banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

رحلة إلى كعبة الحبيب
ثقافتنا - العدد 10
عرفان
علي اللّهوردي خاني
1427

«ملخّص»
الهدف الاساس من معرفة النفس فهم ما في شخصية الانسان من عظمة وقابلية وطاقة وقدرة على التكامل واختيار مراحل الوصول والقرب الالهي. وهذا يرفع درجة الثقة بالنفس والسيطرة عليها، فيندفع الانسان ببصيرة نحو مقارعة العوامل المضادّة وإزالة العوائق من الطريق، إذ كثير من مظاهر الانحطاط والتخلف في السلوك الانساني ناشئ عن عدم معرفة الانسان بنفسه ومكانته، فيلجأ الى الصغائر ويجذبه البريق الخادع.
عظمة الانسان وضرورة السلوك
انهض واعتزم الرحيل
أودع الله سبحانه في فطرة الانسان اندفاعاً وعشقاً لطلب الحقيقة. وهو بذلك يَنشُدُ الحق سبحانه بشوق ورغبة، يريد أن يطوي الطريق بسرعة كي يصل الى منهل المعرفة ويرتوي منه ويسكن عنده ويناجي أرجاءه. غير أنّ الجانب المادّي من الانسان ونفسه الحيوانية تنصب الحواجز والسدود وتحول دون الوصول الى المقصود، وتضع أمامه مطلوباً سرابياً، وتشغله في السعي نحوه، غير أنه مهما غذَّ اليه السير ازداد عنه بُعداً ولم يجده شيئاً.
رغم وجود الدافع لطلب الحقيقة والشوق الى السعادة في نفوس جميع البشر، لكنّ النفس الامّارة تخدع الانسان وتزيّن له المآرب الحيوانية، فترى كل واحد مشغولاً بليلاه، يسعى نحو هدف يخال فيه سعادته ويصرف نحوه همّته، فيدفعه الغرور والكبر الى المهالك ويُبعده عن الله.
لو نظرت الى البشر بعين الاعتبار لرايت أصنافاً من الناس قد أسكرتهم الغفلة وأدّت بهم الى نوم عميق لا تؤمّل بعده يقظة. يتصورون أنهم خُلقوا من أجل هذه الحياة الفانية، ويرون أن غاية هدفهم الاستزادة من اللذات العابرة والتفوّق على الاقران وجمع المال والمتاع وتحقيق الآمال الطويلة. وثمة من تراه يتحدث عن الحقيقة، لكنك لا ترى في أعماله أيَّ أثر من آثار الحقيقة.
أيها الانسان! الى متى تغطّ في نوم الغفلة؟! افتح عينيك برهة، وعُد الى نفسك، وانتشل روحك من زنزانة الطبيعة المادية، وتربّع على سرير العزّة بتاج من الكرامة وهبه الله اليك. لا تدع مافيك من روح إلهية تُسحق بأقدام القوى الحيوانية، وتعبث بها الاهواء النفسانية.
أيها الانسان! الروح الالهية تدعوك في باطنك الى الله وتأخذ بيدك الى عالم الوحدة. إنّه هوالرسول الباطني وداعي الله يناديك على الدوام: اعتزم السفر وأعرض عن عالم الطبيعة المظلم، واتجه الى عالم الالوهية النيّر.
مهما ازداد سلطان الروح الالهية في مملكة البدن ازداد أيضا انجذاب الانسان نحو الله، هذا السفر لايتمّ بالبدن ولا بقطع الطريق الظاهري ولا بالوصول الى مقصد أرضي، بل هو قطع طريق الباطن والوصول الى هدف العبوديّة والربوبيّة. المسافر هنا النفس البشرية والمقصد الوصول الى ساحة الأحديّة، وزاد هذا السفر التقوى، وراحلته محبّة الله، وسلاحه لدفع العدوّ التوجّه الى الله تعالى وذكره. يجب أن يستعين الانسان به سبحانه وإلاّ ماوصل الى المنزل المقصود.
السير على طريق الحق هو أساساً نوع من الانتقال، الانتقال من منزل عبادة الى منزل عبادة آخر، ومن عمل مشروع الى عمل مشروع آخر، ومن مقام الى مقام آخر، ومن اسم الى اسم، ومن تجلٍّ الى تجلٍّ، ومن نفس الى نفس أخرى. من هنا فان السالك هو من كان في حالة انتقال بين هذه المنازل والاعمال والمقامات والأسماء والتجليات. إنه من مارس المجاهدة البدنية والرياضة النفسية وجدّ واجتهد في تزكية النفس وتهذيبها وطوى المراحل المختلفة بمعنوياته لا بعلمه.
وأمّا الذين غطت على أعينهم وآذانهم ظلمة ستار الطبيعة المادية فعليهم أن يتحملوا المشاق وأعباء الرياضات والعبادات ليمزّقوا حجاب الظلمة ويهيّئوا أنفسهم للمثول في حضرة الحق تعالى وينالوا مقام المشاهدة. هؤلاء في النهاية سينجذبون أيضاً للحق سبحانه وينجون من طين الطبيعة المادية والمستنقع الآسن لهذه الدنيا.
إذا انتهج السالك سبيل أئمة الدين وعباد الله الصالحين فسوف لا ينحرف عن جادة التقوى، ولا يبيع مكانته الشريفة بدنيا زائلة، وسوف يحرر عقله من أغلال الشهوات الحيوانية ويسخّر عقله وفكره وإرادته وحبّه وإخلاصه على طريق سعادته الحقيقية، وستنبثق الحالات النورانية من منبع فيض الربوبية، ويصل في النهاية الى مقصوده. وتستلزم هذه التحولات والتغيّرات الالهية، معرفة الانسان بمقامة ومكانته في دائرة الوجود.
معرفة النفس ومعرفة العالم
وضع الله سبحانه وتعالى بالتعليم الظاهر والباطن أمام الانسان طريقين لسعادته، طريق معرفة النفس في الداخل وطريق معرفة العالم في الخارج: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (فصلت:53) . كل العلوم تجتمع في هاتين المعرفتين. والقدرة على قطع مراحل طريق الآفاق والانفس تتحقق عند من بلغ الكمال في معرفة النفس ومعرفة العالم. والانسان مفطور على حبّ هاتين المعرفتين، لأنه يرى كماله وتطوّره وسعادته رهنهما. رؤية الموجودات الآفاقية ميسّرة بالعين الظاهرة، ومشاهدة الباطن بالعين الباطنية، ومن تتوفر فيه الشروط يستطع أن يرى الآيات الالهية في الآفاق وفي الأنفس.
ومعرفة العالم في الواقع نوعان: معرفة مادية تقتصر على ظاهر من الحياة الدنيا دون أن تنفذ في أعماق حقائقها، فهي معرفة غير كاملة. وأخرى معرفة كاملة بكل حقائق الوجود ظاهرها ومكنونها.
معرفة النفس مما شغل فكر الفلاسفة والعلماء منذ أقدم العصور، ودوّنوا في ذلك الكتب والرسائل، غير أنّ سلطان الفكر المادّي طغى حتى على هذه المعرفة فصارت علوم النفس، التي هي من الطرق الهامة لمعرفة الله وعالم الغيب، تُبحث بمنظار مادّي.
إنّ فهم الانسان والنفس الانسانية في إطار مادّي فهم ناقص لأنه يهمل جانباً مهماً من طبيعة التكوين البشري، فهذا الفهم يقيم معلوماته على أساس التجارب والمعطيات الحسيّة ويهمل الجانب المعنوي والروحي للانسان، من هنا كانت المعالجات النفسية في دائرة هذا الفهم ناقصة لأنها أهملت عاملاً مهماً في هذا المضمار هو الايمان والدين.
الهدف الاساس من معرفة النفس فهم ما في شخصية الانسان من عظمة وقابلية وطاقة وقدرة على التكامل واختيار مراحل الوصول والقرب الالهي. وهذا يرفع درجة الثقة بالنفس والسيطرة عليها، فيندفع الانسان ببصيرة نحو مقارعة العوامل المضادّة وإزالة العوائق من الطريق، إذ كثير من مظاهر الانحطاط والتخلف في السلوك الانساني ناشئ عن عدم معرفة الانسان بنفسه ومكانته، فيلجأ الى الصغائر ويجذبه البريق الخادع.
مطالعة العلوم وتجارب الحياة مفيدة وذات تأثير على نجاح الانسان دون شك، لكنها لا تؤدي الى السعادة حتماً. إدراك الحقائق، خاصة فيما يرتبط بالمجالات المعنوية، يكون ناقصاً حتماً إذا كان قائماً على أساس النتائج العلمية والتجريبية، ويكون من الأسباب المهمة للانحراف. الحصول على كامل الحقائق إنما يكون بالعقل السليم، والعقل السليم حصيلة اقتران العقل بالتقوى. والتقوى كالتعقل تولّد بعض المعاني. وكل من العنصرين يؤثر في رقيّ الانسان أو هبوطه، غير أن الواحد منهما بمفرده لا يوصل الانسان الى مرحلة الكمال.
العلوم الظاهرية والتجريبية – إن لم تقترن بالتقوى والتعقّل – لا تفتح الطريق أمام الانسان نحو الملكوت الأعلى، وكمال السعادة حصيلة التفكر والتعقل والتقوى. وفي ظلال هذه السعادة يستشعر الانسان بأنهار العلم تجري من تحته، وأشجار الحكمة والمعرفة مورقة على جانبيه، ومشاعر العشق والشوق تطفح في نفسه، وأزهار الجمال الإلهي وأنوار التجلي الالهي على أرجائه، فينجذب نحوها. وإذا خَطَى على هذا الطريق أكثر يدخل عالماً نورانياً، يستقبله فيها أهل تلك الديار ويرشدونه الى سبيل الوصال، وفي نهاية هذا الطريق يرتفع الحجاب بين العاشق والمعشوق، فيعرف الانسان الحقَّ بالحقّ لا بغيره.
العلم يسعى طبعاً الى أن يعرف الانسان نفسَه وعالمَه، لكن معرفة النفس في إطار العلم وحده معرفة ميتة جامدة لا روح فيها ولا حراك. بينما الايمان نار تنقدح في القلب فتوقظ مافي الانسان من طاقات كامنة، وتجعل الانسان يحمل الهموم الكبيرة، ويعرف معنى الآمال والآلام الكبيرة. وهذه المهمة لا تستطيع أن تنهض بها العلوم الطبيعية والفلسفية، إذ كثير من العلماء والفلاسفة قد انحرفوا عن الصراط المستقيم ونسوا الله فأنساهم أنفسهم.
العلوم المادية لوحدها تؤدّي الى أن ينسى الانسان حقيقة نفسه، وإذا نسى الانسان حقيقة نفسه فانّ العلوم الماديّة تصبح وبالاً عليه، وما شاهده العالم من مآسٍ وويلات في القرون الأخيرة إنما هو بسبب هيمنة الفكر المادي على الحضارة الغربيّة.
الفهم الديني يفتح أمام الانسان آفاقاً جديدة عظيمة ويخلق بينه وبين ما يحيطه رابطة فاعلة رائدة، ويجعله يرتفع عن المظاهر الماديّة نحو آفاق يستطيع فيها أن يتحكّم في الكون تحكّما فيه الخير والعطاء للبشرية جمعاء.
في منظار العلوم الالهية لوجود الانسان ثلاثة عوالم: الناسوت والملكوت والجبروت، ويستطيع الفرد بتزكية نفسه أن يرتبط بكل واحد من هذه العوالم الكلية. والطبيعة تصبح شفافة أمام أشعة الروح الوهّاجة، فتُنبئ عمّا وراءها، وحينئذ يتضح أن الكون مرصد لمشاهدة الجمال الأزلي وكماله اللامتناهي.
أهمية معرفة النفس
أهميّة معرفة النفس تفوق أهمية معرفة العالم وإن كانت الاثنتان لازمتين للبشر. القرآن الكريم عبّر عن العالم الخارجي بالآفاق وعن العالم الداخلي بالأنفس.
جميع الانبياء وأئمة الدين ركّزوا اهتمامهم على دعوة الناس الى معرفة أنفسهم. ونسيان النفس من أخطر أمراض القلوب، ولذلك سمّاه القرآن فسقاً، لأنه خروج عن الحقيقة. يقول تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (الحشر:19). من هنا كانت مهمة السالك معرفة نفسه ليعرف ربّه وروي عن النبي(ص) قولـه: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» وروي عن أمير المؤمنين علي(ع) قوله: «معرفة النفس أنفع المعارف». وقوله: «عجِبتُ لِمَن ينشُد ضالّته وقد أضلَّ نفسه فلا يطلبُها».
كثيرون هم الذين يأملون أن يعرفوا أنفسهم، ولكن المهم هو الطريق الذي يسلكونه لهذه المعرفة. بعضهم يلجأ الى علوم المنطق والفلسفة، ولكن أغلب هذه العلوم تزيد الانسان بعداً عن فهم نفسه. ومن يعتقد بأن هذه العلوم يمكن أن تزوّده بالمعرفة اللازمة كمن يحسب الشحم فيمن شحمه ورم. إنه لخطر كبير على الانسان أن يعرض عن كلام الله ورسوله وعن الاهتمام بتزكية نفسه ويغوص في مسائل مبهمة معقدة لاطائل تحتها غالباً.
معرفة النفس الحقيقية لا تتيسّر بدون مطالعة دقيقة في كتاب الوجود، وبدون إمعان النظر في الآمال والآلام الكامنة في أعماق النفس الانسانية. وهذا هو سبيل درك الحقائق الاصيلة ولا سبيل غيره. يقول سبحانه:  مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه . لا يمكن أن تجتمع في قلب محبتان، وأملان، وألمان. لابدّ من إخلاء القلب من أي حبّ غير إلهي للوصول الى الكعبة المقصودة. وفي هذه الحالة يكون حبّنا للآخرين قائماً على مافيهم من فضائل معنوية، حينئذ يكون حبّنا لهم حُباً لله سبحانه، وإلاّ كان نوعاً من الشرك الخفي، والانبياء دعوا الى التوحيد الخالص في المبدأ والهدف والآمال والآلام.
هموم الفيلسوف تتلخص في سعيه لأن يعلم الحقيقة. لكن هموم العارف هي هموم الوصول والاتحاد والفناء. هموم الفيلسوف التي تميّزه عن الآخرين تنبثق من حاجة الفطرة الى المعرفة، أما هموم العارفين المتمثلة في العشق والانجذاب فهي تنبثق من حاجة الفطرة الى العشق. العارف بهذه الهموم يريد أن يحلّق، ولا يقرّ له قرار إلاّ إذا لمس الحقيقة بكل وجوده.
من وصل الى معرفة النفس يعلم مامعنى الذات الحقيقيّة. الفيلسوف يرى أن الذات الواقعية هي روح الانسان، لكن العارف يعترض على ذلك ويرى أن الذات الحقيقية هي الله سبحانه. إذ في مرتبة من المراتب تكون هذه الروح تشخّصاً. والعارف يعرف ذاته الواقعية بكسر هذه التشخّصات . مايراه الفيلسوف بأنه الذات الحقيقية، يراه العارف بأنه مظهر من مظاهر الذات والروح الحقيقية. من أراد أن يصل الى الذات الحقيقية فعليه بالفناء وكسر التشخّصات وأن لا يرى أثراً للروح. هذه القطرة المنفصلة عن البحر يجب أن تعود الى البحر وتنمحي، وفي هذا المقام تستطيع أن تصل الى الذات الحقيقية.
الانسان عالم كبير
كل شيء له صورة ومعنى ظاهري أو باطني، قد يكون الشيء في صورته صغيراً لكنه في الباطن كبير جداً، وعلى العكس من ذلك تبدو بعض الأشياء كبيرة وهي في المعنى والباطن صغيرة.
عالم الخليقة في صورته عالم كبير، وبالمعنى عالم صغير، أما الانسان فهو في صورته عالم صغير، وهو بالمعنى عالم كبير. وجود الانسان ينطوي على حقائق من الالوهية والرسالة والنبوّة والولاية والخلافة، ومن اللاهوت والجبروت والملكوت والناسوت. ولو انصقلت مرآة وجود الإنسان من الأهواء والانشدادات الهابطة لتجلّت فيه جميع هذه المراتب ولشوهدت في وجوده جميع موجودات السماوات والارض والكواكب وكل ماسوى الله.
آلاف المكتشفين والباحثين يقدّمون الينا كلّ يوم معلومات جديدة عن أبعاد الفضاء وأعماق البحار، غير أن الانسان إذا غار في أعماق عالمه الكبير فإنه سيرى من العجائب مايساوي ـ على الاقل ـ عجائب الكون والطبيعة. وفي هذا الغور ثمة عوامل متنوعة ستتصدى لمساعدته.
الحواس الظاهرة والباطنة للانسان متعددة، منها مايسمى بالحاسة السادسة أو الالهام. المراتب النازلة لهذه الحاسّة نجدها في الحيوانات التي تشخّص الجهات كالحمام والسنونو والغراب والقطة والكلب، أو التي تحسّ برائحة الزهور والرياحين من مسافات بعيدة كالنحل، أو التي تبدي ردود فعل خاصة قبل وقوع الزلازل وأمثال ذلك.
الدرجة السامية العليا والاكمل من الالهام توجد لدى الانسان لا غيره. لكن أكثر الناس بسبب انهماكهم في الشؤون المادية لا علم لهم بهذه الحاسّة المدهشة، ولا يلتفتون الى مافي أنفسهم من قوى. الاشتغال بالشؤون الدنيوية بسبب ضعف قدرة الالهام ، لكنّ العقل والايمان الخالص يؤديان الى تقويتها. السالك الالهي يستطيع بتزكية النفس والتقوى أن يعمل على تكميل بعده الالهامي وارتباطه بماوراء الطبيعة وأن ينال بذلك السعادة الأبدية. لأن الهدف من الخليقة التوصل الى الحقائق، وفي هذا البحث عن الحقائق العامة في عوالم الوجود تتفتح الشخصية الالهية للانسان في أبعادها الواسعة وتتفجّر كفاءاته المختزنة.
مما تقدم نفهم أن الانسان الكامل ينطوي على فهرس لكتاب الوجود، وكل مافي العالم الكبير من دقائق وتفاصيل يمكن أن نجدها فيه. وقوله سبحانه:  وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ يشير الى هذه الحقيقة. فالانسان هو الكتاب الصغير للخليقة، والعالم هو الكتاب الكبير لها، والقرآن هادي العقل والفكر، ورسول الله (ص) النموذج البارز لهذا الكتاب المبين، إذ يمتلك بشكل أتمّ كمال القدرة المعنوية. وكل هذه الكتب تشترك في الخطة والأساس وترتبط بالفطرة وتنطبق عليها، ولا اختلاف بين العالم الصغير والعالم الكبير والقرآن، والغاية ضرورة السعي في كسب الكمالات للانتقال من الفهرس الى النص الكامل للخليقة.
ليس ثمة اختلاف في فطرة البشر التي هي الدين القيّم نفسه، طريق الفطرة بعيد عن الأوهام والأفكار التافهة. الاختلافُ في الأذواق والمسارات والاتجاهات وطرق السير والسلوك، إنّما هو وليدُ أوهام التيه في وادي الضلالة، وإلاّ فان طريق الفطرة لجميع الناس واحد ومستقيم. وإذا لم يحد أحد عن الطريق المستقيم، فانه سيبلغ مقصوده حتماً، لأنّه ثمة انسجام تام بين حركة فلك الكون ومسيرة الحياة والخليقة والغرائز البشرية الطبيعية المنسجمة بدورها مع غرائز وقوى العالم الكبير. وظهور القوى والغرائز المودعة في البشر بيد القدرة، يتمّ على أكمله بالطريق المعنوي بواسطة الطاعة.
النظام العام إذن واحد، يظهر أحياناً بـإجمال وأحياناً أخرى بتفصيل. الانسان إجمال ذلك التفصيل، وماهو في الآفاق كائن في الانفس. وما تنطوي عليه الآفاق والانفس من ظاهر وباطن ينطوي عليها الانسان بالجملة.
ظهور هذه القابليات يستلزم السير في كلام أولياء الدين، لأن كلامهم صغير في ظاهره وكبير في معناه. في كلامهم القصير بحار من المعاني. وماقالوا طبعا يتكون من حروف وألفاظ هي في ظاهرها وكيفيتها صغيرة ومحدودة لكنها تشير الى طريق الحقيقة بمعانٍ غير متناهية. طوبى للسالكين والعارفين الذين أدركوا تلك المعاني عن طريق تزكية نفوسهم وتقواهم. من المؤكد أن درجة التزكية والتقوى كلما ارتفعت فإن درك المعاني من تلك الالفاظ والكلمات يتسع ويتضح، وإن حركة القلب نحو الحقّ تزداد سرعةً وسموّاً.
الانسان على صورة الله
العلة الاساسية لمقدرة الانسان على نيل كماله ومافيه من كفاءات سامية خاصة هو أنه مخلوق على صورة الله، فقد جاء في النصوص الدينية: «خلق الله آدم على صورته». ولم يرد هذا التكريم لأي موجود آخر. والصورة على نوعين: ظاهرة وباطنة. الظاهرة تعني شكل الجسم والباطنة هي الصفات والاخلاق والروح، والمراد من النصّ المذكور الصورة الباطنة طبعاً.
الله سبحانه ليس له نظير وشبيه، لكن النص يقرر نوعاً من المشاكلة والمشابهة. والمشاكلة على ثلاثة أنواع:
الاول – المشاكلة في اللفظ والمعنى وكيفية الوجود.
الثاني – المشاكلة في اللفظ والمعنى، لا في كيفية الوجود، مثل الماء العيني، والماء الشبحي والسرابي.
الثالث – المشاكلة في اللفظ لا في المعنى والكيفية. مثل العين (الباصرة) وعين (الماء).
الاسماء والصفات المشتركة بين الله والانسان من النوع الثاني. الخالق تعالى موجود بالذات والانسان موجود بالجعل. وهو سبحانه حيٌّ وعالم وقادر بالذات لا يعتريه زوال، وقدرته غالبة على كلّ شيء. لكن حياة الانسان وقدرته وعلمه موجودة بالجعل. حياته تنتهي بموته وعلمه وقدرته بحدود.
من هنا فإن صفات البشر ليست كصفات الله، ولكن مع ذلك شرّفه الله سبحانه بالقدرة على التكامل حتى يصل الى مقام يصبح مظهراً لصفات الحق سبحانه، مثل الحيّ والعليم ، والسميع والبصير والمتكلّم والقادر.
تحيّر الملائكة
أحد مظاهر عظمة الانسان قصة خلقته. فقد خلق سبحانه آدم من طين ليكون خليفته في الارض: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (البقرة:30). تعجّبُ الملائكةِ كان من هذا السرّ الذي جعل من حفنةِ طينٍ ذليل خليفةَ الربّ الجليل.
وكان جواب الله سبحانه لهم:  إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ، فما أدراكم أيتها الملائكة بما سيحمله هذا الانسان من أمانة! ما أدراكم بما سيحمله هذا الانسان في قلبه من عشق، أنتم قابعون في صومعة حظيرة القدس، فما أدراكم بمن يخوض لـحُججَ العاشقين!..
إنّ هذا الكائن سبيلغ من الكرامة بحيث يستحق أن تسجدوا له. وسيحمل قلباً يتأهّل لأن يكون عرش ربّ العالمين.
لقد شاء الله سبحانه أن يتجلّى جمال كماله في الأشياء، وماكان في الكون شيء يليق بهذا التجلّي، فخلق الانسان ليكون مظهراً لصورة الحبيب الأزلي، ولذلك كان عهد الانسان لحمل الامانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها. وقدرة الانسان على حمل هذه الأمانة تتجلّى فقط عن طريق العشق الالهي في وجوده.
وحين واجه الملائكة قولَه سبحانه:  إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وواجهوا امتحان عرض الاسماء، اعترفوا بعظمة مكانة الانسان. والاعتراف كان بالقول وبالعمل. باللفظ قالوا:  قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا(البقرة:32) وبالفعل استجابوا فسجدوا لآدم:  وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا  (البقرة:34). وهذا درس آخر للسالك يعلّمه أن الإقرار اللفظي غير كاف، ولابدّ أن يكون مقروناً بالفعل ليتلقى القبول التام لدى الاستاذ.
وظهر الموجود البشري على ظهر الأرض وهو يحمل أمانة المرآة التي ينعكس فيها جلال الله وجماله. غير أن أداء هذه الأمانة كان من نصيب الانسان الكامل، الذي يستطيع أن يزيل عن تلك المرأة كل صدأ، ويجليها كي تتحقق فيها مشاكلة: «إن الله خلق آدم على صورته».
ومن الطريف أنّ هذه المرآة التي أودعت في نفس الانسان منذ الأزل كان فيها صفاء، وبعد أن يطوي الانسان مرحلةَ تكامله الحياتيّة ويسلّم المرآة الى صاحب الأمانة يكون صفاء تلك المرأة قد تضاعف مرّات!!
الهدف من خلقة الانسان حفظُ الأمانة، والرجال الالهيون هم القادرون وحدهم على ردّ الأمانة الى أهلها: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا  (النساء:58) إنهم أولئك الذين رأوا وجه الحبيب الأزلي في كأس وجودهم.
وسجود الملائكة لآدم تكريم لهذا الموجود البشري وإعلان مركزيته في دائرة الوجود وانقياد كل الموجودات إليه. فكل شيء في السماوات والأرض مسخّر له: وَسَخَّرَ
لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ(الجاثـية:13).
وكل هذا التقرير القرآني بشأن الانسان إنما هو ليعرف مكانته في الوجود. أليس بعد هذا من المؤسف والمحزن أن يغفل الانسان عن هذه المكانة السامية ويلقي بنفسه كالبهائم بين المعتلف والمضجع؟!
تحليق الانسان
الهدف من الخلقة أن ينال الانسان وجوده الحقيقي. وذلك لا يتحقق إلاّ إذا خرج من شرنقته الماديّة وحطّمها، إذ في هذا التحطيم تحقيق للوجود. ومن أجل أن يتمكن من الانطلاق لابدّ أن يتحرّك متابعاً صيد صفات الجلال الالهي دون أن يقرّ له قرار.
ولابدّ أن يتابع في هذه الحركات الالهيّة ترويض النفس والتعلّم على يد الاساتذة الالهيين. وعلى مسار التربية والتعليم تنضج قواه الذاتية وتقرّبه من مقام العبوديّة لينال الوصال في نهاية المطاف.
ومايقال عن رقص العارفين إنما هو هذه الحركة الدائبة وهذا القفز المتواصل للوصول الى قمة جبل قاف. لكن مقام جبل قاف لا يستحقّه كل طير، لابد أن يكون ذلك الطير قد تحرر من انشداده بما ينشد اليه الناس العاديون، ويحلّق في فضاء القدس اللامتناهي. وهذه القدرة على التحرر والتحليق والوصول الى قمم الكمال إنما هو شرف ناله الانسان دون غيره من سائر الموجودات.
الملائكة تحلّق لصيد مراتب التنزيه والتقديس، لكن الانسان العارف يصطاد في تحليقه صفات الله بجلالها وجمالها. غاية ماتطلبه الملائكة مقام يحبّونه بينما الانسان يسمو عليها إذ هو مؤهّل لبلوغ مقام يحبّهم. ويبلغ بالعاشقين درجة أنهم لا يفكرون بنعيم الآخرة وعذابها، بل يعبدون ويطيعون لأنهم عاشقون، فهم تعلّموا في مدرسة لم يلقّنهم فيها استاذهم سوى «الالف». فانتشلهم نور الهداية من وحل الطبيعة المادية وأوصلهم الى مقام الولاية، وهؤلاء هم الذاكرون حقاً.
الملائكة كانوا وراء صيد  وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ  وبذلك يفخرون، ولم يكن في وسعهم صيد صفات الجلال والجمال، لأن الله سبحانه أودع هذه القدرة لدى الانسان فحسب. وحينما سمع الملائكة خطاب الربّ لنفس الانسان: ارجعي الى ربّك علموا أن ليس لهم مكانة في هذا المقام، ولا قدرة لهم على هذا التحليق. والله سبحانه اصطاد هذا الصيّاد الالهي بشبكة ويحبُّهم فصارت نفسه راضية مرضيّة.
حين رأى الملائكة قدرة الانسان على التحليق وراء صيده الى اللانهاية وأنه أكثر من غيرهم مجذوب بجاذبة الحق، تحيّروا، عندئذ جاءهم الخطاب:  أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مالا تعلمون.
نعم، خُلق الانسان في الظاهر ضعيفا: خُلق الإنسان ضعيفا لكنه مسنود بارادة ربّ العالمين: وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر وشاءت هذه الإرادة أن تجهّز الإنسان بقدرة التحليق الى ربّ العزّة والجلال..
ويبقى الانسان الإلهي محلّقاً، يصارع انشداده بقفص الجسم، حتى إذا جاء نداء
ارجعي اضطرب هذا القفص أيضا، فينطلق منه نحو المحبوب ليلقي عصا الترحال عند مليك مقتدر.
أجمل المخلوقات وأقبحها
أيها الانسان!
كفى بك منزلة أن الله سبحانه قال في شأنك: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ  صورة الانسان في جمالها واعتدالها جميلة، وأجمل مافي خلقته قلبه وروحه. إذ بهما يستطيع أن يرتقي بجماله. والذين يعشقون الجمال عليهم بالتقوى فهي سلّم الجمال والكمال الحقيقي، وإياهم أن ينخدعوا بجمال ليس وراءه كمال.
وهكذا قوله سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . غير أن هذا الحسن في الصورة وفي التقويم له دلالته الكبرى على مايحمل الانسان من مسوؤلية تجاه ربّ العالمين. فهوخليفته في الارض  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً  ومسؤولية الخلافة لها أعباؤها الكبرى، ولها مكانتها الكبرى أيضا، لذلك كان الانسان بعين الله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً .
عنصر الجمال يتجلّى حينما يكون الانسان سائراً في طريق التقوى نحو الله سبحانه، لكنّه إذا أعرض عن ذكره فهو في حياته الخارجية يعيش في ضنك من العيش: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى وفي حياته النفسية يعيش حالة الطغيان والهلع والجزع والمنع:  كَلا إِنَّ الأِنْسَانَ لَيَطْغَى،أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى،  إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا وفي سلوكه العملي يمنى بالخسران والكفر والكنود والعجلة: إنَّ الإنسان لَفي خُسر ،
 إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ،  إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ،  وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً .. وكل تلك مظاهر قبح.
وما جاء من ذمّ للانسان المنحرف عن طرق الله لم يأت لأي موجود آخر، لأنه يكون بذلك قد ضيّع الأمانة الكبرى، وأهمل أكبر فرصة أتاحها ربّ العالمين لمخلوق من مخلوقاته.
أيها الانسان!
أنت بيدك تصنع مستقبلك ومصيرك، المصير له طبعاً أنواع وأقسام، لكنك أنت الذي تصنع ذاتك، وأنت معمار ومهندس وجودك. أنت الموجود الوحيد الذي شاء الله سبحانه أن يضع بيده قَلَمَ رسم صورته، فأنت ترسم صورة نفسك كما تشاء، فكن حذراً واعرف كيف تتحرك إرادتك في الرسم.
أيها الانسان!
أنت الموجود الوحيد الذي يستطيع أن يتحكم في دوافعه وبمقدورك أن تختار الدافع الذي يرفعك في عليين أو الذي يدفعك الى أسفل سافلين. هذه الدوافع ليست وراثية لايمكن التحكّم فيها، بل إنَّ زمامها بيدك، تستطيع أن تقودها، ومن الممكن أن تنقاد اليها إذا لم تعرف نفسك وقواك وإرادتك. أنت أيها الانسان – في منطق الماديين – ريشة في مهبّ النزعات الماديّة، تتحرك وفق إرادة البطن والفرج لابـإرادتك. لكنك في المنظور الالهي موجود قادر أن يتحكم في إرادته وفي نزعاته ويرتفع الى مستوى رسالي ليكون خليفة ربّ العالمين.
دور الايمان والعمل
من العوامل التي تُعين الانسانَ على رسم مستقبله العلم والإيمان. العلم ينير طريق السعادة، والايمان يشكّل الطاقة المحرّكة على هذاالطريق، كما أن الايمان يزيل من الطريق العوامل المادية التي تعيق الحركة ويفسح المجال لمواصلة الطريق نحو الكامل المطلق سبحانه.
نعم، ثمة عوامل تحيط الانسان لا إرادة له فيها، مثل العوامل الوراثية والجغرافية والتاريخية، لكنها لا تشكل عائقاً أمام إرادة الإنسان، فهو يستطيع أن يتجاوزها وأن يسجّل انتصاراً لإرادته عليها.
من هنا فإن الانسان إذا فقد إيمانه فقد أيضاً كلّ ما يميّزه في مضمار الانسانيّة، الايمان إذن مقرون بالحركة على طريق الله، وإذا فقد الايمان فقد الحركة التكاملية أو فقد «العمل الصالح» بالتعبير القرآني، من هنا اقترن الايمان بالعمل الصالح، فبهما يربح الانسان حياته وإلاّ كان في خسران: وَالْعَصْرِ،إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ .
وما الدين إلاّ هذا العمل الصالح. لذلك قال رسول الله(ص) حين سُئل: ما الاسلام؟ قال: «العمل». وهذا السعي على طريق الله هو الذي يبلور الوجود الحقيقي للانسان، وهو الذي يرسم سعادته في الدنيا وفي الآخره: وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى .
العمل هو جوهر وجود الكائن البشري، وتبلور إرادته. في العمل تبرز كفاءات الانسان وتتحول من القوّة الى الفعل. وبالعمل يتبين مدى في مافي الانسان من تحوّل يظهر في أعمال صالحة أو طالحة، ومانراه من أعمال كبيرة تصدر عن العظام إنّما هي في الواقع تجسيد لمافي داخلهم من حركة تكاملية.
والتأثير الخارجي الإيجابي للعمل يتّسع بقدر ماكان في الفرد العامل من إخلاص وبقدر ماكان هدف العامل كبيراً. إنّ هجرة الرسول وأصحابه الى المدينة المنورة، لم يكن سوى حركة جماعة مضطهدة من مكان الى مكان، لكنها أنتجت حركة بشرية ستبقى متواصلة حتى يرث الله الارض ومن عليها. ذلك لأن هذا العمل كان بعيداً عن المصالح الذاتية، وبعيداً عن الدوافع الضيقة القبلية والقومية، فقد كان عملاً رسالياً يستهدف تحرير الانسان من الاغلال التي تحدّ حركته التكاملية.
الانسان الالهي يعيش دائماً همّ العمل الصالح وهمّ دفع الحركة التكاملية للبشرية، وهمّ تحرير الانسان من القيود والاغلال التي عليه.
والانسان الالهي هو ـ كما ذكرنا ـ من استطاع أن يتخلص من الذاتيات والانانيات. أما الانسان الغارق في الذات، فهو ـ حتى ولو أطلق الشعارات التقدمية ـ يعيش في تخلّف وركود، بل حتى ولو تظاهر بالدين والدفاع عن الدين، فإنه في الواقع يدافع عن ذاتيته، لأنه لم يفهم من الدين سوى الظاهر والقشر الذي يتشبث به لتكريس أنانيته.
الرجل والمرأة في مضمار الانسانية
وإذْ كان العمل يمثل جوهر الانسان وقيمته فليس في ذلك اختلاف بين الرجل والمرأة: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى… ويتساوى الرجل والمرأة في قدرتهما على العمل الصالح لأنهما متشابهان في الخلقة، أو لأنهما من نفس واحدة بالتعبير القرآني: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً.
في بعض الأساطير التي نُسبت خطأ للدين إدانة للمرأة وتقرير نقصها والقاء اللائمة عليها في وسوسة الشيطان والخروج من الجنّة. بينما القرآن يرى أنّ المرأة والرجل كليهما يتعرّضان لوساوس الشيطان وحديث القرآن الكريم عن آدم وحوّاء يقرر هذه الحقيقة في عبارات متعددة: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ، فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين .
وقال بعض السطحيين أن المرأة في نظر الدين أقلّ قدرة على التكامل من الرجل، وهذا يرفضه تقرير القرآن عن أصل الخلقة وحديثه عن نساء عظيمات مثل مريم وهاجر وأم موسى وزوج فرعون، وعلى الصعيد العملي رأينا مابلغته المرأة المسلمة مثل خديجة وفاطمة من مكانة تؤكد تساوي المرأة والرجل في القدرة على السموّ والتحليق.
ومما نُسب خطأ الى الدين ما أشيع أن التقوى تكون في الابتعاد عن المرأة، وهذا ترفضه النصوص الكثيرة التي تؤكد أن حبّ المرأة من فضائل الأخلاق.
روي عن رسول الله(ص) قال: «من أخلاق الانبياء حبّ النساء».
ومما أشيع في هذا الإطار أيضاً أن الدين يعتبر المرأة مخلوقة من أجل الرجل، وهذه ذهنية رجولية مرفوضة في القرآن الذي يقرر أن كلاً من الجنسين يكمل الآخر، دون تفوق وأولوية لأحدهما:  هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ  .
وتأكيد الاسلام على ضرورة رعاية حقوق النساء والوفاء بالعهد لهنّ، كثيرة معروفة.
إذن معيار رقيّ الانسان وكرامته وفضله هو مقدار مايستطيع أن يقطعه على سلّم كماله. يتساوى في ذلك المرأة والرجل، غير أن المرأة التي تسير على هذا الطريق.. طريق التقوى، قادرة على أن تخلق جيلا من المتقين، وفضيلتها في هذا المجال مضاعفة.
أما الاختلاف بين الذكر والانثى في بعض العبادات والامور المالية كالارث فليس ذلك نقصاً في الانثى وتفضيلا للرجل، بل ذلك يرتبط بأمور أخرى لامجال لذكرها، النقص هو في تأخر الانسان عن الحركة نحو الله لا في اختلاف الاحكام.

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 702)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 773)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 741)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 634)   (موضوع: عرفان)
• رحلة إلى كعبة الحبيب - القسم السابع وا لأخير - 1   (بازدید: 1254)   (موضوع: )
• رحلة إلى كعبة الحبيب - القسم السابع وا لأخير - 2   (بازدید: 1329)   (موضوع: )
• رحلة إلى كعبة الحبيب / القسم الأول   (بازدید: 746)   (موضوع: عرفان)

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 634)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 702)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 773)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب   (بازدید: 741)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)
• رحلة إلى كعبة الحبيب / القسم الأول   (بازدید: 746)   (نویسنده: علي اللّهوردي خاني)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]