banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

رحلة إلى كعبة الحبيب
ثقافتنا - العدد 14
عرفان
علي اللّهوردي خاني
1428

الف – رعاية حقوق المحتاجين
مواهب العالم، حقّ الجميع
ثمة رابطة غائية بين الإنسان والمواهب الإلهية وهي تمتّع جميع الناس بهذه المواهب. القرآن يؤكد هذا المفهوم في مثل قوله سبحانه: ( خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً( (البقرة:29) وقولـه: ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ( (لأعراف:10). والشكر هو استثمار المواهب الإلهية في الموضع المناسب.
الارتباط الغائي بين الإنسان والنبات والجماد ونظام الكون يثبت بوضوح أن جميع هذه المواهب إنّما سُخّرت للإنسان. المواد الغذائية المسخّرة لكل موجود تتناسب مع جهازه الهضمي. فالإنسان قبل ولادته يتوفر له في صدر أمّه المصدر الغذائي المناسب. يقول علي(ع): «لكل ذي رمق قوت ولكل حبّة آكل»(1) . والتناسب بين المواد الغذائية وحاجة الكائن الحي هو عامل استمرار الحياة في الإنسان والحيوان، ولولاه لانعدمت أسباب الحياة. إذن ثمة ارتباط غائي بين الحق وصاحب الحق، ولابدّ من أن يحصل صاحب الحقّ على حقّه.
الإسلام قرّر في أموال الناس حقاً للفقراء والضعفاء، ولا يجوز لأحد أن يعتقد بأن هذا الحق المفروض في ماله هو ملكه. يقول سبحانه: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً( (الإسراء:26). ويقول سبحانه: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ( (الذاريات:19)، وممن له حقّ معلوم في الأموال: العاجزون عن العمل، أو الذين لا يسدُّ عائدُهم حاجَتهم، أو الذين يقومون بأمر الدعوة إلى الدين أو يُعدّون أنفسهم لذلك.
من هنا فلا حرمان ولا إرهاق ولا بطالة في المجتمع الإسلامي، فالله سبحانه قرر أن جميع الناس لهم حقٌ في هذه المواهب: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ( (الرحمن:10). وليست الأرض حِكراً على مجموعة من الأغنياء والمستكبرين يتصرفون فيها كيف يشاؤون دونما اهتمام بحقّ المحرومين.
السعداء يفكرون دائماً في حال المعوزين والمحتاجين، والقرآن يؤكد على ذلك، ونصوص السنّة وسيرة المعصومين تبيّن مدى أهميّة المسألة. وفي نهج البلاغة تأكيد بالغ على العدالة الاجتماعية والاقتصادية. وهذا التأكيد له خلفية أخلاقية إنسانية هامة. فأغلب الانحرافات ناشئة عن الاختلال في موازين العدالة الاجتماعية، وتفشّي الفقر في المجتمع، وهذا الاختلال يعود بالضرر على جميع أفراد المجتمع.
أولياء الله بلغوا في مراعاة العدالة والإيثار حدّ الكمال في سلوكهم وفي دعوتهم.
ونرى نموذج ذلك في شهادة امرأة بحقّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
«حج معاوية، فسأله عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجُون، يقال له دارِمِية الحجونية؛ وكانت سوداءَ كثيرة اللحم، فأخبر بسلامتها؛ فبعث إليها فجيء بها؛ فقال: ما حالكِ يا بنةَ حام؟ فقالت: لست لِحَامِ إن عبتني؛ أنا امرأة من بني كنانة. قال: صدقت. أتدرين لِمَ بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيبَ إلا الله. قال: بعثت إليك لأسألك: علامَ أحببت عَليّاً وأبغضتيني؛ وواليتهِ وعاديتني؟ قالت: أو تُعفني. قال: لا أعفيك. قالت: أما إذ أبيت، فإني أحببتُ عليّاً على عدله في الرعية، وقَسْمه بالسويّة؛ وأبغضتُك على قتال مَن هو أولى منك بالأمر، وطِلْبتَك ما ليس لك بحق. وواليت عليّاً على ما عَقَد له رسول الله(ص) من الولاء، وحبِّه المساكين. وإعظامِه لأهل الدين. وعاديتك على سفكك الدماء، وجورِك في القضاء، وحكمك بالهوى…
قال لها: ويا هذه، هل رأيتِ علياً؟ قالت: إي والله. قال: فكيف رأيتهِ؟ قال: رأيته والله لم يفتنه نعم والله، فكان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيتُ صدأ الطَسْت. قال: صدقتِ! فهل لك من حاجة؟ قالت: أو تفعلُ إذا سألتُك؟ قال: نعم. قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلُها وراعيها. قال: تصنعين بها ماذا؟
قالت: أغذو بألبانها الصِّغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر.
قال: فإن أعطيتك ذلك فهل أحُلُّ عندك محل علي بن أبي طالپ؟
قالت: ماءٌ ولا كصَدّاء(2) ، ومرَْعى ولا كالسّعْدان(3) ، وفتىً ولا كمالِك، يا سبحان الله، أوَ دُونَه؟ فأنشأ معاوية يقول:
إذا لم أعُدْ بالحِلْمِ منَّي عليكمُ
خُذيهـا هنيئاً واذكري فِعل ماجـــدٍ

فَمنْ ذا الذي بَعدي يُؤمَّلُ للحِلْمِ
جَزاكِ على حَرْبِ العـداوةِ بالسلْــمِ
ثم قال: أما والله لو كان عليٌّ حياً ما أعطاك منها شيئاً.
قالت: لا والله، ولا وَبرَةً واحدة من مال المسلمين».
سالك طريق الحق لابدّ أن يجعل العدالة بمعناها الكامل نصب عينية، وأن يتفقد الفقراء ويأخذ بأيديهم منطلقاً في ذلك من مبدأ أخلاقي يرى أن فقدان العدالة الاجتماعية سيؤدي إلى نزول أنواع البلايا وحلول ألوان المصائب في المجتمع.

مسؤولية الأغنياء تجاه الفقراء
مهما بلغ الفرد المسلم والمجتمع المسلم من الغنى والثروة فإن ذلك لا يشكل مفخرة لذلك الفرد أو لذلك المجتمع إذا كان فيه فقير محروم، لأن هذه الثروة تنطوي على حقٍّ مُضَـيّع. ظواهر الثراء مهما بلغت في جمالها وأبّهتها ومظاهر زينتها فإنها ستكون منطوية على باطن قبيح إذا شيّدت من مال المحرومين والفقراء الذين لهم حقٌّ معلوم في الأموال. والى هذا يشير أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إذ يقول:
«إن الله سبحانه فَرَضَ في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك»(4) .
الإسلام لا يعارض التمتع بالدنيا وطيباتها، بل يحثّ على ذلك، لكن هذا التمتّع يجب أن يكون مقروناً بالشعور بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الفقراء والمعوزين، أي لا يجوز أن يكون هذا التمتع مقروناً بالبطر والانغماس في الملذّات، فإنّ ذلك يتعارض مع القيم الإنسانية، ويؤدي إلى قسوة القلب وخمود الروح وضعف الضمير. إنّ الشعور الإنساني يفرض على كل إنسان ذي ضمير حيّ أن لا يشعر بالتمتّع واللذة في الحياة حين يرى إلى جانبه جوعاً أو عوزاً أو فقراً. بل يجب أن تكون أسمى لذّته أن يأخذ بيد محتاج أو يزرع البسمة والفرح في وجوه اليتامى والمحتاجين. وإذا لم يستشعر مثل هذه اللذة المعنوية فلابدّ أن تكون مشاعره مصابة بمرض، تماماً كما تصاب ذائقة الإنسان بمرض يحسّ المريض معها حلو الطعام مرّاً.
السائرون على طريق الله يحملون مشاعر سليمة يعرفون معها معنى اللذة الحقيقية، ومن هنا فإنهم يبلغون غاية هذه اللذة حينما يقدّمون غاية ماعندهم من عطاء في سبيل الخدمة الاجتماعية العامّة، ومن تلك سدّ النقص الاقتصادي في المجتمع.
المشاعر المصابة بفقدان القدرة على درك اللذات المعنوية هي في الواقع مصابة بقسوة القلب، وقسوة القلب تنشأ من كثرة المعاصي والانغماس في الشهوات ومن البطنة.
والبطنة أول ظاهرة سلبية ظهرت في المجتمع الإسلامي بعد عصر الرسالة، وكان لها الأثر المؤلم في تصاعد الأهواء والذاتيات. والمبتلون بداء البطنة تظهر عليهم عدة خصال منها:
1ـ فقدان حاسة تذوق العبادة والطاعة.
2- فقدان روح المواساة مع آلام الناس.
3- أنهم يحسبون أن غيرهم أيضاً متخوماً مثلهم.
4- يقعون تحت سيطرة هوى النفس.
5- يثقل عليهم أداء الطاعات والعبادات.
وفقدان حالة المواساة الاجتماعية تزيد القلب قسوة، والمبتلون بقسوة القلب يفقدون حسّ الذائقة الباطني، خاصة المتخومين الغارقين في شهواتهم وأهوائهم. هؤلاء يبتلون بضعف بصيرة القلب، ولا يرون الحقائق، ولا يدرون أن هذه الملذات الظاهرية تقابلها مرارة باطنية، وتزداد هذه المرارة كلّما ازداد الانغماس في الملذات، حتى تغطّي على قدرتهم في تذوّق حلاوة الروح والمعنويات.
وعلى أهل الإيمان أن يعلموا أنهم أمام امتحان الانزلاق في صغائر الأمور من المال والشهوة والشهرة والجاه، وهذه الصغائر فيها من البريق الخلّب ما قد يغطّي على العقل والبصيرة، من هنا فلابدّ من مراقبة النفس كي يكون الإنسان دائماً ماسكاً بزمام عقله، وآخذاً من الدنيا ما يعينه على مسيرته نحو هدفه الكبير في الحياة.
والـمُنعم سبحانه يراقب البشر، وسنته تقتضي أن يؤدي الإنسان حقّ النعمة، وإلاّ انقلبت عليه نقمة وصارت له فخاً مرعباً.
أولئك الذين لا يؤدون حقّ الفقراء واليتامى إنما يأكلون أموال هؤلاء ظلماً، ويملأون بطونهم من الحرام، وتتحول في أجسادهم إلى سموم هي أخطر بكثير من سموم الطعام الفاسد، إذ إن هذه السموم تجرّ إلى فساد اجتماعي قد يبقى أحقاباً يؤدي دوره الهدّام في المجتمع.
إنّ الله سبحانه إنما فرض على أبناء المجتمع أن يؤدّوا ما عليهم من حقّ عام في أموالهم تزكية لهم وتطهيراً لقلوبهم، فالمشروع تربوي قبل أن يكون اقتصادياً، ومن هنا يتوجّب على المنفقين أن يشكروا نعمة إنفاقهم، فهي نعمة عليهم وعلى جميع المستفيدين من هذا الإنفاق، وعلى المجتمع عامة.
شحّ النفس مرض يمسخ الإنسان، ويبعده عن الفلاح، ويصيبه بمرض نفسي مهلك.
الإنسان مفطور طبعاً على حبّ العطاء وعمل الخير، غير أنه إذا لم يهتمّ بتنمية هذه الفطرة، يصاب بشحّ النفس وينحرف عن طريق خلقته الفطرية ويتجه إلى الشقاء.
ثمة فقر يكاد أن يكون كفراً، وهو الذي يستعيذ منه رسول الله(ص): «أعوذ بك من الفقر». وفقر القلب هو أسوأ أنواع هذا الفقر، وثمة فقر يقرّب الإنسان من الله سبحانه حين يكون ناشئاً عن إرادة الإنسان في التحرر من الانشداد بالمال والمتاع عندئذ يكون: «الفخر فخري». إنه فخر سيد الكائنات لأنه سيد الزاهدين وإمام المتحررين من الانشدادات الدنيوية.
إنّه الترفّع عن الصغائر التي يلهو بها أهل الدنيا كما يلهو الأطفال بلعبهم، وإنه الرؤية الحقيقية إلى الحياة الفانية والتعامل الواقعي معها بما ينفع الفرد والمجتمع وبما يؤدي إلى الرفعة والتزكية والسموّ إلى مرتبة أولياء الله ونيل سعادة الدنيا والآخرة.

المطلوب مكافحة أنواع الفقر
السالك إلى الله سبحانه يتحمل مسؤولية مكافحة أنواع الفقر في نفسه وفي غيره. ولابد قبل ذلك أن يعرف مراتب الفقر والغنى في جوانبه الجسمية والروحية، والمادية والمعنوية على أساس من تعاليم الدين كي يعرف واجبه في كل مرحلة.
الغنى قسمان جسمي وروحي. والغنى الجسمي يتمثل في سلامة أعضاء البدن والحواس الظاهرية، والغنى الروحي سلامة الروح والحواس الباطنية.
والسلامة الجسمية لها مراتب هابطة ومتوسطة وعالية. ولها ارتباط بتصرف الإنسان بجسمه ومراعاة القواعد الصحيّة، والدين يدعو إلى الاهتمام بسلامة البدن كي يقوى على طاعة الله سبحانه. والسلامة تستدعي شكر الباري وتتطلب استخدامها فيما يرضي الله وفيما هو رحماني ووقايتها من ممارسة عمل شيطاني.
ثم إن سلامة الجسم يجب أن يكون من تغذية مشروعة ومن عناية مشروعة، أما إذا حصلت من مال غير مشروع فإنها ستترك أثراً سيئاً على الروح، وقد تكون مبعثاً لكثير من الشرور.
سلامة الجسم نعمة إذا استخدمت على طريق العبادة ونقمة إذا سخّرت على طريق الشيطان.
والسلامة بعد ذلك نعمة تستتبعها مسؤولية وامتحان، يعطيها الله سبحانه من يشاء لينظر كيف يتصرّف بها.
والمؤمن يسأل الله دائماً أن يوفقه لأن يشكر نعمته وأن يُحسن استعمالها وأن يسخّرها في طريق الخير.
والفقر مثل الغنى قسمان: جسمي وروحي. والفقر الجسمي هو فقدان صحة الجسم والحواس الظاهرية، وله مراتب: قليلة ومتوسطة ومرتفعة.
وما يرتبط بالإنسان من فقره الجسمي يعود إلى عدم مراعاة التعاليم الصحية سواء عن جهل بهذه التعاليم، أو ضعف في الإرادة كما هو المشهود في التدخين والإدمان على الخمرة والمخدرات. والدين يدعو إلى التزوّد بالعلم اللازم لمكافحة الفقر الجسمي، كما يدعو إلى التزوّد بالإرادة كي لا ينزلق الإنسان في مهاوي مثل هذا الفقر.
وقد يكون سقم الجسد مما يصيب الإنسان من الابتلاء كي يمحَّصَ إخلاصه وصبره وشكره. وقد يكون السقم نتيجة كفران النعمة، فالشكر يوجب الزيادة والكفران يؤدي إلى النقصان.
وعلى سالك طريق الحق أن يعرف ماهو فيه من غنى أو فقر في جسده، ويعرف مراتب ذلك الفقر والغنى، ويتطلّع إلى أسبابه، ويتّخذ الموقف المناسب منه. تشخيص الواجبات في كل مرتبة نعمة، والعمل بهذه الواجبات نعمة أكبر. ورفع حاجات جسده نعمة، ورفع حاجات غيره نعمة أعظم. ومن أخذ بيد فقير لينتشله من فقره فكأنما وضع يده بيد الله سبحانه.
وأهم من الفقر والغنى في الجسم هو الفقر والغنى في الروح. والفقر الروحي له أسباب مختلفة منها الجهل بقواعد الصحة الروحية، ومنها الغفلة والانغماس في المنكرات، وعندئذ تتوجب التوبة. وسنة الله تتدخل لتوصل الفقر الروحي أعلا مداه حينما يتمادى الإنسان في الغيّ ويفرط في المعاصي، عندئذ تتحقق سنة الختم: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( (البقرة:7).
والغنى الروحي يتمثل في سلامة الروح والحواس الباطنية، وهي أيضا في درجات متفاوتة عالية ومتوسطة وهابطة. وفيما يتعلق بالإنسان من هذه السلامة فهو يعود إلى سلوكه الرحماني في الحياة. فإن لم تكن حركة الإنسان في حياته رحمانية فلا تؤدي إلى سلامة روحيّة، أما إذا كانت رحمانية فإن سنة الله تتدخل لتوصل الفرد إلى ذروة السلامة الروحية: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا( (العنكبوت:69).
الفقر والغنى ليس محدوداً بالجسم والروح، فالأعم منه الفقر والغنى في الإطارين المادي والمعنوي، ويتضمنان ما يرتبط بالجسم وبسائر الإمكانات الأخرى. وقد يكون الإنسان فاقداً للإمكانات المالية لكنه قادر على مساعدة الآخرين.
والسالك يجب أن يكون مراقباً لما يتمتع به من قدرة جسمية ومالية ومادية بأن تكون هذه الإمكانات مشروعة، وإلاّ فإنها ستؤدي إلى تخريب معنوي، وألاّ يفرّط فيما عنده من هذه الإمكانات. وإذا افتقر الإنسان بسبب تبذيره الإمكانات وتفويته الفرص فهو مسؤول أمام الله، أما إذا كان فقره تحرراً من الانشداد البهيمي بالمال والمتاع فهو من الذي قال عنه سيّد الكونين: «الفقر فخري».
والفقر المعنوي لا ينحصر بالفقر الروحي، وهو فقر لابدّ أن يسعى الإنسان لإزالته بتوفير ظروف الغنى فيه، وبالتوبة، والغني فيه يحتمل مسؤولية إثراء الآخرين الذين يعانون من الفقر المعنوي.
وأهمّ من ذلك كلّه، إدراك مراتب الغنى والفقر الروحي والمعنوي ، لأن الأصل في سلامة الإنسان أن يبلغ الكمال في صحته المعنوية، والسلامة الجسمية فرع منها. وفي تفسير قوله سبحانه: ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ( (البقرة:201) قيل: الحسنة في الدنيا: «السلامة والعافية»، وفي الآخرة: «الرحمة والمغفرة».
واجبات البشر أساساً تتلخّص في المراقبة المستمرة لمراتب الفقر الجسمي والروحي والمادي والمعنوي، الذاتية منها والاجتماعية، وأن ينهض بأداء واجبه في كل مرتبة منها، وهذا التوفيق يناله من حظي بمعرفة النفس، وبمعرفة المجتمع أيضاً.
أولئك الذين نالوا كمال الصحة الروحية والمعنوية لا يرون ما وصلوا اليه كمالَ السعادة، فالعارف الكامل هو الذي يسعى نحو تحقيق الصحة المعنوية والجسمية لنفسه ولغيره. أما غير المضطلع بمعرفة نفسه، فإنه لا يعرف مراتب قدرته المادية والمعنوية، ولا مافي المجتمع من قدرة مادية ومعنوية، فكيف والحال هذه يستطيع أن يمارس أمر الله سبحانه إذ يقول: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ( (المائدة:2)
التعاون والتعاضد يتطلب العلم بالنواقص المادية والمعنوية لشخص المتعاوِن ولغيره، كي يقوم بسدّ هذه النواقص. التعاون الواقعي يدعو طالبيه إلى الأخذ بيد الفقراء، سواء كان فقرهم مادياً أو معنوياً أو الفقرين معاً.
الفرد المعتمد على ذاتياته يخال أنه بلغ الكمال، بينما هو لم يستطع أن يدرك نقائصه ولم يقدم على أن ينال توفيق ربّ العالمين. ينبغي له أن يطلب هداية رب العالمين كي يروّي أشجار بستان قلبه بزلال الحقيقة، وهذا الإرواء لابدّ أن يتمّ على يد بستاني إلهي. نعم، الدين رسم الطريق ولكن ذلك لا يغني عن المرشد الإلهي، والسالك بحاجة دائماً إلى هذا التوجيه، فالتمييز والتشخيص بين النعمة والنقمة، والخير والشر، والصحة والسقم ميسور نسبياً في الأمور الظاهرية، لكن الأمر صعب وشاق في الأمور النفسية والروحية. وتوفيق هذا التمييز لا يناله إلاّ أفراد قليلون تحرروا من هذه الدنيا الفانية وارتبطو بالله تعالى، فكانت لهم قدرة التمييز والتشخيص في الأمور الباطنية. أما أولئك الذين يعيشون في سجن الطين ويرسفون في أغلال المادية فليست لهم هذه القدرة.

ب – رعاية حريم المحارم والأجانب
محركات شيطانية
النظر إلى الجنس الآخر. (غير الزوج) بشهوة من المحركات غير الإلهيّة. إذ إنه يؤدّي في المرأة والرجل إلى استثارة الغريزة الجنسية، والتعوّد عليه يؤدّي إلى طغيان هذه الغريزة حتى تستولي على سلوك الإنسان. من هنا أمر الإسلام بغض الأبصار أمام غير المحارم، وباستتار عوامل الإثارة.
وفي النصوص الإسلامية النظر بريبة هو زنا العين. والشريعة وضعت عقوبات على من يثبت عليه مثل هذا الانحراف.
والعلوم الحديثة أثبتت أيضاً أن الاستثارة المستمرة للغريزة الجنسية يترك آثاراً جسمية سيئة نتيجة الترشح المتتالي للغدد، كما أن الاعتياد على هذا الأمر يؤدي إلى الإدمان وأثره أسوأ من الإدمان على التدخين والمخدرات في الجانب النفسي والروحي. ومن هنا أكد الدين على غضّ البصر لمنع الوقوع في هذا الانحراف.
والنظر بريبة لا تخفى آثاره الاجتماعية، فكثير من حالات الطلاق وتشتت العوائل ناتج عن الانجرار وراء نظرة، ثم التعمّق فيها، ثم فقدان العواطف الأسرية.
العفّة فضيلة كبرى لابدّ أن يهتمّ بها الإنسان وينمّيها لأنها الحصن الحصين لسلامة الجسم والنفس والأسرة والمجتمع. عليه أن يراقبها ويبعدها عن كلّ تلوّث، وهي ثروة ترفع مكانة الإنسان في الدنيا وتجعله في الآخرة من المقربين.
الذين يفتقدون العفّة يتحولون بالتدريج إلى ذئاب مسعورة تلهث وراء إطفاء شهواتها الجنسية الجامحة، لكنها لا تشبع، وتلجأ إلى كل وسيلة لانتهاك الأعراض، وجرّ الجنس الآخر إلى شباكهم. وقد يلجأ بعضهم إلى أنواع الحيل ويتظاهر بالصلاح والتودّد والنصيحة، وقد ينصب بعضهم فخّه باسم الدين من أجل إشباع شبقه.
إن «تحرير المرأة» حقّ قرره الإسلام، والحرية حقّ إلهي للرجل والمرأة، لكن كثيراً من الأصوات التي تنادي بتحرير المرأة تنطلق من دافع شهواني وتستهدف نزع العفّة عن المرأة كي تكون لهم سهلة المنال، ولكي يشبعوا عيونهم النهمة في النظر إلى مواضع الإثارة فيها.
إنّ الحرية الحقيقة للمرأة هي أن تبتعد عن هذه الشباك والأفخاخ، وتصون نفسها بالعفاف، وتلتزم بما أمر به الإسلام من السلوك واللباس تجاه الرجال وتجاه النساء أيضاً.
تزيّن المرأة لبعلها وتزيّن الرجل لزوجه مما أمر به الشارع لأنه مما يساعد على العفّة ويجعل العلاقة الجنسية في إطار الأسرة، لكن الزينة حين تكون لاستثارة الشهوات في المجتمع فإنها شرّ وابتذال واستهتار بالعفاف والقيم الانسانية.
المجتمع الإسلامي يسعى أفراده رجالاً ونساء لتغذية روح العفاف والمحافظة على القيم، وبذلك يُصان من الوقوع في مهاوي الرذيلة، ويصون حركة الإنسان على مسير تكامله.
أما المجتمعات التي لا تقيم وزناً للجانب الروحي من الإنسان فتقع في مستنقع الشهوات، وتتعرض فيها المرأة بشكل خاص لأنواع من الاستغلال الجنسي والتحرّش والأذى، ويصاب المجتمع بألوان الأمراض النفسية والأزمات الروحية وهذا ما نشاهده في المجتمعات الغربية بوضوح.
الغرب يشهد اليوم مأساة كبرى في العلاقة الجنسية، بسبب التحلّل في هذه العلاقة. تجارة الجنس ومراكز الدعارة العالمية أصبحت رائجة يُسخّر لها الملايين من النساء اللائي أطلق عليهنَّ اسم «الرقيق الأبيض». ومن أجل ترويج سوق هذه التجارة تُعرض على مواضع شبكات الاتصال العالمية وفي الفضائيات ما يصادر كل قيمة للإنسان، وتُنتَج الأفلام التي تصوّر العلاقة الجنسيّة بمستوى دون ما تمارسه البهائم.. هذه هي نتيجة الحرية بمفهومها الغربي الذي يغيّب القيم الانسانية ويهمل مفهوم كرامة الإنسان! ومن المؤسف أنّ بعض المغفّلين أو المرضى في عالمنا الإسلامي يدعوننا إلى مثل هذه الحريّة!
أين هذه الحرية من الحرية التي يدعونا إليها الاسلام .. تلك حرية الوقوع في أسر الشهوات والرذيلة، وحرية الإسلام هي الانعتاق من كل عوائق التكامل الانساني.
والواقع أن ما نراه في الساحة العالمية من حروب ودماء ودموع واستغلال واستكبار وهيمنة إنما يعود إلى تضخّم الروح الماديّة في نفوس الطغاة، والشهوات الجنسية لها دور كبير في هذا الانحراف.
إننا طبعاً يجب أن لا نغفل عمّا حققه الغرب من تقدّم صناعي وتقني، لكن هذا التطوّر المقرون بالانحطاط الخلقي ينبغي أًن لا يخدع أبناء أمتنا ويجعلهم يخالون أن هذا الانحطاط الخلقي ضرورة يستلزمها التطور الصناعي والفني!! إننا أمام هذه الحالة المأساوية في الغرب مدعوون إلى تقديم مشروعنا الحضاري الذي يجمع بين التطور الصناعي والمادي وبين القيم الإنسانية والكرامة الإنسانية والتكامل الإنساني في المجال المعنوي.
إنّ المرأة في مجتمعنا الإسلامي تتحمل مسؤولية أكبر في المحافظة على عفّة المجتمع، لأنها مزوّدة فطرياً بمناعة أكبر على مقاومة المغريات، وعليها أن لا تنخدع بشعارات التحرر على النمط الغربي، فإنها ستكون الضحية الأولى لهذه الخدعة، وهي أكبر وأسمى من أن تتحول إلى وسيلة لإطفاء شهوات الرجال، وتسويق بضاعة المستغلين الطامعين من تجار الجنس والنخّاسين الجدد.

مفهوم الحجاب في القرآن
حجاب كل شيء ما يتوارى ذلك الشيء وارءه، وغروب الشمس أطلق عليه القرآن كلمة حجاب: ( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ( (صّ:32) والغشاء الذي يفصل بين القلب والبطن هو «الحجاب الحاجز».
وكلمة «الحجاب» استعملت في عصرنا الراهن للزيّ الإسلامي للمرأة، ولم ترد بهذا المعنى في القرآن، وكان المصطلح الشائع لدى الفقهاء سابقاً كلمة «الستر».
تعاليم القرآن والسنّة في أمر العلاقة بين المرأة والرجل تتجه إلى حصر هذه العلاقة في الإطار الأسري، مع تحمل كل المسؤوليات التي يتطلبها هذا الإطار، جميع الشروط التي تضمن استمرار الكيان العائلي، ومنها رعاية الحجاب الظاهري والباطني، للرجل والمرأة، فالأمر بغضّ النظر يتجه إلى المؤمنين والمؤمنات على حدّ سواء.
والزيّ الإسلامي للمرأة جزء من مشروع عام في المجتمع الإسلامي هو منع الاختلاط واحترام العفّة العامّة.
شبهات حول الحجاب
بعض الغافلين أو المهزومين يثيرون حول ستر المرأة المسلمة شبهات منها أنه يعزل المرأة عن ممارسة الحياة الاجتماعية، ويشلّ طاقاتها، ويحرم المجتمع من كفاءاتها. وليس الأمر كذلك فالحجاب يمنع العلاقة الجنسية خارج نطاق الأسرة، ويحول دون تحوّل المرأة في الساحة الاجتماعية إلى مصدر لإثارة الشهوات. الحجاب يكرّس نشاط المرأة في المجالات البنّاءة، كما يحول دون استثارة شهوات الرجل، ودون اتجاه الرجل إلى استثمار المرأة على طريق إطفاء شهواته. فهو صيانة للمرأة والرجل على حدّ سواء، وهو تكريس لطاقاتهما على طريق مثمر بنّاء.
وردت كلمة الحجاب في القرآن عند تعليم المسلمين كيفية سلوكهم في بيت النبي(ص) وخاصة مع أزواجه: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ( (الأحزاب:53) وعدم وجود كلمة الحجاب في القرآن لعامة النساء لا ينفي وجود الحجاب بمعنى ستر المرأة، فالآيات التي تأمر بغضّ الأبصار وحفظ الفروج وضرب الخمار وإدناء الجلابيب كلها تؤكد هذا المعنى، ففي سورة النور: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ… وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ..( .
غير أن ورود آية الحجاب في نساء النبي لها مدلولها الخاص في شخصية الرسول(ص) وحرمته ومكانته الرسالية لذلك كانت لنسائه استثناءات لمصالح رسالية:(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ( (الأحزاب:32)، وكانت زوجاته أمهات المؤمنين لا يتزوجن أحداً بعد وفاته: (وأزواجه أمهاتهم(. كما أمرهنّ بالمكوث في بيوتهنّ: (وقرنَ في بيوتكنّ..( وليس هذا يعنى عدم خروجهنّ من بيوتهنّ، بل يعنى التزامهنّ بحدود تفوق سائر النساء. وكل ذلك لمصالح اجتماعية ترتبط بالرسالة. وما حدث بعد وفاة رسول الله(ص) يؤكد ماكان لهذه التعاليم من أهمية رسالية.
الحجاب يجعل المرأة - وهي تمارس كل أعمالها الاجتماعية - في مأمن من اصطياد تجار الجنس ومراكز الدعارة ومرض القلوب.
ومن الشبهات التي تثار حول الحجاب هو أنه يزيد حرص الرجل فالإنسان حريص على ما مُنع، ويصعّد ولعه في الجنس الآخر، وبالتالي يؤدي إلى عقد نفسية ونتائج سلبية.
والواقع أنّ استثارة الشهوات هي التي تؤدي إلى اختلال التعادل النفسي والروحي، وبالتالي إلى أنواع الأمراض الفردية والاجتماعية. والحجاب يحول دون هذه الإثارات. نعم، الحرمان من ممارسة الجنس قد يؤدي إلى ظهور عقد نفسية عند بعض الأفراد، لكن هذا الحرمان يجب حلّه عن طريق الزواج، لا عن طريق تحويل الشارع إلى مصدر إثارة مستمرة للغريزة الجنسية. التعاليم الإسلامية ليست مبعث حرص وعقد، بل هي منطلق الكمال في المشاعر والأحاسيس والتفكير والتخيّل، وبذلك تتحول هذه الغريزة إلى مصدر للخير والبركة والنماء.

حاجات الإنسان محدودة وغير محدودة
في الإنسان دوافع وغرائز بعضها محدود وبعضها غير محدود، لعلّ الأكل والشرب يلجأ اليهما الانسان بدافع عضوي، وينصرف عنهما بعد أن يشبع ويرتوي. ولكن ثمة دوافع غير محدودة منها الخيّرة السامية مثل طلب العلم ومنها الهابطة مثل طلب المال والمتاع. وروي في الحديث الشريف: « مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَ طَالِبُ دُنْيَا »(5) . والدوافع الهابطة غير المحدودة هي سبب كل ما تعانيه البشرية من ويلات، مقابل الدوافع الخيرة غير المحدودة التي هي سبب تكامل البشرية ورقيّها.
الدوافع الخيّرة يجب تغذيتها وتنميتها كي لا تندثر خلف ركام الدوافع الهابطة. والدوافع الهابطة مثل حبّ الاستزادة من الأموال والشهرة والشهوة الجنسية يجب حدّها بالمقدار الذي يساهم في تكامل البشرية ونمائها.
الغريزة الجنسية يمكن تلبية حاجاتها في ضوابط العفّة وما حدّده الشرع، لكن الانهماك فيها يؤدي إلى عطش لا يرتوي ويخرّب الفرد والمجتمع. هؤلاء يتحولون إلى حالة جهنمية: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ( (ق:30). ومثل هذه الغرائز تحتاج إلى «نظام» والانسان - كما قيل - كالطفل إن تهمله شبّ على حبّ الرضاع، وإن تفطمه ينفطم.
وهكذا النفس الأمارة كلّما انساق الإنسان وراء دوافعها ازدادت التهاباً وعطشاً، من هنا كان العفاف هو العلاج النفسي الناجع لهذه الدوافع.
وتعدّد الزوجات في الإسلام إنما شرّع لمصلحة اجتماعية تقتضيها ظروف خاصة، وليس لإشباع نهم التنوع والتلذّذ. فأحكام الشرع تقوم على أساس مصالح معنوية عامّة، وإن انطوت هذه المصالح المعنوية على أضرار محتملة ظاهرية.
طغيان الشهوات الجنسية كان له في عالمنا الإسلامي أسوأ الآثار على مسيرة الأمة، وما نعانيه اليوم من تخلّف وانحطاط ومن ضياع لأجزاء مهمة من رقعة العالم الإسلامي إنما يعود فيما يعود إلى انغماس الحكام والسلاطين والولاة في المجون واللهو والاستزادة من النساء، ومن المؤسف أنّ صرخات المتقين الزاهدين لم تبلغ أسماعهم، لأنهم كانوا محاطين بنخبة تزيّن لهم أعمالهم وتشترك معهم في فسقهم وفجورهم، وتنشد لهم الساقطَ من الأدب الذي يملأ صفحات تراثنا الشعري.

تفاصيل في الأحكام الإلهية
في إطار خلق علاقة بين الرجل والمرأة تقي المجتمع من الفساد، ثمة واجبات مفروضة على الجنسين تجب مراعاتها. من تلك قوله سبحانه:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا (
(النور:27) لقد كان العرب في الجاهلية يدخلون البيوت دون استئذان، حتى أنهم كانوا يرون الاستئذان إهانة بهم، ونهى الإسلام عن ذلك لحفظ الأعراض وصيانة حرمة الأسرة والخصوصيات الأسريّة، وحرمة الأفراد وما يمتلكونه. وطرداً لاستكراه هذا الامر قال سبحانه: (ذلكم خير لكم...( بل لا تستكرهوا منعكم من الدخول: ( وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا …( (النور:28) وهذه الأوامر تجعل العلاقة بين الزائر والمزور في نهاية الوضوح والشفافية وتبعدها عن التكلّف والتظاهر والكذب.
وفي الآية التالية استثناء بقولـه تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(
(النور:29) والبيوت غير المسكونة التي فيها المتاع قد تكون المحلات العامة التجارية والخدمية، شرط أن يكون ذلك الدخول فيه متاع (فائدة)،
وألاّ يكون سبب الإضرار بالآخرين، فالله عالم بالنوايا: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ( (المائدة:99)
بعد هذه المقدمات التربوية يقول سبحانه: ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ( (النور:30)
وليس المراد هنا غضّ الأبصار عن النظر فقط، بل هو الطلب من الرجال والنساء أن يحفظوا أبصارهم عن الوقوع في مقدمات المحرمات.
في الآية الشريفة ثلاثة معانٍ عظيمة هي: التأديب والتنبيه والتهديد.
أما الأدب فهو الانصياع لأمر المولى، والاّ كان ذلك خلاف الأدب، وغير المؤدب ليس له مكان في المجلس الالهي، لأنه لا يليق بالمحفل الرباني.
وأما التنبيه ففي قولـه سبحانه: ( ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:232). فالنظر بريبة إلى غير المحارم خطيئة. وتكرار هذا النظر يتحول إلى عادة، ورغبة في المحرمات، ومن ثم بروز الوساوس في الخاطر، وكل ذلك يمكن التوقي منه بغضّ البصر.
أما التهديد فقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ( (النور:30) وهذا يكفي لأن يجتنب الناس المعاصي.
أما من أدمن على التلصّص بعينه، فلا يشعر بلذّة العبادة والدعاء.
وفي الآية أمر بغضّ الأبصار، لا بغضّ العيون، والبصر هو عمل العين ظاهرياً كان أم باطنياً. والغضّ والغمض في العين. لكنّ الغضّ يكون في البصر وهو تقليل النظر وعدم التحديق. وغضّ الصوت أيضا تقليله كما ورد في قولـه سبحانه: (واغضض من صوتك( وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى( (الحجرات:3).
والقرآن يأمر الرجل والمرأة بالعفّة والصيانة:( وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا(و( وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ(، غير أنّ التأكيد على عفّة المرأة أكثر لأنها منطلق عفّة كل المجتمع رجالاً ونساءً، ولذلك جاءت التعاليم للمرأة بضرب الخمور على الرقبة والصدر:
(وليضربن بخمورهنّ على جيوبهنّ( وبعدم إبداء الزينة للأجنبي (ولا يبدين زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها..( بل الأمر حتى بالمشي الذي يحافظ على المتانة والرزانة:( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ( (النور:31) .
وفي هذا كلّه دعوة إلى الحركة نحو الله سبحانه ونحو الفلاح، ولذلك تختم الآية سياقها بقولـه: سبحانه: ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( (النور:31).
ولابدّ أن نضيف هنا أنّ النظر إن كان مصحوباً بشهوة فانه مُحَرّم حتى ولو اتجه إلى المحارم، بل حتى لو كان بين رجل ورجل، أو امرأة وامرأة.
الطلاق، الحلال المبغوض
واجبات السالكين أوسع دائرة من واجبات عامة الناس. قد لا يكون عامة الناس مسؤولين عن عدم رعاية المستحبات والمكروهات، لكن السالك إلى الله ملزم برعايتها ما أمكنه ذلك، فما بالك بترك الواجبات أو ارتكاب المحرمات!! فالملتزمون باجتناب المكروهات وأداء المستحبات هم المرشحون للوصول إلى مقام أعلى العليّين.
وللمستحبات والمكروهات درجات، وأبغض المكروهات إلى الله الطلاق.
الطلاق حلال، وهو في الوقت نفسه مبغوض ومكروه.
كيف يمكن الجمع بين أن يكون حلالاً، وبين أن يكون مبغوضاً ومكروهاً . لماذا لم يُحرّم؟
الزواج في الواقع رابطة طبيعية لا عَقْدِية . ومن هنا وُضع له قانون طبيعي لا قانون عقد كالرهن والإجارة والوكالة. هذه العقود ترتبط بشؤون اجتماعية ولم توضع لها قوانين طبيعة، إذ لا تدخل فيها الطبيعة والغريزة، لكن ميثاق الزواج يقوم على أساس الحبّ والتوحّد.
والطلاق، مثل الزواج، قبل أن يكون له ارتباط بالعقود، له امتداد في جذور الطبيعة. من هنا فإن قانون الطبيعة يجب أن يُراعى سواء في الزواج أو الطلاق.
أصل ارتباط الزواج يقوم على أساس الحبّ والتوحّد، والتعاون فرع له. أما العقود فتقوم على أساس التعاون. في منظومة الزواج تحتلّ المرأة مكانة المحبوب، إن خمدت شعلة الحبّ عند الرجل تجاه زوجته فإن الزوجة تسقط من مكانة المحبوب، ويختلّ النظام العائلي. ولا يمكن لعلاقة الحبّ أن تخضع للقوة والاقتدار.
نعم، يستطيع القانون أن يلزم شخصين بتنفيذ ما اتفقا عليه في العقود الاجتماعية، ولكنه لا يستطيع أن يلزمهما بالحبّ والحنان. لذلك فإن علاقة الحبّ حينما تضعف فإن الاسلام يقرّر ما يعالج هذه المسألة، ولكن حين لا ينفع العلاج فإنه لا يرضى ببقاء هذا الوضع الشاذ. بقاء المرأة في بيت الزوجية دون أن تحظى بحبّ الرجل أمرٌ يتعارض مع البناء الأسري.
حبّ المرأة لزوجها غالباً هو نتيجة حبّ الرجل لها، فحين لا ترى المرأة من زوجها حباً، فان جذوة حبّها تخفت أيضا، ولا يبقى أمامها إلاّ الانفصال إذا لم يستطيعا أن يعالجا هذه الحالة.
الرجل بما يغدقه من حبّ لزوجته يملك المفتاح السحري لسعادة عائلته. فهو بحبّه يمتلك قلب الزوجة فتفيض حباً يملأ أجواء الأسرة ويشمل الابناء، فعواطف الرجل مثل الوابل الذي يهطل على الجبال، والمرأة بمثابة العيون التي تحتشد فيها مياه المطر، لتتفجّر ينابيع وأنهاراً تسقي الرياحين والأزهار التي هي أبناء الأسرة. فلو انقطع المطر جفّت العيون والأنهار، وذبلت الأزهار. أصل سعادة الأسرة إذن في حبّ الرجل.
وتزداد حاجة المرأة إلى حبّ الرجل في أيام الحمل، لأنها تصاب هرموناتها وجسمها بألوان الاختلال، وتريد أن ترى مدى التزام الرجل بحبّها وهي في هذه الحالة.
إنها تودّ أن تشعر بالفخر وهي تقبل على إنجاب إنسان، فإذا اصطدمت عواطفها في هذه المرحلة فإنها تصاب بخيبة شديدة.
وإذا كان كل الطلاق مبغوضاً فإن أبغضه مايكون عن نزوة يندفع إليها الرجل يرغب معها أن ينوّع في الحياة الزوجيّة، فيقسو على زوجته كي يطلّقها ويتجه بعدها إلى إشباع نزوته.
الميثاق المأخوذ من الرجل لدى الزواج هو ( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ((البقرة/229) والأولياء أوصوا الرجل لدى الزواج أن يخضع لميثاق الله ويقول: «أقررت بالميثاق الذي أخذ الله» . وحفظ هذا الميثاق مما أوصى به رسول الله(ص) إذ قال:« اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله».
والشريعة وضعت أمام الطلاق عقبات كي لا يتمّ هذا الفصام بيسر وسهولة دونما إعطاء فرصة للاصلاح.
فانفصام عقد الزواج خلافاً للعقد نفسه يتطلب طهارة المرأة من عادتها، وحضور شاهدين عدلين . والعدالة هذه فيها حكمة، فهي تعنى أن يجري الطلاق أمام من يعرف تفاصيل الشريعة ويعمل بموجبها، فيتصدّى حينئذ بشكل طبيعي إلى محاولة عدم وقوع الطلاق، والقرائن تدلّ على أن الشاهدين لا يكونان غريبين على الزوجين.
ثم إن الحَكَمية، وإن اختلف الفقهاء في وجوبها أو استحبابها، هي مما نصّ عليه القرآن الكريم إذ قال: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا( (النساء:35).

الهوامش:
* - عارف إيراني. والمقال ترجمة جزء من كتاب مطبوع في جامعة طهران تحت عنوان «سفر به كعبه جانان» سنة 2001م.
1 - الكافي، ج 8، ص 22.
2 - صداء: عين لم يكن عندهم أعذب من مائها.
3 - السعدان: نبت ذو شوك، وهو أفضل مراعي الإبل.
4 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 328..
5 - نهج البلاغة ، خطبة رقم 457.

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 697)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 702)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 773)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 741)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب - القسم السابع وا لأخير - 1   (بازدید: 1254)   (موضوع: )
• رحلة إلى كعبة الحبيب - القسم السابع وا لأخير - 2   (بازدید: 1329)   (موضوع: )
• رحلة إلى كعبة الحبيب / القسم الأول   (بازدید: 746)   (موضوع: عرفان)

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 697)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 702)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 773)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 741)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب / القسم الأول   (بازدید: 746)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]