banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

من الاستشراق إلى حوار الحضارات - روسيا و المسلمين نموذجًا - 2
ثقافتنا - العدد 15

عبد الله أبو هيف
1428

ثم تخلص دولينينا إلى أن لا ضرورة لدراسة هذه الرواية وفق قوانين تحليل الأعمال الفنية وحدها، فالجانب الوعظي أو الوعظي ـ الإدراكي يضطلع بدور هام جدًا في الرواية التأريخية لفترة النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (سليم البستاني وجميل مدور وجرجي زيدان) وفي الروايات ـ المقامات (المويلحي وحافظ إبراهيم) وتعلل هذا التأثير باستمرار تقاليد الأدب التهذيبي الفنية جدًا لدى العرب.
ومن وجهة النظر هذه يمكن أن نصف الرواية النهضوية العربية بأدب القرن التاسع عشر والحق، إن هذه الاستنتاجات تتناسب مع الظروف التي أحاطت بنشأة الرواية نحو التوكيد على وظيفة القصة والرواية بالدرجة الأولى، لقد استخدمت على الدوام العناصر الفنية وطوعت لصالح الوظيفة التعليمية والتربوية بالدرجة الأولى.
إن استعراضنا لموقف المستعربتين دولينينا وكيربيتشنكو من قضية تطوير الأجناس الأدبية الحديثة ولا سيما القصة والرواية، يعكس التعمق الأمين لفهم التطور التاريخي الثقافي والاجتماعي الذي نظر المستعربون السوفييت إلى تطور الأدب العربي الحديث من خلاله، وهذه الأمانة العلمية النقدية في فهم تاريخ الأدب العربي الحديث هي في أساس الفائدة المعرفية والإنسانية للتقاليد الأدبية العربية التي حاول الاستعراب السوفييتي أن يسهم في الكشف عنها وتثميرها لصالح البحث في التطور القومي للأدب العربي الحديث، ووحدة العملية الأدبية العربية المستمرة مستندا إلى إنجازات الأدب العالمي وثراء الإبداع الخلاق الذي يطوره القصاصون والروائيون العرب من مرحلة لأخرى.

3- نجيب محفوظ في مرايا الاستشراق السوفييتي:
حسنًا فعل القاص والناقد أحمد الخميسي بإصداره كتاب «نجيب محفوظ في مرايا الاستشراق السوفييتي»(12) وهو المقيم في موسكو منذ قرابة ثلاثة عقود من الزمن. فمثل هذه الدراسة تحقق، فيما تحققه، أمرين معرفة مكانة الثقافة والرواية العربية في عيون الخارج، وصورة واضحة لما بلغه المستشرقون من إحاطة وعمق، وهو ما لاحظه الخميسي في حالة الاستعراب السوفييتي الذي رسخ تقاليده متميزًا عن حالات استشراق أو استعراب أخرى. ويهتم الكتاب بمكانة نجيب محفوظ، كأبرز روائي عربي في الاستعراب السوفييتي ومكانة الأدب العربي بعد ذلك.
يتناول هذا الكتاب ما كتب عن نجيب محفوظ في الاتحاد السوفييتي قبل فوزه بجائزة نوبل وبعده: دراسات المستشرقين وردود أفعال الصحافة وما اشتملت عليه الموسوعات الكبرى حول أديبنا ومقدمات ما ترجم من رواياته ورسائل الدكتوراه التي أعدها المستشرقون عن العالم الروائي لكاتبنا الكبير.
ويشتمل الكتاب على مجموعة مختارة من المقالات التي كتبها المستشرقون السوفييت أو عن أعماله ولا يجمعها في الأصل كتاب واحد، وهناك كتب كثيرة تتناول مختلف نواحي الأدب العربي الحديث بالدراسة والتحليل، وتتعرض كل تلك الكتب بدرجة أو بأخرى لما كتبه نجيب محفوظ وأثره الفكري والأدبي، ولكن الخميسي اختار المقالات المكرسة لأديبنا الكبير وحده، ومن هذه الدراسات ما كتبته «فالنتينا تشير نوفسكايا» تحت عنوان «الأنتلجنسيا المصرية في رواية «المرايا» وهي قراءة خاصة وممتعة لرواية «المرايا» والدراسة مأخوذة من كتاب لهذه المؤلفة بعنوان «تكوّن الأنتلجنسيا المصرية» (صدر عام 1979 بموسكو عن دار نشر العلم).
وهناك بحث مطول يتألف من عدة مقالات للمستعربة المعروفة «فاليريا كير بتشنكو» بعنوان «البحث عن الطريق: دراسة في روايات نجيب محفوظ القصيرة»، وأخذت الدراسة من كتاب صدر في موسكو عام 1978 للمؤلفة بعنوان «الأدب المصري في الستينيات والسبعينيات» عن دار نشر «العلم» أيضًا.
ويضم الكتاب عرضًا وافيًا لرسائل الدكتوراه التي أعدها المستشرقون في أدب نجيب محفوظ ونالوا عنها درجة الدكتوراه، وهي خمس رسائل:
- الأولى: «الثلاثية إبداع الواقعية النقدية» للمستشرق الروسي «روشين» عام 1967.
- الثانية: «الروايات الاجتماعية الأولى لنجيب محفوظ» «للسيدة كاش محمد وفا» عام 1970.
- الثالثة: «قضية البطل في روايات نجيب محفوظ» «للسيدة أ. ج. ناد» عام 1971.
- الرابعة: هي رسالة السيدة «لوتس بوراجيفا» وعنوانها «الروايات التاريخية في أدب نجيب محفوظ» عام 1986.
- أما الخامسة والأخيرة: فهي «تنامي النزعة المعادية للبرجوازية في أدب نجيب محفوظ» للسيد علي زاده زاردوشت عام 1986.
ويشير الخميسي إلى أن ثمة رسائل دكتوراه أخرى كتبها الباحثون العرب في جامعات الاتحاد السوفييتي ومعاهده، ولكنه تجاهلها لوقوعها خارج نطاق الاستشراق.
وفي عرض الخميسي مقدمته الطويلة لكتابه للمقدمات المكتوبة لروايات نجيب محفوظ بالروسية، وهي مقدمات أشبه بالدراسات النقدية تتوخى عرض جوانب من تاريخ مصر الحديثة وتاريخ الثقافة فيها ودور كاتبنا فيها، وتشتمل إحدى تلك المقدمات على حوار أجراه «أناتولي أجاريشيف» مع نجيب محفوظ، ولم ينشر إلا بالروسية.
ومن ثم فإن هذا الكتاب، كما يعترف الخميسي نوع من التجميع والترجمة والعرض وكان يود لو أسبقه بمقدمة مطولة عن تاريخ علم الاستشراق السوفييتي، ولكنه أرجأ هذه المحاولة لوقت آخر لئلا يعطل هذا الكتاب عن الصدور طويلاً.
وأثار الخميسي في مقدمته حول جائزة نوبل الأسئلة التالية:
* أولاً: هل يستحق محفوظ الجائزة بالفعل؟
* ثانيًا: هل منحته الأكاديمية السويدية الجائزة لموقفه السياسي من «كامب ديفيد» وتأييده لها؟
* ثالثًا: الانطلاقة من موقف نجيب محفوظ السياسي للقول بأنه أديب رجعي يدفع للتساؤل: هل تنسخ مواقف الأديب السياسية قيمة أعماله الأدبية؟ وفي صياغة أخرى هل يمكن للأديب أن يكون رجعيًا وتقدميًا في آن واحد؟
ثم نقل هذه الأسئلة المنهجية إلى صياغتها على النحو التالي:
* أولاً: هل لدينا أدباء عرب يستحقون الجائزة؟
* ثانيًا: هل جائزة نوبل تتويج من الغرب لمن يرضى عنهم من الكتاب والأدباء؟
* ثالثًا: ما علاقة الأدب بالجانب الإيديولوجي السياسي؟
والنتيجة هي أنها أسئلة عامة وجدت في حالة نجيب محفوظ وسطًا ملائمًا للانتعاش والحركة. وخلص الخميسي بعد تمحيصه لإجاباته عن هذه الأسئلة إلى ما يلي:
وأيًا كانت الفلسفة التي يعتنقها نجيب محفوظ وآراؤه عن طرق حل الصراع العربي الإسرائيلي، فإنها لن تمس ما قدمته عبقرية العين الموضوعية للفنان الكبير من نماذج فنية واقعية ومن تصوير للحالة الفكرية للمثقفين على مدى نصف قرن، ولن تمس دوره، وهو دور كبير، فقد أرسى نجيب محفوظ دعائم الرواية العربية الحديثة، وأغناها بنوع لم تكن تعرفه وهو «الرواية الملحمية» وأقام أشكالها المختلفة فكتب الرواية التاريخية والاجتماعية والفلسفية والنفسية، وبلغ بمنهجه الواقعي ذرى لم يعرفها الأدب العربي من قبل، وجمّل لغتنا، ودافع عن النظرة الموضوعية للعالم، والرؤية العقلانية والديمقراطية، وعكس على مدى نصف قرن انكسارات الانعطافات الاجتماعية في وعي المثقفين العرب في مصر.
ووجد الخميسي من هذا التقويم لمكانة نجيب محفوظ تسويغه للاهتمام الكبير لأديبنا في المجتمع السوفييتي. وإن الطغيان الإيديولوجي أو النظري في فهم الأدب هو الغالب على دراسات المستعربين السوفييت، ولكن رياح التغييرات تظهر جلية في دراسة «كيريتشنكو» الصادرة عام 1987 ويكشف هذا المقطع عن أسلوبها كله وعن مدى الانفتاح والعمق الذي صارت إليه دراسات المستعربين السوفييت:
«لقد استطاع نجيب محفوظ في حدود رؤيته الفكرية والفلسفية للمجتمع والإنسان والعالم أن يطرح في نماذج رائعة العديد من القضايا الإيديولوجية التي أضنت الأنتلجنسيا المصرية، وأن يقدم الحلول الجزئية لتلك القضايا، كما خاض جدلاً فكريًا حادًا مع الفكر الإسلامي السلفي، الداعي إلى التواكلية، والقائل بأن الإنسان مسير في حياته، وخاض أيضًا جدلاً فنيًا وفكريًا مع القائلين بأن الوجود عبث، وقام في رواياته بعملية مسح اجتماعي فني للواقع المصري، قلما يستطيع أديب أن ينهض بها، ومن هذه الزاوية فإنه يذكرنا بالعمالقة الكبار: ديكنز وبلزاك».
لقد عومل نجيب محفوظ في المجتمع السوفييتي منذ بداءة الاهتمام به في الستينيات على أنه أحد ممثلي الواقعية النقدية الكبار في عالمنا المعاصر، ودخل اسمه مع أهم الشخصيات الأدبية والسياسية في العالم في أكبر موسوعتين سوفييتيتين قبل فوزه بجائزة نوبل بزمن طويل.
ويشير ثبت المترجم من رواياته إلى تعزيز هذا التقدير، إذ ترجمت روايات نجيب محفوظ إلى أغلب لغات الدول الاشتراكية، وترجمت إلى الروسية رواياته التالية: «اللص والكلاب» عام (1964) و«السمان والخريف» (1965) و«حب تحت المطر» (1975) و«ميرامار» (1975) و«المرايا» (1979)... وغيرها.
قررت دار «رادوجا» للأدب الأجنبي بعد فوزه بجائزة نوبل أن تصدر كتابًا يضم مختارات من رواياته بالإضافة إلى ترجمة رواياته الكبرى «أولاد حارتنا» التي ما زالت ممنوعة في مصر.
أما مقدمات رواياته المترجمة إلى الروسية فتحصر في مقدمتين:
* الأولى: كتبها «ستيانوف» عام 1975 لكتاب جمع ترجمة «ميرامار» و«حب تحت المطر».
* والثانية: كتبها «أجاريشيف» عام 1979 لترجمة «المرايا»، وتشتمل على حوار مع محفوظ لم ينشر إلا بالروسية.
وما عدا ذلك فإن «اللص والكلاب» الصادرة عام 1964 سبقتها مقدمة مطولة للشاعر الراحل جيلي عبد الرحمن (السودان)، وهو من أهم الشعراء العرب ومقيم في موسكو آنذاك أي أنها بقلم عربي، فلا تدخل في الاستشراق.
ومن الملاحظات الذكية في هذه المقدمات، ما كتبه أجاريشيف:
«من ناحية أخرى، فإننا نرى في «المرايا» تقاليد كتب الأخبار العربية القديمة وهي كتب كانت تجمع سير حياة الناس والشخصيات الهامة، مثال ذلك كتاب أبي حيان التوحيدي (القرن الحادي عشر) الذي جمع فيه ذكرياته لمن عاصره من الشعراء والمفكرين الذين عرفهم. وفي كتاب أبي حيان ـ كما في مرايا محفوظ ـ عرض للمشكلات والقضايا الهامة الفلسفية والفكرية والسياسية للعصر، وبينما يخفي نجيب محفوظ وجوه أبطاله الحقيقية بأقنعة فنية فإن أبا حيان يتحدث عنهم بأسمائهم الحقيقية وتواريخ حياتهم الفعلية».
وتوقفت «تشيرنوفسكايا»عند رواية «المرايا» نفسها مليًا في كتابها «تكون الأنتجلنسيا المصرية» الصادر عام 1979، وتقول بعد تحليلها المعمق للرواية:
ونلاحظ في ذلك المجال، أن أبطال نجيب محفوظ التقدميين جميعًا هم مفكرون يعقدون آمالهم على حيوية الدوائر المثقفة في العاصمة: الطلبة أساسًا ثم الموظفين، ولكنهم لا يعقدون آمالهم على الجماهير الشعبية، ولهذا يقتصر نشاطهم السياسي على الحقات المعزولة والمنظمات السرية المعزولة. ولعزلتهم عن الجماهير فإنهم يرتكبون ويضطربون عشية الثورة عام 1952.
من الواضح أن الاستعراب السوفييتي قد وجه جهده الأساسي لنقد فكر نجيب محفوظ وتجلياته الاجتماعية اتفاقًا مع التطبيق الماركسي اللينيني للأدب والفن، متجاهلاً إلى حدّ ما التفكير الأدبي بالتقنية والصنعة والتركيب الفني، ولا ترد مثل هذه الاهتمامات النقدية إلا في السنوات العشر الأخيرة. أما الدراسات المقارنة حول أدب نجيب محفوظ، فالإشارات إليها أقل.
إن عنوانات ما كتب عن محفوظ تعكس بوضوح هذا النزوع إلى دراسة موضوع روايات نجيب محفوظ بالدرجة الأولى، وثمة ملاحظة أخيرة، هي أنه لا يوجد كتاب شامل عن مسيرة نجيب محفوظ الأدبية والروائية كما يكشف عن ذلك كتاب الخميسي.
إن كتاب الخميسي «نجيب محفوظ في مرآة الاستشراق السوفييتي» تعبير بالغ الدلالة عن الشأو الذي بلغه الاستعراب السوفييتي في تعزيز حوار الثقافات بروح الأصالة واحترام العربي على أنه وثيقة حية عن الإبداع العربي في هذا الزمن في عيون الآخرين.

4- الأدب الجزائري في مرآة الاستشراق الروسي:
وننظر في نموذج آخر هو «الأدب الجزائري في مرآة استشراقية روسية»(13)، فقد جمع عبد العزيز بوباكير من مصادر مختلفة مقالات لمستشرقين روس عن الروائيين والقصاصين مولود فرعون ومولود معمري ومالك حداد ومحمد ديب وكاتب ياسين والطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة ورشيد بوجدرة، ثم ترجمها، وقدم لها وأرفقها بقائمة أعمال هؤلاء الكتّاب، وهم من أبرز الكتّاب الجزائريين المعاصرين. ويثير الكتاب الجدل حول تحول الاستشراق الروسي في راهنيته أيضًا إلى تنمية الحوار الحضاري من خلال عنايته بقضية تطوير الأجناس الأدبية والقيم الوطنية في الوقت نفسه، وفي مقدمتها قيم الحرية والدفاع عن الوطن وإرادة الاستقلال.
عُرفت الإبداعات الثقافية والفكرية الجزائرية في روسيا على نحو مبكر بفضل حركة الترجمة والبحث، وصدر كتاب «ثقافة الجزائر المعاصرة» عام 1961، مما مهّد لتنامي اهتمام النقد الروسي بالأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية لغلبته على المكتوب بالعربية، ثم توسع الاهتمام إلى الأدب المكتوب بالعربية منذ أواخر ستينيات القرن العشرين إلى اليوم. وعدّ الناقد والباحث فيكتور بالاشوف أول من التفت في روسيا إلى الأدب الجزائري، وأول من وجّه أنظار كوكبة من الباحثين والطلبة نحو هذا الأدب، وكتب عدة مقالات عن أعمال الكتّاب الجزائريين مثل مالك حداد ومولود فرعون، ودخل الأدب الجزائري بفضله «الموسوعة الأدبية الموجزة» عام 1962.
وشرع المستشرقون الروس بنشر أبحاثهم عن الأدب الجزائري وتطوره واتجاهاته الإيديولوجية وخصائصه الجمالية ـ الفنية، وإن غلب على هذه الأبحاث النظر إلى الأدب الجزائري مستقلاً بذاته أو ضمن بحوث متعلقة بتطور الأدب في منطقة المغرب العربي، أو جزءًا من السيرورة الأدبية في القارة الأفريقية.
وأسس لهذه الدراسة الشاملة للأدب الجزائري في روسيا المستشرقات: ايرينا نيكيفوروفا وسفيتلانا وبراجوكينا وغالينا جوغا شفيلي (حفيدة ستالين). وقد وضعت الأولى كتبها «الرواية الجزائرية المعاصرة» (1967) و«أدب النهضة الوطنية» (1968) و«الرواية الأفريقية» ومنها الرواية في المغرب وتونس والجزائر (1977).
وسجلت الباحثة ملامح الفن الروائي الجزائري وخصوصياته عند مبدعيه، مثل محمد ديب وتعبيره في روايته «من يذكر البحر» عن رؤية جديدة للعالم وطريقة جديدة للكتابة، ورأت في إبداع مالك حداد «طفرة جديدة في الرواية الواقعية الجزائرية». وذكرت القليل عن الرواية العربية في الجزائر، وعدّت رواية «ريح الجنوب» لابن هدوقة رواية تنويرية.
وكانت براجوكينا الأكثر عناية بالأدب المغاربي ولا سيما الجزائري في كتبها: «أدب بلدان المغرب المكتوب بالفرنسية» (1973) و«بلدان المغرب: الكتاب المعبرون بالفرنسية في الستينيات والسبعينيات» (1980) و«حدود الثقافات ـ حدود العصور» (1984) (14) ، وترجم بوباكير العنوان: «تخوم عصرين ـ تخوم ثقافتين»، والكتاب الأخير هو الأهم لانطلاقته من تقدير الأدب الوطني الجزائري ومكانته الفنية العالية في الحوار الحضاري، فقد «اهتمت هذه الباحثة بإجلاء مواقف الكتّاب وعقائدهم الجمالية. وحللت في الأجزاء الخاصة بالأدب الجزائري مؤلفات رشيد بوجدرة ونبيل فارس، مبرزة الخصوصيات المميزة لتطور الأدب، وكاشفة عن اشتراكه من الناحية التصنيفية بالسيرورة العامة لتطور الأدب العالمي. ولا يفوتنا هنا التنويه بأهمية كتابها الثالث: «تخوم عصرين ـ تخوم ثقافتين» الذي صدر عام 1984. فهذا الكتاب يحمل طابعًا تعميميًا، ويمثل عصارة اهتمام الباحثة بتطور الأدب المعبر بالفرنسية في منطقة المغرب العربي، وهو يحمل نظرة جديدة مستندة إلى معلومات استعملت لأول مرة في نظرية الأدب في روسيا لإبراز خصوصية تصنيف الأدب في منطقة متجانسة تاريخيًا وحضاريًا، هي منطقة المغرب العربي. وأولت الباحثة اهتمامًا خاصًا لمراحل تشكل الثقافة الوطنية في أحشاء المجتمع الاستعماري، وفي مرحلة الكفاح المناهض للاستعمار، وتطور السيرورة الأدبية بعد نيل الاستقلال. كما درست سفيطلانا براجوغينا في هذا الكتاب مغزى توجه الأدباء في الجزائر وتونس والمغرب إلى نموذج السيرة الذاتية في الرواية، و ارتباط بحوثهم الفنية بتطور الوعي الوطني وبالتحولات الاجتماعية. وأفردت قسمًا هامًا من كتابها لبحث مفهوم الهوية في إبداع الكتاب المغاربة، وطرق حلهم «لصدام» الشرق والغرب و«لقاء» الحضارات» (ص7).
وخلصت براجوكينا إلى النتائج التالية:
- استقرار العلاقات التصنيفية رغم تنوع الأشكال بسبب استعمال لغة واحدة (الفرنسية) وتشابه إيديولوجية الكتاب.
- مقارنة الظواهر الجمالية المشتركة تدل على تشابه تطور نوع رواية السيرة الذاتية في النثر المغاربي.
- تميز تطور المنهج الأدبي بنوع من «التركيبية» نتيجة لاستيعاب التيارات والاتجاهات المختلفة في الأدب العالمي.
- إخضاع عناصر الفلكلور الوطني إلى مبادئ الأدلجة» (ص8).
وعنيت جوغاشفيلي بالأدب الجزائري في مؤلفاتها «السحري والواقع في الرواية الجزائرية المعاصرة» (1975) و«الرواية الجزائرية ذات التعبير الفرنسي» (1976) و«أصول الرواية الجزائرية ذات التعبير الفرنسي» (1980) و«أدب الجزائر» (1980)، واهتمت في مؤلفاتها بجمالية الرواية الفرنسية وبمشكلة الهوية الوطنية في أعمال الروائيين الجزائريين، وقسمت تطور الأدب الجزائري إلى ثلاث مراحل: قبل الحرب، أثناء الحرب، بعد الحرب، ووضعت خصائص كل مرحلة من حيث الشكل والمضمون.
وأجمل بوباكير آراء النقاد الروس في الأدب الجزائري فيما يلي:
- عدم التفريق بين الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية والأدب الجزائري المعبر بالعربية، واعتبارهما فرعين من ظاهرة واحدة رغم اختلاف اللغة والوسائل الفنية.
- اعتبار الأدب الجزائري بفرعيه (العربي والفرنكوفوني) إسهامًا رفيعًا في كفاح الشعب الجزائري من أجل الاستقلال وبناء مجتمع جديد.
- مفهوم الأدب الجزائري لا يضم أعمال الكتّاب ذوي الأصل الفرنسي أو أدب «المتجزئرين» (كامو، بليغري، روا، أوديزيو، روبلس وآخرون)... رغم اعتبار هؤلاء الجزائر موطنًا لهم وموضوع إلهامهم.
- إن المظاهر «الخارجية» للأدب الجزائري المعبر بالفرنسية وتشابهه الشكلي مع الأدب الغربي لا ينزع عنه مسألة تعبيره عن القضايا الوطنية وأدائه للمهمة التاريخية المتمثلة في تحوله إلى صوت للشعب الجزائري أثناء نضاله المناهض للاستعمار.
- وجود فرعين لأدب واحد (بالعربية وبالفرنسية) يدل على وجود أصناف مختلفة للوعي الاجتماعي.
ما زالت البحوث الروسية في الأدب الجزائري مستمرة إلى يومنا هذا. وقد اتخذت في الآونة الأخيرة طابع التخصص والتعمق أكثر في مسائل جوهرية في سيرورة تطور هذا الأدب مثل: التناسب بين التقليد والتجديد والتأريخ لهذا الأدب، ودراسته من الناحية التصنيفية، ومقارنته بآداب أخرى (الآداب المغاربية والإفريقية)، وتحليله كأدب موجه للنخبة وأدب موجه للجماهير. كما بدأت تظهر المحاولات الأولى لوضع تاريخ عام للأدب الجزائري.
وتبدو هذه الآراء جلية لدى استعراض الدراسات حول هؤلاء الروائيين والقصاصين المميزين فذكرت براجوكينا في دراستها عن مولود فرعون أن العبرة من مصيره هي «درس مواطن وممثل أمة، أدرك في وقت حاسم من تاريخها أن واجب الكاتب وواجب المواطن هما كل لا يتجزأ. وانتقل في هذا الظرف بالذات إلى خط النار، لأن الحد لم يعد يعني، بالنسبة إليه، التقاء عالمين وإمكانية توحيدهما بخط الخير والأخوة، لكنه اكتسى مغزاه الأصلي: تخوم عالمين، أحدهما كان عالم المستعمرين، والآخر عالم معذبي الأرض. وبقدر ما كان صعبًا على الكاتب القيام بهذا الاختيار، وبقدر ما كان طريق الثورة أبعد وأعقد، بالنسبة إليه، بقدر ما يُرى، بشكل مقنع، بالنسبة للمعاصرين، هذا الدرس في الشجاعة الوطنية» (ص35).
ووجدت نيكيفوروفا في أدب محمد ديب خلقًا أسطوريًا على مثال «الغيرنيقا»: «كَتَورية من أجل تسمية الأشياء التي ليس لها أسماء دقيقة»، وكمضمون ما يستند إلى اللاوعي الجمعي، ويصبح ملكية لقابلية التأثر الجماعية الحادة بعد أن يصيغه الفنان بطريقة ملائمة. ومع ذلك، فإن محمد ديب لم يستعر ذلك الإحساس بالمأزق المسيطر على روايته، والذي صاغه الفنان طبقًا للمبادئ العامة للمنهج العقلاني في الخلق الأسطوري، من المنبع الجماعي، بل هو نتيجة للميزات الخاصة للمؤلف، التي برزت في بواكير كتبه. ويتضح أن التحام الكاتب بالمنطلق الجماعي وهم، رغم سعي محمد ديب إلى الاحتكاك به على امتداد دربه الإبداعي. ذلك أن المؤلف يبتعد عنه حينما يعتقد أنه قريب منه» (ص43).
وحللت جوغاشفيلي الجانب الرمزي في رواية «نجمة» لكاتب ياسين، وكشفت بنيتها العميقة:
«الجانب الأول مادي، ويخص تقاليد المقاومة عند كل البلوتيين (والذي انعكس في وقائع حقيقية في حياة الأبطال الأربعة للكتاب، ابتداء من انفجار الاحتجاج العفوي: قتل مراد لريكار، الغني السادي، وصفعة لخضر للسيد ارنست، مسؤول ورشة البناء) وانتهاء بالمظاهر الواعية للمقاومة المنظمة (مشاركة رشيد في تنظيمات وطنية مختلفة، ولخضر ومصطفى في مظاهرات ماي 1945 بسطيف).
وأخيرًا الجانب الآخر، وهو رمزي فلسفي، ويخص الحب القاتل للرفاق الأربعة «لنجمة»، التي هي ليست امرأة فاتنة فحسب، وإنما هي رمز للوطن الرائع والمعذب، بتاريخه البسيط والمأساوي على حد السواء» (ص65).
واتفق ل. ستيبانوف مع النقاد على أن الجازية عند عبد الحميد بن هدوقة (في روايته الجازية والدراويش) «عمل فني شعبي حقيقي بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. وهو يتضمن مشاهد ساطعة ورائعة، تنقل روح القرية الجزائرية نفسها بتقاليدها وطقوسها. ما أروع الزردة ورقصات الدراويش ولحسهم المناجل المتوجهة (وتحوي الرواية أيضًا الكثير من الأمثال السائرة والحكم المأثورة والنكت المعبرة الهادفة، التي يعقبها أحيانًا هجاء قادح). وتبرز الطبيعة الجبلية الموحشة كخلفية للأحداث العاصفة، وكأنها شخصية قائمة بذاتها في العمل الفني» (ص90).
وأفصح روبرت لاندا في دراسته لأعمال الطاهر وطّار عن دلالات القيم النضالية، «إذ تعرّف روايتاه «اللاز» و«الزلزال» القارئ بالثورة الجزائرية في مختلف مظاهرها، وبمرحلتين هامتين من حياة الجزائر المعاصرة، وبأفكار ومشاعر الشعب الجزائري. وفضلاً عن ذلك تقدمان فكرة عن مكاسب الثقافة الجزائرية، وعن الاندماج النشيط للأدب الفني المعبر بالعربية في حياة الشعب. وحين نفرغ من قراءة الروايتين نتعرف، بلا شك وبشكل أفضل، على العالم الروحي والفني للجزائريين وثقافتهم الأصيلة» (ص103).
وتثير كتابات المستشرقين الروس حول الأدب الجزائري الجدال حول نظرة الآخر الروسي، غير أن مقاصد هذه النظرة لا تخفى في تعضيد الحوار الحضاري بين الثقافات.
يتضح من هذا البحث أن الاستشراق ينتقل خلال العقود الثلاثة الأخيرة بجلاء إلى الحوار الحضاري، ولاحظنا أن الاستشراق الروسي (وتطوراته السوفيتية ثم عودته إلى مداراته الروسية) ذو نزوعات مبكرة في هذا المجال، فغدا شديد التعبير عن حوار الثقافات والحوار الحضاري.

هوامش :
_______
1- سالم حميش: الاستشراق في أفق انسداده. منشورات المجلس القومي للثقافة العربية. الرباط-1991 ص21-22.
2- منذر الكيلاني: الاستشراق والاستغراب: اختراع الآخر في الخطاب الأنثربولوجي. في كتاب «صورة الآخر: العربي ناظرًا ومنظورًا إليه»- تحرير: الطاهر لبيب. مركز دراسات الوحدة العربية. الجمعية العربية لعلم الاجتماع -بيروت 1999. ص 82.
3 - محمد نجيب بو طالب: العلوم الاجتماعية والاستشراق: صورة المجتمع العربي الإسلامي. المصدر السابق ص448.
4 - ادوارد سعيد : الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء (ترجمة كمال أبو ديب). مؤسسة الأبحاث العربية- بيروت 1981.
5 - رضوان السيد: ثقافة الاستشراق وعلاقات الشرق بالغرب، في مجلة «الفكر العربي» (بيروت )ـ العدد 31 ـ كانون الثاني ـ آذار 1983 ص 19.
6 - عدة مؤلفين: التطور المعاصر للبلدان العربية. أكاديمية العلوم السوفيتية- موسكو 1983 - ص6.
7 - سهيل فرح: الاستشراق الروسي، نشأته ومراحله التاريخية في مجلة «الفكر العربي» ، مصدر مذكور، ص 255 وما بعدها .
8 - نجيب العقيقي: المستشرقون. ج 3 دار المعارف ـ القاهرة ط 4 موسعه 1981، ص 83 وما بعدها.
9 - المصدر السابق ص 107-108.
10- ترجم الكتاب إلى العربية توفيق المؤذن وظهر ضمن منشورات دار الفارابي بيروت 1981.
11 - ظهر الكتابان الأول والثاني ضمن منشورات «رادوغا» (موسكو)، والثالث ضمن منشورات أكاديمية العلوم السوفيتية.
12 - أحمد الخميسي: نجيب محفوظ في مرايا الاستشراق السوفيتي. القاهرة 1990.
13 - عبد العزيز بو باكير: الأدب الجزائري في مرآة استشراقية. دار القصبة للنشر - الجزائر 2002.
14 - ظهرت ترجمة هذا الكتاب ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1993، وقام بالترجمة راتب سكر وممدوح أبو الوي.
--------------------------------------------------------------------------------
* ـ باحث وأستاذ الأدب المقارن في جامعة دمشق.

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• من الاستشراق إلى حوار الحضارات - روسيا و المسلمين نموذجًا - 1   (بازدید: 1706)   (موضوع: )

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية   (بازدید: 2732)   (نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر   (بازدید: 2651)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة   (بازدید: 4194)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة   (بازدید: 6849)   (نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ   (بازدید: 2882)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي   (بازدید: 3253)   (نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان   (بازدید: 4255)   (نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا   (بازدید: 2147)   (نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن   (بازدید: 4151)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي   (بازدید: 1352)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي   (بازدید: 4058)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية   (بازدید: 1214)   (نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين   (بازدید: 2170)   (نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة   (بازدید: 1819)   (نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة   (بازدید: 1639)   (نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة   (بازدید: 1023)   (نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب   (بازدید: 1061)   (نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي   (بازدید: 1540)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها   (بازدید: 843)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان   (بازدید: 888)   (نویسنده: سيد موسى الصدر)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]