banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

لسان الدين بن الخطيب الاندلسي

شخصيات
محمّد علي آذرشب


الندوة العلمية الدولية
حلب 2-4 / 12/ ‏1‏ ‏كانون الاول‏,‏‏ ‏2003
لسان الدين بن الخطيب عاشقاً
دراسة مقارنة في نظرية الحبّ عند ابن الخطيب والأدب العرفاني الفارسي

ملخّص
حضارتنا الإسلامية تقوم على أساسِ «الحبّ» في العلاقة بين الإنسان والإنسان ، والإنسان والطبيعة، والانسان والله، بل والطبيعة مع الطبيعة ومع الله. وما يظهر في الساحة البشرية من حقد وحسدٍ وبغضاء إنما هو شذوذ عن الطبيعة المفطورة على «نفخة» روح ربّ العالمين.
وأساس تقدّم الأمم وازدهار الحضارات هو «الحبّ» والسبب الأصلي في ضعفها وانهيارها هو خروجها عن دائرة الحبّ وانغماسها في الأحقاد.
كتاب «روضة التعريف بالحبّ الشريف » للوزير لسان الدين بن الخطيب يرمز الى سرّ ازدهار الحضارة الاسلامية في الاندلس كما يرمز في الوقت نفسه الى سبب سقوطها. إنه يرمز إلى سرّ الازدهار بما تضمنه من آراء في الحبّ الذي يمثل روح العلاقات القائمة في الكون والحياة، والذي يشكّل عاملَ الدفع الحضاري بين الامم والشعوب. كما أنه يرمز الى سبب سقوط الاندلس بسبب مانزل بمؤلف الكتاب – بذريعة هذا الكتاب – بل وفي الواقع بسبب الأحقاد والحزازات التي عصفت بالعلاقات الاجتماعية في ذلك المجتمع، وأدّت الى فتح ثغرات واسعة في جسد الأمة هناك، فنفذ من تلك الثغرات مَنْ وجّه آخر الضربات الى الجسد الممزّق، وقضى على أعظم فرصة للقاء الإنساني بين الشرق والغرب.
الآراء التي تضمّنها كتاب «روضة التعريف» تلتقي مع آراء أساطين الأدب العرفاني في الأدب الفارسي . نقف عند آراء لسان الدين بن الخطيب في الحبّ ونقارنها بالأدب العرفاني الفارسي وخاصة أدب حافظ الشيرازي لنخرج بنتيجة عن مكانة الحبّ في منظومة النظرة العرفانية الإسلامية للكون والحياة وسبل إحياء هذه النظرة في حياتنا المعاصرة.





مقدمة
الإنسان في «التصوّر الاسلامي» مخلوق من «طين»(1) ومن «نفخة روح ربّ العالمين»(2). والطين يرمز الى كلّ مايشدّ الانسان بالأرض من غرائز يشترك فيها مع سائر الحيوانات، والنفخة تشير الى الأشواق التي تشدّ الإنسان الى التسامي والكمال.

والانسان القابع في عالم الطين:
ــ لا يرى إلاّ ذاتيته، ولا يهتم إلاّ بإشباع غرائزه، فهو أناني لا يفكّر الاّ بمصلحته الخاصة، ولا يطلب الاّ المنافع الآنية التي تلبّي نداء غرائزه وشهواته.
ــ يفتقد كلّ حركة تكاملية، وحركته إنما هي حركة موضعية، يراوح في مكانه، ولا يتكامل في شخصيته وفكره وروحه.
ــ لا يفهم معنى الجمال، ومن ثمّ فهو لا يفهم معنى الحبّ، وإذا تحدّث عن الحبّ فما هو الاّ حديث الشهوة والرغبة في السفاد.
ــ ومن الطبيعي أن يكون تعامل مثل هذا الانسان مع مَنْ دونه من أفراد المجتمع تعاملاً حريصاً استغلالياً تسلطياً لا يعرف الرحمة والشفقة، ويسعى لإذلالهم وامتصاص دمائهم.
ــ ومن الطبيعي أيضا أن يكون موقفه مع مَنْ فوقه من أفراد المجتع ذليلاً خاضعاً، متملّقاً متزلفاً، فهو على استعداد لأن يبيع كلّ القيم الانسانية بثمن بخس.
ــ ومثل هذا الانسان يفتقد كلّ عطاء اجتماعي عام، فهذا العطاء سواء كان علمياً أو عملياً يحتاج إلى درجة من التضحية والى تقديم المصلحة الاجتماعية على المصلحة الفردية، وهو ما يفتقدها الراسف في أغلال الطين.

أما الانسان المتحرر من أغلال الطين:
ــ فهو قد خرج من ظلمات ذاتيته الى نور الكون الفسيح، واتجه نحو مثل أعلى خارج غرائزه الحيوانية.
ــ وبدأ يتحرك على طريق تكامل شخصيته الانسانية، وهذه الحركة التكاملية مستمرة بقدر حجم وعظمة المثل الأعلى الذي يتحرك نحوه.
ــ وعالم النور يرى فيه الانسان الجمالَ، ويحسّه، ويلتذّذ به وينشده، فيكون عاشقاً، ويكون مجذوباً نحو الجمال.
ــ يتعامل مع كل الناس تعامل حبّ ورحمة بعيداً عن الحرص والطمع والتزاحم، فلا يُذلّ أحداً ولا يستذلّ نفسه لأحد، بل يعيش في عزّة ويتعامل مع الآخرين بعزّة وكرامة.
ــ هذا الانسان يتحرك على طريق تقديم العطاء والخير للمجتمع، ويجهد ويسعى لخدمة أبناء جنسه، ولدفع مسيرة المجتمع في كل مجالاتها نحو التقدم والرقي.

أنواع المثل الأعلى
واضح أن المثل الأعلى للانسان المرتكس في ذاتياته هو هواه وشهواته، ويشير القرآن الى مثل هذا الشخص بقوله سبحانه: «أرأيت من اتخذ إلهه هواه»(3)، وهذا المثل الأعلى أو الإله يفتقد أيّ تطلّع مستقبلي، لأنه هابط، لا ينطوي على أشواق متسامية.
أما المثل الأعلى للإنسان المتحرر من أغلال الطين، فقد يكون مثلاً أعلا محدوداً، وقد يكون مثلاً أعلا مطلقاً(4).
والمثل الأعلى المحدود رغم كل مافيه من أشواق مستقبلية ومافيه من قدرة على شدّ الإنسان نحو تطلّع تكاملي فهو محدود بحدود مافيه من طاقة، ولذلك فإن الحركة نحوه تكون أيضا محدودة وتتوقف في مرحلة من مراحل الطريق. ولعلّ فشل الأنظمة والمشاريع الأرضية التي لوّحت بسعادة الانسان يعود الى استنزاف ما في مثلها الأعلى من طاقة.
أما المثل الأعلى المطلق وهو «الله» في المنظومة المعرفية الاسلامية فهو يستثير كلَّ الأشواق التكاملية المتسامية في نفس الانسان، ويوجّهه نحو مسيرة تكاملية لا حدّ لها، ولا تتوقف عند مرحلة معينة. فالانسان المؤمن بالله هو الحرّ من كل الأغلال والقيود «يضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم»(5) ، وهو الساعي إلى الكامل المطلق في كل شوطه الحياتي.
هذا المثل الأعلى المطلق يخلق في الانسان عطشاً للسموّ، وتوجيهاً نحو الطريق الحقيقي للسموّ، كي لا يتجه نحو «سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً»(6).

رسالة ابن الخطيب في »روضة التعريف«
من هذا التصوّر الإسلامي للانسان يقدّم ابن الخطيب منهجه العرفاني الذي يحرّر الانسان من قيود الغرائز البهيمية ويبعده عن المثل العليا السرابية، ويشدّه نحو المطلق الحقّ سبحانه. وبذلك يوجهه نحو حركة لا حدّ لها من الخير والعطاء للبشرية جمعاء.
هذه الحركة الانتقالية من ظلمات الطين والغرائز البهيمية الى نور التحرر والانطلاق والانعتاق هي «الحب» أو «العشق» في التعبير العرفاني. وحول محور هذا «الحب» أو «العشق» تدور كل محاور دعوة ابن الخطيب، ونستعرض هنا أهم هذه المحاور بصورة مقارنة.

1ــ إضفاء صورة الحبّ على كل العلاقات الكونية
كل الموجودات تتحرك بالحبّ، فالحبّ هو دافع الانسان والحيوان والجماد في كل مايصدر عنهم من حركة تكاملية. وفي «روضة التعريف» نرى فصولاً تحت عنوان: فصل منه في أنّ الوجود كلّه أصله المحبّة والعشق بإجمال قريب » و«فصل في أن كلّ مافي الكون.. بل الوجود كلّه محبّ عاشق بتفصيل غريب»(7).
والعلاقة بين أجزاء الطبيعة ليست علاقة تضاد وصراع كما تذهب إليه النظرة الماديّة، بل علاقة حبّ ووداد، ينقل ابن الخطيب من تراثنا الأدبي مايذهب الى هذا التصوّر للعلاقات بين أجزاء الطبيعة، من ذلك قول الشاعر عن النبات:
بكـــأس ترينا آية الصبــــــح والــدجا
فأولهـــــــــا شمــس وآخــــرها بدرُ
مقطّبــة إنْ لم يزرهــــــا مزاجهــــــــا
فأولهـــا شمــــس وآخرهـــــــــا بدرُ
فياعجباً للكون لم تـــــــخل مهجــــة
من العشق حتى الماء تعشقه الخمر(8)
وحافظ الشيرازي يرى العلاقة بين النبات والحيوان هي علاقة حبّ وعشق.. فالبلبل إنّما تعلّم أن يغنّي بعد أن أطربه جمال الزهرة يقول:

بلبل از فيض گل آموخت سخن ورنه نبود
اين همه قول وغزل تعبيه در منقارش(9)
أي: «البلبل تعلّم الإنشاد من فيض جمال الزهرة والاّ / ماكان كلّ هذا الكلام والغزل في منقاره».
والبلبل في غنائه – بنظر حافظ – يقرأ في جمال الزهرة دروس التوحيد بعد أن يرى نار موسى ظهرت من الورد يقول:
بلبل زشاخ سرو به گلبانك پهلوي
من خواند دوش درس مقامات معنوي
يعني بيا كه آتش موسى نمود گُل
تـــــــا از درخت نكته توحيد بشنــوي(10)
أي: «البلبل من غصن شجرة السرو باللحن الپهلوي/ كان ينشد أمس دروساً في المنازل المعنوية/ يعني تعال فقد أبرز الورد نار موسى / لتسمع من الشجرة ترانيم التوحيد».
والكون في رأي العرفاء يشعّ بالجمال ويخلق بذلك حالة العشق بين الموجودات . يقول حافظ:
گـُل يار حُسن گشته و بلبل قرين عشق
ايــــــن را تغيـــــــّري نـــــــــه وآن را تبدّلي(11)
أي: «الورد أصبح قرين الحُسن والبلبل قرين العشق/ لا في هذا تغيّر ولا في ذلك تبدّل».

2- الدعوة الى »الحياة« بالحبّ
إذا بقي الانسانُ راسفاً في أغلال بهيميته فهو ميّت، وإذا تحرك نحو الكون الفسيح فهو محبّ عاشق.. وهو حيّ بهذا الحبّ. ومنسجم مع حركة بقية الكائنات من جمادات وحيوان ونبات. يقول ابن الخطيب: «الحبّ حياة النفوس الموات، وعلّة امتزاج المركبات، وسبب ازدواج الحيوان والنبات، وسرّ قوله عزّ وجلّ:
أومَنْ كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات»(12) فالعرفان بدعوته إلى العشق يدعو – إذن – الى الحياة والحركة . وكل من لا يعمر قلبه بالعشق فهو ميّت يفتي حافظ الشيرازي بجواز الصلاة عليه ، يقول:
هر آن كسي كه درين حلقه نيست زنده به عشق
بـــــر او نمــــــرده بـــــــه فتواي مــــــن نماز كنيد(13)
أي: «كل من لم يكن في هذا الجمع حياً بالعشق/ بفتواي أقيموا عليه صلاة الميّت وهو حيّ».

3- الدعوة الى اجتماع المختلفين على مائدة العشق
العرفاء لا ينظرون الى المختلفين في العقائد والاجتهادات والمدارس بنظرة التضاد بين هؤلاء المختلفين ، بل يرون أنهم عاشقون جميعاً للحقيقة، بعضهم أصابها وبعضهم أخطأ الطريق إليها. ابن الخطيب يعقد فصلاً أو غصناً – بتعبيره - عن المحبين وأصنافهم، ويذكر في هذه الأصناف كلّ أصحاب الملل والنحل والمدارس الفقهية والكلامية من المسلمين وغير المسلمين، ويرى المنحرفين منهم أيضاً عشاقاً «وإن خاب مرادهم ، وضاع اجتهادهم»(14).
ويقول عنهم أيضا:
الحبُّ حرّكهم لكل جدال
والحبّ قاطع بينهم وأضلّهم
والـــــحبّ أنشــــــــأ فيهـــــم عصبيــــة والحبّ أقحمهم على الأحوالِ
عن نيل ماراموه كلّ ضلالِ
بالقيــــل أضــــــــــرم نارهـــا والقـــــالِ … وما منهم الاّ مدّعٍ(15)في المحبّة، متهالك حريص على السعادة بزعمه «وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة» ممن قصد الحقّ فأخطأه، أو أراد الصواب فضل عنه»(16).
وحافظ الشيرازي يرى أنّ الاختلاف بين المذاهب والفرق يعود الى أنهم طلبوا الحقيقة ولكنهم أضلّوا الطرق فسلكوا سبيل الوهم والخيال:
جنگ هفتاد و دو ملـّت همه را عذر بنه
چون نديدند حقيقت ره افسانه زدند(17)
ومن الطريف ما نقله المسعودي عن مجلس ايراني – عربي اجتمع فيه المختلفون مذهبياً وفكرياً، فاختلفوا في المسائل الكلامية واجتمعوا بعد ذلك في إطار الحبّ.
جاء في مروج الذهب: «»كان يحيى بن خالد ذا علم ومعرفة وبحث ونظر، وله مجلس يجتمع فيه أهل الكلام من أهل الإسلام وغيرهم من أهل الآراء والنحل، فقال لهم يحيى وقد اجتمعوا عنده: قد أكثرتم الكلام في الكمون والظهور، والقدم والحدوث، والإثبات والنفى، والحركة والسكون، والمماسَّة والمباينة، والوجود والعدم، والجر والطفرة، والأجسام والأعراض، والتعديل والتجريح ونفي الصفات وإثباتها، والاستطاعة والأفعال، والكمية والكيفية، والمضاف، والإمامة أنص هي أم اختيار، وسائر ما توردونه من الكلام في الأصول، والفروع، فقولوا الآن في العشق عَلَى غير منازعة، وليورد كل واحد منكم ماسنح له فيه، وخطر إيراده بباله.
فقال علي بن هيثم (وكان إماميَّ المذهب من المشهورين من متكلمي الشيعة): أيها الوزير، العشق ثمر المشاكلة، وهو دليل تـَمازُج الروحين، وهو من بحر اللطافة ، ورقة الصنيعة، وصفاء الجوهر وليس يحدُّ لسعته ، والزيادة فيه نقصان من الجسد.
وقال أبو مالك الحضرمي، وهو خارجي المذهب (وهم الشراة): أيها الوزير، العشق نـَفْثُ السحر، وهو أخفى وأحرّ من الجمر، ولا يكون إلا بازدواج الطبعين، وامتزاج الشكلين، وله نفوذ في القلب كنفوذ صَيِّب المـُزْنِ في خلل الرمل وهو ملك على الخصال تنقاد له العقول، وتستكين له الآراء.
وقال الثالث: وهو محمد بن الهذيل العَلاّف ، وكان معتزليَّ المذهب وشيخ البصريين: أيها الوزير، العشق يَخْتم على النواظر، ويطبع على الأفئدة، مرتقى في الأجساد، ومسرعة في الأكباد، وصاحبه متصرف الظنون، متغير الأوهام، لا يصفو له موجود، ولا يسلم له موعود، تسرع إليه النوائب، وهو جرعة من نقيع الموت، وبقية من حياض الثكل ، غير أنه من أريحية تكون في الطبع، وطلاوة توجد في الشمائل، وصاحبه جَواد لا يُصْغي إلى داعية المنع، ولا يسنح به نازعُ العذل.
وقال الرابع – وهو هشام بن الحكم الكوفي شيخ الإمامية في وقته وكبير الصنعة في عصره: أيها الوزير، العشق حِبَالَةٌ نَصَبَها الدهر فلا يصيد بها إلا أهل التخالص في النوائب، فإذا عَلِقَ المحب في شبكتها ونشب في أثنائها فأبعد به أن يقوم سليماً أو يتخلص وشيكاً، ولا يكون إلا من اعتدال الصورة، وتكافؤ في الطريقة، وملاءمة في الهمة، له مقتل في صميم الكبد ومهجة العقل، يعقد اللسان الفصيح، ويترك المالك مملوكاً، والسيّد خَوَلاً حتى يخضع لعبد عبده.
وقال النـَّظام إبراهيم بن يَسَار المعتزل (كان من نـُظَّار البصريين في عصره): أيها الوزير العشق أرَقُّ من السراب، وأدبّ من الشراب، وهو من طينة عَطِرَة عُجنت في إناء الجلالة، سحابة غزيرة تهمي على القلوب، فَتُعْشِب شعفاً، وتُثْمر كلفاً، وصريعُه دائم اللوعة، ضيّق المتنفس، مُشارف الزمن، طويل الفكر، إذا أجَنـَّه الليل أرق، وإذا أوضحه النهار قلق، صومه البلوى، وإفطاره الشكوى.
ثم قال السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر ومَنْ يليهم، حتى طال الكلام في العشق بألفاظ مختلفة ومعان تتقارب وتتناسب، وفيما مرّ دليل عليه«(18).
والموضوع الذي دار فيه الحديث (العشق) له ما يشابهه عند اليونان(19) ثم إن الموضوع تبلور فيما بعد وبلغ قمته على يد أهل العرفان الايرانيين أمثــــال سنائي والعطار وحافظ والمولوي«(20).

4- الدعوة الى تحمّل المسوؤليات الثقيلة
العاشق بعد أن ينجذب إلى عالم الحبّ، يستشعر الأهوال والأعباء في الطريق.. وطريق النهوض بأعباء إنسانية محفوف بالمخاطر، والمسؤولية فيه ثقيلة: «إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً» (21).
وهي عملية إعداد للإنسان المتحرّك على طريق الكمال، كي يكون متحلياً بالارادة الكافية لتحمّل الأعباء ومواصلة الطريق.
ابن الخطيب ينشد في «روضة التعريف» بهذا المعنى فيقول:
وركائب جعلوا الدليل أمامهم
وسروا ففازوا بالذي قد أمّلــــــــوا
والليل متلفة ومدرجة الهــوى
لا تستقلّ بهــــا المطيّ الدُلَّــــــــــلُ
يا رحمة للعاشقين تقحّمــــوا
خطر السُّرى وعلى الشدائد عوّلوا(22)
وحافظ الشيرازي يبدأ ديوانه بهذا الإعداد لتحمّل الاعباء فيقول: (23)
ألا يا أيها الساقي أدر كأساً وناولها
كه عشق آسان نمود اوّل ولي افتاد مشكلها
أي: »فالعشق بدا في أوله سهلاً ثم وقعت المشاكل«
وفي بيت آخر من هذه »الغزلية« يتحدث عن نفسه التي لا تدعه يستقرّ لأن شوط العمر قصير:
مرا در منزل جانان چه امن عيش چون هــر دَمجَرَس فرياد مي دارد كه بربنديـــــد محملهـــا أي : »أيُّ أمن عيش لي في منزل الحبيب،إذ في كل لحظة/ يدق الجرس أن ارزمـوا محملكـــم«.
وفي بيت آخر من هذه الغزلية يشير إلى مايحيط به من أهوال تعبّر عن الهموم الكبيرة التي يحملها، ويرى أن الذين يخلدون إلى الراحة ودعة العيش لا يفهمون ما يثقل صدور العاشقين:
شب تاريك وبيم موج وگردابـي چنين هايــــلكجـــا دانند حال مـــــــــا سبكباران ساحلهـــــــا أي: »ليل مظلم وموج مخيف، ولـُجّـــة هائلـة/ من أين لسكان السواحل أن يعرفوا حالنا«.
ثم يدعونفسه لأن يسير على طريق العشق إذا أراد أن يكون حاضراً، أي إذا أراد أن يكون ذا مكانة في ساحة الإنسانية المتكاملة:
حضـــوري گر همـــــي خواهي ازاوغايب مشوحافظمتــــــــــى ما تلــــــــــق مــن تهـوى دع الدنيا وأهملهـــا أي: »إذا أردت حضوراً مستمراً فلا تَغِب عنه يا حافظ / متى ماتلق من تهوى دعِ الدنيا وأهملها«.
ويلاحظ أن البيت الأول الذي يشير فيه إلى سهولة العشق في بداية مراحله، وظهور مشاكله وثقل أعبائه في مراحل تالية، له ما يشابهه في الغزل العربي، يقول الشاعر:
تولـّع بالعشق حتــى عشق فلما استقلّ به لم يُطــــق
رأى لـجّـة ظنّهـا موجــــــة فلمّـا تمكـّن منهـا غــرق(24)

5- دعوة الى رؤية جمال الكون
حركة الحبّ في الكون ناشئة عن الجمال. والجمال مودع في كل هذا الكون الذي أشرق عليه نور الله. يقول ابن الخطيب: «كل ما وقعت عليه حواس الإدراك مما يقيدها جنسه، أو يثير تعجبها جماله، أو يبهرها نورُه، أو يسوقُها حبّه، أو يروقها تناسبه وحكمته، ليس إلاّ نور الله الساري الى الشيء منه بقدر قبوله، ووسع استعداده، ورحب تلقيه..» (25).
والانسان لا يستطيع أن يرى المطلق، فيرى الجمال النسبي فيستثير فيه الأشواق نحو الجمال المطلق ويحنّ اليه. يقول ابن الخطيب: «والنفوس الجزئية إذا لمحته على صفحات المدركات هامت، واشتد ولوعها. إذ أصلها وقوامها وعللها وعنصرها هو. فهي تحنّ اليه حنين الشيء إلى أصله. قال الشاعر:
رآهـــا نـاظــــــــــري فصبـــــــــا إليها وشبــــه الشــــــيء منجـــــــذب اليــــه وقال:
أجارتنا إنــــــا غــــــــــريبان هــاهنــــا وكـــل غريب للغـــريب نسيـــــــب(26) وهذا يفسّر لنا مانراه من غزل عاطفي متوهّج في المرأة عند العرفاء والفقهاء أمثال الشريف الرضي وابن داود وابن الخطيب وابن حزم وسعدي الشيرازي وحافظ الشيرازي ومولانا جلال الدين الرومي، والامام الخميني، فجمال المرأة عند هؤلاء هو رمز الجمال النسبي الذين يشدّ الإنسان بالجمال المطلق(27). لأن الانسان يحنّ دائماً الى ذلك الجمال المطلق. يقول مولانا جلال الدين الرومي في إشارة رمزية الى هذا الحنين في مطلع ديوانه «المثنوي»:
بشنو از ني چون شكايت مي كند واز جـــدائيها حكايــــــت مي كند
كزنيستــــان تامـــرا بُبريده انــــد در نفيرم مــــرد وزن ناليده انـــد..
آتشت اين بانـــگ ناي و نيست باد هر كه ايـن آتش ندارد نيست باد(28)
أي: «اصغِ الى الناي كيف يشكو/ وكيف يتحدث عن الفراق/ يقول: منذ أن قطعوني عن مزرعة القصب/ الرجال والنساء أنّوا مع أنيني/ نغمة الناي هذه هي نار في الواقع وليست هواء/ الفناء والموت لمن لا يملك هذه النار».
والعرفاء يدعون ربهم أن يهب لهم صدراً ملتهباً وقلباً محترقاً، ولا خير في قلب لا يشعّ بهذا اللهيب:
الهي سينـــه اي ده آتش افـــــــروز
در آن سينه دلي وآن دل همه سوز
وارتباط جمال الكون بالعشق يقول عنه حافظ:
در ازل پـرتو حسنت زتجلـّي دم زد
عشـق پيـدا شد وآتش به همه عالم زد
أي: »نور جمالك تجلـّــى منــذ الأزل/ فظهر العشق وأضرم في العالم ناراً«.

6- الدعوة الى العشق الحقيقي
ثمة خلط كبير بين العشق الحقيقي، و«شهوات الجسد» في كتب الأدب والكتب التي تناولت موضوع الحبّ في التراث العربي، مما حدى بالمستشرق دوزي أن يزعم أن الجنس العربي لا يعرف الاّ الحبّ الحسّي وهو ما أنكره عليه آسين بلاثيوس(29).
لكننا نجد ابن الخطيب يفرقّ بوضوح بين العشق والشهوة، بل يقسّم العشّاق الحقيقيين الى عشّاق الصورة وعشّاق الجمال المطلق.
يذكر ابن الخطيب دوافع الشهوة بلغة مَنْ يريد أن يبعدها تماماً عن الحبّ يقول: «إن كانت الشهوة فأخسس بها داعية، والى الفضيحة ساعية، حسبك من حمار يعلو بنداء المحبّة نهاقه، ويقذفه على السباق اهتياجه، والى السفاد اشتياقه. أسير خيال، وصريع مَبال، أولى له ثم أولى ، لو تأمّل محاسن الجسوم ما أكذب رائدها المطري! وأخبث زخرفها المغري! واقصر مدة استمتاعها، وأكثر المساوئ تحت قناعها:
على وجه ميٍّ مسحة من ملاحـــــة وتحت الثياب العار لو كان باديــا(30) ثم يتحدث عن العشاق ويذكر «عشّاق الصورة» وأعتقد أنه يقصد العشّاق العذريين الذين يهيمون بجمال الجسد دون أن يتعدّوه الى مطلق الجمال فيقول عنهم: «وارحمتا لعشاق الصورة.. فتراهم مابين طعين بعامل قدّ، ومضرّج بدم خدّ، وأسير ثغر قد أعوزه فداؤه ، وسقيم طرف سقيم قد أعقل دواؤه، وماشئت من ليل يسهر، وندابة تجهر، وجيوب تــُشق.. وربما اشتد الحبل واصاب النبل فكان الخبل…»(31).
وأما العشق المطلق فهو الانطلاق من عشق الجمال النسبي الى عشق الجميل المطلق وهو الله سبحانه. وابن الخطيب يذكر الحديث الشريف: «حُبّب اليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعلت قرّة عيني في الصلاة»(32). ثم يرى أن هذا الحديث يناسب «من يسلك الى حضرة الحق من باب عشق الجمال الجزئي، وقد جعلوه من باب الرياضة، لحصول المقصود، وقد أشار اليها الرئيس أبو علي رحمه الله إذ قال: ويعين عليه العشق العفيف والحبّ الظريف الذي تؤمن فيه النفس سلطان الشهوة. فالفضلاء الذين يستدلون بالأثر على المؤثر، وعلى الحق بالخلق ، وعلى الصانع بالصنعة، وهم الذين ركبوا مطايا الأفكار، وقطعوا مراحل تلك القفار، فأساحوا وأمعنوا، وتحركوا حتى سكنوا، إذا تقيدت مشاعرهم بالجمال الحديث الجزئي، وأشكاله الحبيبة المشرقة على المواد الحيوانية، جردتها نفوسهم عن هيولاها، وصارت تشاهدها في أنفسها، وقد انبعثت في جواهرها ، فلم تغب عند مغيب مظاهرها ومجاليها، ولا تغيرت بتغيرها، ولا انتقلت بانتقال متحملاتها الحسية، فاستغنت وزهدت في الوسائط التي عرفتها من أجلها، وأدركتها بسببها، وانتقل محبوبها من خارج الحس إلى داخله، ومن بصر الإدراك إلى بصيرته، فصارت تشاهده في مرآة ذاتها.
ثم إن الإدراك الساري أعاد البصر كرتين إلى الصورة المنتقلة المحبوبة، فحكم بأنها وإن كانت حسنة جميلة، فائقة معشوقة، فإنها تعد في كرَّة الخيال، وتحت رق الخسة الجسمانية، ومن وراء حجاب الحسن، وانها بعد خيالية متغيرة ، ومشاهدتها غير خالصة، وأن الصورة المعقولة التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا تنتقل ولا تضمحل أولى بتقيده ، وأحق بمشاهدته، فحن إليها أكثر من حنينه إلى تلك الأشخاص ، وطلبها فيها، وقد مرنت نفسه على العشق العفيف، والحنين إلى الجمال المنيف، فكانت جزئيته إلى الكلي سبباً، وإلى الصادق سلّماً، كما قال الشاعر:
مدحت الورى قبلـــــــــــه كاذبــــاً ومــــــا صــــدق الفجر حتى كذب وعندما اتصل بالصور الكلية، وأثاره الرياضة من الحضيض الأوهد، إلى الجناب الأقدس، والعز الأنفس، وانتبهت نفسه انتباهة ثانية، وهي إحدى الكرتين رآى الصور المعقولة فائضة من واهبها الذي هو أولى بالحب، وأحق بالاستهلال، وأنه الجمال على الحقيقة»(33).
ويرىحافظ الشيرازي أيضا أنّ مجنون ليلى قد أصيب بما أصيب به بسبب البرق الذي سطع من بيت ليلى، يقول:
برقي از منزل ليلى بدرخشيد سحـــر
وه كه با خَرمَن مجنون دل افگار چه كرد
أي: »لقد سطع من منزل ليلى في السحر برق/ آه، ماذا فَعَل ببيدر المجنون المسكين«.
وهذا البرق الذي يتحدث عنه حافظ هو نفسه البرق الذي رآه موسى في طور سيناء. أي إنه مظهر من مظاهر الجمال الالهي المطلق في هذا الكون يقول:
ز آتش وادي أيمن نه منم خُرّم وبس
موسى آنجا به اميد قبسي مي آيــد
أي: «لستُ وحدي جذلاناً من الوادي الأيمن/ جاء موسى على أمل قبس الى ذلك الوادي».
فليست ليلى إذن سوى مظهر من مظاهر الجمال المطلق. ولا يمكن الانطلاق نحو المطلق إلاّ بالالهام من الجمال النسبي.

7- الدعوة الى العلم المفيد
لو لم يكن للعرفان إلاّ هذه الدعوة الى العلم المفيد لكفاه مساهمة في خدمة الحضارة الاسلامية، إذ ابتُلِيَت المسيرة العلمية في حضارتنا بجدل عقلي لا طائل تحته، وبمعارك كلامية بعيدة عمّا يفيد الانسان في حياته المادية والمعنوية.
والعرفاء وصّفوا هذا النوع من العلوم بالقيل والقال، وشبهّوه بالماء الزائد غير المفيد الذي يضرّ بالارض والزرع يقول ابن الخطيب: (34).
«فان تشاغل صاحب هذه المهنة (المزارع) باستعظام المياه ووزنها، والاستكثار من تعرّف أوصافها، والنظر في المياه بحكم الانجرار: من أجاج وملح، وعذب مشروب ، وزعاف متروك، وإحصاء المنافع وهيآتها، ونسبتها الى الأماكن، وذكر ما تمرّ به في جداولها من الأحواز، وما تنبته حافاتها من العشب على اختلاف فقد ضاع له الوقت في غير فائدة، وكذلك إن جلب من هذا الماء مقداراً فوق الحاجة مع غنى عن هذه الأرض وودكها وكرمها، ساء أثره، وأفسد المسالك والمشارب إكثاره، وغمر طبيعة الأرض برده، وحشد الخصب كثيره، ومرج الأرض نفعه، وكثر العشب إغراقه وركوده ، وتعذّر على الفلاّح عند الضجر به قطعه، وأعياه من شدّة ردمه، وكان بعلاجه عن ضرورات الفلاحة شغله، وضايقه في مصلحة الأرض همه به وفكره. ولله دَرّ القائل:
فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمى
والاستصحاب عند خوف الإفساد مشروع، ودعاء الرسول (ص): «حوالينا لا علينا» معروف، وقوله: «نافعاً غير ضارّ» مشهور. ولا حاجة بصاحب الفلاحة الى علم لا يفيد عمل الفلاحة، من حيث كونه فلاّحاً، وما لا يحقق به أصولها وفصولها..».
وإذا دعا ابن الخطيب الى النافع من الماء في السقي وعدم الانشغال بما لا فائدة فيه من جزئيات وصف المياه وأنواعها، والاّ كثرت الأعشاب الطفيلية وابتعد المزارع عن ضرورات الفلاحة، فإن العرفاء الايرانيين ذهبوا الى أنّ العالِم يجب أن يكون عاشقاً كي يكون علمه مفيداً، وإن لم يكن عاشقاً كان هدف علمه تضخيمَ ذاته وتكريس أنانيته، ومثل هذا العالم لا يتقدّم ولا ينفع، بل يملأ الدنيا بالضجيج والقيل والقال.
يقول مولانا جلال الدين الرومي:
علم نبود غير علم عاشقي مابقي تلبيس ابليــــــس شقي(35)
أي: «ليس العلم سوى علم العشق/ وما سواه فهو تلبيس ابليس الشقي».
والشيخ بهاء الدين العاملي (ت ) الذي يعتبر من أبرز وجوه تواصل الأدب العرفاني العربي الفارسي يعبّر أجمل تعبير عن هذه المعاني في أبيات أنقلها لما فيها من معان طريفة رائعة في هذا المجال: (36)
يا نديمي ضاع عمري وانقضى
قم لادراك زمانٍ قد مضـــــــى
واغسـلِ الأدناس عـــنّي بالمــدام
وامــــــــلأ الأقداح منها يا غلام
واسقني كأساً فقد لاح الصباح
والثــــــريّا غربت والديك صاح
زوّج الصهبــــاء بالـــــــماء الزلال
واجعلنْ عقلي لها مهــــــراً حلال
هاتها من غير مهل يا نــــــــــديم
خمرةً يحيا بها العظم الرميــــــم
بنتَ كرم تجعلنّ الشيخ شــــاب
من يذق منها عن الكونين غــاب
خمرةً من نار موسى نورهــــــــا
دنـّها قلبي وصدري طورهـــــــــا
قم ولا تمهل فما في العمر مهـــل
لا تصعّب شربها فالأمر سهــــــل
قل لشيخ قلبه منها نفـــــــــــــور
لا تخف فالله تــــــوّاب غفــــــــــور
يا مُغنـّي إن عندي كـــــلّ غـــــم
قم وألق الناي فيهــــا بالنغـــــــــم
غنّ لي دوراً فقـــــــد دار القــــــدح
والصبا قد فاح والقمري صـــــدح
واذكرنْ عندي أحاديث الحبيب
إن عيشي من سواها لا يطيــــــــب
واحذروا ذكري أحاديث الفـراق
إن ذكر البعد ممّا لا يطــــــــــاق
ردّ لي روحي بأشعار العـــــــــــــرب
كي يتمّ الحظّ فينا والطــــــــرب
وافتتح منها بنظم مستطـــــــــاب
قلته في بعض أيـــــــــام الشبــــــاب
قد صرفنا العمر فــــــي قيل وقال
يا نديمي قم فقد ضــــــــاق المجال
ثم أطربني بأشعـــــــار العجـــــــــم
واطردنْ همّاً علـــــــى قلبي هجــم
وابتدئ منها ببيـــــــــت المثنـــــوي
للحكيم المــــــــولوي المعنـــــــــــــوي
بشنو ازني چــون حكايت مي كُند
واز جدائيها شكـــايت مي كُند(37)
قم وخاطبني بكــــــل الألسنــــــة
علّ قلبي ينتبه من ذي السِّنــــــة
إنه في غفلة عـــــــن حالـــــــــــــــه
خابط في قيلــــــــه مــــــــــــع قاله
كلّ آن فهو في قيــــــــد حـــديــد
قائلاً من جهله هل مــــــــن مزيد
تائهاً في الغيّ قد ضــــــــلّ الطريق
قطّ من سكر الهوى لا يستفيـــــق
عاكفاً دهراً على أصنامـــــــــــه
تهزأ الكفار مــــــــــــن إسلامـــــــه
كم أنادي وهو لا يصغي التناد
وا فؤادي وا فـــــــــــؤادي وا فؤاد
يا بهائي اتخذ قلبــــــــاً ســـــــواه
فهو ما مبعوده إلا هـــــــــــــــواه

تلخيص واستنتاج
ابن الخطيب شانه شأن سائر العرفاء الإسلاميين دعا الى نظرة للكون والحياة قائمة على أساس الحبّ، ورأى أن كل حركة تكاملية في هذا الكون إنّما هي نتيجةٌ لدافع الحبّ.
وهذا الحبّ لاينمو في وجود الانسان إلاّ إذا تخلص من الارتكاس في ذاتيته وأنانيته، وإذا تخلّص انطلق في جوّ فسيح لا نهاية لشوطه، حيث يرى فيه الجمال فينجذب اليه ويعشقه، وبذا يتحرك نحو كل كمال مادّي ومعنوي.
وبهذا العشق فقط يستطيع الانسان أن يتحمل المسؤوليات الكبرى في هذا الكون، وبهذا العشق فقط تزول الصراعات والخلافات التي تنشأ عادة عن مصالح ذاتية وعن أنانيات ضيقة.
من هنا فإن مشروع ابن الخطيب في عرفانه مشروع حضارتنا الاسلامية الذي يلتقي فيه العرب والفرس مستلهمين تعاليم الدين المبين، واضعين أمام البشرية طريق الحب والجمال والانسجام والوئام والتكامل الانساني.
إن البشرية اليوم إذ تعاني من الصراع المادّي المحموم، تحتاج اكثر من أي وقت مضى الى هذا المشروع شرط أن يقدّم بلغة العصر وعلى مستوى متطلبات العصر. ولا أدلّ على عطشها لهذا العرفان من المبيعات الواسعة لكتب العرفان المترجمة الى اللغات الاوربية، خاصة خلال العقد الأخير حسب إحصائيات اليونسكو.
ومجتمعاتنا الاسلامية لا تقلّ حاجة عن المجتمعات الاوربية لهذا المشروع العرفاني. وإذا تربّى شبابنا على مفاهيمه عرفوا معنى الجمال الحقيقي ومعنى الحبّ الحقيقي، ونأوا عن السقوط في اوحال الرذيلة والشهوات الهابطة، وابتعدوا عن الارتكاس في ذاتياتهم وأنانياتهم، واصبحوا عشاقاً يعيشون الهموم الكبيرة. وهذه هي غاية كلّ المربين الحادبين على مستقبل أممهم واوطانهم.
وإذا كان ابن الخطيب ضحيّة الأحقاد التي لم تعرف حباً ولا تذوّقت جمالاً، فلننقذ أمتنا وجميع الانسانية من هذه الأحقاد التي تحصد أرواح الملايين تحت عناوين شتّى، ولا شيء وراء هذه العناوين سوى ابتعاد الانسان عن طريق المثل الأعلى الحق.



1 - ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين (المؤمنون/ 12).
2 - فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي…. (الحجر/ 29).
3 - الفرقان/ 43.
4 - انظر نظرية السيد محمد باقر الصدر في أنواع المثل الأعلى، ودور المثل الأعلى في حركة التاريخ: التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.
5 - الاعراف/ 157.
6 - النور/ 39.
7 - روضة التعريف بالحبّ الشريف، الوزير لسان الدين الخطيب، تحقيق وتعليق وتقديم عبد القادر أحمد عطاء، دار الفكر العربي، بدون تاريخ، ص 356.
8 - نفس المصدر، ص 361.
9 - ديوان حافظ، تصحيح ومقدمة دكتر حسين الهي قشمه أي ، ص 275.
10 - نفس المصدر/ ص 483.
11 - نفس المصدر/ ص 460، مع اختلاف عن بعض النسخ.
12 - روضة التعريف/ ص 91 . والآية في الأنعام / 122.
13 - ديوان حافظ، ص 240.
14 - روضة التعريف/ ص 542 – 544 .
15 - الغاشية/ 2.
16 - روضة التعريف/ ص 549.
17 - ديوان حافظ/ 180.
18 - مروج الذهب ، المسعودي، 3/ 379 – 381.
19 - انظر: التفضيل الجمالي، سلسلة عالم المعرفة.
20 - انظر: نهج العاشقين، آذرشب، طبعة رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية، فصل تطور الغزل الفارسي.
21 - المزمل/ 5.
22 - روضة التعريف ص .
23 - ديوان حافظ ، ص 1.
24 - الحب في التراث العربي، عبد الله، محمد حسن، دار المعارف، القاهرة، بلاتا، ص 226 ومابعدها-
25 - روضة التعريف، ص 285.
26 - نفس المصدر، ص 286.
27 - انظر: منهج العاشقين، فصل »الجمال«.
28 - الغزل الأول في مثنوي جلال الدين الرومي.
29 - انظر احمد عبد الستار الجواري، الحبّ العذري، ط، دار الكتاب العربي بمصر 1948، ومكي الطاهر، دراسات عن ابن حزم ، مكبة وهبة، القاهرة 1976.
30 - روضة التعريف/ 92 – 93.
31 - نفس المصدر/ 91 – 92 .
32 - نفس المصدر/ 365.
33 - روضة التعريف/ 367 – 368.
34 - روضة التعريف 188 – 189.
35 -.
36 -.
37 - أي: اسمع من الناي إذ يقصّ الحكايات ويشكو من تباريح الفراق.
وهذا أول بيت في كتاب «المثنوي» العظيم لمولانا جلال الدين الرومي، وفيه يلخّص برمزية رائعة كلّ الأشواق التي تضطرم في صدر الانسان. إنها أشواق العودة الى الله والاتصال به سبحانه.

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• «أكبر» والمذاهب   (بازدید: 859)   (موضوع: شخصيات)
• أبو فراس الحمداني   (بازدید: 2097)   (موضوع: أدب)
• أبو فراس الحمداني / مقاربة في دارسة مدحه وهجائه   (بازدید: 2372)   (موضوع: أدب)
• إحياء الاسلام أولا   (بازدید: 851)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• أزمة التخلف الحضاري و انعكاساتها على وضع المرأة المسلمة في عصرنا الراهن   (بازدید: 4151)   (موضوع: )
• ادباء ايرانيون في دراسات سيد قطب   (بازدید: 1614)   (موضوع: أدب)
• الأدبان المعاصران العربي و الفارسي مقاربة في الظواهر المشتركة   (بازدید: 1174)   (موضوع: أدب)
• الأواني المستطرقة   (بازدید: 1837)   (موضوع: أدب)
• الامام علي - العطاء الحضاري المتواصل   (بازدید: 902)   (موضوع: شخصيات)
• التقريب في القرن الماضي   (بازدید: 1075)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• التيسير في الحج في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها   (بازدید: 1162)   (موضوع: ملتقيات)
• الحب و التقريب   (بازدید: 921)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• الحكومة الاسلامية من منظور الشاعر الكميت بن زيد   (بازدید: 1272)   (موضوع: أدب)
• الحوزة الإيرانية في القرن الماضي   (بازدید: 1334)   (موضوع: أوضاع المسلمين)
• الخطاب الانساني في مثنوي مولانا جلال الدين الرومي   (بازدید: 2468)   (موضوع: أدب)
• الرسالية في الشعر الشيعي   (بازدید: 948)   (موضوع: أدب)
• السنن الحَسنة   (بازدید: 907)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• الشهيد مطهري وإحياء الفكر الاسلامي   (بازدید: 2456)   (موضوع: فكر إسلامي)
• القاعدة الاخلاقية والفكرية في الاقتصاد الاسلامي   (بازدید: 1356)   (موضوع: فكر إسلامي)
• القدس رمز وجودنا   (بازدید: 1020)   (موضوع: فلسطين)
• القضية الفلسطينية في ضمير الشعب الإيراني   (بازدید: 1013)   (موضوع: فلسطين)
• المؤتمر الفكري الاول للشهيد السعيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم (رض) لندن 11/1/2004   (بازدید: 856)   (موضوع: ملتقيات)
• المذاهب الإسلامية بين السلب والإيجاب   (بازدید: 787)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• المنظومة الفكرية للشهرستاني وموقع ابن سينا منها   (بازدید: 2123)   (موضوع: فكر إسلامي)
• الهجرة الفرص والتحديات   (بازدید: 1324)   (موضوع: حوار الحضارات)
• الى عرفات اللّه   (بازدید: 805)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• انتشار الإسلام في إيران / هل دخل بالسيف أم عن طريق القلوب؟   (بازدید: 2155)   (موضوع: فكر إسلامي)
• تكريم روّاد التقريب   (بازدید: 875)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• ثقافة التقريب / لماذا؟   (بازدید: 859)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• جولات تقريبية   (بازدید: 965)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• جولات تقريبية   (بازدید: 862)   (موضوع: فكر إسلامي)
• جولات تقريبية «القسم الثالث»   (بازدید: 853)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• حركة التاريخ في فكر الامام الصدر   (بازدید: 1926)   (موضوع: فكر إسلامي)
• حوار الحضارات - الالولويات - الأخطار   (بازدید: 1902)   (موضوع: حوار الحضارات)
• حوار مع الدكتور سيد حسين نصر   (بازدید: 1751)   (موضوع: مقابلات)
• دور السيد جمال الدين في الادب العربي الحديث   (بازدید: 2663)   (موضوع: شخصيات)
• دور زينب بنت علي في مسيرة الحضارة الاسلامية   (بازدید: 1727)   (موضوع: دراسات حضارية)
• رؤية السيد الشهيد الصدر لمسألة التنمية   (بازدید: 1452)   (موضوع: دراسات حضارية)
• رسالـة التقريب   (بازدید: 1012)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• سؤالات مجهولة من أسئلة نافع بن الأزرق إلى عبدالله بن عباس   (بازدید: 2134)   (موضوع: قرآن)
• سبل تنشيط العلاقات الثقافية بين الايرانيين و العرب   (بازدید: 990)   (موضوع: ثقافة)
• سعدي الشيرازي   (بازدید: 1973)   (موضوع: أدب)
• شاعران كبيران في إيران   (بازدید: 1515)   (موضوع: أدب)
• شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي الحلبي   (بازدید: 2526)   (موضوع: شخصيات)
• عزة الامة في التقريب   (بازدید: 973)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• عصر الأدب الفارسي الإسلامي   (بازدید: 7204)   (موضوع: أدب)
• فرصة عظيمة و لكنها مهددة   (بازدید: 918)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• قصة الناي في فكر الكواكبي   (بازدید: 1794)   (موضوع: فكر إسلامي)
• قصة الناي في فكر الكواكبي   (بازدید: 1100)   (موضوع: فكر إسلامي)
• كتب في ميزان التقريب   (بازدید: 1013)   (موضوع: كتب)
• كلمة التحرير   (بازدید: 948)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• مؤتمر تيسير علم النحو   (بازدید: 1329)   (موضوع: ملتقيات)
• مجالات التقريب   (بازدید: 1011)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• مشاكل وعقبات في طريق وحدة المسلمين   (بازدید: 1318)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• معوقات النهوض وأسباب التخلّف في فكر الإمام الصدر   (بازدید: 1352)   (موضوع: فكر إسلامي)
• موقف الإسلام من التراث الإيراني القديم   (بازدید: 1840)   (موضوع: تاريخ)
• موقف الإيرانيين من الدعوة الإسلاميّة   (بازدید: 837)   (موضوع: تاريخ)
• موقف الايرانيين من الدعوة الإسلامية   (بازدید: 1132)   (موضوع: تاريخ)
• موقف الرئيس الاسد من الثورة الاسلامية الايرانية - الخلفية التاريخية   (بازدید: 960)   (موضوع: شخصيات)
• نحن و البدعة   (بازدید: 956)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• نحن و التاريخ   (بازدید: 902)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• نحن و الحج   (بازدید: 803)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• نحن و الحسين   (بازدید: 871)   (موضوع: )
• نحن و السلفية   (بازدید: 801)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• نحن و السياسية   (بازدید: 801)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• نحن و السيرة   (بازدید: 786)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• نحن و الصحوة الإسلاميّة   (بازدید: 794)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• نحن و العزة الإسلاميّة   (بازدید: 894)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• نحن و الغزو الثقافي   (بازدید: 1038)   (موضوع: الغزو الثقافي)
• نحن و النظام الدولي الجديد   (بازدید: 884)   (موضوع: العالم الإسلامي)
• نحن و دولة الإسلام في إيران   (بازدید: 849)   (موضوع: العالم الإسلامي)
• نحن و شهر رمضان المبارك   (بازدید: 846)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• نحن و قضايانا المشتركة   (بازدید: 850)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• نحن و مؤامرات الإثارة الطائفية   (بازدید: 850)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)
• ندوة ثقافة التقريب بين المذاهب الاسلامية ودورها في وحدة الامة   (بازدید: 862)   (موضوع: ملتقيات)
• وحدة المسلمين فريضة   (بازدید: 850)   (موضوع: الوحدة الإسلامية)

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• الشيخ ميثم البحراني رمز من رموز التراث والتواصل الحضاري   (بازدید: 1930)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الشيخ ميثم البحراني على خلفية أوضاع عصره   (بازدید: 1640)   (نویسنده: الشيخ ماجد الماجد)
• الشيخ ميثم البحراني.. يخترق العصر   (بازدید: 1430)   (نویسنده: الدكتور صباح زنكنه)
• العلامة ابن ميثم البحراني موجز حياته العلمية   (بازدید: 1593)   (نویسنده: زهراء مصباح)
• ميثم البحراني حياته ودوره في دعم الحركة العلمية في البحرين   (بازدید: 2797)   (نویسنده: الشيخ حميد مباركة)
• ابن ميثم البحراني وعصره   (بازدید: 1085)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• الكواكبي والدين   (بازدید: 1136)   (نویسنده: أسعد السحمراني)
• رمز من رموز التراث والتواصل الحضاري   (بازدید: 1229)   (نویسنده: الشيخ ميثم البحراني)
• كيف ينبغي النظر إلى ظاهرة الشيخ ميثم البحراني؟   (بازدید: 1321)   (نویسنده: محمد جابر الانصاري)
• مجدّد العصر   (بازدید: 754)   (نویسنده: إبراهيم محمد جواد)
• ملامح من شخصية العالم المفكر الشيخ ميثم البحراني   (بازدید: 1663)   (نویسنده: السيد محمد بحر العلوم)
• العلامة المطهري / في آرائه الفلسفية والعقائدية   (بازدید: 4025)   (نویسنده: السيد حسن النوري)
• الملف / رجل الإحياء والاستئناف الحضاري   (بازدید: 941)   (نویسنده: مرتضى مطهري)
• احمد صدقي الدجاني رجل الفكر الحضاري   (بازدید: 1594)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الشيخ محيي الدين بن عربي و أثره الحضاري في حوض المتوسط   (بازدید: 1189)   (نویسنده: محمد قجة)
• العلامة محمد تقي القمي رائد للتقريب والنهضة الإسلامية   (بازدید: 2852)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• رائد الدراسات الفارسية في مصر   (بازدید: 987)   (نویسنده: الدكتور صادق خورشا)
• شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي الحلبي   (بازدید: 2526)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• ملف مالك بن نبي   (بازدید: 1273)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الاتجاه النقدي عند الشهرستاني   (بازدید: 1894)   (نویسنده: د. محمد حسيني أبو سعدة)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]