banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

مستقبل الإسلام في ضوء التحديات الراهنة
ثقافتنا - العدد 8
دراسات حضارية
حسن حنفي
1426

«ملخّص»
المسلمون يتميزون في عصرنا بنسيان الزمن وخروج أفعالهم عنه، وتأخرهم في المواعيد. فالماضي للحزن عليه وليس للانطلاق منه، والحاضر لليأس منه والبكاء عليه، والمستقبل للتسويف فيه وإرجاعه إلى مشيئة غير مشيئة الإنسان. وسبل مواجهة التحديات القائمة تتمثل في مناهضة احتلال الأرض الإسلامية، وتحرير المواطن من كل صنوف القهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وإحلال العدالة الاجتماعية للقضاء على التمييز الطبقي، ومقاومة حالة التجزئة، والتنمية الشاملة حماية للاستقلال السياسي، والدفاع عن الهوية ضد التغريب، وتعبئة الأمة. أما آليات التحدي فهي: الوعي التاريخي، والإحساس بالمسؤولية التاريخية.

أولاً: فك حصار الزمن
يبدو أن التاريخ الآن على مفترق الطرق، فلا القديم قد انتهى تماماً، ولا الحديث قد بدأ بعد. مازال القديم مترسباً في الأعماق، ومازال الجديد تشرأب إليه الأعناق، كالدابة التي ساقاها في اليمن ورأسها في الشام طبقاً لصور المعاد الموروثة من خيال القدماء.
ومنذ عقدين أو ثلاثة، بدأ الحديث في الغرب عن «النظام العالمي الجديد» ويرمز
له بثلاثة حروف NOW. بعدها بدأ الحديث في «النظام العالمي المتجدد» بأربعة حروف NNWO. وتتغير العلاقات الدولية من الحرب الساخنة إلى الحرب الباردة، ومن توازن المصالح، ومن العالم ذي القطبين إلى العالم ذي القطب الواحد.
وتتشكل الآن قطبية ثانية ليس داخل الغرب بين معسكريه التقليديين الاشتراكي والرأسمالي بل بين العولمة التي تمثلها الولايات المتحدة وأوروبا الغربية في المركز ونقيضها في إفريقيا وآسيا في الأطراف. يشرع لها «صراع الحضارات» و«نهاية التاريخ» . فالحضارة الغربية، اليهودية المسيحية في صراع جوهري مع الحضارات الشرقية، الإسلام والكونفوشوسية. فقد بدأت الحياة تدب في العالم الإسلامي منذ الثورة الإسلامية في إيران في فبراير 1979، والصحوة الإسلامية في أوروبا الشرقية، وانتشار الإسلام في أوروبا الغربية وقبلها في الولايات المتحدة الأمريكية حتى أصبح الدين الثاني بعد المسيحية، ونشاط الحركات الاسلامية في كل أرجاء العالم الإسلامي في المغرب والجزائر وتونس ومصر وشبه الجزيرة العربية ولبنان وسوريا والعراق وباكستان وأفغانستان وإندونيسيا والفلبين وكل أواسط آسيا. فالإسلام «الآسيوي» قادم يقوي ظهر الإسلام «العربي». بل إن الإسلام «الإفريقي» على وشك النهوض. وقد كتب أحد مفكري نيجيريا «لقد حمل العرب الإسلام، وبغيرهم ينتصر».
وقد شاع عن الإسلام أنه «ماضوي» النزعة، عصره الذهبي في الماضي وليس في المستقبل.
فقد عاش آدم في الجنة قبل أن يهبط إلى الأرض بفعل الغواية. وتحدث الصوفية عن عهد «ألست» الذي أخذ الله فيه من بني آدم من ظهورهم عهد الإيمان الأول تأويلاً لآية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (لأعراف:172). فالحنين إلى الماضي دفين في النفس البشرية.
ودعمت هذه النزعة بعض المرويات مثل: «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة تتحول بعدها إلى ملك عضوض». فمن أراد النهضة فعليه العودة إلى عصر الخلافة. فتنشأ الحركات والأحزاب الإسلامية المضادة للنظم الموروثة على كافة أشكالها، الصريحة والضمنية. وتدعو إلى العودة إلى عصر الخلافة الأول قبل أن يفسد الزمن، ويدنس التاريخ تأويلاً لآية: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً( (مريم:59). ويروى أيضاً «خير القرون قرني والقرن الذي يليه». ومن أراد التقدم والنهضة عاد إلى قرن النبي خير القرون. ودونت كتب الطبقات على هذا النحو، طبقات الحنابلة، طبقات المعتزلة، طبقات الصوفية، لترتيب الأجيال من الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين. ويقل الفضل والعلم جيلاً وراء جيل. وفي العقائد في موضوع الإمامة وهو آخر الموضوعات أضيف سؤال: هل تجوز إمامة المفضول مع وجود الأفضل؟ وأفتى علماء أهل السنة بالجواز لأن الفضل يقل. وأين للمسلمين بالأفضل، وقد استولى المفضول على السلطة ودان له الناس بالطاعة والولاء، ترغيباً أو ترهيباً، بالجزرة أم بالعصا؟ ومن المرويات أيضاً «جاء الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء». فمن أراد الإسلام من جديد في الحاضر والمستقبل فعليه العودة إلى الوراء، إلى النموذج الصافي الأول. وهو ما يعرف في العلوم الاجتماعية باسم حركات الإحياء عن طريق العودة إلى الأصول الأولى Fundamentalism أو إلى الحياة البدائية الأولى Primitivism كما حاول تروتسكي في «المسيحية البدائية» Primitive Christianity فالعــودة إلـــى الأصــول كما بيّن جان جاك روسو Retour aux Sources هي عودة إلى الطبيعة Retour a la Nature قبل أن تفسد الأخلاق ويضل الناس وينحرف المجتمع.
والحنين إلى الماضي لا يتعلق فقط بالإسلام بل بكل الأيديولوجيات والحركات السياسية عندما يتأزم الحاضر وينهار النموذج القديم. فالقومي يحن إلى العهد القومي الناصري في الخمسينات والستينات. والماركسي يحن إلى الثورة الاشتراكية الكبرى في 1917 في الاتحاد السوفيتي. والليبرالي يحن إلى ثورة 1919 والنموذج الليبرالي في العشرينات والثلاثينات في مصر. وكلما صعب على العقل تشخيص الحاضر وإيجاد الحلول للخروج من أزمته نشط الخيال بالعودة إلى الماضي، عصر البراءة الأولى والصفاء الخالص.
وتساعد بعض الأمثال العامية على ذلك مثل «اللي فات قديمه تاه». بل وصف الله بالقديم اعتزازاً بالقدم مع أنه وصف أيضاً بالخلق والإبداع. والجبن «القديم» خير من الجبن الجديد. ومع ذلك فبعض الأمثال العامية تنقد القديم وتهزأ منه مثل «الصرمة القديمة» التي يُضرب بها العدوّ إمعاناً في الاحتقار والإذلال. ويكون السبب أيضاً بوصف الخصم بأنه «ابن القديمة». القديم هو البالي الذي عفى عليه الزمن. وشتان بين حيين من أحياء القاهرة: «مصر القديمة» و«مصر الجديدة». وما ترسب في الوعي الثقافي هو أولوية القديم على الجديد، والتحسر على الزمن الماضي، أيام الرخص والحياة السهلة الميسورة.
والتوجه نحو المستقبل له جذوره أيضاً في الإسلام، وهو صريح في النص. ولغويا لفظ «قدم» هو نفس اللفظ الذي منه تُشتق صفة «القديم» وصفة «التقدم»، ومن ثم لا تكون «القدامة» باستمرار ضد «الحداثة» لأنهما مشتقان من نفس اللفظ. فلا يوجد مانع في الثقافة أن يكون التقدم إلى الأمام وليس إلى الوراء. فالأمر مرهون بالحرية (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ( (المدثر:37).
والدعوة إلى السبق مفتوحة (والسّابقون السّابقون( (الواقعة: 10). ويدين الوحي التخلف عن الجهاد والمخلفين من الأعراب والقاعدين عن المشاركة. ويحثهم على النهوض والقيام والتحرك، والهمة والمبادرة والسبق.
وهناك مرويات أخرى تفتح المجال إلى المستقبل دون التخلي عن الحاضر مثل: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً». فالاستعداد دائم من أجل الغد لأن المستقبل قد يتوقف في أية لحظة. وهي أقل ترسباً في الوعي الثقافي من المرويات التي تدعو إلى الحنين إلى الماضي والإغراق فيه. والأنبياء حاضرون أكثر من القادة السياسيين. وتتحدث الناس عن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكأنهم حاضرون بيننا، جيران لنا، نتحدث معهم. نشكو لهم همومنا ونطلب العون منهم.
وقد استقرت الأخرويات – أي أمور المعاد في العقائد – وكأنها أشياء ثابتة لا صلة لها بالواقع وبحياة البشر، مع أن القصد منها هو التوجه نحو المستقبل. فالماضي يصب في الحاضر. وتلك وظيفة قصص الأنبياء والعبرة من سير القدماء والشعوب الغابرة. والحاضر يتجه نحو المستقبل وتلك وظيفة الإيمان بالآخرة وبالمعاد وبالبعث وبالحساب – ليس للموت الكلمة الأخيرة بل الحياة مستمرة قبل الموت وبعده، ولا شيء يضيع، بل إن المستقبل مرهون بالحاضر، والاستعداد له يبدأ من الحاضر (1).
بل إن الوحي نفسه نزل على مراحل من آدم حتى محمد طبقاً لتطور الوعي الإنساني. فقد نزل الوحي للمساهمة في هذا التطور لتحرير العقل من الخرافة، والشعور من الوهم، والإرادة من الجبر. ويكتمل الوحي باستقلال الوعي الإنساني عقلاً وإرادة(2).
أما الحاضر فقد عصى على المسلمين الغوص فيه والبحث في مكوناته ومعرفة طبيعة المرحلة التاريخية التي يعيشونها. وصعب عليهم الإجابة على سؤال: في أي لحظة من التاريخ نحن نعيش؟ هرب منه البعض واتجه إلى الماضي فوقعوا في السلفية التي تشتد يوماً بعد يوم. وتتعدد مظاهرها في أساليب الحياة وطرق التفكير والرؤية للعالم. وهبّ البعض الآخر واتجه إلى المستقبل فوقع في النموذج الغربي، العلمانية مع سوء فهم لها بمعنى فصل الدين عن الحياة، وهو ما لا تقرّه الشريعة، وما يخالف طبيعة الإسلام، وليس فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية. وهي تجربة الغرب في التقدم والتي يقرها الإسلام لأنه لا توجد سلطة دينية في الإسلام، كهنوت أو كنيسة، ولا سلطة سياسية موروثة، فالإمامة عقد وبيعة واختيار.
ولما كانت الحركة ضرورية من طبائع الأمور سماها صدر الدين الشيرازي «الحركة الجوهرية»، اتجه بعض المحظوظين إلى الهجرة إلى الخارج بعد طول انتظار وإهانات على أبواب السفارات والقنصليات الأجنبية وإعطاء الشرعية للهجرة من هجرة الرسول مع أن الرسول قد عاد عام الفتح ولم تعد الطيور المهاجرة. وظلت تبني في بيوت غيرها، وبيوتها مهدمة ومهددة بالزوال، بينما هاجر البعض الآخر تحت الأرض وانخرط في حركات سرية ليتحول من خلالها من العدم إلى الوجود، ومن البطالة إلى العمل، ومن الإحباط إلى الأمل، ومن الفقد إلى الوجد، ومن ضياع الإمارة في المحل إلى إمارة العالم كله. وغاص فريق ثالث إلى داخل النفس، يبكي حظه، وينعى نفسه حتى يضيق الصدر، ويتعذر التنفس، فيصاب بالغم والكمد، وينتهي الأجل بسكتة قلبية تعبر عن السكون والعجز عن التحرك، وفك حصار الزمان والمكان، كما حدث لبعض الشعراء والفنانين. وانضم فريق رابع إلى النخبة الحاكمة يجد لديها الخبز والأمان بديلا عن الله
(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ( (قريش:4). والضرورات تبيح المحظورات. واختار البعض «التجسير» بين الأمير والغفير. فإن درء مفاسد الحكام مقدّم على جلب المصالح للشعوب. وينتهي الأمر إلى الانتهازية المزدوجة، الاستفادة من الأمير، وتحسين صورته أمام الغفير. وآثر آخرون مواجهة الحاكم الظالم، والشهادة في سبيل الدفاع عن حقوق الشعوب، وأن أعظم شهادة كلمة حق في وجه إمام ظالم.
وهكذا حوصر المسلمون في الزمن بين ماض ولّى مازالوا مشدودين له، ومستقبل غائب لا يعرفون مصيرهم فيه، وحاضر غامض لا يعرفون في أي مرحلة من التاريخ هم يعيشون فيها. فتوقفت عقارب الساعة، وسار المسلمون يراوحون في مكانهم. والمياه الراكدة التي لا تتحرك يصيبها العفن، ويموت فيها العشب، وينقرض منها الأحياء. فالماضي من صنع القدماء لم يعد يعبّر عنهم. ينقلونه بالرغم من اختلاف العصور والأزمان. تغيرت القضايا، وتبدلت التحديات بل واختلفت طبيعة المرحلة التاريخية كلها، من الانتصار إلى الانكسار، ومن الفتح إلى الاستعمار، ومن الريادة إلى التبعية، ومن الإبداع إلى النقل. وهو ما يحتم التحرر من قيد الماضي وتحريك عقارب الساعة
من جديد.
والمستقبل غائب استبدل به المسلمون مستقبل غيرهم، الحضارة الأوروبية الحديثة، وانبهروا بها، ورأوا فيها مستقبلهم، ووضعوا أنفسهم في مسار حضاري غير مسارهم، وفي وعي تاريخي ليس وعيهم. انبهرت الأغلبية بالقدماء وهم من المحدثين، وانبهرت الأقلية بالمحدثين وهم من القدماء. فحدث خلف بين اختيار الجماهير واختيار النخبة في النظام السياسي. النخبة ثقافتها غربية والجماهير ثقافتها إسلامية. ويتبادل الفريقان تهمتي التكفير والتخوين. تكفر الجماهير النخبة ونظامها السياسي، وتخوّن النخبة الجماهير وحركاتها الإسلامية.
والحاضر يغرق فيه الجميع، حكاماً ومحكومين، نخبة وجماهير. تُحاصَر النخبة بين ضغط الخارج ومعارضة الداخل. تُحاصر بينهما في المكان بالإضافة إلى حصار الزمانٍ. وتحاصر الجماهير بين العمل العلني غير المسموح به لغياب أي تنظيم شرعي إسلامي يكون منبراً لها، والعمل السري الذي سرعان ما تكتشفه أجهزة الأمن وتتهمه بالخيانة للداخل والعمالة للخارج بتكوين تنظيم غير شرعي لقلب نظام الحكم. وتزداد المآسي والأحزان بمزيد من الاحتلال والتبعية من الخارج، والقهر والفقر من الداخل. ويستمر التحرك في المكان حتى يسقط النظام أو تثور الجماهير أو يكون الوطن كله هدفاً للاحتلال بدعوى الحرية للإنسان والديمقراطية للشعوب.
وألفاظ الزمان في القرآن كثيرة تتراوح بين الأطول والأقصر مجازاً مثل: الأبد، الخلود، الدهر، السنة، الشهر، اليوم، الساعة، الآن، من أجل الإيحاء بأهمية الزمن الطويل والقصير، والإعداد والإسراع، والتوتر بين اللحظة والخلود، بين لحظة الزمان
وكل الزمان.
ولزمان الإنسان أيضاً مصطلحاته مثل الأجل المحدّد بين الحياة والموت، والعمر حتى يشحذ الإنسان الهمّة ويسرع في الإعداد، ويحقق رسالته على الأرض. فالزمن توتر، وحدوده من أجل الإبداع. ولساعات النهار أفعال في الضحى والصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى يرتبط الزمان النفسي بالزمان الكوني، وتكون علاقة الإنسان بالكون هي علاقة الزمان، زمان في النفس وزمان في الطبيعة، والتكيف الواجب بين الزمانين. وللطبيعة زمنها في الشروق والغروب، ودوران الأرض حول الشمس والليل والنهار، والحساب، والأفلاك. وللقمر منازل، وللأفلاك دوائر(… كل في فلك
يسبحون( (الأنبياء: 33). وهو الزمن عدد الحركة كما تصوره الفلاسفة. فالزمان حياة الكون وحركته وليس فقط فضيلة في الإنسان. فالعالم إنسان كبير، والإنسان عالم صغير كما لاحظ إخوان الصفا.
والزمان ليس جوهراً ثابتاً بل مادة الفعل في السبق واللحاق والتقدم والتأخر، والإسراع والبطء، والهوينى، والأول والآخر. الزمان حركة في النفس وفي المجتمع وفي التاريخ. هو محرك الإنسان الأول وباعثه على الفعل والحركة والإنتاج.
وقد حلل الأصوليون تحقق الأفعال في الزمان بين الأداء والقضاء، بين الفور والتراخي، فلكل وقت فعله حتى يبعث الإنسان على القبض على الزمان، وعدم تسربه من بين أصابعه. فالزمن للفعل. ولكل لحظة فعلها. الزمن هو عدد اللحظات، والإنسان هو مجموعة الأفعال. كما جعل الصوفية الوقت مقاماً أو حالاً، تبدأ فيه التوبة في الحال والآن. فالصوفي ابن وقته. الزمان هو الزمان النفسي، حالة من حالات الشعور. في حين قد عرفنا الآن بنسيان الزمن، وخروج أفعالنا عنه، وتأخرنا في المواعيد. فالماضي للحزن عليه وليس للانطلاق منه. والحاضر لليأس منه والبكاء عليه. والمستقبل للتسويف فيه وإرجاعه إلى مشيئة تتحكم فيه غير مشيئة الإنسان.

ثانياً: التحديات الراهنة
في وسط هذا الإحساس المعكوس بالزمان وأولوية الماضي على المستقبل هناك سبعة تحديات راهنة تواجه الأمة طبقاً للأولويات وفقه المصالح.
1ـ تحرير الأرض من الاحتلال القديم في فلسطين منذ ضياع نصفها في العهد الليبرالي في 1948 وتقسيم شبه القارة الهنديّة بين هندوس ومسلمين في 1948، تطبيقاً لشعار «فرّق تسد»، والاحتلال الجديد في العراق وأفغانستان والشيشان، والاحتلال التاريخي منذ نهاية العصر الوسيط وبداية الحديث في الغرب ونزوح المسلمين من الأندلس وسقوط غرناطة، احتلال إسبانيا سبته ومليلية والجزيرة الخضراء شمال المغرب. التحدي أمام المسلمين الآن هو استئناف حركات التحرر الوطني التي بدأها المصلحون الأوائل كأفراد مثل الأفغاني وعلال الفاسي والسنوسي وعمر المختار والمهدي أو كحركات مثل المهدية والسنوسية وجماعات الإخوان المسلمين والجهاد وحماس وغيرها من المنظمات الجهادية في فلسطين. الجهاد واجب شرعي في حالة العدوان على الأمة: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ( (الحج:39 - 40). وقد أخرج المسلمين من ديارهم واحتلت أراضيهم وهدمت منازلهم، وجرفت حقولهم، واستبيحت حرماتهم، ويتم أطفالهم، وقتل نساؤهم وشيوخهم. ويحث الوحي على ذلك بربطه بين السماء والأرض في
( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ( (البقرة:116)، (… ربُّ السموات والأرض..((الرعد: 16)، (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ( (الزخرف:84). فمن يستولي على أراضي المسلمين ويتجبر فيها فإنه قد طعن في الألوهية وانتقص منها. لذلك أفتى فقهاء الأحناف بعدم جواز الصلاة في الدار المغصوبة. فالصلاة فعل حسن، واغتصاب الأرض فعل قبيح. ولا يجتمع حسن وقبيح في نفس الفعل. وهو نفس الحكم بالنسبة للإنفاق من المال المغصوب، والأكل من الطعام المغصوب، والوضوء بالماء المغصوب. وما ينطبق على فلسطين، ينطبق على العراق، وأفغانستان، وكشمير، والشيشان، وسبته ومليلية والجزيرة الخضراء في شمال المغرب. ولا ينطبق ذلك على أراضي المسلمين وحدهم بل على كل الأراضي المحتلة والمستعبد أهلها وهي آخر معاقل الاستعمار الغربي مثل جبل طارق واحتلالها من بريطانيا. فالإسلام دعوة عامة وشاملة للبشر جميعاً. ومناهضة الاحتلال قيمة إنسانية عامة يحملها الإسلام للمسلمين ولغير المسلمين. كذلك يعارض الإسلام إنشاء قواعد أجنبية داخل البلدان الإسلامية. فهي نوع من الاحتلال غير المباشر. كما يعارض دخول المسلمين في أحلاف عسكرية وجعل أراضيهم مطيّة لقوات أجنبية للعدوان على الغير، مسلمين وغير مسلمين.
2- تحرير المواطن من كل صنوف القهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ذلك أنّ العديد من الأنظمة السياسية التي يعيش في ظلها المسلمون – بالرغم من الواجهات الديمقراطية الشكليّة أو المصطنعة – لم تستمد سلطتها من الشعب. فالإمامة عقد وبيعة واختيار. والإمام ممثل الناس وليس ممثلاً لله. طاعته مشروطة بطاعة القانون، وتحقيق المصالح العامة. والخروج على الحاكم الظالم واجب شرعي بعد استيفاء آليات النصح والرقابة مثل النصيحة، والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمخاصمة أمام قاضي القضاة. ومهمة المفكر الإسلامي المعاصر نزع جذور التسلط والقهر المترسبين في الوجدان العربي وفي الوعي الإسلامي المعاصر. وهي الجذور المعرفية المتمثلة في دور العقل في تبرير المعطيات دون إعمال النظر والنقد والتحليل. وهي أيضاً الجذور «الانطولوجية» المتمثلة في تصوير العالم باعتباره هرماً، تتراوح درجاته بين الأعلى والأسفل، بين القمة والقاعدة، بين الواحد والكثير. والتحدي هو كيف يتحول هذا التصور الرأسي للعالم إلى تصور أفقي بحيث تكون العلاقة بين طرفين علاقة الأمام بالخلف، والتقدم بالتأخر، وليست علاقة الأعلى بالأدنى (3).فالأعلى هو الإمام، والأدنى هو الوراء. وهي أيضا الجذور الأخلاقية في ثنائيات الحق والباطل، الخير والشر، الرجل والمرأة، الكمال والنقص. وهي الأخلاق التي ساعدت على التسلط باسم الخير، أخلاق المجتمع الأبوي حيث تسود فيه قيم «سي السيد»، قيم الطاعة والولاء على قيم المعارضة والرد. «كلّكم راد وكلّكم مردود عليه». التحدي هو كيفية التحول من الفرقة الناجية وهي فرقة النظام الحاكم وأهل الحظوة والسطوة إلى التعددية الفكرية والسياسية، وهي فرق المعارضة من أجل الحوار الفكري والسياسي بين الرأي والرأي الآخر والاتفاق على برنامج عمل وطني موحد تجتمع عليه الآراء والاجتهادات المختلفة. وهو ما دعت إليه الشريعة من قبل من أن الحق النظري متعدد، والحق العملي واحد(4).
3- العدالة الاجتماعية ضد هذا التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء. فأغنى أغنياء العالم من المسلمين، وأفقر فقراء العالم من المسلمين. والأمة واحدة. تنعكس وحدة الألوهية فيها (وإلهكم إله واحد((البقرة: 163). (إن هذه أمتكم أمة واحدة…( (الأنبياء: 92). وما فاض من حاجة المسلم فهو لأخيه. والملكية في الإسلام ليست فردية مطلقة بل هي ملكية عامة للأمة ترث ملكية الألوهية استخلافاً. فالإنسان خليفة الله في الأرض، استخلفه على ما أودع بين يديه لمصلحة الأمة. له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار، وليس له حق الاكتناز والاستغلال والاحتكار. فإن فعل فللإمام الحق في نزع الوديعة من بين يديه للصالح العام. كما أن «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» أي الزراعة والصناعة. وهما أهم قطاعين في الإنتاج. والركاز وهو ما يوجد في باطن الأرض، أي قطاع التعدين، لا يكون ملكية خاصة لأنه لا يتحرك وينقل إلى الأسواق، ملكية عامة للأمة أي الدولة. بل إن لفظ «مال» في القرآن ليس اسماً أي جوهراً ثابتاً بل هو اسم مركب من «ما» حرف الصلة، و«ل» حرف الجر. فالمال يدل على علاقة بين صاحب الشيء والشيء. الملكية وظيفة اجتماعية وليست استحواذاً على شيء(5). وقد تم تحريم الربا لأن المال لا يولد المال من تلقاء نفسه ولكن من خلال الجهد والعمل. ولا يوجد فائض للقيمة. فالعمل وحده مصدر القيمة. وقيم الإسلام في الإنتاج وليست في الاستهلاك. ولا يجوز تراكم رأس المال بين فئة قليلة من الرأسماليين ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ( (الحشر:7). والقرآن صريح في نقد البذخ والإسراف، ووضع الأموال في أيدي السفهاء. ودور زكاة المال ليس في إعطاء ربع العشر مما يحول عليه الحول وتحليل الباقي حتى ولو كان بالملايين بل للإيحاء بأن مافاض عن الحاجة وأصبح مكتنزاً فهو ملك الأمة. يدور بين الناس من أجل التنمية، وإنشاء المصانع، وإيجاد فرص للعمل، القصد هو الكيف لا الكم، الدلالة وليس الشيء، المعنى وليس الموضوع. ومن حق الدولة تخصيص ملكية عامة للناس للرعي فيها وهو الإقطاع مشاعاً بين الناس. وللفقراء حق في أموال الأغنياء: ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، للسائل والمحروم( (المعارج:24- 25). ففي المال حق غير الزكاة. وقد كثر الحديث في الفكر الإسلامي المعاصر عن الاشتراكية في الإسلام، والإسلام والاشتراكية، والعدالة الاجتماعية في الإسلام، واليسار الإسلامي، ولا يتم إعادة توزيع الدخل بين المسلمين لتحقيق أكبر قدر ممكن للعدالة الاجتماعية فقط بل يتم أيضا توزيع ثروات العالم على الشعوب بين من يملكون ومن لا يملكون، بين الدول الغنية والدول الفقيرة. فقد تم نهب المركز للأطراف، واستيلاء أوروبا على ثروات إفريقيا وآسيا إبّان المد الاستعماري. وآن الأوان لاسترداد حقوق الشعوب على ثرواتها الوطنية بإلغاء الديون عليها واسترداد ثرواتها بتأميمها أو قبول المعونات من المؤسسات المصرفية العالمية رداً لحقوقها التاريخية على مواردها الطبيعية.
4- الوحدة ضد التجزئة، وتكوين قطب ثان في مواجهة القطب الأول ضد مخطط تمزيق الأوطان وتحويلها إلى فسيفساء عرقي وطائفي حتى تصبح إسرائيل هي أكبر دولة عرقية طائفية في المنطقة، تأخذ شرعية جديدة من الوضع الجغرافي والسكاني للمنطقة بدلا من أساطير الميعاد المؤسسة الأولى لإسرائيل كما تصورها هرتزل في «الدولة اليهودية». فالمسلمون عرب وبربر وأكراد وتركمان وسنة وشيعة ومسلمون وأقباط. ولكل منهم حقه الشرعي في تكوين دولته المستقلة. والحقيقة أن الأمة الإسلامية كما وصفها ميثاق أهل المدينة أمة متعددة الأعراق والثقافات. والعولمة ليست ذات اتجاه واحد بل ذات اتجاهين، وحدة المركز وتفتيت الأطراف حتى يبقى القوى قوياً والضعيف ضعيفاً. والأطراف هو العالم الإسلامي في إفريقيا وآسيا. التحدي إذن هو كيف يشكل المسلمون منظمات إقليمية تقوم على التعاون الإقليمي والاعتماد المتبادل، وأسواق مشتركة قادرة على الوقوف أمام مجموعة الدول الثمانية الأكثر قدرة على القيام بهذا الدور هو العالم الإسلامي المترامي الأطراف في إفريقيا وآسيا، من طنجة حتى بكين. وهو مملوء بالإمكانيات، والموارد الطبيعية، والعقول العلمية، والسواعد في العمالة الرخيصة، لذلك يشتدّ حولـه الحصار في الخارج والعدوان في الداخل، والتهديد بالانقضاض عليه ما لم يدخل بيت الطاعة، ويتخلى عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة، وإسرائيل مدججة بالسلاح التقليدي وغير التقليدي، تحتل أراضي
الغير، وقاعدة للعدوان للتوسع حتى تصبح هي المعادل الوحيد في الوطن العربي
والعالم الإسلامي.
5- التنمية المستقلة حماية للاستقلال السياسي. فالأمة التي لا تطعم نفسها بأيديها تظل تابعة لغيرها في الطعام والكساء والإيواء والسلاح بل في العلم والثقافة ووسائل العمران. فمازال 75% من الغذاء في الوطني العربي مستورداً من الخارج. وارتهنت الإرادة الوطنية لعديد من الدول الإسلامية بسبب استيراد القمح والمعونة الأجنبية. مازالت الأمة تعيش على نقل المعلومات وليس إبداع العلم. وتتحكم الدول
المتقدمة في نوع المعلومات المنقولة، وتحجز المعلومات الأهم. فالمعلومة قوة Information is Power وتبلــغ حصيلــة ميزانية شبكات المعلومات (مثل بيل جيتس) مقدار ميزانية دولة بأكملها . التحدي إذن كيف يمكن للإسلام صياغة أيديولوجية للتنمية مستمدة من الثقافة الوطنية، والإسلام هو المكون الرئيسي فيها؟ صورة الأرض في القرآن هي صورة الأرض الخضراء التي ينزل عليها الماء فتهتز وتخضر وتنتج من كل زوج بهيج، وليست الأرض الصفراء، الهشيم الذي تذوره الرياح(6). ومن كان في يده فسيلة وأتاه الموت فليغرسها في الأرض حتى تكون آخر أفعاله اخضراراً. ويوضع العشب الأخضر ويرش بالماء حتى على قبر الميت ترحماً على روحه بالخضرة والماء. رسالة الإنسان في الأرض إعمارها: (.. هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها..( (هود:61). بل إن القرآن يقسم بالتشييد والبناء والعمران: (والبيت المعمور، والسقف المرفوع( (الطور: 4-5). ويصف ميزات الحديد، مادة التصنيع الأولى. فهي أداة السلم والحرب، فيه البأس والمنافع: (.. وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس..((الحديد: 25) . وهو أداة للإنسان طيعة، يستخدمه كيف يشاء: (.. وألنّا لـه الحديد( (سبأ: 10) . وهو آلة للدفاع الساكن: (ولهم مقامع من حديد( (الحج: 21) أو الهجوم المتحرك: (ءاتوني زبر الحديد…( (الكهف: 96). والفلك يجرى في البحر، والطير صافات، وكلها صور لإعمار الأرض والسيطرة على قوانينها.
6- الدفاع عن الهوية ضد التغريب، والانبهار بالآخر، ونسيان الذات لنسيان ماضيها، وضعف حاضرها. فنظراً لأزمة الحاضر، وعدم معرفة في أية مرحلة من التاريخ نحن نعيش، انبهر البعض بالغرب، وقلدوا النموذج الغربي، واعتبروا مسار الحضارة الغربية هي مسار الحضارات كلها. فوضعوا أنفسهم في مسار غير مسارهم. واعتبروا أنفسهم في العصر الحديث بل في أواخره، ويتحدثون عن مابعد الحداثة، ونحن مازلنا نحاول غلق العصر الوسيط، العصر العثماني، من أجل بداية عصور حديثة، وشق الطريق نحو الحداثة. فحدث رد فعل طبيعي عند الجماهير للدفاع عن هويتها وتاريخها وثقافتها ومسارها باسم الخصوصية والتقاليد. وانشقت الثقافة إلى شقين تحت شعارين متضاربين: العلمانية والسلفية، الحداثة والاصولية. ووصل الأمر بالتناقض إلى حدّ الحرب الأهليّة كما هو الحال في الجزائر منذ مايقارب العشر سنوات مع مايقرب من مائة ألف شهيد. ليست الهوية هي الشكل والمظهر، الحجاب والذقن والجلباب والقلنسوة ولا حتى الصلوات والمساجد والقباب، والاحتفالات الدينية والمناسبات، وكثرة الأدعية، وانتشار الثقافة التقلدية. الهوية في الذات في رؤيتها للعالم وفي قدرتها على التمايز والإبداع ضد تقليد الغير بل تقليد القدماء. فالتقليد ليس مصدراً من مصادر العلم. ويؤكد القرآن على التمايز بين الأنا والآخر، وفي نفس الوقت يدعو إلى الحوار بينهما. لا تقليد وذوبان، ولا قطيعة ومفاضلة. وعلى هذا النحو تتعدد النماذج الحضارية وتتكاثر الخصوصيات من أجل الإثراء المتبادل، وتعدد مراكز الإبداع. وفي المرويات «ستتبعون سنن من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع! قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ فقال فمن إذن» إن قيم التنوير التي يقوم عليها النموذج الغربي، العقل والعلم، والإنسان، والحرية، والعدالة، والتقدم لا تخص الغرب وحده، بل هي قيم تناضل من أجلها الشعوب وفي كل الحضارات. وقد ساهم الإسلام في صنعها عبر الترجمات من العربية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر اللغة العبرية في طليطلة وصقلية وبيزنطة فساعدت على بداية العصور الحديثة في الغرب، الإصلاح الديني وعصر النهضة. فالنموذج الغربي «تلك بضاعتنا ردت إلينا» دون اتكال على الغير أو فخر بالذات. فالتاريخ حلقات متصلة، تتراكم حضاراته من الشرق القديم حتى الغرب الحديث مروراً بالحضارة الإسلامية ضد مؤامرة الصمت التي يحيكها الغرب حول حضارته حتى تبدو خلقاً عبقرياً على غير منوال.
7- حشد الجماهير وتجنيد الناس من أجل أخذ مصيرهم بأيديهم فلا تتحكم فيهم نخبة حاكمة في الداخل أو نظام عالمي في الخارج. فقد أصيب المسلمون باللامبالاة والفتور كما بيّن الكواكبي في «أم القرى»، استبداد الحاكم من جانب ولا مبالاة الجماهير من جانب آخر. وقد فعل ذلك دي لامنيه أيضاً في منتصف القرون التاسع عشر في فرنسا لفتور الناس عن الثورة بعد عودة الملكية في كتابه الشهير «عن اللامبالاة»
lndifference’DeL. وقد صرخ الأفغاني من قبل في المسلمين: «والله لو كنتم ذباباً أو جراداً وحطتم على الجزيرة البريطانية لأغرقتموها». فالتحدي هو كيف يتحول المسلمون من كم إلى كيف، ومن ثقل مادي إلى ثقل كيفي. وفي المظاهرات الصاخبة الأخيرة ضد العولمة والعدوان الإسرائيلي على شعب فلسطين، والأمريكي والبريطاني على شعب العراق، والأمريكي على أفغانستان، والروسي على الشيشان امتلأت عواصم العالم بالملايين ضد العدوان إلا الشوارع العربية الصامتة والخائفة من طغيان نظم الحكم. في حين تحرك الإسلام في آسيا خاصة في باكستان. الإسلام العربي خافت أو تحت الأرض في حين أن الإسلام الأسيوي صاحب متحد لنُظُم القمع الداخلية وللعدوان الخارجي. وحمل الإنسان الأمانة(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً( (الأحزاب:72) هو تحمل للمسؤولية. وخير أمة أخرجت للناس تصدح بالحق في الشرق والغرب، ويجعلها مسؤولة عن نظام العالم، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والجزاء في الدنيا والآخرة يجعلها مسؤولة عن أعمالها ترجو الثواب. وهي الحافظة للذكر في القلوب والعقول وفي المجتمع والتاريخ.

ثالثاً: آليات التحدي
إن الأمة قادرة على الدخول في تحديات العصر وتحديد مسار الإسلام في المستقبل. والسؤال أي إسلام وبأي آليات؟ إن الإسلام الموروث من التاريخ والقابع في القلوب والأذهان إسلامان، الإسلام التقليدي المحافظ الموروث منذ أكثر من ألف عام، فقد قضى الغزالي على التعددية الفكرية والسياسية وأضاف في علم أصول الدين بعد الإمامة فصل «فيما يجب تكفيره من الفرق» اعتماداً على حديث الفرقة الناجية الذي يشكك في صحة سنده ومتنه ابن حزم لأنه غريب عن روح الإسلام ولأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولأن الكل راد ومردود عليه، ولأن الصواب متعدد، للمخطئ أجر وللمصيب أجران. واختار الأشعرية عقيدة واحدة، والشافعية مذهباً واحداً.
وأعطى الحاكم، نظام الملك في بغداد، أيديولوجية السلطة في «الاقتصاد في الاعتقاد»، وقدم للناس أيديولوجية الطاعة في «إحياء علوم الدين» مردفاً وهذا ما أعانني السلطان عليه . فالله حي عالم قادر، سميع بصير متكلم مريد، وكذلك الحاكم. الله صفاته في ذاته، والحاكم صفاته في عسكره وشرطته وأجهزة أمنه. وللناس الصبر والتوكل والورع والرضا والتقوى والخوف والخشية والرهبة، والفقر والزهد والتوبة. ومازال هذا الاختيار قائماً حتى الآن. التحول من الإسلام التقليدي المحافظ إلى الإسلام الإصلاحي التجديدي هو التحدي الآن عن طريق حركة غزالية مضادة لإحياء التعددية الفكرية والسياسية من جديد، وعقد حوار نظري بينها لإعادة الاختيار بين البدائل. فقد يكون الاعتزال أفضل لنا الآن من الأشعرية لحاجتنا إلى العقل والحرية. وقد تكون المالكية أفضل لنا الآن من الشافعية لحاجتنا إلى المصالح العامة ولجميع أشكال الاستدلال الحر مثل الاستحسان والاستصلاح. وقد نكون أحوج إلى قيم المعارضة والرفض والتمرد ضد تسلط الحاكم وسلبية المحكوم. وقد نكون أحوج إلى علم الإنسان الغائب بين الطبيعيات والإلهيات في علوم الحكمة.
إنّ أول شروط مواجهة التحدي هو الوعي التاريخي، والإحساس بالمسؤولية التاريخية، وإدراك تقاطع مسار التاريخ للحضارة الإسلامية مع مسارات الحضارات الأخرى خاصة الحضارة الغربية التي كان لها الريادة في العصور الحديثة وهي الآن تصارع مسارات أخرى للشعوب تريد أن ترثها (.. وتلك الأيام نداولها بين الناس..( (آل عمران: 140) . فالمسار التاريخي للغرب ثلاثي المراحل، القديم والوسيط والحديث. القديم في العصر اليوناني الروماني. والوسيط في العصر الكنسي المدرسي. والحديث في عصر العقلانية والعلم إبان العصور الحديثة منذ إحياء الآداب القديمة في القرن الرابع عشر والإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، والنهضة في القرن السادس عشر وحتى الآن. كل مرحلة استمرت ما يقرب من سبعة قرون. العصر القديم من القرن الأول حتى السابع، والعصر الوسيط من السابع حتى الرابع عشر، والعصر الحديث من الرابع عشر حتى الآن، القرن الواحد والعشرين. ومسار الحضارة الإسلامية ثنائي المراحل. الأولى العصر الذهبي الأول، من القرن الأول الهجري حتى القرن السابع وهو ما يعادل القرن السابع الميلادي حتى القرن الرابع عشر، قرن ابن خلدون الذي أرخ بحق للفترة الأولى مبيناً أسباب النهضة وعوامل الانهيار، من البداوة إلى الحضارة إلى البداوة من جديد حتى تكتمل الدورة. والثانية العصر المملوكي التركي العثماني من القرن السابع إلى القرن الرابع عشر، عصر الشروح والملخصات والموسوعات الكبرى التي دونت فيها الذاكرة ما أبدعته بالعقل، كجمل الصحراء الذي يجتر ما اختزنه من قبل. ونحن الآن على أعتاب فترة ثالثة، تشبه العصر الذهبي الأول. فنحن في نهاية عصرنا الوسيط، وبداية عصورنا الحديثة. والغرب في نهاية عصوره الحديثة ولا يدري إلى أين؟ فربما اكتملت دورته الثالثة كما تبنأ بذلك كثير من المفكرين وفلاسفة التاريخ مثل «أفول الغرب» لاشبنجلر، و«أزمة العلوم الأوروبية» لهوسرل، و«المدنية في قفص الاتهام» لتوينبي، و«أزمة الوعي الأوروبي» لبول هازار. وقد بدت النهاية في تحطيم العقل في «وداعا أيها العقل»، وفي الفوضى في «ضد المنهج» لفايرآبند، وفي تيار مابعد الحداثة، والتفكيكية. أما نحن فلدينا حركات التحرر الوطني والصحوة الإسلامية وبداية التاريخ والمقاومة والصمود أمام الحصار والغزو والتهديد. فالمساران مختلفان. كان الغرب معلماً مرتين، في العصر اليوناني والعصر الحديث. وكنا معلمين مرة واحدة في العصر الذهبي الأول الذي يقابل العصر الوسيط الأوروبي. وربما نكون معلمين ثانية في بداية النهضة العربية الإسلامية الآن لحاجة الغرب إلى منظومة جديدن عن القيم قد يعطيها له الإسلام من خلال حضور المسلمين في الغرب وبعد أن أصبح الإسلام الدين الثاني في أوروبا.
ودور علماء الأمة في بلورة هذا الوعي التاريخي دور رئيسي. ليس بالضرورة ولاية الفقهاء. فالعلماء ورثة الأنبياء، والأمناء على الرسالات. فالثقافة الإسلامية مازالت في العقول والقلوب. ومهمة العالم تحريكها، وإعادة بنائها، وإطلاق طاقاتها، وتحديد مسارها. وهو أيضاً دور مراكز الأبحاث والجامعات الإسلامية والوطنية لعمل فريق وتفكير جماعي من أجل الإعداد للمستقبل واستشرافه. وقد تمت محاولات رائدة في ذلك في مشاريع بحثية حول «المستقبلات العربية البديلة» و«استشراف المستقبل»، وعقدت ندوات وحلقات بحث ومؤتمرات حول نفس الموضوع. بل وحاولت بعض الأحزاب الإعلان عن تأسيس «حزب المستقبل». وصحف سمت نفسها «المستقبل». وأنشئت مراكز لإدارة الأزمات قبل أن تقع للسيطرة عليها بعد وقوعها.
المهم هو فك حصار الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل وإخراج وعي الأمة من هذا الحصار. والمهم أيضا هو فك حصار الحكومات بين الضغط الخارجي والغليان الداخلي. والمهم أولاً وأخيراً فك الحصار عن النفس وإرجاعها إلى مسار الزمن دون ثقة زائدة بالماضي أو انبهار بالمستقبل وتوقف في الزمن الحاضر وكما قال أحد الشعراء «حاصروا حصاركم». المطلوب قبول الرأي الآخر، فلا خاب من استشار، وعقد حوار وطني بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية في البلاد دون تكفير أو تخوين. المطلوب أيضاً الشرعية لكل التيارات السياسية والمدارس الفكرية في البلاد، إسلامية أو ماركسية أو قومية أو ليبرالية. فالوطن للجميع. ومدارس الفكر والعمل بطبيعتها متعددة.
الحوار مع الذات يسبق الحوار مع الغير. والحركة داخل الأوطان لها الأولوية على الحركة خارج الأوطان. «مستقبل الإسلام في ضوء التحديات الراهنة» ليس موضوع علاقات عامة لتحسين صورة الإسلام في الغرب بل سيرة ذاتية للمسلمين عبر التاريخ. كيف يستعيدون الماضي لتحريك الحاضر انطلاقاً إلى المستقبل. وأفضل دفاع عن الإسلام ليس عبر الخطباء والدعاة في القنوات الفضائية بل بتغيير الوضع القائم والتخطيط للمستقبل والدخول في التحديات المعاصرة من الباب الأمامي وليس من الباب الخلفي، بأن يصبح المسلمون أصحاب قرارهم السياسي. لهم مبادراتهم التاريخية دون الوقوع في «فتنة الحجاب» التي تضر أكثر مما تنفع وتجعل المسلمين يعيشون في «جيتو» منعزل في أوروبا. يدافعون عن هويتهم الدينية وليس عن التعددية الثقافية التي تقوم عليها الحضارة الغربية(*). التحدي أن يكون المسلمون أول الساعين إلى المريخ لمعرفة أصول الحياة فيه وليس فقط الاكتفاء ببرامج «العلم والإيمان» وإعطاء تفسيرات علمية لآيات القرآن للتدليل على إعجازه العلمي، والفضل فيه للغرب الذي اكتشف هذا العلم وليس لدينا إلا تفسير الكتاب. فإذا ما غير الغرب العلم فسرنا الكتاب طبقاً للعلم الجديد، وبالتالي يصبح الغرب هو المبدع والمسلمون هم الناقلون. يدّعون الحداثة والتجديد وهم يزدادون تبعية وتقليداً.

الهوامش:
* - مفكر وباحث مصري.
1 - انظر دراستنا: علم المستقبليات، عالم الغد بين الأمس واليوم، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة 1987 ص 551-599. وأيضاً «من الذي يمنع المثقف العربي من التفكير في المستقبل وما الذي يمكن أن يدفع إليه؟»، هموم الفكر والوطن، ج 1 التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة 1998، ص 129- 142 .
2 - لسنج: تربية الجنس البشري، دار الثقافة الجديدة، القاهرة 1977.
3 - انظر دراستنا: الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديقراطية في وجداننا المعاصر، الدين والثورة في مصر، ج 2، الدين والتحرر الثقافي، مدبولي، القاهرة 1988 ، ص 99-118 .
4 - انظر دراستنا: ثنائية الجنس أم ثنائية الفكر، هموم الفكر والوطن، ج 1، التراث والعصر والحداثة، قباء، القاهرة 1998، ص 521 - 536.
5 - انظر دراستنا: المال في القرآن، الدين والثورة في مصر 1952 – 1981، ج 7 اليمين واليسار في الفكر الديني، مكتبة مدبولي، القاهرة 1988، ص 121-162 .
6 - انظر دراستنا: الأخضر والأصفر في القرآن الكريم، هموم الفكر والوطن، ج 1 التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة 1998، ص 57 - 68 .
*- التعددية الثقافية لا تتعارض مع حفظ الهوية الدينية، بل إن محاربة الهوية الدينية هي التي تتعارض مع التعددية الثقافية (التحرير).

مقالات أخرى من هذا الكاتب
• الاسلام و الغرب   (بازدید: 841)   (موضوع: فكر إسلامي)
• المشروع الحضاري الجديد   (بازدید: 883)   (موضوع: دراسات حضارية)

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• التغيير الإسلامي في إيران من منظور حضاري   (بازدید: 1098)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• انتشار الرسوم المسيئة لشخصية برؤية ثقافية حضارية رسول الاسلام (ص)   (بازدید: 882)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• تعليم العربية لغير الناطقين بها وسيلة حوار بين الحضارات   (بازدید: 1706)   (نویسنده: محمد الجعيدي)
• دور زينب بنت علي في مسيرة الحضارة الاسلامية   (بازدید: 1727)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• عاشوراء بمنظار حضاري   (بازدید: 1463)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• عبدالرحمن الكواكبي من روّاد الاستنهاض الحضاري   (بازدید: 1350)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مالك بن نبي والإنسان ومسار الحضارة   (بازدید: 1464)   (نویسنده: أسعد السحمراني)
• محمد إقبال وتجديد التفكير الديني في الاسلام   (بازدید: 2349)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• مسألة «المهدي المنتظر» برؤية حضارية   (بازدید: 1137)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مشروع الكواكبي اجتماعياً وتربوياً   (بازدید: 1312)   (نویسنده: محمد قجة)
• نحو فهم حضاري لتاريخنا الإسلامي معركة الطف نموذجًا   (بازدید: 1038)   (نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• الثقافة بين التخلف والتخلق   (بازدید: 1088)   (نویسنده: الدكتور خالد زهري)
• الثقافة والحضارة   (بازدید: 2449)   (نویسنده: زكي الميلاد)
• الجمع بين الاصالة والمعاصرة   (بازدید: 1840)   (نویسنده: الشيخ محمود محمدي عراقي)
• الحضارة والتفاعل الحضاري   (بازدید: 1183)   (نویسنده: عبد الله الفريجي)
• تحديات تأهيل العقل المسلم في المشروع الحضاري   (بازدید: 932)   (نویسنده: الدكتور عبدالناصر موسى أبوالبصل)
• رؤية السيد الشهيد الصدر لمسألة التنمية   (بازدید: 1452)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• وسطية الحضارة الإسلامية   (بازدید: 847)   (نویسنده: أحمد الطيب)
• ابن المقفع بين حضارتين دراسة فكرية نقدية و أدبية   (بازدید: 2055)   (نویسنده: حسين علي جمعة)
• اعلان طهران حول الحوار بين الحضارات   (بازدید: 1019)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]