banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

رحلة إلى كعبة الحبيب - القسم السابع وا لأخير - 1
ثقافتنا - العدد 15

علي اللّهوردي خاني
1428

لحركة التي يستطيع السالك بها أن يطوي الطريق من المبدأ إلى المقصد هو الزهد. سالك طريق الحق ينبغي أن يتحلّى بالزهد والتقوى.
والزاهد له ثلاث خصال:
الاولى – مجاهدة النفس وعدم الانجراف وراء المشتهيات ومتاع الحياة الدنيا.
الثانية – تزكية الأعمال.
الثالثة – التضحية في سبيل الله.
الزاهد لا يسلّم زمام أموره إلى أهواء دنيوية، لأنه يعلم ما ضمن الله سبحانه لأوليائه من سموّ الدرجات ورفيع المقامات ، مثل هذا الشخص لا يحزن على ما فاته ولا يفرح بما ناله.
والزاهد لا يرى زهده، ولا يكبر زهده في عينيه، ولا يطلب مكانة ومنزلة من ورائه، لأنه غارق في تجليات رب العالمين، ولا مقصود له سوى لقائه سبحانه، ولا يستطيع أن يحجبه عن ذلك شيء. ومن لم يتحرّر من دائرة الذاتية، وعبادة النفس ويتجه إلى عبادة الله الواحد الأحد فما بلغ المقصد.
الزاهد لا يكفّ عن المعاصي فحسب، بل يحذر من الشبهات أيضا خوفًا من الوقوع في المعاصي. يقول الإمام الصادق عليه السلام: «عليكم بالورع، ولا يُنال ما عند الله إلاّ بالورع». والوَرِع هو الذي لا يطلق رغباته في الموهومات، ولا يزجّ بنفسه في قيود النفس وفضول العيش، ويألف البساطة ويرى نفسه دائمًا بين يدي ربّ السماوات والأرض.

المفهوم الحقيقي للزهد
ليس الزهد ترك الدنيا ونعيمها وطيباتها، لأن القرآن وجّه اللوم لمن يحرّم طيبات الدنيا: )قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ ( (لأعراف:32) .
فتحريم الطيبات انحراف عن منهج الدين الإلهي: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ( (المائدة:87).
وإنها لفضيلة أن يكسب الإنسان من طريق مشروع مالاً يسدّ به حاجته ويؤدّي حقوقه، ويسدّ به ثغرة من ثغرات المجتمع الإسلامي.
من الانحرافات التي سادت في المجتمع الإسلامي على يد المغرضين أو المغفّلين دعوة الناس إلى الانعزال عن المجتمع والانزواء في التكايا والمساجد، بل حتى لقد رأينا من رجال الدين من دعا زمنا إلى تحريم الدخول في المدارس والجامعات، ومن دعا إلى تحمّل الفقر والمسكنة، ونبذ تحمّل المسؤوليات الاجتماعيّة، بينما رأينا بعض هؤلاء أحرص الناس على المال والمتاع والمكانة الاجتماعية. هذه الدعوات أساءت إلى المسلمين إذ عزلتهم عن ممارسة دورهم في الحياة وأدت إلى ضعفهم وجهلهم، كما أساءت إلى الإسلام لأنها قدمته بصورة تخالف طبيعة هذا الدين الذي جاء ليقود الحياة نحو السموّ والكمال.
فالزهد الحقيقي هو أن يكون المؤمن ماسكًا بزمام أمور الحياة ليوجهها وفق رضا الله سبحانه، لا أن يكون زمامه بيد الأهواء والمشتهيات توجهه أنّى شاءت وتفقده إرادته . والزهد بمعناه المنحرف يترك الساحة للطامعين والناهبين ليعبثوا بمقدرات الأمة.
قد ترى إنسانًا يملك الأموال الطائلة، لكنه مالك لهذه الاموال لا مملوكًا لها، يتعامل مع المال وفق ما أراده الله ووفق ما تمليه عليه إنسانيته، لا تستعبدهم الدنيا ولا تسترقّهم الأموال، وينظرون إلى الحياة نظرة بذل وعطاء، ويستبشرون بكل ما قدّموه، وهؤلاء هم في الآخرة ممن وصفهم القٍرآن الكريم: ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ،ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ( (عبس:38-39)، وترى آخرين أيضا يحرصون على جمع المال، وينظرون إلى الحياة نظرة خوف وحذر على ما حصلوا عليه، وقلق واضطراب وحرص على مالم يحصلوا عليه، وأولئك هم الذين قال عنهم الكتاب الكريم: )وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ( (عبس:40).
من الأمور التي تتوفّر للزاهد، وهو ينظر بعين الحقيقة والواقع إلى الحياة الدنيا لا بعين الأوهام، هو عمق الفهم وسعة النظر وتصاعد الوعي، وهذا ما يؤدي إلى تقوية الكفاءات الإنسانية وإلى تأصيل نظرة الفرد المعرفية.
ابتعاد الإنسان عن الأوهام يجعله مرتبطًا بالحقيقة ويزيل من أمام ناظريه ما يغطّي على جمال الأشياء، ويموّه الحقائق مثل الخداع والتظاهر والنفاق.
ومن هذه الأوهام التي تؤدي إلى الشقاء طول الأمل في الدنيا، وغياب الأجل عن ذهن الإنسان. طول الأمل يبعد الإنسان عن الهدف السامي التكاملي من ممارسة الحياة، وعلى الصعيد الإلهي يدفع إلى التسويف في الطاعة والالتزام. من هنا قال أئمة الدين:
« أَيُّهَا النَّاسُ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الأَمَلِ وَ الشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَ التَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ »([1]) .
والنصّ فيه ارتباط وتدرّج، فما لم يتحرر الإنسان من طول الأمل لا يستطيع أن يدخل عالم الشكر، ومالم يبلغ الفرد عمليًا لا لفظيًا مقام الشكر لا يجد طريقه إلى عالم التورّع. ولاجتياز هذه المراحل لابدّ من تفكّر إلهي، فالزاهد هو الذي يحلّق فكره دائمًا في عالم القدس طالبًا سطوع نور الحق في قلبه.
والشكر يعني الاستفادة من النعم الإلهية فيما يرتضيه الله سبحانه، ومن مراتبه التفكير في ألطاف ربّ العالمين، وهو أسمى عامل في بناء الروح، إذ يجعل الإنسان في سعي دائم لاستثمار وقته في تحصيل الخير والكمال.
ومن نتائج الشكر الانشراح والانبساط الذي لا ينفك عن الشاكر في أحلك الظروف: ) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ( (يونس:62)، ومن نتائجه زيادة القدرة على مقاومة المحرمات، ومن نتائجه الإقبال على النوافل والمستحبات.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أن الاهتمام الأوّل يجب أن يكون في الفرائض وأدائها على النحو المطلوب، وإذا أضرّت النوافل بالفرائض بسبب الإفراط في ممارستها أو لأسباب أخرى قُدّمت الفرائض، ولابدّ من رعاية الاعتدال في النوافل.
الزهد والتقوى
أفضل الزاد لمواصلة السير نحو ربّ العالمين ومراحل التكامل نحو بلوغ مقام الإنسانية التقوى: ) وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى( (البقرة:197).
التقوى حصن حصين وحرم آمن ومنطلق للعلم الحقيقي. يقول سبحانه: )وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ( (البقرة:282) والعلم الحاصل من التقوى هو غير العلم الاكتسابي، إنه محض نور وحقيقة واكتشاف وإدراك. إنه يسطع من مبدأ النور الإلهي ليضيء قلب الإنسان المتقي وعقله. إنه موهبة يختص بها عباد الله المتقون.
التقوى حالة وملكة تتيسّر للإنسان بعد التزكية والتخلق بأخلاق الصالحين. وتنبعث عنها قوة الابتعاد عن المعاصي ولجم النفس الامّارة بالسوء. في ظلال التقوى يشعر الإنسان بلذّة في عبادته، ويرى بعين بصيرته قبح المعاصي فيتجنبها، حتى ولو لم يكن وراء تلك المعاصي حساب وعقاب.
من واظب على ذكر الله سبحانه أضحى قلبه السليم ونفسه المطمئنة محلاً لتلألؤ أنوار العلم والحكمة، وبقدر ما في القلب من هذه الأنوار تنكشف أمام الفرد حقائق الأشياء ويراها كما هي. من هنا فإن أصل التقوى بل أصل كل فضيلة وكمال ومنبع كل فيض وإحسان التوجّه إلى الله سبحانه والأنس بقربه ومحبته ومعرفته.
على السالك أن يواظب على ذكر الله، لا بلسانه فقط بالتهليل والتسبيح، وإن كان الذكر اللساني أيضا له عطاؤه الخاص، لكن اللسان ينبغي أن ينمّ عن القلب. لو اكتفى الإنسان بالذكر اللساني دون أن يكون قلبه ذاكرًا فإنه لا يستطيع أن ينتقل من الاسم إلى المسمّى، ولا يمكن أن يُحسبَ من الذاكرين.
حقيقة التقوى الانقطاع عن الخلق والتوجّه التام لربّ العالمين، بعبارة أخرى إنها صيانة القلب عن التوجّه لما سوى الله. وحين يكتمل التوجّه إلى الله فإن نورًا يسطع من مبدأ الفيّاض الأزلي على قلب الإنسان وبذلك تحصل ملكة وقوة يسهل بها السيطرة على انحرافات النفس، وفي هذه الحالة السامية تصل العبادات إلى درجة قبول الباري سبحانه: ) إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ( (المائدة:27).

للتقوى درجات ومراتب:
الأولى - تجنب المعاصي وترك المحرمات بل المكروهات، وصيانة الجوارح من الوقوع فيما لا يرضاه الله.
الثانية – أداء العبادات والطاعات من الواجبات والمستحبات، من أجل رضا الله سبحانه، لا شوقًا إلى جنته ولا خوفًا من ناره، فتلك عبادة التجار والعبيد.
الثالثة – لجم النفس عن التوجه البهيمي والميل الشيطاني. وكل هذه الصفات الحميدة للتقوى تستدعي بذل الجهد والتعب، وترويض النفس للوصول إلى هذا المقام المعنوي المنيع. وبدون ذلك لا يستطيع أن يتقدم خطوة، ولا أن يتحرر من قيود الانشداد المادي إلى المال والمتاع ولا أن ينقطع إلى عالم الربوبية.
من هنا فإن المؤمن الكامل يصبح مظهرًا لصفات الله سبحانه، والله تعالى يُنعم عليه بثلاث من صفاته الكبرى: الغنى، والحياة الخالدة، والإبداع.
فيا أيها السالك!
أجعل التوحيد حارسًا على جوارحك، كي لا يدخل سمعك ما لا يرضي الله، ولا ينطق لسانك بالإثم والعدوان، وكيف يرتقي الإنسان إلى الله فيسمع كلامه ويتحدث اليه إذا كانت جوارح السمع والنطق ملوثة؟!
أيها السالك! واظب على أداء الفرائض والنوافل وحاسب نفسك قبل أن تحاسب، لتكون ممن قال فيهم سبحانه: )فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا( (الانشقاق:8-9)، صُنْ يديك ورجليك عن أية ممارسة لا ترضي الله.. وكل ذلك إذا فعلته فقد بلغت درجة الورع العام.
أما الورع الخاص فإنه ورع القلب عن دخول كل وهم والاتجاه إلى الحقيقة دون سواها. وإن ساورته خواطر موهومة طردها بالتوبة والاستغفار، وإذا اعترته نزوة أزالها بالتوكل وخشية الله.
أيها السالك! إذا طلبت السعادة فلا تنشدها عن طريق الاستكثار من المال والمتاع، فهو طلب السراب. ولا تطلبها في تكايا الدراويش وصوامع المترهبنين فلات هناك ما تطلبه.. فالسعادة كل السعادة في المشروع الإسلامي الذي يدعوك إلى أن تخوض غمار الحياة في سبيل الله ومن أجل رضا الله، وهذه هي التقوى وهؤلاء هم الذين ذكرهم القرآن الكريم بقوله: )إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون( (التين:6).

النفس الأمارة والنفس المكرمة
النفس في القرآن الكريم وردت بمعنيين: النفس الأمارة بالسوء، التي تسوق الإنسان إلى الانغماس في الأهواء والابتعاد عن الارتقاء والسموّ والكمال، كما ورد في قوله سبحانه: )وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى( (النازعـات:40- 41)، وقوله سبحانه: ) إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ( (يوسف:53).
وهذه النفس هي التي تضخّم وجود الأهواء فتحوّلها إلى إله يعبد من
دون الله:
)أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ( (الجاثـية:23).
وقد تذكر النفس في القرآن بمعنى الشخصية الإنسانية التي كرّمها الله، مثل قوله سبحانه: )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( (الحشر:19) وقولـه تعالى: ) وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ( (الشورى:45) والنفس هنا هي النفس المكرمة التي تمثل الشخصية المعنوية للإنسان ورأس ماله الإنساني ، وإذا خسرها فقد خسر كل شيء.
مما تقدم نفهم أن النفس المذمومة في النصوص الدينية هي النفس الأمّارة بالسوء، وهي التي ينبغي أن تكون متّهمة ومظنونة، كما ورد في قول أمير المؤمنين علي عليه السلام: «إن المؤم من لا يمُسي ولا يصبح إلاّ ونفسه ظَنونٌ عنده» بينما يأتي ذكر النفس المكرمة في نصوص أخرى كثيرة .
والنفس المكرمة التي تمثل الشخصية المعنوية للإنسان يجب معرفتها ومكانتها في الكون، وإذا عرفها الإنسان فإنه يرتفع عن الانحطاط في الرذائل العملية والفكرية، فهذه النفس هبطت إلى جسد الإنسان من مقام شامخ رفيع، لتجعل الإنسان صاحب قدرة وعلم ورفعة وإرادة ومجد وعظمة، أي ليتخلّق الإنسان بأخلاق الله ويكون مظهرًا لعلم الله وقدرته.
النفس الإنسانية خفيّة على المعرفة إلاّ بفضل من الله تعالى. وإذا عرف الإنسان نفسه عرف ما فيها من نواقص وعيوب، وسارع إلى الارتفاع والسموّ، وإلى الكرامة التي شاءها الله للإنسان . والعارف هو العارف بنفسه أولاً، وهو الساعي إلى صيانة كرامته من السقوط في الشهوات الفاسدة والأوهام الباطلة. إنه الساعي دومًا إلى أن يرى الأشياء على حقيقتها، وينظر بنور الله ويتخلّق بأخلاق الله. وهذا يتطلب وازعًا يتمثل بحبّ الله وتخلية القلب مما سوى الله.
أما النفس الأمارة فيتحمل السائر على طريق الله تجاهها مسؤولية ترويضها كي تكون منقادة، وأن لا تكون مسيّرة للإنسان نحو السقوط والانحدار.
والترويض هي عملية امتلاك قدرة السيطرة على القوى الشهوية والغضبية، لا بمعنى إنهاك الجسد وإضعافه، كما يظن البعض خطأ، لأن التكليف موجّه إلى الجسد والنفس معًا، وقوة البدن تبعث على قوة النفس. وقوة البدن ضرورية لحركة الإنسان نحو كماله المنشود. والسيطرة على النفس الأمارة لا يتحقق إلا بالاستعانة بالله وبرحمة من ربّ العالمين، وبردعها عن المشتهيات الفاسدة والآمال الباطلة، والدخول في المنهج العبادي، وذكر الآخرة.
والعبادة نفسها قد تدخل إليها النفس الأمارة فتحولها إلى رياء وحب سمعة، وقد تتضخّم أمام صاحبها فتصيبه بالعُجب والغرور. وإذا فسدت العبادة تظهر على سلوك الإنسان ألوان المفارقات والازدواجيات في السلوك، فيكون في الظاهر عابدًا، وفي خلواته متساهلاً متسيبًا، وهي من أنواع الشرك بالله ومن أعظم الذنوب.
لا يمكن أن يكون الإنسان عابدًا لربّ العالمين، إذا كان هواه قد تضخّم وأصبح إلهه. العبادة الواقعية تتحقق حين يسعى الإنسان إلى تكريم نفسه وتقوية شخصيته الروحية.
العبادة تعني التحرر من الذاتية والأنانية والانطلاق من سجن الذات. وهل يمكن أن تصدر مثل هذه العبادة من إنسان مسخّر لأهواء نفسه؟ هذه العبادة لا تصدر إلاّ عن نفس عرفت كرامتها ومكانتها في الوجود وتحررت من السقوط في شهوات الذات.
العبادة الحقيقية هي التي ترفع الإنسان إلى مشاهدة جمال رب العالمين. وقد جاء في المأثور: «اللهم إني أسألك من جمالك بأجمله وكل جمالك جميل». والعبّاد الحقيقيون هم الذين وصلوا إلى مقام الانقطاع واتصفوا بالصفات الثبوتية والسلبية الإلهية، وهي التي سمّاها بعض العرفاء بالصفات الجمالية والجلالية.

معرفة الجمال في ظلّ تزكية النفس
من أهم واجبات السالك أن يكون ذا معرفة بالجمال. أي أن يعرف ماهو الجمال ومن هوالجميل، وإلاّ فإنه يبقى في ظلمات الذات، ولا يستطيع أن ينطلق في رحاب الكون الفسيح ليتمتع بالجمال. والمنطقيون راحوا يتحدثون عن الجمال بتقسيماتهم العقلية، عن جنسه وفصله، أهو من مقولة الكميات أو الكيفيات، ومن الانفعالات أو الإضافات، ومن الجواهر أو الأعراض، وهل يمكن حصره في تعريف أو لا..
وكل ذلك يرتبط بالجمال الظاهري والجزئي، ولا يمكن أن ينطبق على ألوان الجمال الباطني لأنه «مما يُدرك ولا يوصف» وطوبى لمن شاهد ذلك الجمال!
الغافلون عن الجمال الباطني والجمال المطلق يرون الجمال في الظاهر فقط، ولا يدركون حقيقة الجمال. وإذا كانت آلة رؤية الجمال الظاهري هي الباصرة، فإن رؤية الجمال الحقيقي إنما يكون بالعقل السليم. وحين يصل الإنسان إلى هذه المرتبة من الرؤية تستطيع حواسه الظاهرية أيضًا أن تشارك في رؤية الجمال لأن هذه الحواس تصبح تحت سيطرة العقل.
وهل معرفة الجمال اكتسابية أم فطرية؟ قال قوم إنها تحصل عن طريق الحسّ والتجربة. فالإنسان يولد وهو خال من هذا الإحساس، ثم بالتدريج يكتسب الإنسان هذه المعرفة بالممارسة والشعور، وقال آخرون إنها تحصل بالإحساس وبالفطرة معًا.
وإذا كان الجمال من مقولات الكمال الإنساني، فهو مودع بالقوة في نفس الإنسان فطريًا، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة: )وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاّهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا، وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا( ( الشمس: 1-9).
الجمال المشهود في العالم هو مظهر من مظاهر الجمال المطلق، وآخر مرحلة من مراحل إدراك الجمال هو مشاهدة الجمال الأزلي. المنهمكون في الجمال الظاهري غافلون عن الجمال الباطني الحقيقي. والذين أدركوا معنى الجمال الحقيقي فإنهم يسعون دائمًا إلى تعميق وإحياء معرفة الجمال في نفوسهم وفي نفوس غيرهم.
وقادة الدين يتحمّلون مسؤولية تنمية حسّ الجمال في الطالبين. وهذا الحسّ يبعد الإنسان عن قبائح الأفعال والسلوك. والذين يألفون القبيح لم يروا الجمال ولم يستشعروه.
أسوأ الناس حظًا من لم يتمتع بنعمة فَهمِ الجمال، إذ إنه يبقى حبيس ذاتياته وينسدّ أمامه طريق السموّ والكمال، ويهيم بالظواهر السرابية ويفتقد قدرة النهوض بالمهام الإنسانية.
معرفة الجمال ترتبط بمعرفة النفس المكرمة الحقيقية، وبإزالة الحجب عن معرفة الذات الواقعية، والغُربة عن الذات مما يبتلى به الإنسان المنحرف عن طريق الله. ومن عرف نفسه يعرف قدرها ولا يبيعها بثمن بخس دقائق معدودات من ممارسة الشهوات الهابطة، ولا يرى لها ثمنًا إلا رضا الله سبحانه: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ( (البقرة:207)وكلما ازداد الإنسان معرفة بنفسه سمى وارتفع وازداد معرفة بالجمال، واقترب من جمال المطلق سبحانه.

التزكية والتبخير المعنوي للنفس
الإنسان مركب من عنصرين، أو قوتين متقابلتين: الجسمي والروحي، الحيواني والإنساني، السفلي والعلوي. العنصر السفلي يسمى النفس الحيوانية، والعنصر العلوي أو الملكوتي يدعى النفس الناطقة. الإنسان مكلّف في هذا العالم أن يربّي نفسه الحيوانية ويجعلها نورانية لطيفة كي تتخلّص مما علق بها من شوائب وكَدَر، لتكون ثمة وحدة كاملة بين العنصرين، وتتبدل الثنائية إلى وحدة، ويصل الإنسان بذلك إلى مقام الوصال.
وثمة سؤال يطرح عن النفس الناطقة، هل هي كاملة أم ناقصة؟ يمكن الإجابة بأن النفس الناطقة كاملة ولكن بشرط. فهي تمتلك الكمال الذاتي، لكن تجلّي هذا الكمال مشروط بأن تنهض بواجبها الأصلي والحياتي، وتجعل النفس الحيوانية متجانسة معها. فالنفس الحيوانية مثلها مثل الأغلال التي تقيّد النفس الناطقة وتمنعها من الانطلاق في عالم الملكوت. ولابدّ من فكّ هذه الأغلال بتحويل النفس الحيوانية إلى ما يتجانس ويمتزج بالروح الملكوتية.
تزكية النفس تشبه تصفية ماء بركة، السطح العلوي من مائها صاف خال من الشوائب بسبب ملامسته الهواء الطلق، والماء المجاور لقاعها كدِرٌ بسبب قربه من الطين والرواسب.
الطبقة العلوية من البركة عادة تتبخّر باستمرار وتتخلّص من كل شائبة، مثلها مثل النفس الناطقة التي تتخلص من شوائبها بارتفاعها إلى عالم الملكوت. لكن المشكلة في الطبقة السفلى الكدرة المليئة بالشوائب، فهذه ربّما تؤثّر على الطبقة العليا فتجعل البركة ملوّثة بأجمعها، إلاّ إذا تبخّرت أيضا وتصاعدت، وهذه مثلها مثل النفس الحيوانية التي قد تعمّ على كيان الإنسان وتجعله ملوثًا. والسبيل إلى الوقاية من هذه الحالة تصفية الطبقة السفلى لكي تكون صافية شفافة مثل الطبقة العليا.
وتصفية الطبقة السفلى يمكن أن يتمّ عن طريق التبخير التدريجي الطبيعي لها، وذلك يستغرق وقتًا طويلاً، وقد يكون محفوفًا بالأخطار بسبب إمكان تأثير التلوث على كل البركة، وقد يتمّ عن طريق عمل إنساني تقني يمارس الإنسان فيه التصفية بفكره وعقله وهمته وتدبيره، وتكون التصفية عندئذ أكثر سرعة وضمانًا.
وهكذا الأمر على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة البشرية، يمكن أن تُترك الأمور لمسيرة البشرية التكاملية الطبيعية، عندئذ تكون المسيرة طبعًا محفوفة دائمًا بالأخطار، ويمكن أن تتظافر الجهود لتصفية النفس الحيوانية عن طريق إقامة المؤسسات والقوانين والتنظيمات والعلاقات الدولية الحضارية التي تدفع بالمسيرة إلى مراحلها التكاملية وتنقذ النفس الناطقة من سيطرة النفس الحيوانية، وتجعل العقل حاديًا للمسيرة وموجهًا لها.
الله سبحانه وفّر للبشرية كل إمكانات تكاملها من قدرة على التفكير، ومن إرادة في اتخاذ القرار، ومن عواطف إنسانية تنطلق من طبيعة الفطرة.

التزكية وإدراك اللذات السامية
انتخاب اللذات العقلية الباطنية يرتبط ارتباطًا تامًا بدرجة تزكية النفس وفعليّة القوى المعنوية. اللذة والألم يرتبطان مباشرة بالإدراك. ولولا الإدراك لما كان ثمة لذة أو ألم. ما يلائم القوى المدركة هو لذّة، وما لا يلائمها فهو ألَم. وما لا يلائم ولا يتعارض مع القوى المدركة فلات ثمة لذة ولا ألم. كل قوة في الإنسان مخلوقة لفعل خاص. مايلائم مقتضى طبيعة تلك القوة المدركة لذة وخلافه ألَم. اللذة الحقيقية لا يستشعرها الإنسان في جميع الأحوال، لأن انحرافات الطبع عن الفطرة، مثل ظهور الآفات والعوارض والعادات السيئة والضعف والغفلة، تجعل إدراك اللذة الحقيقية متعذّرًا.
للإدراك مراتب، الإدراك الحسّي الناشئ عن الحواس الظاهرية، والإدراك الباطني الناشئ عن القوة العاقلة. الأول خاص بالمهتمين بالأمور النفسانية، والثاني للمعرضين عن الأمور النفسانية.
إدراك اللذة والألم له جهات متعدّدة . فهو من جهة يرتبط بدرجات سموّ أو انحطاط تلك القوة المدركة، فمهما كانت هذه القوى أشدّ وأسمى كان إدراك اللذة أكثر. ومن جهة أخرى يرتبط بمعاني المدركات.
وبقدر ماكانت هذه المدركات في مرتبة أعلى من حيث الجمال أو القبح الحقيقيين كان الإحساس باللذة والألم أشدّ.
من هنا فإن الناس ليسوا على حدّ سواء في إدراك اللذات الواقعية، فكل فردٍ يدرك اللذة بقدر ما في قواه المدركة الباطنية من قدرة معنوية. ومن هنا أيضا يجد بعضهم لذة في الإعراض عن النفسانيات، وبعضهم يشعر باللذة في الانهماك بالأمور النفسانية.
الأفراد الذين سمت درجات إدراكاتهم بسبب تزكية النفس يفضلون اللذات الباطنية والإلهية على اللذات الحسية. أما أصحاب الإدراك الضعيف فيختارون اللذائذ الحيوانية الحسيّة. فهم كالاطفال لم تنضج عندهم بعد قواهم السامية. المعتوهون أيضا ميلُهم نحو اللذات الحيوانية، لأن قواهم السامية قد تلفت ولم يعد لهم حظّ في المراتب العقلية.
مادام السالك لم يغيّر ذائقته البهيمية ولم يربّ في نفسه الذائقة الإلهية فإن اللذات الدنيوية والشهوات النفسية عنده أحلى. وكيف في الحالة هذه يستطيع أن يحظى بنموّ القوى السامية، ويلتحق بأهل الوصال؟!
السالك الإلهي ينبغي أن يحرّر نفسه من أسر الدنيا، ويخلع عنه اللباس الحيواني ويرتدي اللباس الإنساني، ويتجاوز باستمرار معوقات الطبيعة الحيوانية، فكل واحد من الصفات الحيوانية عقبة على طريق السموّ والكمال.
الصالحون هم الذين تجاوزوا عقبة النفس الأمارة، فأصبحت ذائقاتهم لا تستسيغ إلاّ ما طابَ وطَهُر وسَما وتكامل، وهذه الحالة لم تأتهم بسهولة، فإنّ غلبةَ النفس تحتاج إلى قوة وبأس شديد: «الشديد من غلب نفسه». هؤلاء يعيشون في جوّ الجمال الإلهي الذي يجعل كلّ مادونه تافهًا، وفي حلاوة الوصال التي تدع كل مادونه مُرًّا، هؤلاء هم المقربون من ربّ العالمين، وهم الذين شاء الله أن يطهّرهم، وهي مشيئة تشريعية طبعًا لا تكوينيّة.
تغذية السمع بالموعظة الحسنة وتغذية الفكر في خلق السماوات والأرض وفي عظمة ربّ العالمين تزيد من درجات القوى المتسامية في الإنسان، عندئذ تزداد قدرته على إدراك اللذات الحقيقية والإعراض عن اللذات الشيطانية.
وتزكية النفس تساعد الإنسان على التعمّق في فهم آيات الله في الكون وفي النفس وفي الكتاب المنزل على نبيّه، وفي ما صدر عن المعصوم من قول وفعل وتقرير. الآيات والنصوص الدينية المقروءة ألفاظ تشكّل وعاءًا للمعاني، ولا يمكن اختراق الوعاء إلى المعنى الحقيقي الباطني إلاّ بتزكية النفس وتصفيتها، وبدون هذه التزكية لا يمكن إلاّ النظر في الوعاء الظاهري دون الغوص في محتواه. وما أكثر الذين حاموا حول الألفاظ الظاهريّة لنصوص الدين لكنهم لم يشاهدوا الحقيقة ولم يستطيعوا أن ينقلوا شيئًا من الحقيقة إلى غيرهم!!
الإرادة ثروة حقيقية
التزكية تستلزم السيطرة على الحواس الظاهرية والباطنية وأن يكون الإنسان مالكًا لهذه القوى. والثروة الحقيقية للإنسان تقاس بمقدار ما يقع تحت سيطرته.
والشخص إما أن يكون مالكًا لقواه أو مملوكًا لها، وهذا يرتبط بمقدار ما عند الإنسان من قوة إرادة في أن يملك نفسه.
الإرادة حالة روحية وصفة ترفع قدرة الشخص وتميّزة عن غيره. بهذه الصفة يستطيع الشخص أن يختار ما هو محمود ويرفض ماهو مذموم. في الحياة المادية يحصل الإنسان على مايريد بالمال غالبًا، لكنه في الحياة المعنوية لا يحصل على مايريد إلاّ بقوة الإرادة، والإرادة تستلزم معرفة الذات الحقيقية والتحرر من سيطرة الشهوات الجسدية.
العارف يهتمّ بتربية روحه كي تكون هي الحاكمة على جسده، خلافًا لغيره الذي يرى أنه مخلوق للاستزادة من لذات الجسد، ويرى أنّ من لا يغتنم فرصة الحياة للاستزادة من اللذات الحسية فهو جاهل بطريقة العيش!!
المعرفة تحصل بالتفكير والتعقل لا بالحواس فقط، ومن اقتصر على الحواس فقد خدع نفسه وضلّ الطريق. الوصول إلى الحقيقة يتحقق حينما تتخذ النفس الإنسانية من الحواس آلات لها ووسائل لمهمتها، لا أن تكون هذه الحواس مصدرًا للمعرفة، لأن الحواس عندئذ تكون عائقًا على طريق الوصول إلى الحقيقة.
بالإرادة يستطيع الإنسان أن يحرّر عقله وتفكيره من سيطرة متطلبات الجسد، ومن الأوهام التي تخلقها هذه المتطلبات.
وحين يتحرر الإنسان من متطلبات الجسد بأن يكون مالكًا لجسده لا مملوكًا له، فإنه عندئذ لا يخاف الموت. فالإنسان يخاف الموت حين يكون همّه جسده، أما حين يكون همّه تكامل نفسه فإنه يرى ما بعد الموت مرحلة سامية من مراحل كمال النفس، فهو لقاء الله سبحانه، وبداية حياة خالصة في رحاب عناية ربّ العالمين.
العارف أيضًا طاهر وعفيف، لأنه متحرر من ضغط الميول النفسانية،ومتحرر من متطلبات الجسد، إنه عفيف حقيقة لا ظاهرًا، فهناك من يتظاهر بالعفّة ليكسب شهوات دنيوية أخرى. هناك من يعرض عن بعض اللذات لانشداده بلذّات أخرى، وطريق الوصول إلى الحقيقة ليس بتبديل شهوة بشهوة ولذّة بلذّة.
الإرادة إذن ترفع الإنسان وتبارك له حياته وتزكّيها وتطهّرها وتزيل عنها الأوهام والخوف، وتكشف له حقائق الأمور.

النزاع بين العقل ونزوات النفس
لو استعرض الإنسان ما يصدر عنه من أعمال لرأى أن بعضها مما يشكو منه ولا يرضى عنه، ولا يمكن أن تكون هذه الأعمال صادرة عن اختيار الإنسان وإرادته، فلو كانت كذلك فلماذا يستاء منها؟ لا يمكن صدور شيئين متناقضين عن مصدر واحد. لابدّ أن يكون لها مصدر آخر غير الإرادة والعقل، وهذا المصدر نسميه هنا نزوات النفس. هذه النزوات تحتاج إلى سيطرة العقل وضبطه، والعارفون تتوفر لديهم حسب درجاتهم قدرة هذا الضبط وتبلغ هذه القدرة ذروتها عند الصديقين.
وبمقدار سيطرة العقل على هذه النزوات يجد الإنسان شخصيته ويستشعر عزته وكرامته ويعثر على ضالته، وهي سعادة ما بعدها سعادة.
وإذا لم يلتفت الإنسان إلى تربية نفسه غلبت عليه هذه النزوات، فلا يرى في الحياة مطلبًا غير تلبيتها ويعيش في غفلة وحرمان: )وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ( (مريم:39)
من ظواهر نزوات النفس:
ـ اللغو:
والمؤمن منهيّ عن اللغو، وهو كلّ ما أضرّ بدنيا الإنسان وآخرته. والإعراض عنه واجب، إذ كل مضرّ حرام. غير أنّ هذا الإعراض يحتاج إلى سيطرة الإنسان على مَلَكاته، وبدون هذه السيطرة يقع في كل أموره بين إفراط وتفريط. والإنسان قادر على ذلك لأنه مكلّف به شرعًا، والشرع لا يكلّف بما لا يُطاق.
ومن ظواهر نزوات النفس: الهذر. بعض الكلام مباح، لكنه هذر لا طائل تحته، ويؤدي الإسراف فيه إلى غفلة القلب والإعراض عن الحقائق، ومن ثم إلى الوقوع في أنواع المعاصي.
أهل المعرفة يبتعدون عن كل إفراط وتفريط في السلوك حتى إذا كان ذلك في دائرة المباحات. فهم يختارون الأليق والأوفق، لأن العقل إذا وقف بين خيرين فإنه قادر على انتخاب خيرهما، وهكذا إذا وقع بين شرّين قادر على انتخاب أهونهما.
والنصوص الدينية تحذّر من زيادة الكلام، إذ فيه زيادة في الخطأ. والهذر يكون باللسان ويكون أيضًا بما يحدّث به الإنسان نفسه، فالإنسان إذ خلا لنفسه يحدّث نفسه بما مضى وبما هو آت. ولابدّ لهذا الحديث أيضًا من ضبط وسيطرة حتى يكون بما هو نافع ومفيد وبعيد عن الأوهام والثرثرة، لأن حديث الإنسان مع نفسه مما يغذّي النفس بالسموّ أو بالانحطاط. كما أنّ السيطرة على حديث الإنسان مع نفسه يؤدّي إلى استثمار كل فرص الحياة فيما هو مهم والى التركيز على الموضوع، وروي عن النبي(ص) قال: «من صلّى ركعتين ولم يحدّث فيهما نفسه بشيء من أمور الدنيا غفر الله له ذنوبَه».
ومن أعراض نزوات النفس: الرياء.
والرياء على نوعين رياء مع الناس ورياء مع النفس. والرياء مع الناس هو العمل من أجل إرضائهم دون الالتفات إلى رضا الله سبحانه، وهي ظاهرة تدلّ على ضعف الإيمان، وتضخّم الأنانية. والرياء مع النفس أيضًا من تورّم الذات، وهي أن يكبر عمل الإنسان في نفسه ويراه أنه منه، لا من فضل الله عليه. والسالك ينبغي أن يكون على وعي وحذر من الوقوع في هذا الانحراف.
ومن الأعراض الأخرى: سرعة الضجر والملل. وهي حالة تدفع الإنسان إلى تغيير وضعه الذي فيه، أملاً في التفسّح. لكنّ ذلك لا يغيّر شيئًا، إذ إن الانشراح يتطلب قوّة معرفة بالنفس. والسالك ينبغي أن ينازع القوة الشهوية والغضبية فيه حتى لا يضجر ولا يسأم أمام العقبات، بل يتغلب عليها بصبر وتضحية وفداء.
نزوات النفس كانت وراء كل هزائم أمتنا الإسلامية في معترك الحياة ابتداء من معركة أحد حتى يومنا هذا.
سبات الغفلة
الغفلة مثل سلاسل وأغلال تثقل عنق الإنسان، فلا تدعه يرفع رأسه ليرى الحقيقة، وتمنعه من النظر إلى مابين يديه وما خلفه، وتحجب عنه الرؤية: )إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ( (يـس: 8 -9).
الغفلة جدار سميك يعزل الإنسان عن التفكير الصحيح في ماضيه وعن التطلّع الإيجابي إلى مستقبله. وروي في النصوص الدينية حثٌّ على أن يفكّر الإنسان: من أين جاء؟، ولماذا جاء؟، وإلى أين يذهب؟.
فالتفكير الصحيح في الماضي عبرة وعظة ودرس، والنظر الصحيح إلى المستقبل تقويم للمسيرة ودفعها على طريق الكمال.

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 697)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 702)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 773)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 741)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 634)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب - القسم السابع وا لأخير - 2   (بازدید: 1329)   (موضوع: )
• رحلة إلى كعبة الحبيب / القسم الأول   (بازدید: 746)   (موضوع: عرفان)

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• المرأة المسلمة والتحديات العالمية من خلال بعض الاتفاقيات الدولية   (بازدید: 2732)   (نویسنده: محمد علي التسخيري)
• المرأة في المشروع الإسلامي المعاصر   (بازدید: 2651)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• توصيات مؤتمر المرأة المسلمة في المجتمعات المعاصرة   (بازدید: 4194)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• جلال الدين الرومي وآثاره العربيّة   (بازدید: 6849)   (نویسنده: فرح ناز رفعت جو)
• في أجواء نداء الحج لعام 1428هـ   (بازدید: 2882)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• قيمة الجمال في تداولها الإسلامي   (بازدید: 3253)   (نویسنده: عبد المجيد الصغير)
• منهج البيروني في دراسة الأديان   (بازدید: 4255)   (نویسنده: علي بن مبارك)
• ميتا - استراتيجيا المقاومة التبصُّر الخُلُقي نموذجًا   (بازدید: 2147)   (نویسنده: محمود حيدر)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن   (بازدید: 4151)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• أزمة الحوار الإسلامي   (بازدید: 1352)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• أزمة الحوار السني - الشيعي   (بازدید: 4058)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• إشكالية المرجعية في تقرير التنمية الإنسانية   (بازدید: 1214)   (نویسنده: خالد سليمان)
• آفتان في المتعصبين   (بازدید: 2170)   (نویسنده: الشيخ محمّد الغزالي)
• إنما المؤمنون إخوة   (بازدید: 1819)   (نویسنده: محمد حلمي عيسى باشا)
• أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم دعوة لا تزال حيّة   (بازدید: 1639)   (نویسنده: عبدالمجيد سليم)
• الإرهاب الصهيوني فكرًا وممارسة   (بازدید: 1023)   (نویسنده: أسعد السحمراني)
• الإمام علي بن أبي طالب والتقريب بين المذاهب   (بازدید: 1061)   (نویسنده: الدکتور عبدالمتعال الصعيدي)
• الانسجام الإسلامي   (بازدید: 1540)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• التحديات الراهنة كيف نواجهها   (بازدید: 843)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• التشريع وكرامة الإنسان   (بازدید: 888)   (نویسنده: سيد موسى الصدر)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]