banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

الأدب العربي في إصفهان
ثقافتنا - العدد 9
أدب
حيدر محلاتي
1427

«ملخّص»
اهتم الايرانيون باللغة العربية على صعيد آدابها وقواعدها وبلاغتها ونقدها، وظهر كبار الادباء واللغويون والنحويون والنقاد وكتّاب المعاجم بين الايرانيين، وكان للاصفهانيين دور بارز في هذا المجال، ولقب الاصفهاني يحمله كثير من الادباء والشعراء والنقاد وشرّاح الدواوين، ولذلك كانت اصفهان حاضرة من حواضر الثقافة في العالم الإسلامي.
لاقت اللغة العربية وآدابها اهتماماً عظيماً في إيران منذ العصور الأولى للإسلام وخاصة بعد أن أصبحت لغة الدين والعلم والدولة. فكانت تدرّس في مختلف المستويات ويهتم بها عامة الناس وخاصتهم، ولاسيما طلاب العلوم الدينية الذين أقبلوا إقبالاً منقطع النظير على تعلّم هذه اللغة وكشف أسرارها وفهم دقائقها ومعانيها، مما جعلهم يتسنمون ذروة المناصب الحكومية التي كانت قائمة أساساً على التثقف الواسع والعميق للغة القرآن الكريم.
وكانت لدراسة الأدب العربي في إيران مراكز هامة ومدارس علمية غاية في الشهرة كتلك التي كانت قائمة في نيسابور والري واصفهان. وتعد اصفهان – منذ أقدم عصورها وحتى يومنا هذا – حاضرة من حواضر العلم والثقافة ومهداً للغة العربية وآدابها لتقديمها الكثير الكثير من أساطين العلم وأعلام الأدب المبرّزين. فاصفهان كما قال المفضّل بن سعد المافرّوخي الاصفهاني (من علماء القرن الخامس للهجرة) مميّزة حقّاً بمعاليها ومناقب أهلها عمّن سواها من بلدان العالم:
لإصفهان مَعالٍ لم يُخصّ بها ما بينَ شَرقٍ وغَربٍ في الدُنا بَلد(1)
وقديماً كانت اصفهان مركزاً علمياً هاماً حرص ملوك فارس على إيداع علومهم ومعارفهم فيها للمزايا الفريدة والخصوصيات الممتازة التي كانت تتمتع بها هذه المدينة. وفي هذا الشأن يقول ابن النديم نقلاً عن أبي معشر في كتابه اختلاف الزيجات: «إنّ ملوك فارس بلغ من عنايتهم بصيانة العلوم، وحرصهم على بقائها على وجه الدهر، وإشفاقهم عليها من أحداث الجو وآفات الأرض، أن اختاروا لها من المكاتب أصبرها على الأحداث، وأبقاها على الدهر، وأبعدها من التعفن والدروس… فلما حصلوا لمستودع علومهم أجود ما وجدوه في العالم من المكاتب، طلبوا لها من بقاع الأرض وبلدان الأقاليم، أصحّها تربة وأقلّها عفونة وأبعدها من الزلازل والخسوف وأعلكها طيناً وأبقاها على الدهر بناءاً، فانتفضوا بلاد المملكة وبقاعها، فلم يجدوا تحت أديم السماء بلداً أجمع لهذه الأوصاف من اصفهان»(2) .
وبعد دخول الإسلام إلى إيران كانت اصفهان إحدى المدن التوّاقة لاحتضان لغة الدين الحنيف. فاجتذبت كل ماهو مرتبط بهذه اللغة من علوم ومعارف، وشاركت مشاركة فعّالة في تنمية هذه العلوم ونشرها بشكل واسع، مخلّفة من ورائها أعمق الأثر في ارتقاء هذه اللغة وازدهارها من خلال الثروة العلمية الهائلة التي قدّمتها للمكتبة الإسلامية.
ولكي نقف عند مساهمات هذه الحاضرة الثقافية المهمة في عالمنا الإسلامي ودورها في تكريس اللغة العربية وآدابها نتناول ما يتصل بهذه اللغة من فنون وعلوم حسب التسلسل التالي: أولاً: فن الشعر، ثانياً: فن النثر، ثالثاً: علم النحو، رابعاً: علم اللغة، خامساً: التفسير الأدبي، سادساً: التراجم والسير الأدبية، سابعاً: النقد الأدبي.
ونبدأ كلامنا أولاً بالشعر حيث الإبداع الشعري في هذه الحاضرة كان مميزاً وفريداً بالنسبة إلى سائر البلدان الإسلامية. وفي هذا الخصوص يؤكد الثعالبي قائلاً: «لم تزل اصبهان مخصوصة من بين البلدان بإخراج فضلاء الأدباء، وفحولة الكتاب والشعراء، فلما أخرجت الصاحب أبا القاسم وكثيراً من أصحابه وصنائعه، وصارت مركز عزّه، ومجمع ندمائه، ومطرح زوّاره، استحقت أن تدعى مثابة الفضل، وموسم الأدب، وإذا تصفّحت كتاب اصبهان لأبي عبد الله حمزة بن الحسين الإصبهاني وانتهيت إلى ما ورد فيه من ذكر شعرائها… حكمت لها بوفور الحظ من أعيان الفضل، وأفراد الدهر»(3) .
وشعراء العربية في اصفهان كثيرون للغاية، لا يمكن جمعهم في مقالة واحدة، ألاّ أنّ الحديث عن أشهرهم وأذيعهم صيتاً يكون ميسّراً، خاصة إذا كانت الإشارة إليهم إشارة إجمالية. ومن هؤلاء الشعراء نذكر فيما يلي عشرة منهم حسب الترتيب الزمني:
1ـ رُسْتَه بن أبي الأبيض الاصبهاني، الشاعر الضرير المتوفى سنة 175هـ. قال ياقوت في ترجمته: «كان مليح الشعر، أشبه الناس شعراً ببشار بن برد، له شعر كثير»(4).
2- أحمد بن عَلَوية الكاتب الاصبهاني (ت 320هـ). عدّه ابن شهرآشوب من الطبقة الاولى من شعراء أهل البيت(ع) المجاهرين(5) . وقال في وصف شعره: «له النونية المسمّاة بالألفية والمحبّرة وهي ثمان ماية ونيف وثلاثون بيتاً، وقد عرضت على أبي حاتم السجستاني، فقال: يا أهل البصرة غلبكم والله شاعر اصفهان بهذه القصيدة في إحكامها وكثرة قوافيها»(6) . والمحبّرة مطلعها:
ما بَــالُ عَيْنــــِكَ ثَــــرَّةَ الإنسانِ

عَبْرى اللّحاظِ سَقيمَــةَ الأجفــانِ(7)
3- محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم طباطبا (ت 322هـ). ترجم له ياقوت وقال: «شاعر مُفلِق، وعالم محقق، شائع الشعر نبيه الذكر، مولده بإصبهان»(8) .
4- كافي الكفاة الصاحب إسماعيل بن عبّاد (ت 385هـ). شاعر شهير غني عن التعريف نكتفي بذكر ماقاله الثعالبي في وصفه: «ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علوّ محلّه في العلم والأدب وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرّده بغايات المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همّة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه، ولكني أقول: هو صدر المشرق، وتاريخ المجد، وغرّة الزمان، وينبوع العدل والإحسان»(9) .
5- أبو سعيد الرستمي؛ محمد بن محمد بن الحسن الاصبهاني. وصفه السمعاني بالشاعر النحرير(10) . وقال عنه الثعالبي: هو «من أهل اصبهان وأهل بيوتاتها، ومن يقول الشعر في الرتبة العليا، ومن شعراء العصر في الطبقة الكبرى»(11) .
6- أبو القاسم غانم بن أبي العلاء الاصبهاني. قال عنه صاحب التيمية: «شاعر ملء ثوبه، ملء فمه، مرغوب في ديباجة كلامه، متنافس في سحر شعره»(12) .
7- أبو محمد عبد الله بن أحمد الخازن. قال الثعالبي في وصفه: «من حسنات اصفهان ونجوم أرضها وأفرادها في الشعر»(13) .
8- أبو إسماعيل مؤيد الدين الحسين بن علي الاصبهاني الطغرائي (ت515هـ). قال ياقوت في ترجمته: كان آية في الكتابة والشعر. وله في العربية والعلوم قَدْرٌ راسخٌ، وله البلاغة المعجزة في النظم والنثر. ومن شعره قصيدته التي تداولتها الراوة وتناقلتها الألسن، المعروفة بلامية العجم:
أصالةُ الــرأي صانتنــي عن الخَطَل

وحِلْيَةُ الفضل زانتني لـدى العَطَلِ(14)
9- أبو الهيجاء الاصبهاني؛ شَفَهفَيروز بن شُعيب بن عبد السيد، المتوفى سنة 530هـ. قال عنه ياقوت الحموي: كان أديباً فاضلاً شاعراً مُجيداً في النظم والنثر، له مقامات أنشئت سنة تسعين واربعمائة. ومن شعره:
لا أسْتَلِذُّ العَيْشَ لم أدأبْ لَهُ
وأرى حــراماً أن يُواتيَني الغِنــــى

طَلَباً وسَعْياً في الهواجر والغَلَسْ
حتّى يُحاوَلُ بالعَنــاءِ ويُلتَمــَسْ(15)
10- أبو طاهر إسماعيل بن محمد بن أحمد الوثّابي (ت 533هـ). ترجم له ياقوت الحموي في معجمه وقال: «أبو طاهر من أهل اصبهان، له معرفة تامة بالأدب، وطَبعٌ جَوادٌ بالشعر… قال السمعاني: ما رأيت باصفهان في صنعة الشعر والترسل أفضل منه… وما رأيت أسرع بديهة منه في النظم والنثر…
وأنشد عنه السمعاني أشعاراً له منها:
أشاعوا فقالوا وَقْفَةٌ ووداعُ
فقلتُ وداعٌ لا أطيقُ عيانَهُ
ولــم يملــكِ الكتمــانَ قَلْبٌ ملكتَهُ

وَزُمَّتْ مطايا للرحيل سِراعُ
كفاني من البَيْنِ المُشتِّ سَمَاعُ
وعند النــوى سِــرُّ الكتومِ مُذاعُ(16)
وليست هذه العشرة المذكورة من الشعراء إلا غيضاً من فيض يصعب حصره. فالمقام يطول بنا إذا ما أردنا أن نحصي شعراء اصفهان عدداً. وقد أورد الباخَزْزي قائمة مطوّلة بأسماء النابهين منهم، أمثال: محمد بن الحسن بن مرزوق الاصفهاني، وطاهر بن محمد الاصفهاني، وابن البديع الاصفهاني، والأستاذ الرئيس أبو نصر الاصفهاني، وأبو طاهر زيد بن عبدالوهاب الاصفهاني وعشرات آخرين(17) .
وننتقل من عالم الشعر إلى عالم النثر وما يضم من فنون في الانشاء والترسل والكتابة الديوانية، حيث أبدع أدباء اصفهان في هذا الفن أيما إبداع، ونبغ منهم مَن توصّل بنثره الفني المميّز إلى أرقى المناصب الحكومية. ونشير هنا إلى طائفة من هؤلاء الكتّاب المبدعين الذين خلّفوا آثاراً باقية في دنيا الكتابة الفنية:
1ـ حَمد بن مهران الكاتب. قال عنه ابن النديم: «إنّه من إصفهان، وكان يكتب للبرامكة مدّة حياتهم، وله كتاب رسائل»(18) . ونحن نعلم أنّ البرامكة وهم وزارء بني العباس كانوا من أهم العوامل المؤثّرة في تجديد النثر العربي وإدخال العبارات المحبوكة المسجوعة في الكتابة الديوانية(19) . ولاشك أنّ كُتّاباً نابغين كابن مهران نهضوا بالنثر العربي وأغنوه رونقاً وطلاوةً.
2- الصاحب بن عبّاد الآنف الذكر. كان من أشهر كتّاب عصره وقد ترك أثراً عميقاً في النثر الفني من خلال كتبه ورسائله وتوقيعاته وأمثاله وحكمه السائرة وعباراته المسجعة ذات المعاني والأخيلة الرهيفة. ومن أقواله المعروفة: «حِفْظُ اللسانِ راحةُ الإنسانِ، فاحْفَظْهُ حِفْظَ الشُكْرِ للإحسانِ، فآفة الإنسانِ في اللسان»(20) . وقوله في وصف مهزومين: «طاروا واقين بظهورهم صدورَهم وبأصلابهم نحورَهم»(21) .
3- أبو الحسين أحمد بن سعد الكاتب. ذكره الحموي في جملة أصحاب الرسائل المجمع على فضلهم، وقال نقلاً عن حمزة صاحب كتاب اصفهان: «له من الكتب، كتاب الاختيار من الرسائل لم يُسبَق إلى مثله، وكتابٌ آخر في الرسائل سمّاه فِقَرَ البُلَغاء»(22) .
4- أبو اسحاق ابراهيم بن مِمْشَاذ المتوكّلي الاصبهاني. قال ياقوت: كان أحد البُلغاء في زمانه، حتى لم يتقدمه أحد. ونقل عن حمزة الاصفهاني قوله: ولم يكن بالعراق في أيامه أبلغ منه، وله رسالة طويلة في تقريظ المتوكل والفتح بن خاقان يتداولها كُتّاب العراق(23) .
5- أبو عبدالله محمد بن محمد المعروف بالعماد الكاتب الاصبهاني. قال ابن خلكان في ترجمته: له من الشعر والرسائل ما يغني عن الإطالة في شرحه، وكان قد نشأ باصبهان. وصنّف التصانيف النافعة من ذلك كتاب خريدة القصر وجريدة العصر(24) . والعماد الاصبهاني صاحب المقولة الشهيرة: «إنّي رأيت أنّه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلاّ قال في غده لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يُستحسن ، ولو قُدّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر»(25) .
وبعد إلقاء هذه النظرة الاجمالية العابرة على مبدعي النثر الفني في إصفهان ننتقل إلى علم النحو الذي ساهم علماء إصفهان في تصنيف كتبه مساهمة كبيرة لا تنكر. فمعجم ياقوت الحموي يعج بأسماء عشرات الكتب النحوية التي ألّفها نحاة اصفهان. من مثل: كتاب «شرح اللمع»، وكتاب «الجوهر»، وكتاب «المجمل» وكلها من تأليف علي بن الحسين الباقولي الاصفهاني المعروف بالجامع الذي قال فيه ياقوت نقلاً عن كتاب الوشاح لابي الحسن البيهقي: «هو في النحو والاعراب كعبةٌ، لها أفاضل العصر سَدَنَةٌ. وللفضل فيه بعدَ خفائه أسوةٌ حسنة.. ومن نظر في تصانيفه عَلِمَ أنّه لا حقٌ سبقَ السابقين»(26) .
ومن جملة كتب النحو التي صنّفها الاصفهانيون كتاب «علل النحو»، وكتاب «نقض علل النحو»(27) ، وكلاهما للحسن بن عبد الله المعروف بلُغْدَة الاصبهاني الذي وصفه ياقوت بأنه: «كان إماماً في النحو واللغة، وكان في طبقة أبي حنيفة الدينوري، مشايُخهما سَواءُ، وكان بينهما مُناقضات»(28) .
ومن النحاة المنسوبين إلى اصفهان أبو مُضَر محمد بن جرير الضبّي الاصبهاني الذي ذكره ياقوت قائلاً: «أبو مضر النحوي، كان يلقّب فريدَ عصره، وكان وحيدَ دهره وأوانه في علم اللغة والنحو والطب، يضرب به المَثَلُ في أنواع الفضائل… تخرج عليه جماعة من الأكابر في اللغة والنحو، منهم الزمخشري(29) .
ومن علماء اصفهان في النحو أبو بكر عُبيد الله الخياط الاصبهاني الذي ترجم له ياقوت في معجمه نقلا عن حمزة الاصفهاني قوله: «هو واحد زمانه في علم النحو ورواية الشعر، أتقن كتاب سيبويه صغيراً، ثم كتاب مسائل الأخفش، ثم كتاب حدود الفرّاء، وهو في الأخبار والأيام وسائر الآداب متقدّمٌ على كل من تفرّد بفن منها، وله كتابان في النحو أحدهما بسيط والآخر لطيف لم يُصنّف مثلُهما في الزمان»(30) .
والحقيقة أننا لو أردنا استقصاء جميع ما كتبه علماء اصفهان في اللغة العربية وآدابها وما يرتبط بها من علوم وفنون لأقحمنا أنفسنا في أمر مستحيل لا يطاق، ومن هذا المنطلق نحاول أن نسلط الضوء بشكل جامع و موجز على ما تبقى من حقول اللغة التي شارك فيها أدباء اصفهان وأن نلمّ بأهم الآثار الابداعية في تلك المجالات.
ففي حقل اللغة تستوقفنا عدة كتب لغوية هي قمة في الابداع اللغوي؛ من مثل كتاب «المحيط في اللغة» في سبع مجلدات للصاحب بن عبّاد(31) ، وكتاب «تهذيب الطبع» لأبي محمد القاسم بن محمد الديرتي الاصبهاني»(32) . وكتاب «النوادر» وهو كتاب لغوي كبير من تأليف لُغْدَة الاصبهاني(33) ، وعدة كتب في اللغة لِبِنْدار بن عبد الحميد الاصبهاني المعروف بابن لِرَّة الذي عبّر عنه ياقوت بأنـّه: «كان متقدماً في علم اللغة ورواية الشعر، وكان أحفظ أهل زمانه للشعر وأعلمهم به، كان يحفظ سبعمائة قصيدة أول كل قصيدة «بانت سعاد»(34) .
أما في مجال الشرح والتفسير الأدبي فقد ألّف فيه أدباء اصفهان كُتباً كثيرة للغاية. ويكفينا هنا أن نشير إلى واحد من أهم شرّاح الشعر والنصوص الأدبية ممن اشتهر في هذا الفن وهو أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي (ت 421هـ) حيث يطلعنا ياقوت الحموي على جوانب من حياة هذا العالم قائلاً: «أبو علي من أهل اصبهان، كان غاية في الذكاء والفطنة، وحسن التصنيف، وإقامة الحُجج، وحسن الاختيار. وتصانيفه لا مزيد عليها في الجَودة… وله من الكتب: كتاب شرح الحماسة، أجاد فيه جدّاً، كتاب شرح المفضَّليَّات، كتاب شرح الفصيح، كتاب أشعار هُذيل، كتاب الأزمنة، كتاب شرح المُوجَز، كتاب شرح النحو. قال الصاحب بن عَبّاد: فاز بالعلم من اصبهان ثلاثة: حائِكٌ وحَلاّجٌ وإسكافٌ؛ فالحائك هو المرزوقي، والحلاج أبو منصور بن ماشدة، والإسكاف أبو عبدالله الخطيب بالرّي، صاحب التصانيف في اللغة»(35) .
وبعد حقل الشرح والتفسير الأدبي نتناول حقل التراجم والسير الأدبية الذي حظي بمكانة مرموقة بين سائر حقول التأليف في اصفهان. فالمطالع لكتب التاريخ والأدب يقف عند مصادر ثمينة للغاية صنّفها الاصفهانيون في السير والتراجم، منها: كتاب في طبقات البُلغاء وكتاب في طبقات الخطباء لأحمد بن محمد بن يوسف الاصبهاني، وكتاب قلائد الشرف في مفاخر اصبهان وأخبارها لعلي بن حمزة الاصبهاني، وكتابان شهيران آخران من تأليف العماد الكاتب الاصفهاني ، هما: «خريدة القصر وجريدة العصر»، وكتاب «السيل على الذيل»(36) .
وأخيراً نصل إلى حقل النقد الأدبي ومساهمات علماء اصفهان في نقد الشعر وتأليف كتب النقد حيث تتراءى لنا كتب كثيرة في هذا المجال تدل على أهمية هذا الفن لدى نقّاد اصفهان وأدبائها المحققين. فمن تلك الكتب: كتاب «أدب الكُتّاب» لأحمد بن محمد بن يوسف الاصفهاني، وكتاب «الرد على الشعراء» للُغدَة الاصبهاني، وكتاب «عيار الشعر» لمحمد بن أحمد المعروف بابن طباطبا الاصبهاني(37) ، ورسائل في النقد لأبي بكر عبيد الله الخياط الاصبهاني الذي قال فيه ابن العميد: «أفادني – أبو بكر الخياط النحوي – في نقد الشعر مالم يكن عندي، وذاك أنّه جاءني يوماً باختيارات له فكنت أرى المقطوعة بعد المقطوعة لا تدخل في مُرتضى الشعر فأعجب من إيراده لها واختياره إيّاها، فسألته عنها، فقال: لم يقل في معناها غيرُها فاخترتها لانفرادها في بابها»(38) ، وكتاب «الكشف عن مساوئ المتنبي» للصاحب بن عبّاد(39) .
وقد لا يخلو من فائدة أن نذكر هنا رأياً للدكتور شوقي ضيف في خصوص كتاب ابن عبّاد ونقده لشعر المتنبي والذي يظهر فيه ابنُ عباد ساخطاً أشد السخط على المتنبي، حيث يردّ الدكتور ضيف هذا السخط إلى عامل شخصي هو أنّ المتنبي أبى أن يمدح ابن عباد. ولذلك حاول ابن عباد أن يحصي مساوئ شعر المتنبي وهي حسب رأيه: الغموض في أشعاره على طريقة الصوفيين في عباراتهم الموهمة، واستخدام الألفاظ الممعنة في الغرابة، وردائة المطالع! – حسب قول ابن عباد – والمبالغة المسرفة، والاستعارة الذميمة، والنظم على القوافي الصعبة(40) .
وبعد هذه القراءة المجملة لتراث علماء اصفهان ونتاجهم الأدبي في حقول اللغة العربية يتضح أنَّ الأعمال الخالدة التي وصلتنا من ذلك الجيل الجبّار كانت أعمالاً في حدود الابداع والتجديد ولم تكن على سبيل المحاكاة والتقليد، ثمّ إنّ أولئك الأفذاذ لم يتركوا واردة ولاشاردة في هذه اللغة الاّ وأتوا عليها وأشبعوها بحثاً وتدقيقاً وتحقيقاً، وفوق كل ذلك يتجلّى لنا وبوضوح تام مدى اهتمام علماء فارس بلغة القرآن الكريم وصيانتها من كل سوء خدمةً للدين الحنيف.

مصادر البحث:
1ـ ابن الأثير، نصر الله بن محمد: المثل السائر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية ، بيروت، 1995م.
2- ابن خلكان، أحمد بن محمد: وفيات الأعيان وأنباء الزمان، تحقيق الدكتر احسان عباس، دار الثقافة ، بيروت، 1968م.
3- ابن شهرآشوب، محمد بن علي: معالم العلماء، المطبعة الحيدرية، النجف،1961م.

الهوامش:
(*) عضو الهيئة العلمية بجامعة قم.
1 - محاسن اصفهان، ص 21 .
2 - الفهرست، ص 301.
3 - يتمية الدهر، ج 3، ص 349.
4 - معجم الأدباء، ج 11، ص 140.
5 - معالم العلماء، ص 148.
6 - معالم العلماء، ص 23.
7 - معجم الأدباء، ج 4، ص 76.
8 - معجم الأدباء، ج 17، ص 143.
9 - يتيمة الدهر، ج 3، ص 225.
10 - الأنساب، ج 3، ص 62. والتحرير العالم الحاذق في علمه.
11 - يتيمة الدهر، ج 3، ص 349.
12 - المصدر السابق.
13 - المصدر السابق.
14 - معجم الأدباء، ج 10، ص 57 – 60.
15 - معجم الأدباء، ج 11، ص 272، 273.
16 - معجم الأدباء، ج 7، ص 36، 37.
17 - ينظر: دُمية القصر، ج 1، ص 423 ومابعدها.
18 - الفهرست، ص 137.
19 - د. شوقي ضيف: العصر العباسي الأول، ص 476.
20 - أبو عبيد البكري: فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، ص 24.
21 - ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 203.
22 - معجم الأدباء، ج 3، ص 39.
23 - معجم الأدباء، ج 2، ص 16، 17.
24 - وفيات الأعيان، ج 5، ص 148، 149.
25 - حاجي خليفة: كشف الظنون، ج 1، ص 45.
26 - معجم الأدباء، ج 13، ص 165، 166.
27 - الفهرست، ص 89.
28 - معجم الأدباء، ج 8، ج 8، ص 139.
29 - معجم الأدباء، ج 19، ص 123، 124.
30 - معجم الأدباء، ج 12، ص 69.
31 - كشف الظنون، ج 2، ص 1612.
32 - الفهرست، ص 151.
33 - معجم الأدباء، ج 8، ص 141.
34 - معجم الأدباء، ج 7، ص 129.
35 - معجم الأدباء، ج 5، ص 34، 35.
36 - معجم الأدباء، ج 4، ص 135، ج 13، ص 204، ج 19، ص 19.
37 - معجم الأدباء، ج 4، ص 135‘ ج 8، ص 142‘ ج 17، ص 143.
38 - معجم الأدباء، ج 12، ص 71، 72.
39 - كشف الظنون، ج 2، ص 1491.
40 - عصر الدول والامارات، ص 544.

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• الحماني العلوي - شاعر من سلالة الهاشميين   (بازدید: 1576)   (موضوع: أدب)
• الوحدة الدينية في شعر الشيخ الفرطوسي   (بازدید: 1479)   (موضوع: أدب)

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• دور الأدب في بناء الحضارة المعاصرة   (بازدید: 4451)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• فلسطين .. والشعر   (بازدید: 1078)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• فلسطين .. والشعر   (بازدید: 2280)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• فلسطين في الشعر اللبناني   (بازدید: 1635)   (نویسنده: الدكتور عبدالمجيد زراقط)
• فلسطين في شعر المملكة العربية السعودية   (بازدید: 3227)   (نویسنده: الدكتور محمد بن حسن الزير)
• فلسطين في شعر المملكة العربية السعودية   (بازدید: 2661)   (نویسنده: الدكتور محمد بن حسن الزير)
• الأواني المستطرقة   (بازدید: 1837)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الأدبان المعاصران العربي و الفارسي مقاربة في الظواهر المشتركة   (بازدید: 1174)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الخطاب الانساني في مثنوي مولانا جلال الدين الرومي   (بازدید: 2468)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• سعدي الشيرازي   (بازدید: 1973)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• يد العشق   (بازدید: 1353)   (نویسنده: عيسى العاكوب)
• الحماني العلوي - شاعر من سلالة الهاشميين   (بازدید: 1576)   (نویسنده: حيدر محلاتي)
• أبو فراس الحمداني   (بازدید: 2097)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الأسلوب الأدبي للشهيد الصدر   (بازدید: 720)   (نویسنده: الشيخ عبد المجيد فرج الله)
• الوحدة الدينية في شعر الشيخ الفرطوسي   (بازدید: 1479)   (نویسنده: حيدر محلاتي)
• أثر المعتزلة على الادب العربي   (بازدید: 1214)   (نویسنده: فالح الربيعي)
• ادباء ايرانيون في دراسات سيد قطب   (بازدید: 1614)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• شاعران كبيران في إيران   (بازدید: 1515)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الحكومة الاسلامية من منظور الشاعر الكميت بن زيد   (بازدید: 1272)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• الرسالية في الشعر الشيعي   (بازدید: 948)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]