّى يعرب الموضوع بذاته عن ذاته. فقد أذهلته مشاهد الجمال الإلهي فعشقها لكونها دالّة على خالقها، لا لذاتيّتها الصوريّة، ووجودها الجزئي الفاني، ومّما قاله في هذا المعنى: <ذلك أنّ عشق الموتى ليس دائمًا، لأنّ الموتى لا يعودون إلينا. وعشق الحيّ بالنسبة للروح والبصر، أكثر نضرة كلّ لحظة من البراعم، فاختر عشق ذلك الحيّ فهو باق، ويسقيك الشراب الذي يطيل العمر. واختر عشق ذلك الذي وجد الأنبياء من عشقه الحشمة والعظمة. ولا تقل لا سبيل لنا إلى حضرة ذلك الملك، فإنّ الأمور لا تكون صعبة مع <ذي> الكبرياء>(11).
ويحضرني في هذا المقام أبيات للجيلي تُعرب عن هذا المعنى الجميل الجليل، يقول فيها:
تجلّى حبيبي في مرائي جماله
فلمّا تبدّى حسنه متنوّعًا
وأبـــرز منه فيــــه آثارَ وصفهِ

ففي كلِّ مرأىً للحبيب طلائعُ
تَسمّى بأسماءٍ فهنّ مطالِعُ
فـــذلكُمُ آثارُ مَن هو صانِعُ(12)

فهذا العالم كلّه تجلّيات حسنه وبهائه. وقد أحبّ مولانا الكون بأسره لكونه من آثار هذا المحبوب الذي صوّر الكائنات وأبدع الممكنات، وأرسل عليها من أنوار جماله ما أكسبها وجودها. فالموجودات ليس لها وجود من ذاتها، وإنّما هي ظِلال تستمدّ وجودها من الجميل الذي هو نور السموات والأرض. لذلك فإنّ العشق يجب أن يتجّه إلى هذا الجميل، إلى هذا النور الأصيل الذي أشرق على السموات والأرض فأعارها من بهائه ما تمتّعت به من بهاء. يقول مولانا مُعرِبًا عن ذلك: <كان شعاعًا على جدارهم، وعادت تلك العلامة نحو الشمس (الساطعة)!!. وكلّما يقع هذا الشعاع على شيء، تقوم أنت بعشقه أيّها الشجاع وعشقك لكلّ ما هو في الخليقة، هو بالنسبة لصفة الحقّ كان طلاء ذهب. فالذهب من فوق الزيف يمضي إلى معدنه، فامضِ أنت أيضًا نحو المعدن حيثما يمضي. ويمضي النور من الجدار نحو الشمس، فامضِ أنت أيضًا نحو الشمس الجديرة بالمعنى>(13).
فمولانا يرى أنّ على الإنسان أن يرحل عن الزيف الملتمع البرّاق إلى المعدن الأصيل النفيس الذي هو منبع الجمال، كما عليه أن يرحل عن الظلال إلى النور الحقّ.
ويمكننا هنا أن نستعين بما ذهب إليه الشيخ الأكبر في هذا السياق عندما أشار إلى أنّ الحبّ الإلهي مرتبط باسمه الجميل والنور، وفي ذلك قال: <واعلم أنّ الحبّ الإلهي من اسمه الجميل (النور) فيتقدّم النور إلى أعين الممكنات، فينفّر عنها ظُلمة نظرها إلى نفسها وإمكانها، فيحدث لها بصرًا هو بصره، إذ لايرى إلاّ به، فيتجلّى لتلك العين بالاسم الجميل فتتعشّق به، فيصير عين ذلك الممكن مظهرًا له. فيبطن العين من الممكن فيه، وتفنى عن نفسها فلا تعرف أنّها محبّة له سبحانه ولهذا يوصف هذا النور بأنّ له أشعّة، أي أنّه شعشعانيّ لامتداده من الحقّ إلى عين الممكن ليكون مظهرًا له. فإذا جمع من هذه صفته بين المتضادّات في وصفه، فذلك هو صاحب الحبّ الإلهي.... فعلامة الحبّ الإلهي حبّ جميع الكائنات في كلّ حضرةٍ معنويّةٍ أو حسّيّةٍ أو خياليّةٍ أو متخيّلةٍ. ولكلّ حضرةٍ عينٌ من اسمه النور تنظر بها إلى اسمه الجميل فيكسوها ذلك النور حلّة وجود>(14).
وهذا الحبّ للممكنات ينبغي أن يرقى دائمًا إلى التجريد، سواء نظر الإنسان إلى الجمال في ذاته، أو في سائر ما يحيط به من كائنات، وذلك ليدرك سرّ الجمال الكلّي الذي هو معدن كل جمال، ونور كلّ بهاء.
كمِّلْ بعشقِ جمال الكون نفسك إن
فإنّما النفس كالمرآة إن ظهرت
وجــرّد الحسن عــن ظلٍّ يقاربه

أردت تكشف سرّ العاَلَمْين معا
أرتك فيها جمال الكلّ منطبعا
تدركه فيك بأفق النفس‌قد‌طلعا(15)

ولذلك نرى مولانا يشير إلى ضرورة جلاء الصدأ عن مرآة النفس لتدرك معنى الجمال، ومعنى عشق هذا الجمال، يقول في ذلك: <إنّ العشق يريد أن يصدر منّي هذا الشعر، وإن لم تكن المرآة منبئة فماذا تكون؟ أتدري لماذا لا تنبئ مرآتك؟ ذلك لأنّ الصدأ لم يُجلَ عن وجهها>(16).
ولا يمكن أن تدرك مرآة النفس علومها إن لم يشرق عليها نور الحبيب، فيكسوها حلّة الوجود، ويكسوها حلة الإدراك، لتقوى ذائقتها. يقول مولانا في هذا المعنى الجليل: <فكيف يكون لي علم بما أمامي وبما ورائي، إن لم يكن نور حبيبي أمامي وورائي>(17).
لقد أدرك مولانا أنّ العشق له فاعليّة كبيرة في حركة الوجود. ولا بدّلنا هنا من الإشارة إلى أنّ للسهروردي حكيم الإشراق مذهبًا مماثلاً لذلك، وقد شرح في <هياكل النور> الحركة العشقيّة القائمة في عالم الأفلاك وفق قانوني القهر والمحبّة، الأمر الذي ترتّب عليه دوام تجدّد الإشراقات والحركات الفاعلة في حادثات العالم السفلي، وممّا قاله في ذلك: <فلكلٍّ من الأفلاك معشوق من العالم الأعلى، وهو نور قاهر، وهو سببه، وممدّه بنوره، وواسطة بينه وبين الأوّل تعالى، من لدنه يُشاهدُ جلاله، وتُنال بركاته، فتنبعث من كل إشراق حركة، ويستعدّ بكلّ حركة لإشراقٍ آخر. فدام تجدّد الإشراقات بتجدّد الحركات، ودام تجدّد الحركات بتجدّد الإشراقات، ودام بتسلسلهما حدوث الحادثات في العالم السفلي>(18).
هذا الذي ذكره السهروردي أكّده مولانا موضحًا أنّ الحياة بكلّ مظاهرها تعبرّ عن تجلّيات العشق، فسرّ الجاذبيّة القائم بين الممكنات مستمدّ من العشق، لذلك هام بعضها ببعض ضمن قانون الحركة الشوقيةّ القائمة فيها بينها، ولكن الحكيم من يدرك أنّ الأشواق المتّجهة إلى الذات الفانية هي أشواق فانية، أمّا الأشواق الحقيقيّة فهي المتّجهة إلى الحيّ الذي لايموت. يقول مولانا في إشارات لطيفة إلى هذه المعاني: <وما أكثر المنعّمين الذين يحملون الشوك، أملاً في محبوب قمريّ الوجه، ورديّ الوجنة. وما أكثر الحمّالين الذين صاروا ممزّقي الظهور من أجل محبوباتهم الفاتنات ذوات الوجوه كالأقمار. وذلك الحدّاد سوّد وجهه الجميل، حتّى يقبّل القمر عندما يجنّ الليل. والسيّد مسمّر في حانوت حتّى الليل، ذلك أنّ "سروة" ممشوقة القوام قد مدّت بجذورها في قلبه. وتاجر ما يمضي في البرّ والبحر، لكي يسرع بحبّ نحو قعيدة منزل. إنّ لكلّ واحدٍ منهم شهوة مع ميت، أملاً فيمن عنده ملامح حيّ..... فكن مجتهدًا على أمل الحيّ الذي لا يتحوّل بعد يومين إلى جماد>(19).
ولمولانا إشارات أخرى يتحدث فيها عن العاشق والمعشوق فيقول: <والكلّ معشوق، والعاشق مجرّد حجاب، والمعشوق حيّ، والعاشق إلى موت. ولو لم يقم العشق برعايته، يبقى كطائر بلا جناح، ويل له> (20).
إنّ فناء العاشق في عشق الحي هو عين بقائه، فإذا كان مقام العشق هو أقصى مقامات الذهول والغيبة عن الحسّ والاتصال بالعالم الروحاني، فهذا يعني الدخول في حياة جديدة متجدّدة يشاهد فيها العاشق وجه الحبيب ويستغرق في بحر بهائه العظيم. يقول مولانا في ذلك: <وللعشّاق في كلّ لحظة موت، وموت العشّاق في حدّ ذاته ليس من نوع واحد. إنّ له مائتي روح من الهدي، يضحّي بها كلّها في لحظة واحدة. وكلّ روح يأخذها يردّها بعشرة أرواح000 فإن سفك دمي ذلك الحبيب الوجه، فإنّني أضحّي بروحي أمامه راقصًا. لقد جرّبت الأمر، وموتي في حياتي، وعندما أنجو من هذه الحياة فهذا هو الثبات>(21).
إنّ فوائح الحبيب العطريّة التي اشتمّها مولانا في حضرة القرب ترجمت له معنى البقاء والثبات الذي عجزت اللغات عن الإعراب عنه فقال: <وعندما يتضوّع أريج ذلك الحبيب، تتحيرّ كلّ هذه اللغات>(22).
فحال العاشق يُغني عن مقاله، لأنّه في حال تلقٍّ لوهبٍ لدنيٍّ يذوقه باطنه، ويترجمه ظاهره ترجمة كلّيّة مجملة تنصهر فيها اللغات وتنحلّ إلى لغة واحدة هي لغة العشق في مدرسة الحبيب. يقول مولانا معربًا عن هذه الصلة العشقية بين المخلوق والخالق: <لقد صار حسن الحبيب هو المدرّس للعشّاق، ودفترهم ودرسهم وواجبهم المدرسي هو وجهه. إنّهم صامتون، لكن صيحات <وجدهم> المتوالية تمضي حتى عرش محبوبهم. ودروسهم الضجّة والدوران والزلزلة، لا الزيادات أو باب السلسلة(23). إنّ سلسلة هؤلاء القوم هي جديلة الحبيب الفوّاحة بالمسك: والمسألة هي الدائرة، لكن حول الحبيب>(24).
إنّ ثمرة العشق تتجلّى في العلوم الوهبيّة التي تنفتح لها آفاق البصيرة في الذات العاشقة المتَّجهة نحو وجه الحبيب، فيغدو لها طريقها الخاص في تحصيل المعرفة من هذا السبيل، لا من سبل العقل أو النقل أو الكسب العلمي. يقول مولانا: <وفي تلك الناحية التي زاد فيها العشق الألم، لم يدرس الشافعي وأبو حنيفة>(25).
ولمّا كان العشق هو الابتهاج بتصوّر حضرة ذات ما، والشوق هو الحركة إلى تتميم كمال ما(26)، فإنّ الجاذبيّة القائمة على طلب الكمال تجعل المعشوق مجذوبًا إلى العاشق كما العاشق مجذوب إليه، وكلّ منهما يطلب الآخر، ليتحقّق معنى التكامليّة الوجوديّة المفضي إلى الكمال المطلق وإلى التوحيد.
وقد أشار مولانا إلى ذلك قائلاً: <ولا يوجد عاشق قط يكون باحثًا عن الوصل، ولا يكون معشوقه باحثًا عنه>(27).
كما أكّد مولانا أنّ مظاهر التجاذب القائمة بين الذكورة والأنوثة مرتبطة بحكمة الإله في بقاء الخلق، وعبّر عن ذلك بقوله: <لقد وضع الحقّ الميل في الرجل والمرأة، حتّى تجد الدنيا البقاء من الاتّحاد>(28).
وهذا التجاذب ينسحب كذلك على سائر أجزاء المخلوقات لتحقيق غاية البقاء، وممّا قاله مولانا في ذلك: <ويضع أيضًا الميل في كلّ جزء إلى جزء، ومن اتّحادهما معًا يوجد ميلاد>(29).
ويذكر مولانا أمثلة وجوديّة عديدة تفصح عن معنى العشق والجاذبيّة فالليل والنهار، والأرض والسماء، والعطش والماء، والذكورة والأنوثة، كلّ ذلك مقهور تحت أحكام العشق ضمن ثنائيّة متكاملة، وزوجيّة جاذبة، تعرب عن معنى الكمال، ومعنى الوجود، ومعنى الخلق، ومعنى التوحيد. وهي في خطوط صاعدة هابطة تشكّل دائرة حول الحبيب الذي هو القِبلة والمقصد. ومن الحِكَم التي نثرها مولانا في هذا السياق قوله: <إنّه جذب الماء ذلك العطش الموجود في أرواحنا، إنّه لنا ونحن أيضًا له. وكلّ جزء من العالم طالب لزوجه، تمامًا كما "يجذب" الكهرمان قطع القشّ. وتقول السماء للأرض: مرحبًا، إنّني معك "كما يكون" حجر المغناطيس وبرادة الحديد. وبدون الأرض متى ينمو الورد والأقحوان؟ وماذا يتولّد إذن من ماء السماء وحرارتها؟ ومن أجل هذا يكون الميل في الأنثى إلى الذكر، حتّى يكمل كلّ منهما الآخر. والليل هكذا مع النهار في اعتناق، إنهّما مختلفان في الصورة لكنّهما في اتفاق. كلاهما طالب للآخر مريد لنفسه، وهذا من أجل إكمال فعله تعالى وأمره(30).
ومن هذه الجاذبيّة التي تحقّق البقاء، عبر مولانا إلى الحديث عن الجاذبيّة التي تعود بالمكوّنات إلى الفناء فقال: <وجذب هذه الأصول لفروعها يضع في كلّ لحظة ألمًا على أجسادنا فتتمزّق كلّ هذه التراكيب ويعود طائر كلّ عنصر محلّقًا إلى أصله>(31).
وهكذا يدور البقاء والفناء في فلك العشق الخالد وهما واقعان تحت قهر المحبّة السارية في سائر الكائنات، وهذا ما دعا مولانا للقول: <وكهرباء العشق مستمّرة بشكل لا انقطاع فيه>(32).
و<دين الحبّ> الذي آمن به ابن عربي نراه متجلّيًا في مرآة مولانا في قانون الجاذبيّة، الأمر الذي جعله يقول: <وكسب الدين هو العشق والجذب الداخلي، والقابليّة لنور الحقّ، أيّها الحرون>(33).
وهذه القابليّة لنور الحقّ تجعل قلب المرء مرآةً قابلةً لجميع الصور التي هي تجلّيات متنوّعة لحقيقة واحدة معربة عن إبداع الحبيب، ومن هنا تستمّد القاعدة الإحسانيّة أسباب تمكّنها، فيحدث الانفتاح الدينيّ القائم على الحبّ وتنتفي المذهبيّات الضيّقة التي يقوم فيها كلّ مذهب بمحاولة إزاحة الآخر في جوٍّ من التنافر المناقض لحقيقة الجمال المتجلّي في الانسجام الوجوديّ. يقول مولانا معربًا عن هذه المعاني: <إنّ العشق ذو غربة عن العالمين، والاثنان والسبعون> مذهبًا، فيه من قبيل الجنون. ومذهبه غير الاثنين والسبعين مذهبًا، وعروش الملوك <إلى جواره> مجرّد جبيرة ساق>(34).
إنّ سموّ العشق جعل لأربابه مذهبًا إحسانيًّا قائمًا على ذوق معاني الجمال وأنواره المتّسمة بالانسجام، فوقفت جميع المذاهب دون أعتابه القدسيّة.
وعود على بدء أعود إلى أذواق مولانا في العشق، تلك الأذواق التي لايمكن ضبطها في عبارة مستوعبة، لأنّ طاقة الجاذبيّة المودعة في العشق والتي هي كهرباء الوجود أكبر من أن تحدّها الألفاظ، أو يدركها العقل. ولذلك قال مولانا: <والعقل حائر: أيّ عشق هذا وأيّ حال؟>(35).
<إنّ مطرب العشق يتغنّى بهذا وقت السماع، العبوديّة قيد والسيادة صداع. إذن فماذا يكون العشق؟ إنّه بحر العدم، لقد حطّمت العقل هنا القدم. صارت العبوديّة والسلطنة معلومتين وعن هذين الحجابين كتم العشق. وليت الوجود كان ذا لسان، حتّى يرفع الحجب عن الموجودات. وكلّ ما تقوله يا نفس الوجود عن الوجود، اعلم أنّك قد وضعت به حجابًا آخر عليه>(36).
وبين الحال والمقال يحار الإدراك ويرتد عاجزًا عن فهم حقيقـة العشق وهذا ما عبّر عنه مولانا بقوله: <إنّ آفة الإدراك هو ذلك المقال والحال، وغسل الدم بالدم محال محال>(37).
وهكذا يعاني العاشق ازدواجيّة البوح والكتمان فلا هو قادر على الإعراب عن السرّ، ولا هو قادر على الإخفاء والستر، يقول مولانا في هذا المعنى اللطيف: <وعندما يتحدّث اللسان عن سرّه وعن لطفه، تتلو السماء قائلةً: يا جميل الستر. وكيف أسعى في إخفاء سرّه، وهو يطلُّ كالعَلَم قائلاً: ها أنذا أقول له: اِمض، فبالرغم من أنّك في غليان، إلاّ أنّك كالروح خفيّ وظاهر>(38).
وهكذا يمضي مولانا في أحاديثه عن العشق... هذه الأحاديث الملوّنة بألوان أحواله، وألوان أذواقه اللامتناهية لأنّ إمداده من حضرة الغيوب وهي حضرة الديمومة التي لا تعرف الفناء. وفي ظلّ هذا الإمداد رأى الروح والجسد خمرًا وإبريقًا فقال: <إنّ العشق يُنضِج خمر التحقيق، ويكون "هو" الساقي الخفي للصديق. وعندما تبحث أنت بالتوفيق الحسن، تكون الخمر هي ماء الروح والإبريق هو الجسد. وعندما تزيد في خمر التوفيق، فإنّ قوّة الخمر تكسر الإبريق. يتحوّل الماء إلى ساقِ، ويثمل بالماء، ولا تقل لي كيف؟ الله أعلم بالصواب>(39).
إنّ خمر الروح أثملت مولانا لأنّه رأى فيها شعاع الساقي(40)، ونور الحبيب، ووجه الحيّ القيّوم الذي كلُّ جمالٍ وبهاء مستمد من بهائه.
لقد ارتسم عشقه على شكل دائرة، لأنّه أدرك الجاذبيّة الوجوديّة ودوران المكوّنات حول مكوّنها، وإن كانت بسرّ العشق تتجاذب فيما بينها، فلولا هذه الطاقة الإلهيّة المحرّكة لها، ما كان لها من ذاتها حركة، ولذلك فإنّ مظاهر العشق مهما تعدّدت وتكثّرت فإنّها تؤول إلى حقيقة واحدة مركزها وجه الحبيب، نقطة الدائرة التي تتشكّل حولها الخطوط الكونيّة في صعود وهبوط ضمن حركتي البقاء والفناء. وللبقاء قوانين جاذبيّة، وللفناء قوانين جاذبيّة، وللأفلاك قوانين جاذبيّة، وللروح والجسد قوانين جاذبيّة، ولليل والنهار قوانين جاذبيّة ، وللذكر والأنثى قوانين جاذبيّة. وهكذا فكلّ ذرّةٍ في الكون تتحرّك وفق قوانين العشق والجاذبيّة إلى أن تكسر قوّة خمر الروح إبريق الجسد، فتنحلّ العناصر وتضمحلّ المكوّنات، وتتبدّد الهياكل، وتنمحي الصور، ويذوب ثلج الموجودات ليرتدّ إلى أصله المائيّ الذي يحمل في ذاتيّته سرّ الحيّ القيّوم، والمعشوق الأوحد الذي له البهاء الأعظم والجلال الأرفع، وهو الخير المحض والنور والجمال.
وابتهاج المخلوقات جميعًا بوجه الحبيب، وانجذابها له ومحبّتها إيّاه، كـلّ ذلك لأنّها مقهورة تحت سلطان كماله وقوّة إيجاده لها. فتكون حركة العناصر في دائرة الوجود مسيّرة بالعشق القاهر أو قهر العشق، وخير ما يمكن أن نختم به بحثنا هو قول مولانا: <إنّ سلسلة هؤلاء القوم هي جديلة الحبيب الفوّاحة بالمسك، والمسألة هي الدائرة، ولكن حول الحبيب>(41).

الهوامش:
ــــــــــــــ
1- المثنوي، الكتاب الأوّل، البيت:34.
2- المثنوي، الكتاب الأوّل، البيت:12.
3- روائع من الشعر الفارسي، ص:4.
4- المثنوي، الكتاب الأوّل، الأبيات:1،2،3،4،5،6،7،8،9،10.
5- المثنوي، الكتاب الأوّل، البيت:4.
6- المثنوي، الكتاب الأوّل، البيتان:25،26.
7- المثنوي، الكتاب الأوّل، البيت:112.
8- المثنوي، الكتاب الأوّل، البيت:113.
9- المثنوي، الكتاب الأوّل، البيت:114.
10- المثنوي، الكتاب الأوّل، البيت:115.
11- المثنوي، الكتاب الأوّل، الأبيات:218،219،220.
12- المعارف الغيبيّة شرح العينيّة الجبليّة. ورقة:45/مخطوط.
13- المثنوي، الكتاب الثالث، الأبيات:552،553،554،558،559.
14- الحبّ والمحبّة الإلهيّة، ص:78.
15- مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب: ص:24.
16- المثنوي، الكتاب الأوّل، البيتان:33،34.
17- المثنوي، الكتاب الأوّل، البيت:32.
18- هياكل النور، الهيكل الخامس، ص:56.
19- المثنوي، الكتاب الثالث، الأبيات:540،541،542،543،544،545،546.
20- المثنوي، الكتاب الأوّل، البيتان: 30-31.
21- المثنوي، الكتاب الثالث، الأبيات:3836،3837،3838،3839،3840.
22- المثنوي، الكتاب الثالث، البيت:3845.
23- إشارة إلى أسماء بعض كتبه الفقه.
24- المثنوي، الكتاب الثالث، الأبيات:3849،3850،3851،3852.
25- المثنوي، الكتاب الثالث، البيت: 3834.
26- مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق، التلويحات، ص:91.
27- المثنوي، الكتاب الثالث، البيت:4396.
28- المثنوي، الكتاب الثالث، البيت:4418.
29- المثنوي، الكتاب الثالث، البيت:4419.
30- المثنوي، الكتاب الثالث، الأبيات:4402،4405،4406،4416،4417، 4420،4421.
31- المثنوي، الكتاب الثالث، البيت:4433.
32- المثنوي، الكتاب الثالث، البيت:4450.
33- المثنوي، الكتاب الثاني، البيت:2611.
34- المثنوي، الكتاب الثالث، البيتان:4722،4724.
35- المثنوي، الكتاب الثالث، البيت:4720.
36- المثنوي، الكتاب الثالث، الأبيات:4725،4726،4727،4728،4729.
37- المثنوي، الكتاب الثالث، البيت:4730.
38- المثنوي، الكتاب الثالث، الأبيات:4735،4737،4739.
39- المثنوي، الكتاب الثالث، الأبيات:4745،4746،4747،4748.
40- المثنوي، الكتاب الثالث، البيت:4749.
41- المثنوي، الكتاب الثالث، البيت:3852.

الطبعات المعتمدة للمصادر
- مثنوي مولانا جلال الدين الرومي. ترجمه وشرحه وقدّم له: د.إبراهيم الدسوقي شتا. ط/ القاهرة1416هـ- 1996م.
- الحبّ والمحبّة الإلهيّة من كلام ابن عربي. محمود الغراب. ط/ دمشق- دار الفكر 1404هـ- 1983م.
- مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب. الدبّاغ القيرواني، عبدالرحمن ابن محمّد الأنصاري ط/ بيروت 1959م.
- هياكل النور. السُّهْرَوَرْدي. تصحيح وضبط حسن السماحي ط/ دمشق- بيروت. دار الهجرة للطباعة والنشر والتوزيع. 1413هـ-1993م.
- مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق. السُّهْرَوَرْدي. تصحيح هنري كربين. ط/إيران.
--------------------------------------------------------------------------------
[*] - أستاذة جامعية سورية.

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية   (بازدید: 2732)   (نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر   (بازدید: 2651)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة   (بازدید: 4194)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة   (بازدید: 6849)   (نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ   (بازدید: 2882)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي   (بازدید: 3253)   (نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان   (بازدید: 4255)   (نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا   (بازدید: 2147)   (نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن   (بازدید: 4151)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي   (بازدید: 1352)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي   (بازدید: 4058)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية   (بازدید: 1214)   (نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين   (بازدید: 2170)   (نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة   (بازدید: 1819)   (نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة   (بازدید: 1639)   (نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة   (بازدید: 1023)   (نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب   (بازدید: 1061)   (نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي   (بازدید: 1540)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها   (بازدید: 843)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان   (بازدید: 888)   (نویسنده: سيد موسى الصدر)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]