banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

مقصد الدين / في منظومة فكر الشهيد الصدر
ثقافتنا - العدد 7
فكر إسلامي
محمد أمين أحمدي
1426

«ملخّص»
ماهي حاجة الإنسان إلى الدين؟ ماهي ضرورة الحكومة الدينية؟ ماهو الثابت والمتغير في حياة الإنسان؟ ماهي علاقة العقل بالدين؟ هل يمكن أسلمة جميع العلوم؟
هذه وأمثالها من الاسئلة يجيب عليها المقال في أسلوب تحليلي نقدي ليتبين من خلاله رأي الشهيد الصدر في الهدف أو المقصد من الدين.

تعريف الدين
لم تكن نظرة الشهيد الصدر للدين من النوع العلمي والأكاديمي وكما هو مطروح في ميادين المعرفة الدينية الحديثة. لذا فهو لا يعرّف الدين بأنه ظاهرة اجتماعية ونفسية وثقافية، بل يحاول تقديم تعبير وفهم منظم وقابل للدفاع – بشكل عقلاني – عن أصول وأهداف وأحكام دين الإسلام، وفي هذا الصدد لا نجده يقدم للدين تعريفاً بالمعنى الأخص، وكلّ ما نجده هناوهناك من مؤلفاته، أن للدين وجهين، أحدهما
تكويني والآخر تشريعي، وأن للدين جذوراً في فطرة الإنسان، ولهذا فهو مجبول على قبول الدين.
فالدين عند السيد الشهيد سنة تاريخية، تنبع من باطن الإنسان، وفطرته توفر لـه الأرضية المناسبة لقبول الشريعة وهي الصورة القانونية للدين، والتي جاءت من قبل الله تعالى، الذي أنطق الفطرة الدينية للإنسان، لذا فقد ربطت الشريعة أساسها بالمعنويات الموجودة في الفطرة البشرية، ودونت أصولها العقائدية التي تعدّ لغة الفطرة مع الأخلاق، وقدمت نظاماً كاملاً شمل جميع جوانب الحياة الانسانية على أساس تلك الأصول المقترنة بالمعنويات والأخلاق. ولهذا يمكن طرح الدين على نحوين: باعتباره شريعة منزلة من قبل الله، أو باعتباره سنة تاريخية وقانوناً مصدره تركيبة الإنسان وفطرته (1) . كما أن الدين تعبير عن علاقة الإنسان بخالقه وعلاقته بالكون، فالدين إذن إطار شامل لكلّ نظام الحياة.. (2) . «وهو عقيدة معنوية وخلقية، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية، يرسم لها شوطها الواضح المحدّد، ويضع لها هدفاً أعلى في ذلك الشوط ويعرفها على مكاسبها منه» (3) .
إن ما نفهمه من هذه العبارات، هو أن الدين وباعتباره شريعة، عبارة عن مجموعة من القوانين والأصول العقائدية المنسجمة مع التكوين الذي هو البنية الوجودية للإنسان، وعلى حدّ تعبير الشهيد الصدر، يمكن القول: إن للدين – وكما ذكرنا – وجهة تكوينية وهي جزء من الواقعيات غير الإنشائية، ووجهة تشريعة مصدرها الإرادة التشريعية للشارع. وإذا ما تغافل الإنسان من الشريعة التي بها يؤمن متطلباته الضرورية يكون قد ألقى بنفسه في الهاوية.
ويحتمل أن يكون قصد السيد الشهيد من الوجهة التكوينية للدين هو الصورة الجامعة للتفسيرين: (التجربة العرفانية والشعور الديني) المرتبطين بالوجهة التشريعية التي من خلالها يستطيع الإنسان الإجابة عن التساؤلات الملحة التي تواجهه والتي لا يمكن الإجابة عنها إلاّ من خلال الشريعة، فعندئذ يستطيع أن يشيد نظاماً كاملاً وجامعاً على أساس المعنويات.
ومن خلال هذه النظرة، نجد تأكيداً على أن جذور الدين تمتد في البنية الوجودية للإنسان، أما حول الجذور الفطرية للدين ، فهو مالم أتلمّسه بوضوح من خلال قرآئتي لمؤلفات الشهيد الصدر، ويمكن تفسيره بالاتجاه الانساني نحو المعنويات، أو بما يعبر عنه بعض علماء النفس وفلاسفة الدين بالشعور الديني أو التجارب العرفانية، وأيضاً يمكن تفسيره على أن الشريعة هي المصدر الذي يؤمّن المتطلبات الضرورية للإنسان، فإذا
ما تغافل الإنسان عن تلك المتطلبات، يكون قد ألقى بنفسه في الهاوية.
وعلى هذا يكون الشاخص في الدين، هو الاتجاه المعنوي وإقامة نظام في الحياة على أساس أُفقه الواسع والمتعدد الأبعاد والجوانب. وأما فيما يتعلق بمعنى جامعية وشمولية الإسلام لمختلف جوانب الحياة وأبعادها، ففي الوهلة الاولى قد نفهم من كلام الشهيد الصدر أن الدين كفيل بتنظيم جميع جوانب الحياة الإنسانية، كالبرمجة وتحديد الأهداف والوسائل و.. الخ، لكن، ومن خلال التدقيق في سائر مؤلفاته، نجد أنه يقصد: أن البشر عاجزون عن تحديد مصالحهم بمفردهم من دون الإرشاد الغيبي لهم عن طريق «الوحي»، وأنهم بحاجة لدور الشريعة في هندسة النظام الفكري والعملي، ويكون ذلك من خلال الزخم والدافع المعرفي الذي تمنحه لهم، والذي يضاف إلى سائر منجزاتهم المعرفية، فتصحبها أحياناً وتهذبها، وتكملها أحياناً أخرى. وهذا معنى شمول الدين للحياة، بمعنى أن الدين يمتلك نظرة عامة لجميع جوانب الحياة الانسانية، والتي تعدّ الإطار العام لجميع الجهود والمساعي البشرية التي يقوم بتقييمها على أساس مصلحة الإنسان وسعادته (4) .
حاجة الإنسان إلى الدين
في هذا القسم من الدراسة سنتناول موضوع حاجة الإنسان إلى الدين من منظار الشهيد الصدر. ومن خلال هذه الحاجة يستدل الشهيد الصدر على ضرورة الدين والحكومة والقيادة الدينية. أما الغرض الأساسي الذي يستند إليه الشهيد الصدر في حاجة الإنسان إلى الدين، فهو عجزه في الفهم (الإدراك) والإرادة. فالانسان عاجز عن تشخيص مصالحه بشكل جيد، وبنحو مطلوب (على مستوى الضرورة) من الناحية الإدراكية . إضافةً إلى أنه – أي الإنسان – يعاني من مشكلة عملية، وهي، وجود اتجاه داخلي في ذات الإنسان – بدون الوحي والعقيدة الدينية – لا ينسجم مع مكانته الاجتماعية. وهذا الاتجاه والميل يحرمه من بلوغ أفق أوسع وأسمى.
وبشكل مجمل يرى الشهيد الصدر أن حاجة الإنسان إلى الدين تظهر في الموارد التالية:
1ـ عدم قدرة الإنسان في حلّ التعارض الموجود بين مصالحه الشخصية ومصالح المجتمع.
2- عدم وعي الإنسان لجميع قدراته الذاتية، فلو ترك حرّاً لوحده سيكون مصيره الوقوع في هاوية الشهوات الحيوانية.
3- الإنسان عاجز لوحده عن تشخيص النظام الاجتماعي الأصلح، وحتى لو قدر على إدراكه وفهمه، فهو عاجز عن تطبيقه.
ومن خلال هذه الأصول، يصل الشهيد الصدر إلى النتائج التالية:
الأولى: يحتاج الإنسان إلى الدين باعتباره دليلاً ومرشداً أميناً وواعياً على طريق الكمال المطلق، وآفاق عالم المعاني.
الثانية: يحتاج الإنسان إلى الدين في تشخيص النظام الاجتماعي الأصلح وتطبيقه.
الثالثة: الإنسان بحاجة إلى الحكومة والقيادة الاسلامية بنحو خاص.
وعلى أساس ما تقدم، سنتعرض لأقوال الشهيد الصدر بشكل أوسع في هذا المجال، ثم نقوم بدراستها:
1ـ الدين وحلّ مسألة التعارض بين المصلحة الشخصية والمصالح الاجتماعية:
يميل الإنسان وبشكل طبيعي إلى تقديم مصالحه الشخصية وهذا مالا ينسجم مع المصالح الاجتماعية أو الانسانية بشكل عام. وفي هذا المجال ليس باستطاعة الحكومة ولا العلم حلّ هذا التعاض.
فالحكومة لا تستطيع حلّ ذلك؛ لأنها محكومة أيضاً بتقديم مصالح الفئة الحاكمة، وفي كونها تؤثر مصلحتها التي تنشأ من حب الذات على مصالح الجماعة. وأما عدم إمكانية حلّها عن طريق العلم، فسببه أن العلم يمنح الإنسان المعرفة والوعي بالحقائق التي تحكم الطبيعة والعلاقات الاجتماعية، دون إعطائه القوة الأخلاقية التي يسيطر بها على مصالحه الذاتية. فمجرد فهم العلاقة بين الرأسمالية وتقليل أجور العمال إلى مستوى تأمين الحدّ الأدنى من ضروريات حياتهم، لا ينتج عنه ما يعالج تلك الظاهرة المرضية
أو تدمير النظام الرأسمالي باعتبار أن العلم يقدم صورة مجردة عن الواقع فقط. وأن التجربة والتدبير البشري في حلّ هذه المعضلة وأمثالها محكومة في النهاية بالدوافع الذاتية والفردية، التي تعدّ بذاتها مصدراً للمشكلة الاجتماعية (5) .
وعلى أساس هذا الدليل ، يكون الدين الحلّ الوحيد لهذه المعضلة الاجتماعية؛ لأن حلّ التعارض بين المصالح الذاتية والاجتماعية يحتاج إلى نقطة اشتراك تجمع بين الدوافع الذاتية من جهة والمصلحة الاجتماعية والعامة من جهة أخرى، والدين هو العامل الوحيد الذي يستطيع بلورة المصالح الفردية والذاتية في إطار المصلحة الاجتماعية العامة. فالدين وبالاستناد إلى فردية الإنسان (لا نوعيته التي تعدّ مسألة انتزاعية) يفهم أن للحياة وجهاً خالداً، وأن غض النظر عن المصالح الفردية في سبيل رضا الله تعالى، تكون نتيجته رضا الله ونعمه الخالدة. وبهذا الشكل يقدم الدين فهماً آخر عن النفع والضرر، هو أسمى من مستوى المفهوم المادي والتجاري السائد. وعلى هذا الأساس، يكون الأهم هو اللذّة وقبول الضرر من أجل مصلحة المجتمع والنفع الذي سيلحق بالانسان في حياة أسمى وأفضل. وهكذا تندمج مصالح المجتمع بمصلحة الفرد (6) .
وفي ضوء هذا الدليل، يكون منتهى ما نتوقعه من الدين هو تقديم مبرر عقلاني لسعي الإنسان في طلب العلى ضمن مصالح الجماعة. لكنه لا يمكن الاستناد من خلال هذه الادلة الى ضرورة شرعية القوانين أو لزوم الحكومة الدينية. لهذا يمكن تسجيل ملاحظتين على هذا التفسير، وهما:
أولاً: إذا كان الاعتقاد بأن «التغاضي» عن المصالح الآنية من أجل الحياة في عالم آخر هو الحلّ لمشكلة التعارض، فما هي ضرورة تحويل منافع هذا التغاضي أيضاً إلى ذلك العالم؟ بل يمكن حلّه من خلال تفسير آخر أيضاً، وهو أن تقديم المصلحة الفردية يؤدي إلى فقدان الأمن والهدوء العام، والى انقراض المجتمع وظهور مشكلة اجتماعية، تطال أضرارها بالنهاية الفرد نفسه. وعلى هذا، يلزمه القناعة بحدّ معين من النفع، لتنتظم أمور المجتمع وتحلّ مشكلته هو أيضاً، باعتبار أن اضطراب النظام الاجتماعي واختلال العدل، يعرضه هو أيضاً إلى مشكلة، لو أصبح في يوم من الأيام شخصاً ضعيفاً، فسيجري عليه ما جرى على الآخرين. وعلى هذا، يكون من الأفضل له قبول الضوابط والقوانين الاجتماعية وكذلك المؤسسات التنفيذية، وأن يدخل ضمن شبكة من العقود المتقابلة بين الأفراد، لكي يأمن جانب الآخرين، ومن الطبيعي أن تكون مثل هذه الأنظمة مبنية على مؤسسات تنفيذية قوية ومقتدرة، تسلب الأشخاص المحكومين إمكانية الزيغ عن تلك العقود أو تخطيها.
ثانياً: يفترض البرهان المذكور، أن الإنسان موجود يحدّد أهدافه ويسعى إليها على أساس المصلحة، وأنه ينظر إلى المصالح الآنية والبعيدة عند اختيار أهدافه، ففيما لو كانت المصالح البعيدة المستقبلية أهم وأكبر من المصالح الآنية، فإنه يتغاضى عن الأخيرة لصالح الأولى. لكنه لم يثبت – حتى عند عامة المتدينين – تقديم المصالح البعيدة على المصالح الآنية، فالكثير من البشر يخاطرون بتقديم مصالحهم الآنية على تلك المصالح البعيدة والمستقبلية، كما أن القليل من الناس يمتلك تربية دينية وإيماناً قوياً ، إلاّ أن نقول بأن المجتمع الذي يطمح الدين لتأسيسه، يبلغ مستوى من الإيمان والاعتقاد الديني لا نراه في المجتمعات المتدينة الحالية، كا أن الإنسان لا يتغاضى عن مصالحه إلاّ بوجود إيمان ديني قوي، وفيما عدا ذلك، نجد الناس العاديين يقدمون في أغلب الأحيان مصالحهم الآنية على تلك البعيدة والمستقبلية. ودليل ذلك انعدام وجود فوارق واضحة بين المجتمعات الدينية، مثل مجتمع المسلمين، والمجتمعات غير الدينية، فلا نشاهد في المجتمعات الدينية مراعاة لحقوق الآخرين أكثر من تلك المجتمعات التي تفتقد الصفة الدينية.
2- عدم إدراك الإنسان لقدراته وضعفه:
لو ترك الإنسان على حاله من دون مرشدٍ وقائدٍ واعٍ، سيبقى إلى الأبد جاهلاً بقدراته وغير مطلع على مهالكه، وسيكون عرضة للوقوع في الشهوات والانحراف عن مسيرة الخلافة الإلهية التي تعدّ الغرض المقصود من خلقه، ولهذا وضع له تبارك وتعالى خطّ الشهادة (الولاية) الذي يعدّ تدخلاً ربوبياً من أجل صيانة الإنسان من الانحراف في خط الخلافة، إلى جانب هذا الأخير. ويبدأ خط الشهادة بالأنبياء (ع) ومن ثم إلى الأئمة المعصومين(ع) حتى يصل في عصر الغيبة إلى فقهاء الإسلام (7) .
وهذا القول الأخير يمكن أن يكون أساساً لنظامين:
الأول: حكومة دينية مقتدرة، يتراجع فيها العقل الجمعي للناس أمام القرارات التي يتخذها القائد الديني الصالح، والتي يطلب فيها من الناس الرجوع إلى القائد المصلح في تشخيص المصالح من المفاسد.
الثاني: حكومة دينية أكثر اعتدالاً من الأولى، في عصر الغيبة.
الشهيد الصدر يميل في تفسيره إلى الثانية، لأنه يسعى إلى إعطاء القوانين الوضعية العرفية والعقلائية والى الإشراف العام من قبل الناس باعتبارهم خلائف الباري عزّوجل في منطقة الفراغ، يسعى إلى إعطاء كلّ ذلك صفة موضوعية ضمن إطار الشريعة. ويرى أن الفقيه الجامع للشرائط معيّن من قبل الله للحكم تعييناً نوعياً (أي تعيين المواصفات والشروط والخصوصيات العامة)، أما التعيين الشخصي للفقيه فقد أوكل إلى الأمة . وحيث إن الفقيه ليس معصوماً، فهو بحاجة إلى شهيد، والى معيار موضوعي آخر، بمعنى ضرورة تدبير طريقة معينة كي يتم الإشراف على سلوكياته بنحو قانوني (8) .
3- ديناميكية الهدف وعدالة القائد:
إضافة إلى ضرورتها الشرعية فإن للدولة الاسلامية ضرورة عقلية أيضاً، لأن التجربة الانسانية أثبتت عدم سير القدرات الانسانية في مجالها الطبيعي دون وجود حكومة دينية، إذ لا يمكن للانسان الوصول إلى ذروة الحضارة والمجد بدونها. في حين أن إقامة الحكومة والدولة الدينية على أساس الإيمان بالله وصفاته الكمالية، يهيئ للانسان إمكانية التحرك في طريق المدنية والسموّ. كما أن إقامة المجتمع الصالح الذي يتجه نحو العدل، يحتاج إلى قائد ورع وتقي، ومثل هذا الشخص لا يوجد إلاّ من خلال العقيدة والتربية الدينية (9) . وهذا الدليل، يتوقع من الدين أمرين:
الأول: يحتاج الإنسان في حركته التكاملية إلى هدف غير محصور ومقيّد، وهذا
لا يكون إلاّ بالإيمان بالله والسير إليه. لكن المشكلة الموجودة هنا، هي كيفية تصور الدولة لله جلّ وعلا وصفاته في أسس سياساتها وأهدافها وبرامجها، ولكي تتضح فاعلية ذلك الهدف في تحرك الدولة الإسلامية والمسلمين، بشكل ملموس.
الثاني: الحاجة إلى قائد تقي وعادل وهذا لا يكون إلاّ بالإيمان والتربية الدينية.
هاتان النقطتان – وعلى الرغم من الفروضات التي يسلم بها على أساسهما –
لا تتركان في الأذهان جواباً عمّا هو المطلوب من الدين؟ سوى أنه سند أخلاقي قوي للدولة، لأنه ومن خلال الهدف الإلهي، يتيسر الكمال الإنساني في مسيرة التكامل والتعالي المعنوي، كما أن القائد العادل يعدّ الضامن في إقامة العدل، فهما لا تبرهنان
– مثلاً – على أن جميع برامج الحكومة الدينية مصدرها الدين، أو أن مثل تلك البرامج يتضمنها الدين أساساً.
4- تشخيص النظام الاجتماعي الأصلح:
مشكلة الإنسان المعاصر ، مشكلة اجتماعية. والإنسان واقف على ذلك وقوفاً تاماً، ويعلم أن النظام الاجتماعي يقع تحت تأثير الإرادة والأعمال الانسانية، وأن القوانين التي تحكمه ليست خارجة عن إرادته كما هو الحال بالنسبة للقوانين التي تحكم الطبيعة. وعلى أساس ما تقدم يمكن تحديد مشكلات الإنسان المعاصر في: ماهو النظام الأصلح؟ ما الضمان في أن مانراه الأصلح حسب فهمنا، هو الأصلح في الواقع؟ وحتى لو نجحنا في تشخيص النظام الأصلح، فهل سننجح في التطبيق أيضاً؟
وكانت الإجابة عن هذه الأسئلة مختلفة، فالبعض يرى أن الإنسان يستطيع تشخيص الأصلح وتطبيقه من خلال التجربة، وهو ما فعله عملياً. وفي هذا الصدد ينقل الشهيد الصدر بعض الآراء وينقدها، كما في التالي:
أـ تجربة الظواهر الطبيعية تختلف عما هي عليه في الظواهر الاجتماعية، والسبب في ذلك يعود الى:
أولاً: لا يمكن فهم المصالح الاجتماعية بفترة زمنية قصيرة، فهي بحاجة إلى زمن طويل قد يمتد على مدى أجيال، من أجل تشخيص النظام الأصلح.
ثانياً: ولا تكفي هنا التجربة الفردية، بل هناك حاجة إلى تجربة اجتماعية.
ثالثاً: التجربة الاجتماعية تفتقد للموضوعية الموجودة في التجارب الطبيعية،
ولا يمكن فصلها عن التأثيرات والدوافع النفسية والاجتماعية و.. الخ، ولهذا السبب من الصعب اعتبارها تعبيراً عن الحقيقة، لأنها قد تعمل خلاف ذلك تماماً، بأن تخفي الحقيقة تماشياً مع مصالحها.
ب – لو فرضنا نجاح الإنسان في تشخيص النظام الأصلح، فما الذي يدفعه إلى التغاضي عن مصالحه الشخصية من أجل مصلحة الجماعة؟ فالإنسان يسعى إلى تشخيص وضمان مصالحه الفردية وليس مصلحة البشرية جمعاء. إضافةً إلى ذلك،
لا يمكن للنظام الوضعي الارتقاء بالانسان الى أسمى مدارج الكمال، لان مثل هذا النظام الاجتماعي تعبير وتجلٍّ لشخصية الإنسان ومرتبته الروحية، لهذا فهو عاجز عن رسم صورة دقيقة عن عالم المعنى والمراتب الانسانية، أو أن يخطط للوصول إلى تلك العوالم السامية (10) .
أما الفروضات الأولية التي طرحها الشهيد الصدر في هذا الدليل فهي كالتالي:
1ـ يحتاج تشخيص النظام الأصلح إلى فترة زمنية طويلة. ولهذا فإن توكيل مهمة هذا التشخيص إلى البشر يعدّ مخاطرة كبيرة.
2- الإنسان والعقل الجمعي البشري عاجزان عن تشخيص النظام الأصلح، لأن العقل البشري يقع تحت تأثير الدوافع الفردية وأمثالها في القضايا الاجتماعية، وبهذا الشكل يفتقد للموضوعية اللازمة. وفي هذا الفرض يدعي الشهيد الصدر عجز العقل الجمعي البشري (بجميع الوسائل التي يمتلكها) في تشخيص النظام الأصلح، وعلى أساس ذلك يواجه السؤال الآتي: ما هي قيمة المعرفة البشرية فيما يخص القضايا الاجتماعية؟ وهل للعلوم الاجتماعية القدرة على كشف الحقائق كما هي عليه العلوم الطبيعية؟
ويقدم الشهيد الصدر تقريراً عن السؤال المذكور في البداية، ومن ثم يجيب عن ذلك التساؤل:
هل يمكن للبشر تنظيم حياته الاجتماعية على أساس المعرفة العلمية التي يمتلكها في مجالات متنوعة مثل علم النفس وعلم الاجتماع والتجارب التي اكتسبها؟ فالمعرفة العلمية تمكنت في مجالات أخرى وبالدقة التي تمتاز بها من حلّ الكثير من المشاكل التي واجهت البشر في حياته. وقد أجاب البعض على هذا السؤال بالإيجاب، واستدلوا على أتم وجه، على أساس المعرفة العلمية. وأضافوا أنه يمكن الوصول إلى الطريقة التي يمكن بها إشباع حاجات الإنسان الاجتماعية، بوسائل المعرفة العلمية، لأن تلك الحاجات كسائر الظواهر الوجودية، واقعية ويمكن فهمها ودراستها بالوسائل العلمية والتجريبية.
لكن تجدر الإشارة إلى أن النظام الاجتماعي الذي شيده الأوروبيون، مبنيّ على أسس فلسفية ونظرية وليست علمية، فإحدى آرائهم الأساسية، حقوق الإنسان – مثلاً – وهذه المقولة لا يمكن دراستها بالمعايير العلمية المحدودة. وبديهي فإن العلوم الموجودة مهدت الطريق لإشباع الكثير من حاجات الإنسان، لكن المشكلة الأساسية هي تحقيق التوازن بين متطلبات وحاجات جميع الأفراد ضمن إطار ونظام معيّن. وهذا ما يحتاج إلى تجربة تاريخية طويلة أوسع من تجربة بعمر فرد أو حتى جيل معيّن.
وعلى هذا الأساس، فالنظام الاجتماعي لا يستند فقط إلى التجارب العلمية، بل يستند أيضاً إلى آراء نظرية وفلسفية حول مكانة الإنسان وموقعه في الحياة وحقوقه. فضلاً عن أن المشكلة الاجتماعية المهمة هي في إيجاد توازن بين مصالح الفرد والجماعة، وهي لا يمكن حلّها بالعلوم الموجودة.
ولكي يؤكد عجز المعرفة البشرية في الوصول إلى النظام الاجتماعي الأصلح، يقوم الشهيد الصدر بدراسة المذاهب الاجتماعية البشرية المعاصرة، مثل النظام الماركسي والنظام الرأسمالي، ويستنتج من خلال ذلك عدم قدرة المذاهب الوضعية الموجودة في حلّ المشكلة الانسانية المعاصرة. وعلى سبيل المثال، نراه يشير إلى بعض موارد ضعف النظرية الديمقراطية، بما يلي:
1ـ تفتقد هذه النظرية إمكانية الدفاع الموثق والمبرهن عن الحياة وحدودها. إذ كيف يمكنها أن تطمئن الإنسان في أن تطبيقها يؤمن له مصالحه، في حين أن للانسان خالقاً هو أعلم وأفضل منه يستطيع برمجة وتنظيم حياته؟
2- كيف يمكن للديقمراطية (أو أي مذهب وضعي آخر) إغفال هذه المسألة وهو أن تكون هذه الحياة مقدمة لحياة أخرى. في حين ثبوت كونها مقدمة لحياة أخرى، لابد من أن تنظم بشكل يتناسب وحقيقتها كمقدمة وبما يتلائم ومصالح الإنسان الأبدية (11) ؟
3- الفرض الثالث الذي يطرحه الصدر في الدليل المذكور، هو التعارض الموجود لدى الإنسان بين مصالحه الذاتية والمصلحة العامة. وهذا التعارض هومصدر المشاكل الاجتماعية، التي لا يستطيع حلّها سوى الدين.
أما المعضلة الحقيقة التي تواجه الشهيد الصدر، فهي في النجاح النسبي الذي استطاعت المجتمعات الغربية تحقيقه في مجال إقامة نظام اجتماعي يقل فيه الاختلاف والعنف والفقر والبطالة، وفي تمكنها من تشييد مؤسسات قانونية وإدارية فاعلة، تتدارس على الدوام أساليب إصلاح النظام الاجتماعي بمساعدة العقل النقدي. كما أن هذا النظام الاجتماعي الغربي استطاع المحافظة على حقّ جميع الأفراد أمام سلطة الدولة والأثرياء. وفي جواب ذلك يقول الشهيد الصدر: إن المجتمعات الغربية لم تنجح في هذا المجال، ودليله في ذلك النواقص والمساوئ الموجودة في النظام الرأسمالي ، ومن أبرزها:
أولاً: الديمقراطية في النظام الغربي الرأسمالي هي سلطة الأغلبية على الاقلية. والسؤال الذي يطرحه الشهيد الصدر في هذا المجال، هو : بما أن العقل المتسلط على هذا النظام (أي العقل الذي يقوم باتخاذ القرار على أساس المصالح والمفاسد والذي نعبر عنه بالعقل العملي) هو عقل مادي، لامكان للقيم المعنوية فيه – وإذا كانت هناك قيم معنوية فهي بدون سند عقائدي – فما الذي يحول دون حكم الأغلبية بما يضرّ الأقلية؟
ثانياً: أن حرية النشاطات الاقتصادية والسياسية للفرد، والثورة الصناعية وتطور النظام الآلي والتجارة والحرّة، أدت بالنهاية ومن الناحية العملية إلى سيطرة فئة محدودة على الاغلبية العظمى من المجتمع. وهذا الفئة الصغيرة ومن خلال ثروتها تستطيع السيطرة على المؤسسات المهمة مثل الصحافة والاذاعة والتلفزة والاحزاب السياسية وهي عملياً الحكومة الحقيقية التي تفرض سلطتها على الجميع. وعلى هذا تكون المساواة في الحقوق السياسية بين المواطنين مجرد خيال فارغ.
ثالثاً: أن العقلية النفعية والمادية التي تسيطر على هذا النظام، ومن أجل الحصول على المواد الأوليّة والاسواق، تجعله يفكر دوماً بالسيطرة على جميع العالم، وهذا ما أدّى إلى ظهور ظاهرة الاستعمار بأشكاله المتعددة، فكان السبب والمصدر في الأزمات الدولية (12) .
وعلى أساس هذا البرهان، فإن ماهو مطلوب من الدين، يكمن في الموارد التالية:
1ـ تقديم تفسير واقعي عن الحياة، بشكل يمكن من خلاله بيان الحياة بعد الموت وحجم علاقتها بهذه الحياة الدنيا، والدفاع عن القيم الأخلاقية والمعنوية.
2- التربية الأخلاقية والدينية التي يتغاضى على أساسها الإنسان عن مصالحه الآنية.
3- بيان الأحكام، أو بعبارة أخرى بيان حكم أفعال الإنسان من حيث تأثيرها على واقعه ومستقبله وهو ما عبر عنه الإسلام في قالب الفقه.
4- طرح النظام الاجتماعي الأصلح، لأن المذاهب الوضعية تعجز عن طرح ذلك. وإن كانت تجربة النظام الأصلي تعدّ مخاطرة كبيرة وتحتاج إلى فترة أطول لاقتطاف ثمارها.
أما كيفية طرح الإسلام والدين للنظام، وما يقصده الشهيد الصدر بالنظام وحجم تأثير المعرفة العقلية والمعرفة عن طريق الوحي في إيجاد وتصور النظام الاجتماعي، فهو ما سنوكله إلى موضوع سعة دائرة الدين وضمن القسم الخاص بالدين والنظام الاجتماعي .
ومن الضروري الفصل بين عدّة مسائل في هذا الكلام الذي طرحه الشهيد
الصدر، وهي:
أـ هل عجز الإنسان عن تشخيص النظام الأصلح لحل مشاكله في الحياة الدنيا يشكل الأساس في البحث؟ هل الإنسان عاجز عن وضع نظام سياسي – على سبيل المثال – ينسجم ومتطلباته الأساسية التي تنطلق من أخلاقه وسلوكياته؟ وهل يعجز عن حلّ مشكلة الفقر والغنى أو الإدارة والإشراف المؤثر على السلطة وإصلاح الحكومة الفاسدة، أو الاستفادة من المواهب الإلهية في سبيل التقدم الاقتصادي؟ و..
ب – وهل الحلول البشرية تبقى ناقصة من بعض الجهات دون الهداية الربانية؟ وهنا يمكن تحليل المسألة الأولى بنحوين، لا نراهما في كتابات الشهيد الصدر، وهما:
أولاً: لم يترك الإنسان القديم في هذا المجال تجربة ناجحة ومهمة، وبقي محصوراً من الناحية العملية بـ «المقدسات» القبلية وبما يراه المستبدون من الحكام والسلاطين . فهناك فوارق واضحة بين قيمه الأخلاقية والقيم التي يؤمن بها الإنسان المعاصر، مثل : العدالة والحرية وأمثالهما، وحتى لو قلنا بوجود تشابه بين قيم الإنسان القديم والحديث في المجالات التي ذكرناها، فلا زالت هناك فوارق، وهي أن هذه القيم الأخلاقية لم يتأكد رسوخها في الوجدان العام للمجتمع، بحيث يكون عدم العمل بها من قبل أحد أفراده سلوكاً غير طبيعي، وعلى هذا يكون مجرد الشعور الأخلاقي غير كافٍ. والظاهر أن بعض القيم الأخلاقية مثل العدالة والحرية، حسب المفهوم المعاصر لكلّ منهما، لم تتبلور نظرياً في العصور الماضية.
وفي هذا الحالة، يمكن القول، لو لم يهد الله البشر في العصور القديمة عن طريق بعث الأنبياء والشرائع السماوية، لما استطاعوا بلوغ القيم الانسانية السامية، ولفقدوا حتى الحدّ الأدنى من متطلبات الحياة الانسانية نتيجة الظلم والجور والصعوبات الشديدة التي تعرضوا لها. فلو أن الله تركهم يجربون النظام الأصلح بأنفسهم، لكانت التجربة مخاطرة كبيرة بالنسبة لهم، ولاحتاجوا إلى أجيال من التجارب حتى يصلوا إلى جيلنا المعاصر الذي يعيش عصر العقل والعلم، وظهور العقل النقدي بالأسلوب العلمي. وهذا الرأي، هو أساس ماذهب إليه الشهيد مرتضى المطهري وإقبال اللاهوري – ولو بنحوين مختلفين – في حاجة الإنسان القديم إلى الأنبياء والشرائع. إذ يقول الشهيد المطهري: «وإن أحد دلائل تجديد النبوات في الماضي هو عجز الإنسان القديم عن حفظ وتفسير الشريعة واتخاذ القرار المناسب على أساس متطلبات عصره، فكان بحاجة دائماً إلى نبيّ، لكن تطور الفكر البشري في عصر الرسول الخاتم (ص) جعلت مهمة حفظ الدين وتفسيره والإجابة على متطلبات العصر على عاتق المصلحين في المجتمع وعلماء الدين»(13) .
أما إقبال فيرى أن الحاجة إلى الدين أساساً تختص بالعصور التي لم يظهر بعد فيها العقل النقدي، والناس آنذاك بحاجة إلى هداية غريزية، ولهذا يهديهم الله تعالى بالغريزة المنفصلة (النبوة) إضافةً لما أودع فيهم من غرائز متصلة (14) .
وعلى هذا الأساس، إذا كان المقصود بحاجة الإنسان إلى الدين في حلّ مشاكل حياته، هو الإنسان في العصر السالفة، فيمكن الدفاع عن هذا الرأي بالشكل التالي، وهو لو لم يهدهم الله في مختلف المجالات ومنها العدالة وإحقاق الحقّ والشريعة وعدم الظلم واختيار الحكام الصالحين، فمن الصعب القول: بأن الإنسان في العصور السالفة استطاع تخليص نفسه من الأوهام العديدة التي كانت تحاصر فكره.
ثانياً: يحتاج الإنسان إلى إرشادات دائمة في شؤون حياته. وفي عصر ظهور العقل النقدي، لم يستطع الإنسان عن طريق «الهندسة الاجتماعية» حلّ المشاكل التي تواجهه في مجالات الحكومة والإدارة والاقتصاد و.. الخ، فالانسان بحاجة إلى هداية عن طرق الغريزة المنفصلة والحكّام الصالحين في المجالات التي ذكرناها.
ولربما يكون من الصعب جداً إثبات هذا الادعاء، لأنه قد يطرح شخص ما تعاليم بوبر في هذا المجال ويقول: إن العقل النقدي الانساني يستطيع وعن طريق الهندسة الاجتماعية الجزئية، طرح أهداف وأصول اجتماعية معينة مثل الإشراف على السلطة وطريقة إصلاحها، وحماية الحريات المشروعة، وتوزيع الثروة وحلّ مشكلة الفقر، وتعيين حدود الحريات إلى جانب مئات المسائل الأخرى، على أساس الأصول الأخلاقية. يرى بوبر أن جميع البشر يمتلكون شعوراً أخلاقياً، ويؤمن بأن عامة الناس إذا لم تكن أفضل من النخبة الفكرية والسياسية من الناحية الأخلاقية، فهي ليست أدنى منهم، ومن ثم يقوم بتقييم طريقة الوصول إلى هذه الأهداف بالهندسة الاجتماعية، واستخدام الأسلوب العلمي، أي نقد الفرضيات في كلّ مورد، ومن ثم إبطال الفرضيات الخائطة.
ويعتقد كارل بوبر أن العقل النقدي له تلك الإمكانية، وقد توصل إلى نجاحات باهرة من الناحية العملية. فهو لا يجيز فقط الاعتماد على العقل النقدي، بل يذهب إلى ضرورة ذلك، لأنه يعدّ التقيّد بالعادات والتقاليد الخرافية أو الإيمان بأصول غير قابلة للنقد أو بآراء تاريخية خيالية، من خصوصيات المجتمعات المغلقة. وفي مقابل ذلك، يعتبر الهندسة الاجتماعية التي تعتمد على النقد العلمي والعقلي، الأسلوب الأمثل الذي يحمل معه آلية إصلاحه، وبالتالي فإنه معرّض لمخاطر وأضرار أقل (على الرغم من أن هذا الأسلوب لم يصل إلى درجة الكمال بعد)، لأنه يطرح كلّ مشكلة اجتماعية في حقلها الخاص ويبحث في أسلوب معالجتها، ويتجنب طرح الفرضيات العامة وعلى مستويات واسعة جداً بحيث تشمل كلّ التاريخ البشري وأمثال ذلك، والتي تحتاج إلى مقاييس واسعة ويصعب تقييم عواقبها.
يؤكد الشهيد الصدر أن تشخيص النظام الأصلح يحتاج إلى تجربة اجتماعية وفترة زمنية طويلة. أما جواب بوبر وأمثاله ، فهو أنه في العصر الحاضر الذي يعدّ عصر ظهور العقل النقدي، فنستيطع عملياً توضيح الأهداف والأصول الاجتماعية المناسبة وتحديد كيفية بلوغها، والاستفادة من أساليب أقل خطورة، وتجنب وقوع فجائع ودمار بسبب الاستناد إلى جزئيات وآراء تاريخية غير قابلة للنقد، باستخدام تلك الأساليب، لأن أساس عملنا يرتكز على دفع المفسدة بدل كسب الحدّ الأعلى من المصلحة أو المنفعة. وبهذا الشكل لا يمكن الحديث عن عدم موضوعية التجربة الاجتماعية وتمايزها مع التجارب الطبيعية، والمسألة ليست فلسفية تماماً، مع أن اختيار بعض الأصول والأهداف الاجتماعية، مثل الحرية وحقوق الإنسان فانها تتأثر بالآراء الفلسفية الشخصية والمفاهيم الاخلاقية، وقد توصل الإنسان باعتباره موجوداً أخلاقياً وعاقلاً إلى هذه الأهداف والأصول، ولربما ساعده الدين أحياناً في هذا الإدراك والفهم. لكنه قد يتيسر الوصول إلى تلك الأهداف عن طريق الأسلوب العلمي والهندسة الاجتماعية، التي يعدّ تبلور مثل هذه المجتمعات دليلاً عليها . فلو ادعى شخص أن الدين أقدر على تحصيل الأمور التي ذكرناها، وأنه لا يمكن الوصول إليها بدونه، فلابد له من أن يأتي بدليل بيّن يوضح تمايز المجتمع الديني عن المجتمع غير الديني فيما ذكرناه من مسائل.
أما حلّ مشكلة تطبيق النظام الأصلح، التي طرحها الشهيد الصدر، فممكنة عقلياً وعملياً عن طريق الهندسة الاجتماعية، وايجاد مؤسسات فاعلة وقادرة على السيطرة والإشراف، وعلى سبيل المثال يمكن حلّ مشكلة شراء الآراء وسيطرة القوى الاقتصادية على القوى السياسية والتشريعية، بإيجاد مؤسسات فاعلة ووضع قوانين لازمة، والدليل على ذلك النجاح النسبي الذي حصلت عليه المجتمعات الليبرالية. مع أن الطريق لايزال طويلاً لحلّ جميع المشاكل، ويجب أن لا نتوقع إيجاد حلول لجميع المشاكل، لكنه طريق قابل للتكامل باستمرار، وهو ما يفعله الإنسان دائماً. ويجب أن لا نغفل عن هذه الحقيقة، وهي أن التربية والايمان الديني يستطيع أن يكونا سنداً قوياً لاتخاذ قرارات أخلاقية من قبل الاشخاص. وعلى هذا، لو كانت القيم الاخلاقية مرتبطة بعقيدة وتربية دينية، ومتمتعة بالقداسة التي تضفيها عليها، ستكون بالتأكيد شديدة التأثير، ويبقى المجال مفتوحاً أمام هذا التساؤل وهو : أليس من المحتمل أن تكون القرارات الأخلاقية التي يتخذها الإنسان معلولة لتربيته الدينية؟ ولأن جذور الدين تمتد في التاريخ الإنساني ، فليس هناك دليلٌ على إنكاره.
ومن بين مؤاخذات الشهيد الصدر على الديمقراطية الغربية، هذه المؤاخذة المهمة، وهي أن رأيها في الحياة الانسانية والقيم الاخلاقية لا يمتلك تفسيراً مقنعاً يمكن الدفاع عنه، وهو ما يتضح في كلام بوبر الذي يعدّ من المتطرفين في دفاعهم عن الليبرالية والديمقراطية الغربية، لأنه لم يقدم دفاعاً عقلانياً عن الاصول الاخلاقية، بل قال بعدم إمكانية إثبات صحة أو خطأ القيم الاجتماعية. والشيء الوحيد الذي يراه ممكناً، هو مقارنة المواقف الاجتماعية المختلفة وتبعاتها مع بعضها، وفي النهاية فإن قبول أو نفي هذه القيم الاجتماعية مسألة ترتبط بالقرار الاخلاقي، أما القرار الأخلاقي نفسه (مثل اختيار الاتجاه العقلاني) فلا تسند إلى دليل، بل لـه ارتباط وثيق بحب النوع الانساني(15). وكما رأينا، ليس هناك دليل على القيم الاخلاقية في هذا الكلام. ولذا وكما بيّن الشهيد الصدر، تكون التربية والعقيدة الدينية سنداً قوياً يمكن الاعتماد عليه في الاصول الاخلاقية. ولربما يقول إن إدراك الحسن والقبح عقلياً أو بعبارة أخرى الحسن العقلي للقيم الذي يمكن إدراكه من قبل الإنسان، يمكنه تفسير الاجراءات والقرارات الاخلاقية. وفي جواب ذلك نقول، إن إدراك حسن القيم الاخلاقية أو مجرد الشعور بها، يواجه مشكلة أخرى، في مقام العمل، وعند اتخاذ القرار الاخلاقي، وهي الصراع الذي سيعانيه الإنسان بين شعوره الاخلاقي ومصالحه الشخصية. ويحتاج التغلب على هذا الصراع وجود حكم أعلى ينهي النزاع لصالح القيم الاخلاقية. ولا يأتي مثل هذ الحكم إلاّ من الإيمان والرؤية الكونية التوحيدية التي مصدرها الدين.
أما الاشكالات الثلاثة الاخرى التي أوردها الشهيد الصدر على النظام الرأسمالي، فلا زالت محل بحث. مثلاً، ماركوزه الذي يعدّ من أبرز منتقدي الرأسمالية الغربية، يذهب إلى أن النظام الرأسمالي بصورته الحاضرة ظالم للغاية، ويطرح جميع الاشكالات التي طرحها الشهيد الصدر بكل تفاصيلها. والتي منها قوله: إن التساوي في الحقوق السياسية والذي تعد به الديمقراطية الغربية شعوبها، ليس له أساس عملياً بسبب سلطة رأس المال، لان نفقات الصحافة والانتخابات وإيجاد المحطات الإذاعية والتلفزيونية، الباهظة
لا يقدر عليها غالبية أفراد المجتمع، وبهذا الشكل تحذف أغلبية المجتمع من ساحة التنافس والنشاط الحقيقي. من جهة أخرى، فالنمو الاقتصادي العالي في المجتمع الامريكي، مكن العمال من أخذ أجور توفر لهم مستوىً من الرفاه وأوقات فراغ كافية، كما أن ظروف العمل أصبحت أكثر راحة بسبب تطور الآلة الصناعية. وقد أدى مجموع تلك العوامل إلى غفلة العمال بشكل كامل، وعدم وعيهم لمظالم النظام الرأسمالي(16) .
ويرى بوبر أن جميع هذه المشاكل يمكن حلها بالهندسة الاجتماعية، ويعتقد أن المجتمع الغربي استطاع أن يسير في طريق إصلاح نفسه، كما أن المنجزات التي قام بها في مجالات الحرية وتنمية الثروة وغيرها نموذج جديرة بالتأمل في تلك المسيرة الاصلاحية، التي لم تستطع أية فلسفة اجتماعية أخرى القيام بها. كما أنه تحدث بإسهاب عن مشكلة سلطة رأس المال، ودرس إمكانية حلّها عن طريق السلطة السياسية التي تأتي بدورها بأسلوب ديمقراطي . ومن جملة ماقاله: هو أنه يمكن وضع مادة في قانون الانتخابات تقلل نفقات العمليات الانتخابية إلى أدنى حدّ.
ويقبل بوبر بهذا الاشكال، وهو أن عدم الأمن والاعتداءات تهدّد السلام والعدالة في العلاقات الدولية اليوم، رغم أن كلامه يعود إلى فترة الحرب الباردة التي كان فيها خطر الحرب والتنافس السياسي وسباق التسلح بين الكتلتين الشرقية والغربية، يهدد الأمن العالمي. مع أن سقوط الكتلة الشرقية تبلور عنه اتجاه جديد في العلاقات الدولية الجديدة، لا أدري ماهو رأي بوبر فيما يتعلق بهذا الوضع الجديد، فهو يرى أن الهندسة الاجتماعية باستطاعتها حلّ المشاكل الدولية ويقول: «كما أنه كان مستبعداً تحقيق الأهداف الاجتماعية على مستوى الدولة على أساس الهندسة الاجتماعية، وقد تحقق، فليس مستبعداً أيضاً تحقق الاهداف الدولية»(17) .
المسألة الاخرى، هي عدم جدوى الحلول البشرية دون الهداية الربانية، وذلك للأسباب التالية:
1ـ تفتقد الفلسفات الاجتماعية الوضعية فهماً جامعاً وشاملاً عن الحياة وحدودها؛ لذلك لا يأمن الإنسان إلى أن بعض تصرفاته (مثل الحرية الجنسية) لن تكون نتيجتها سوي ضياع مصالح إنسانية أهم، فمثلاً حرية العلاقة بين الرجال والنساء ينتج عنها تدمير لكيان الاسرة مما يؤدي بدوره إلى مشاكل اجتماعية عديدة.
2- لا يمكن تنظيم الحياة الاجتماعية بدون الدين لأن الاعتقاد في كون هذه الحياة مقدمة لحياة أخرى يستوجب وضع برنامج يأخذ بنظر الاعتبار مصالح الإنسان الابدية في تلك الآخرة.
3- قد يمتلك الإنسان حياة معنوية وعرفانية لا يمكن الوصول إليها بالقدرات البشرية الموجودة، بعبارة أخرى ليس باستطاعة النظم الوضعية تربية الإنسان معنوياً وأخلاقياً؛ لان تلك النظم التي أوجدها الإنسان نفسه تعبر عن شخصيته وقدراته، فكيف يمكنها الارتقاء به من مستواه الموجود إلى مستوى أرقى.
وعلى أساس هذه الأوجه الثلاثة يمكن القول: إن الدين هو دليلنا في العمل، وهو مرشدنا في عملنا في الهندسة الاجتماعية، ومن أجل دفع خطورة تصرفاتنا الفردية والجماعية وتحسباً لعقوبة الآخرة، من الضروري قياس جميع تصرفاتنا وبرامجنا على أساس الدين وبمقاييس الحلال والحرام.

دائرة الدين (الوحي)
أـ الدين والنظام:
اشرنا من قبل إلى ان الشهيد الصدر يرى أن على الدين طرح النظام الاجتماعي الاصلح باعتباره المشكلة الأساس التي يعاني منها الإنسان المعاصر، وأن تقديم هذا النظام في مختلف المجالات السياسية والتربوية و.. من الزاوية الدينية، يعني أننا نطلب حلّ المشكلة من الدين.
لتحديد دائرة الدين (الوحي) كما يراها الشهيد الصدر، يبدأ من البحث في النظام الإسلامي وفي مختلف المجالات التي ذكرناها، لانه يعتقد أن مشكلة الإنسان المعاصر تكمن في تشخيص وتطبيق النظام الاجتماعي الأصلح. وفي مقابل الماركسية التي ترى أن أفضل نظام اجتماعي هو الذي يكون متناسباً مع مقتضيات شكل ووسائل الانتاج في كل عصر، أو الرأسمالية التي ترى سعادة البشرية في السوق الحرّة، يطلب الشهيد الصدر جواب ذلك من الدين، لانه يعتقد بأن هذه الانظمة الوضعية تنظر من زاوية مادية مجردة للحياة الانسانية، والإسلام هو الفكر الوحيد الذي لا ينظر بعين أحادية للانسان، بل يرى ان له بعداً روحياً وأخروياً إلى جانب البعد المادي والدنيوي الذي يمتلكه ، وهو – أي الاسلام – الذي يستطيع تشييد نظام يجلب السعادة للانسانية بجميع أبعادها.
وعلى أساس ماذكرناه في مبحث حاجة الإنسان إلى الدين، واستناداً إلى الدليل الكلامي الذي يسوقه الشهيد الصدر في عجز الإنسان عن تشخيص النظام الاجتماعي الاصلح، يرى ضرورة أن يكون الدين هو مصدر النظام. رغم تأملاتنا حول هذا الرأي ومن أجل عرض رأي الشهيد الصدر حول حدود الدين وتقديم النظام؛ نجد من الضروري قبول ذلك الرأي، وبعد ذلك سنطرح رأي الشهيد الصدر حول الدين والنظام الاجتماعي الذي نستخلصه من الدين ، ومن ثم سنقوم بدراسة ذلك الرأي.
في هذا المجال يعترضنا سؤالان أساسيان:
الأول: ماهو النظام؟
والثاني: ماهو الدليل على وجود نظام إسلامي؟
جواب السؤال الأول: النظام هو مجموعة منسجمة من الآراء الواضحة والحلول التي لها استخدامات في مجالات معينة مثل كيفية توزيع الثروة بشكل عادل. والظاهر أن الشهيد الصدر أيضاً عرّف النظام بذلك. ففي كتاب المدرسة الاسلامية، يقول: «ونقصد بالمذهب الاقتصادي، إيجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية ، وفقاً للعدالة»(18) .
ويقول في كتاب اقتصادنا: «فالحياة الاجتماعية إذن وليدة الحاجات الانسانية، والنظام الاجتماعي هو الشكل الذي ينظم الحياة الاجتماعية وفقاً لتلك الحاجات الانسانية»(19) .
جواب السؤال الثاني: وحول وجود نظام إسلامي وكيفية إثبات ذلك، يستشهد الصدر بنموذجين أحدهما ديني والآخر خارجي. وباختصار فإن الأدلة التي يوردها في هذا المجال هي النصوص التي تتحدث عن شمولية الشريعة وامتداد دائرتها إلى جميع الشؤون والمجالات، وهذه الشمولية هي الدليل على وجود نظام في الإسلام.
منها الروايات التي تتحدث عن وجود كتب عند الأئمة(ع) فيها جميع ما يحتاجه الناس حتى إرش الخدش ، كما ورد في نهج البلاغة: «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه إلا أن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم». فاذا كانت الشريعة من السعة والشمولية بحيث أنها حددت حتى إرش الخدش وفيها علم الماضي والمستقبل ودواء داء البشرية ونظم أمورها، فلابد أن تكون قادرة على تقديم حلول في المجالات الاجتماعية والاقتصادية أيضاً، لان ذلك مما يحتاج إليه الناس.
أما الدليل الآخر الذي يسوقه على وجود النظام الإسلامي، فهو التحقق الموضوعي وتطبيق ذلك النظام في عهد رسول الله(ص)، لأن الإسلام في عهده ساد وتأسس المجتمع الإسلامي على يديه. وليس معقولاً وجود مجتمع دون نظام . إذن، كان للمجتمع في عهد رسول الله(ص) نظام معين، وبالتأكيد لم يكن ذلك النظام منفصلاً وغريباً عن الإسلام، بل هو نظام إسلامي، وعلى هذا الأساس باستطاعتنا استنباط النظام الإسلامي من خلال قول وفعل وتقرير رسول الله(ص) باعتباره إمام مجتمع المسلمين(20) .
الدليل الثالث الذي يأتي به في هذا الصدد، هو أن الإسلام نفى في تشريعه النهجين الرأسمالي والماركسي، وبالتالي يجدر به أن يقدم نظاماً يخرج الأمة من حيرتها، أي لابد له من طرح أهداف وعلائم واضحة وأسلوب صحيح في تنظيم الحياة(21) .

النظام الاقتصادي الإسلامي
وكما ذكرنا قبل ذلك، لم يكتف الشهيد الصدر بتلك المقولات، بل سعى لتقديم نماذج نظرية للنظم الاسلامية، ومن جملته تقديم نظام اقتصادي إسلامي. ولكي نرى مدى نجاحه في هذا المضمار، وما قصده بالنظام الإسلامي (النظام الاقتصادي الإسلامي نموذجاً) ، سنشرح خلاصة مساعيه وجهوده، ومن ثم نقوم ببحثها وتقويمها.
تعريف النظام:
أوردنا فيما سبق تعريف الشهيد الصدر للنظام، لكن ومن أجل توضيح تعريفه للنظام، لابد من تحديد التمايزات الموجودة بين النظام والمذهب الاقتصادي من جهة وعلم الاقتصاد والحقوق المدنية والمواعظ الاخلاقية من جهة أخرى، لأن النظام شيء مختلف عن تلك الموارد الثلاثة فعلم الاقتصاد، لا يقدم طريقة بل يكتفي بدراسة الواقع الموجود، وعلم الاقتصاد لا يقدم حلولاً للمشكلة الاقتصادية وإنما هو مجرد تقرير تحليلي عن الأحداث والظواهر الاقتصادية. وبعبارة أخرى أن علم الاقتصاد هو علم الكشف عن العلاقات الموجودة بين الظواهر الاقتصادية، وبعبارة أخرى أن علم الاقتصاد هو علم الكشف عن العلاقات الموجودة بين الظواهر الاقتصادية، في حين أن للنظام الاقتصادي بعداً قيمياً، ولا يكتفي بمجرد الكشف عن العلاقات. والنظام الاقتصادي يقدم حلاً على أساس تعريفه للانسان والعدالة والسعادة. فعلم الاقتصاد يشبه علم التاريخ – مثلاً – بينما النظام والمذهب الاقتصادي شبيه بعلم الأخلاق(22) .
اختلاف النظام عن القوانين المدنية:
القانون المدني، تشريع يبيّن العلاقات المالية والحقوقية بين أفراد المجتمع بالتفصيل، وقد وضع هذا التشريع بهدف تنظيم تلك العلاقات. بينما النظام مجموعة من الآراء الأساسية التي تقدم حلولاً لمشاكل الحياة الاقتصادية. والنظام الاقتصادي في الحقيقة هو الأساس والمبنى الذي تقوم عليه القواعد المدنية(23) .
والقوانين المدنية، بناء يقوم على أسس النظام الاقتصادي، بحيث أن التغيير في فحوى المذهب الاقتصادي يؤدي إلى تغييرات في القوانين المدنية والعلاقات المالية والحقوقية بين الافراد. وهذا لا يعني بالطبع، أن النظام الاقتصادي يفتقد للجانب التشريعي، وأن التشريع يختص بالبناء فقط، لأن النظام مجموع تشريعات أساسية ومفاهيم محورية هي الأساس في القوانين المدنية التفصيلية.

اختلاف النظام عن المواعظ الأخلاقية:
ليس من الضروري تحديد مفاهيم الظلم والعدل ومصاديقها المختلفة في المواعظ الاخلاقية، بل يكفي ذكرها بشكل عام ومبهم، في حين يترك ميعار قياس الظلم والعدل إلى العرف، في حين أن مفاهيم مثل الظلم والعدل والحق يجب أن تحدد بشكل كامل وتقدم معايير لقياسها في النظام، ففي النظام الرأسمالي على سبيل المثال تعدّ حرية حيازة المصادر الطبيعية للثروة (الأرض، المناجم و…) عين العدل، بينما تعتبر الملكية الفردية في النظام الاقتصادي الماركسي، عين الظلم ولابد من نفيه.
والإسلام عندما يطرح مواعظه الاخلاقية، يقوم في الوقت نفسه بتحديد المصاديق، فعندما يقول مثلاً: حيازة الأرض بالقوة يعدّ ظلماً، ويشوّق الأغنياء على الانفاق، فإنه يأمر الحاكم الشرعي برفع الفقر وضمان حاجة الفقراء (تنظيم الحياة الاقتصادية)، فحديث مثل: «ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً» يعدّ من المواعظ الاخلاقية، بينما «وكان على الوالي أن يقوتهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا» له بعد تنظيمي وليس أخلاقياً(24) .
مع الأخذ بما ذكرناه، يقدم هذه الصورة عن النظام، بأنه مجموعة من القواعد والنظريات التي تحدد الخطوط العامة للحياة الاقتصادية في مختلف أبعاد الانتاج وتوزيع الثروة.
ولكل نظام اقتصادي أسسه النظرية الخاصة التي تستند إلى رؤية ذلك المذهب إلى الإنسان والعدالة والحق، فالرأسمالية – مثلاً – ترى أن تحقيق العدل في توزيع الثروة يكون من خلال حرية النشاط الاقتصادي، حتى لو انتهى إلى عدم تساوي الاشخاص في الثراء، لان الظلم في الفكر الرأسمالي هو تقييد الملكية الفردية وسلب حرية النشاط الاقتصادي.
بينما ترى الماركسية العدالة في المساواة بين الافراد في الثروة، وليس لاحد أن يمتلك أكثر من حاجته. أما الإسلام فيرى أن العدالة تعني ضمان رزق وفائدة الجميع (الخروج من حدود الفقر) وما بعد ذلك يقول بالحرية الاقتصادية. على أساس ذلك، فان القضايا القيمية والنظرية تعدّ الأساس في كل نظام اقتصادي، لهذا السبب لا يمكن تعيين المذهب الاقتصادي الأصلح بالوسائل العلمية والتجريبية، لان الحق والعدالة ليستا من المقولات الحسّية حتى يمكن قياسمهما.

كيف يكتشف النظام الاقتصادي الإسلامي؟
يعدّ النظام الاقتصادي مسألة إبداعية في المذاهب الوضعية (الرأسمالية أو الماركسية). أي إن القوانين المدنية والمالية في النظم الوضعية تشرع في ضوء أسس تلك النظم، ولهذا الشكل تتخذ سيراً عادياً. ففي المرحلة الاولى تتحد أسس ذلك النظام، ومن ثم تصاغ على أساسها القوانين المدنية والمالية. بينما عملية اكتشاف النظام الاقتصادي الإسلامي ليس كذلك. بمعنى أن جميع أصول وقواعد ذلك النظام لم يُصَرَّح بها في النصوص الدينية بشكل واضح، بل هي مبهمة وغير واضحة في أغلب الاحيان، لذا لابد من استخدام القوانين المدنية والمالية في التشريع الإسلامي، في استنباط تلك القواعد والاصول التي تشكل الاساس في النظام الإسلامي، بمعنى أن القضية عكس ماهو عليه في النظامين الماركسي والرأسمالي ، لاننا في النظام الإسلامي، نصل إلى الاسس والقواعد من خلال القوانين المالية والحقوقية. والحقيقة هو أن علينا اكتشاف النظام الإسلامي، وليس إبداعه(25) . إذن قولنا: ان الإسلام يمتلك نظاماً اقتصادياً، لا يعني وجود نظريات أساسية في النصوص الدينية مباشرة وبشكل واضح بل النصوص الدينية مليئة بالقوانين والتشريعات التي تبين العلاقات بين المسلمين في المجالات الاقتصادية، مثل أحكام الإسلام فيما يتعلق بإحياء الأرض والمعادن والاستئجار والوكالة والمضاربة والتجارة والحيازة والخراج وبيت المال. فلو درست الاحكام مجتمعة قد يمكن للشخص البصير استنباط أصول من نظريات الإسلام فيما يخص الحياة الاقتصادية ، وتقديم صورة عن المذهب الاقتصادي الإسلامي(26) .
ونفهم من ذلك أن الفقيه يحتاج إلى جمع فتاوى عديدة في القضايا الاقتصادية، ليتمكن من كشف قاعدة من أجل اكتشاف النظام الاقتصادي الإسلامي، بمعنى أن على الفقيه القيام بتلفيق فتاوى مختلفة، بدل النظر إليها بشكل مستقل، باعتبارها جزءاً من مجموعة لكي يكتشف النظام (وهذا مالم يقم به الفقهاء لحدّ الآن) (27) .
وتجدر الإشارة إلى أنه وإضافة للفتاوى والاحكام ، هناك مفاهيم دينية تؤثر أيضاً في عملية الكشف التي ذكرناها. على سبيل المثال، فهم الإسلام لمفهوم الملكية، بأنها ليست حقاً ذاتياً لا يمكن استثناؤه أو حصره، بل هي حق الخالق الذي منحه للجماعة باعتبارها خليفة له، والفرد يستحق هذا الحق لكونه جزءاً من هذه الجماعة. إذن، يمكن للفقيه واستناداً إلى الرأي الذي ذكرناه، تحديد وحصر الملكية الفردية في النظام الاقتصادي الإسلامي لو دعت المصلحة إلى ذلك(مثل ملكية الأرض التي لا تحيى) (28) .
ومن حيث أن النظام مرتبط بالاحكام والفتاوى والمفاهيم المحورية، وأن الفقهاء يختلفون في الحكم والفتوى، لذا من العسير توقع طرح نظام واحد من قبل جميع المجتهدين ، على الرغم من أن الدين بحقيقته لم يطرح إلاّ نظاماً واحداً، فكل مجتهد يكتشف نظاماً معيناً من الدين وجميعها تمتلك الحجج الشرعية، شرط حصولها بالاسلوب الاجتهادي الصحيح، بالرغم من عدم إمكانية تحديد تطابق أيّ منها مع الحقيقة الدينية. وكما هو الحال في اختلاف فتاوى الفقهاء في الفروع الفقهية، حيث لا يمكن تحدد الفتوى المتطابقة مع حقيقة الدين (29) .
ومن صميم النقطة التي ذكرناها مؤخراً، يظهر السؤال التالي: هل يوجب اختلاف المجتهدين في الفتوى على الشخص الذي يريد اكتشاف نظام، الالتزام بفتاواه أو فتاوى مجتهد واحد، أم يمكنه الاستفادة من آراء الآخرين؟ يقول الشهيد الصدر: «إن الاجتهاد يتمتع بصفة شرعية وطابع إسلامي مادام يمارس وظيفته ، ويرسم الصورة ويحدد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنة، ووفقاً للشروط العامة التي لا يجوز اجتيازها.. إن ممارسة هذا المجال الذاتي، ومنح الممارس حقاً في الاختيار ضمن الاطار العام للاجتهاد في الشريعة قد يكون أحياناً شرطاً ضرورياً من الناحية الفنية لعملية الاكتشاف، وليس أمراً جائزاً فحسب، وليس لوناً من الترف والتكاسل عن تحمّل أعباء ومشاق الاجتهاد في أحكام الشريعة. فان من المستحيل في بعض الحالات اكتشاف النظرية الاسلامية والقواعد المذهبية في الاقتصاد، بصورة شاملة كاملة منسجمة مع بنائها العلوي وتفصيلاتها التشريعية وتفريعاتها الفقهية إلا على أساس المجال الذاتي للاختيار» (30) .
«ولأجل تعاظم خطر الذاتية على العملية التي يمارسها، كان لزاماً علينا كشف هذه النقطة بوضوح، وتحديد منابع هذا الخطر، وبهذا الصدد يمكننا أن نذكر الاسباب الاربعة التالية بوصفها أهم المنابع لخطر الذاتية:
1ـ تبرير الواقع، وهي المحاولة التي يندفع فيها الممارس – بقصد أو بدون قصد – إلى تطوير النصوص، وفهمها فهماً خاصاً يبرر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص منها.
2- دمج النصّ ضمن إطار خاص، وهي: دراسة النصّ في إطار فكري غير إسلامي، وهذا الاطار قد يكون منبثقاً عن الواقع المعاش وقد لا يكون.
3- تجريد الدليل الشرعي من ظرفه وشرطه ،وهو عملية تمديد للدليل دون مبرر موضوعي.
4- اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص، ونقصد به الاتجاه النفسي للباحث وأثره الكبير على عملية فهم النصّ (31) .

أركان النظام الاقتصادي الاسلامي
يتألف النظام الاقتصادي الإسلامي من ركنين:
1ـ القواعد الثابتة، التي يتم اكتشافها من صميم الأحكام والمفاهيم الاسلامية (وبالطريقة التي ذكرناها).
2- منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي، بمعنى كيفية تطبيق تلك القواعد الثابتة مع الأخذ بالظروف المتغيرة وشروط كل عصر. لان هذا التطبيق يحتاج إلى قانون، والقانون يتغير بحسب الظروف، لذا لم يقدم الدين حكماً محدداً في هذه الموارد (منطقة الفراغ) بل تركت مسألة وضع القوانين بيد ولي أمر مجتمع المسلمين (32) . وبعبارة أخرى، فان الصورة الكاملة للنظام الإسلامي تأتي من دمج وتلفيق العناصر الثابتة بالعناصر المتغيرة(33) . كما أن وجود هذه العناصر المتغيرة هو الذي منح النظام الإسلامي المرونة والفاعلية في جميع الاعصار، وهو الجواب الذي نقدمه على السؤال المعروف: كيف يلبي الإسلام الذي نزل قبل ألف وأربعمائة سنة متطلبات هذا العصر، وكيف يمكن للاسلام مواكبة التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها المجتمعات؟ وقد كان لرسول الإسلام(ص) ولكل واحد من الأئمة الأطهار(ع) ، دوران:
1ـ مبلغ لأحكام الإسلام.
2- حاكم على المجتمع الإسلامي.
وعلى أساس الدور الثاني، في الولاية على المجتمع، كانوا يطرحون مسائل فيما يتعلق بانتظام الأمور في ذلك العصر وتطبيق النظام الإسلامي. تلك الاحكام لا يمكن تطبيقها في عصرنا بشكل حرفي، لاختلاف الظروف بين العصرين، لكنها ترشدنا على الأقل إلى الاهداف التي كان الرسول(ص) يتوخاها في أعماله (الروح الاجتماعية والانسانية الموجودة في الشريعة) لكي يتمكن ولي الامر في هذا العصر والعصور القادمة وضع أحكام متغيرة بما يتناسب وروح الإسلام وأهدافه البعيدة المدى (34) .
الى هنا، وقد رأينا أن النظام الاقتصادي الإسلامي يتألف من مجموع العناصر الثابتة والمتغيرة، يمكن القول: إن الإسلام يقدم نظاماً واحداً لجميع العصور على أساس العناصر الثابتة، وأنه يقدم مواقف متعددة ومتغيرة بتغير العصور على أساس عناصره المتغيرة، رغم أن العناصر الثابتة لا يطالها التغيير أبداً، وبدهي فإن الثابت هو مايتعلق بالدين والمتغير هو ما يخص ولي الامر، وأنّ سرّ الانعطاف في النظام الإسلامي ومواكبته لمتطلبات كل عصر وظرف اجتماعي يمكن أن نجده في العناصر المتغيرة.

شروط ونجاح النظام الإسلامي:
الاقتصاد الإسلامي ليس مستقلاً عن سائر الشؤون والمفاهيم والاحكام الاسلامية التي يمكن تحقيقها في أي ظرف ومجال، بل هو جزء من كلّ، فهو ينبثق عن العقيدة ويرتبط بسائر أبعاد الإسلام، وفيما يلي نماذج لذلك.
1ـ ارتباط الاقتصاد الإسلامي بالنظام السياسي الإسلامي، بمعنى لزوم وجود ولاية أمر وبالشروط التي حددها الإسلام على رأس المجتمع، فلا يكون تطبيق النظام الإسلامي بقيادة أشخاص غير مؤهلين.
2- ارتباط الاقتصاد الإسلامي بعقيدة التوحيد التي تبعث روح الايمان بين المسلمين.
3- ارتباط الاقتصاد الإسلامي بسيادة العواطف والمشاعر الدينية في مجتمع المسلمين، مثل روح الأخوة والمساواة.
4- السياسة المالية والاقتصادية الصحيحة للدولة، إن تقديم سياسة اقتصادية في كل عصر ليس من شأن الدين، بل هو من مهام القائمين على المجتمع الإسلامي، وبما يتناسب وأهداف الإسلام ونظامه الاقتصادي، فلو قام المسؤولون عن تلك السياسة بمهامهم على أحسن وجه، ستكون النتيجة بلوغ الاقتصاد الإسلامي أهدافه.
5- لابد من تطبيق النظام الجزائي الإسلامي إلى جانب النظام الاقتصادي، لأن عدم تطبيقه يجعل النظام الاقتصادي لا يصل إلى أهدافه (35) .

تقييم لنظرية الشهيد الصدر في النظام الاقتصادي الإسلامي
قبل كلّ شيء، من الضروري توضيح ما طرح بعنوان نظام اقتصادي إسلامي، هل هو في الحقيقة نظام أم بيان للقيم والاهداف؟ تلك القيم التي لو لم يعرضها الدين، لحكم العقل البشري بلزومها. فالبعض يصرّ على أن ليس في الإسلام نظام، وأنه يطرح مجرد مجموعة من الاهداف والقيم ويدعو المجتمع والسلطة إلى تبنيها وتطبيقها. بينما يصرّ آخرون مثل الشهيد الصدر على وجود نظام في الإسلام، والظاهر أن الفئتين لم تتفقا في معنى النظام وأن النزاع بينهما لفظي في الغالب. على سبيل المثال، يرى بعضهم أن على النظام تحديد جميع المؤسسات والاجهزة السياسية والاقتصادية للمجتمع ونمط العلاقات بين أفراد المجتمع وتلك المؤسسات (36) .
وبما أن المجتمع الانساني في حال تطور وتكامل علمي وصناعي واجتماعي، فالعلاقات السياسية والاقتصادية أيضاً في حال تحول وتغيير، وليس للمؤسسات الثابتة وجود خارجي في هذين المجالين بشكل عملي، وعلى هذا الأساس يحكمون بفقدان الإسلام للنظام وأنه يحدد فقط القيم والاهداف (37) . ويصرّ الشهيد الصدر على أن الدين يطرح أسلوباً ونهجاً ونظاماً اقتصادياً، وأنه لم يبق في مستوى بيان علاقة الإنسان بالانسان أو علاقة الإنسان بالله.
والحكم في كون الإسلام طرح قيماً فقط أو أنه طرح ماهو أبعد من ذلك، أي مذهباً اقتصادياً أيضاً، يستوجب النظر بشكل مجمل إلى ماطرحه الشهيد الصدر حول الحياة الاقتصادية والقواعد التي طرحها بعنوان نظام. فالشهيد الصدر يرى أن الحياة الاقتصادية ساحة يرتبط الإنسان فيها بشكلين من العلاقات:
1ـ ارتباط الإنسان بالطبيعة (عمليات الانتاج والاستفادة من الطبيعة وثرواتها).
2- ارتباط الإنسان بالآخرين من جنسه، الذين يشاركونه الحق في استخدام الطبيعة والاستفادة منها (عمليات التوزيع على اختلاف أشكالها).
إن نمو وتطور كيفية الارتباط في النوع الاول هو من وظائف العلوم، وليس من مهمة الدين تناول تلك المقولات (على الاقل فيما يتعلق بالنوع وكيفية الارتباط). والطبيعة من منظار الدين إنما خلقت ليستفيد منها الإنسان، أما كيفية هذه الاستفادة، أهي بالوسائل والادوات القديمة أم بالماكنة أو عن طريق الكمبيوتر، فذلك ليس من اهتمامات الدين حتى يتحدث فيها.
بينما تقسم علاقات النوع الثاني (التوزيع) إلى قسمين:
1ـ العلاقات الثابتة.
2- العلاقات المتغيرة.
وخلافاً للماركسية التي تقول إن تحول شكل الانتاج يؤدي إلى تحول العلاقات الانسانية (شكل التوزيع)، وبالتالي ليست هناك علاقات ثابتة في بعدي التوزيع والروابط الانسانية، نرى نحن ثوابت في العلاقة من النوع الثاني. فكون العمل والحاجة – مثلاً – أساس الملكية، يعدّ أمراً ثابتاً. فكيف ماكانت أشكال الانتاج واستخدام الطبيعة، تبقى ملكية الاشياء عن طريقين، إما بالعمل أو بالحاجة (مثل ملكية الفقراء لمال الزكاة)، وعلى هذا تكون العناصر الثابتة في النظام الاقتصادي الإسلامي، متكفلة ببيان هذا النوع من العلاقات والروابط.
ومن جانب آخر، تتحول العلاقات في مجال التوزيع تبعاً لتغيّر الاسلوب الاقتصادي للمجتمع، فتظهر مؤسسات وعلاقات اقتصادية جديدة، تحتاج إلى قوانين جديدة أيضاً. وتكون من مسؤولية الولي الفقيه والدولة الاسلامية وضع تلك القوانين الجديدة على أساس الاصول العامة التي أقرّها الدين وهذه الاحكام المتغيرة تقوم بدور مكمل للأحكام الثابتة وتؤلفان مجتمعتين النظام الاقتصادي الإسلامي (38) . ومن القواعد الثابتة في النظام الإسلامي التي استنبطها الشهيد الصدر:
«كلّ مصادر الثروة الطبيعية تدخل في القطاع العام، ويكتسب الأفراد الحقوق الخاصة بالانتفاع بها على أساس وحيد هو العمل الذي يتمثل في الاحياء ويُراد به العمل المباشر» (39) .
«كل الثروات المنقولة في الطبيعة تمتلك على أساس العمل لحيازتها ويراد بذلك العمل المباشر ولا تمتلك بسبب آخر إلاّ عن طريق الانتقال من العامل بإرث أو معاوضة أو غير ذلك من نواقل الملك» (40) .
«يقوم توزيع الثروة المتجة في الانتاج الاوَّلي على أساسين، أحدهما العمل والآخر الحاجة وتسـتأصل كل أشكال الانتاج الرأسمالي» (41) .
«يمنع من ادخار النقد واكتنازه» (42) .
ماذكرناه أعلاه ، يبيّن بوضوح أن الإسلام يطرح أشياء أبعد من الاهداف والقيم، مثل الدعوة إلى العدل ومراعاة حرية الإنسان وحقوقه. على الرغم من أنه لا يدعي بأي نحو ذلك المعنى من النظام الذي يتكفل بيان شكل جميع المؤسسات الاقتصادية والعلاقات بينها. إذن ما يطرحه الشهيد الصدر هو حالة وسطية بين ذلك المعنى الواسع من النظام ومجرد بيان القيم. وليس مهماً أن هذه الحالة الوسطية نطلق عليها اسم نظام أولا. وهي على أية حال، مشروع وأرضية لتعين الخطوط العامة لاقتصاد المجتمع الإسلامي.
هنا نجيب عن السؤال التالي، وهو: هل طرح الدين الحد الأدنى مما استطاع طرحه، أم أنه لم يطرح في دائرة الثوابت أكثر مما كان بالامكان طرحه؟ والحقيقة هي أن الظواهر الاقتصادية والتي تأتي بعلاقات وسياسات ومؤسسات خاصة بها، تنمو وتتغير بالتدريج على مدى الزمن. ومن نتائج التطور التقني البشرية وزيادة إمكانية استخدام الطبيعة (النمو الاقتصادي)، والنمو والتطور الثقافي، ومن خلال تأثير متقابل بين النمو الاقتصادي والنمو الثقافي، تتعرض العلاقات الاجتماعية الانسانية إلى تحولات يمكن مشاهدتها في التغييرات التي تطرأ على البنية السياسية وكيفية الحياة. وبالنتيجة تظهر في المجتمع مؤسسات وعلاقات لم تكن موجودة في السابق. فوجود البنك – مثلاً – في المجتمعات الصناعية الحالية يعدّ ضرورة، لم تكن موجودة في المجتمعات الزراعية البسيطة السابقة. وفي الأنماط الاقتصادية المعقدة المعاصرة هناك ضرورة لوجود مراكز سيطرة وإشراف وتوجيه للبرامج الزراعية والصناعية الكبيرة، في حين أن هذه الضرورة غير قائمة في المجتمعات البسيطة. وعلى هذا الاساس، من المعقول أن يرسم الدين أو أيّ مذهب يدعي هداية الإنسان، نوعاً معيّناً من تنظيم الحياة الاقتصادية . لكنه لا يحدد مؤسسات يحصر في إطارها العلاقات الاقتصادية بشكل مشروع، لأن هذه الفكرة تعني منع وتحريم أي نوع من التغيير والتحول في المجتمع، وهذه النظرة تجعل الحضارة الموجودة تظهر وكأنها غير مشروعة بكاملها. إذن فالشهيد الصدر محق بقوله إن الدين لا يستطيع طرح جميع تلك العلاقات التي تتضمنها الحياة الاقتصادية، بل عليه – أي الدين – تعيين الخطوط الثابتة، ويذهب الشهيد الصدر الى أن الإسلام طرح الخطوط الثابتة في النظام الاقتصادي الإسلامي. فهو يقول إن الإسلام لولم يقدم الحدّ الاعلى من النظام فقد قدم الحدّ الأقل منه.

النظام المقترح لحل المشكلة الاجتماعية المعاصرة
في هذا الجزء من الدراسة، سنتناول رأي الشهيد الصدر في أن النظام الاقتصادي الإسلامي يستطيع حلّ المشكلة الاجتماعية التي يعاني منها الإنسان المعاصر وتقديم النظام الاصلح له. وفي البداية، لابد من البحث في ماقدمه بعنوان نظام إسلامي (بشقيه الثابت والمتغير) هل هو شيء جديد وإبداعي، أو إن سائر الانظمة الاجتماعية والاقتصادية تتبع نفس القضية من حيث الشكل. ولابد من الاعتراف هنا أن ماطرحه يخلو من إبداع من حيث الشكل، لان سائر الانظمة، مثل الماركسية أو الرأسمالية أيضاً تشترك في هذه المسألة من وجود ثوابت في منظوماتها الفكرية وأخرى متغيرة لكي تحلّ بها ما يواجه مجتمعاتها من إشكاليات، والنتيجة هي أن جميع النظم الاقتصادية النشطة تتألف من ركنين، أحدهما ثابت والآخر متغير. وعلى هذا يكون اختلاف النظام الاقتصادي الإسلامي مع سائر الانظمة في محتواه ومضمونه وليس شكله، وتتجلى هذه الاختلافات المضمونية في ثلاثة أمور:
أـ مضمون قواعده الثابتة.
ب – المرجع الذي يحدد القواعد المتغيرة، (ولي الامر بشرطي العدالة والفقاهة) وبامتلاك تخصص في المسائل الاقتصادية أو الاستعانة بأصحاب الاختصاص.
ج - الأهداف والارشادات العامة التي يستعين بها ولي أمر المسلمين في وضع أحكام متغيرة (43) .
القضية الأخرى، هي أن المشكلة الاجتماعية المعاصرة لا ينحصر حلها بتقديم نظام في جانبه المضموني والنظري فقط، بل بتفعيل أصوله الثابتة وأهدافه باعتباره النظام الأصلح. ولنر الآن، الحلّ الذي يطرحه المشروع الذي اقترحه. في الحقيقة ليس هناك حلّ عملي لتطبيق تلك القواعد الثابتة في الحلول التي يقترحها ، وعلى سبيل المثال، فالقاعدة التي يذكرها بالمنع من ادخار وكنز الأموال، لا نجد حلاّ عملياً واحداً لتحقيق ذلك بل ترك جميع هذه الوظائف على عاتق الحاكم الإسلامي والدولة الاسلامية. ويوضح ذلك الوظائف التي عدّها الشهيد الصدر لولي المسلمين (الدولة الاسلامية) كما أنه يبين أن صلاح النظام يرتبط بنجاح الحاكم والمسلمين في القيام بوظائفهم، ولا تقع مسؤولية الاخفاق في النظام على المذهب بأي نحو.
أما الوظائف التي ذكرها لولي المسلمين، فمنها:
1ـ تطبيق العناصر الثابتة في النظام الإسلامي (اتخاذ سياسة اقتصادية مناسبة لتحقيقها).
2- ملأ منطقة الفراغ (الأحكام المتغيرة).
3- الضمان الاجتماعي، بمستوى تأمين الحدّ الادنى من الرفاه للجميع.
5- رفع مستوى الانتاج إلى أقصى مايمكن (44) .
لذلك يجب أن لا نتوقع حدوث معجزة في النظام الاقتصادي الذي يطرحه، لانه يقف عند الاطار العام من النظام الاقتصادي وتعاليمه العامة (وطبعاً ليس من المعقول أو المنطقي توقع أكثر من ذلك من الدين) ويلقي بجميع المسؤولية على عاتق القائمين على النظام، لكي يتمكنوا من وضع برنامج يحقق أهداف النظام على أساس معرفتهم وتخصصهم ووعيهم لتعقيدات عصرهم. فليست مسؤولية الدين أن يحدد مؤسسة باسم «بنك» قبل خمسة عشر قرناً، ويبيّن جميع خصوصياتها وعلاقتها بسائر المؤسسات، بل «البنك» نظام مستحدث من ثمرات العلاقات الاقتصادية الجديدة. ولو كانت بعض خصوصياته تتعارض مع النصّ الديني فعلى ولي الأمر أن يقدم بعض الحلول لمشاكل لم تكن مطروحة في زمن التشريع. إن مسؤولية الدين تتلخص في تبيان الثوابت والتفكير بحلول للقضايا المتغيرة والمستحدثة.
النظام الاقتصادي والاخلاق
لابد لكل نظام اقتصادي أم اجتماعي أن تكون له علاقة بالاخلاق، لانها الأساس بالنسبة له، ولا يطبق النظام بشكل جيد إلاّ إذا التزم أخلاقياً بمراعاة وأجراء أصوله وقواعده. إذن الضمان في تطبيق النظام يرتبط كثيراً باهتمام الناس وقبولهم له. وفي النظام الاقتصادي الإسلامي نجد العلاقة متينة بين النظام والاخلاق. فكيف يمكن تطبيق قواعد مثل الحيلولة دون كنز المال وتقليص الوسائط بين المنتج والمستهلك، ومعالجة الفقر، وعدم الاسراف في المجتمع، بدون تربية أخلاقية صحيحة. كما أن ربط نجاح النظام الاصلح بالاخلاق وتهذيب النفوس يجعل من نجاح النظام الإسلامي نجاحاً نسبياً. بينما الشهيد الصدر يرى – متفائلاً – أن سائر الأنظمة تفتقد لمثل هذا الضمان. في حين أن النظام الاقتصادي الإسلامي ضَمَنَ نجاح النظام الأصلح؛ لأنه اهتم بتربية أفراد المجتمع ورفع مستوى تقواهم وإرادتهم (45) .

الدائرة التي تتحقق فيها الأحكام المتغيرة:
في المشروع الذي يقدمه الشهيد الصدر، لا يحصل أي تضاد بين الأحكام المتغيرة والقواعد الثابتة، لان الأحكام المتغيرة تكون ضمن منطقة الفراغ، أي القضايا التي ليس فيها حكمّ ثابت، فيقوم الولي الفقيه بملإ ذلك الفراغ طبقاً للأهداف العامة للنظام، لكن التجربة العملية للثورة الاسلامية أوضحت أن القضية ليست بتلك السهولة، لانه وفي العديد من الموارد يحصل تعارض بين مصلحة المجتمع والنظام من جهة، والاحكام الاولية والثابتة من جهة أخرى، فيتقدم الحكم المتغير والحكومي على بعض الأحكام الثابتة، لذا وجب أن تكون صلاحيات ولي الأمر القانونية أوسع من منطقة الفراغ، وهذا الأمر لم يلحظه الشهيد الصدر في مشروعه.
مشروعية هذا النظام:
النظام الاقتصادي الذي يسود المجتمع. هو حصيلة لتجارب بشرية على مدى قرون من الزمن، وفيه من التعقيدات والدقة بحيث أن أي تغيير غير مدروس في ركن من أركانه، ينتهي إلى تناقضات اقتصادية كبيرة تهدد كل النظام الاقتصادي. والدولة الاسلامية لا تستطيع نفي النظام الموجود وطرح مشروع نظام جديد إلاّ إذا توافرت لها الحجية الشرعية في ذلك، أي أن يكون الدين قد طرح نظاماً أمام الدولة، لا ينسجم بالكامل مع النظام القائم، ويطالبها بتطبيقه. وفي هذه الحالة وحدها يمكن لحكام المجتمع استبعاد النظام القائم والسعي لاقامة نظام جديد، لان الاضرار التي يمكن أن تصيب المجتمع جرّاء ذلك الاستبعاد، سيكون لها مبرر شرعي، باعتبار أن النظام الجديد مشروع بينما السابق يفتقد الصفة الشرعية تلك.
القضية الأساسية هي هل الأسلوب الذي يقترحه الشهيد الصدر في اكتشاف النظام الاقتصادي، يوفر الحجية الشرعية أم لا؟ والأسلوب الذي اقترحه الشهيد الصدر، هو أن الفقيه الذي يسعى لاكتشاف النظام لا يجوز له فقط الرجوع إلى فتاوى سائر الفقهاء، بل يكون هذا الامر ضرورياً أحياناً، لانه من الصعب أحياناً استخراج قاعدة من فتاوى واحد من الفقهاء، وبعبارة أخرى، يجب أن يكون اكتشاف النظام في إطار اجتهاد الفقهاء، وليس بالضرورة في إطار اجتهاد مجتهد معيّن. وهذا يعني أن الفقيه الذي يسعى إلى اكتشاف النظام، يتغاضى في بعض الموارد عن فتاواه في مسألة تتعارض مع الاطار العام ويبحث لها عن فتاوى عند فقهاء آخرين.
وهنا نواجه إشكالين أساسيين:
1ـ القاعدة المكتشفة تفتقد الحجية الشرعية عند المجتهد نفسه، أي إنه لا يستطيع نسبتها الى الشريعة بالاسلوب الحالي في الاستنباط.
2- تدخل عنصر الاختيار المسبق في هذا الاسلوب محسوس للغاية. فعندما يريد الفقيه استنباط القاعدة (س) من مجموعة تتألف من عشر فتاوى في مختلف أبواب الفقه، ماهو الملاك في اختيار تلك الفتاوى العشرة أو في حذف الفتاوى التي لاتنسجم مع القاعدة من داخل المجموعة؟ ألا يعني ذلك أن الفقيه قام بتحديد موقفه فيما يتعلق بهذه القاعدة من قبل، واتجه الى مجموعة تنسجم وتلك القاعدة من فتاواه (إذا تيسر ذلك)،
أو الاستعانة بفتاوى تتناسب مع القاعدة من غيره، ليكمل بها عناصر المجموعة. ولو أمكن وجود عدة قواعد في مورد معين فكيف نفسر اختياره لواحدة من تلك القواعد؟
وقد سعى الشهيد الصدر إلى الاجابة عن هذه الإشكالات:
أما جوابه على الإشكال الأول، فيقوم على أصلين:
1ـ الإسلام من الناحية الكلامية، دين كامل يطرح نظاماً معيناً، ومثل هذا الدين الكامل لابد أن يطرح نظاماً منسجماً من حيث العناصر والأجزاء على الأقل، ويمكن استنباط قواعد تبين ذلك النظام من مجموع قوانينه المدنية، ولا يتيسر ذلك إلاّ أن تكون مجموعة الأحكام الجزئية ناظرة إلى تلك القواعد وتكون متحدة في السياق والاتجاه. هنا لو وجدنا في هذه المجموعة حكماً مخالفاً، حتى لو كان من الفقيه الذي يسعى لاستنباط «النظام»، وجب التغافل عنه على أساس هذا الأصل الكلامي، والنظر إلى السياق الغالب في فتاوى فقهاء الإسلام (46) .
2- حجية الأصول المستنبطة عن طريق الاستدلال العقلي. وقد استند الشهيد الصدر في بيان مفهوم العقل كأحد مصادر الاستنباط الأربعة على الاستقراء المبني على حساب الاحتمالات، لذلك يرى أن أحد استخداماته المؤثرة في بلوغ الأحكام الإلهية، هو أن نبحث بدقة في مجموعة كبيرة من الأحكام الشرعية، ونستنتج منها أنها جميعاً باتجاه هدف معين، وبهذا الشكل نكتشف قاعدة عامة في الشريعة الاسلامية. وذلك فيما لو حصل لدينا القطع (المقصود القطع الذاتي يحصل للعالم نفسه) بأن ذلك الاصل هو المقصود من مجموع تلك الأحكام وعلى أساس حساب الاحتمالات (47) ، ويتضح من خلال ذلك، أن وجود فتاوى متعارضة – حتى لو كانت عند المجتهد الذي اكتشف القاعدة – لا تمنع من حجية الاستقراء الموجب للقطع، لان القطع حجة بذاته. ومن خلال الاستعانة بقواعد وحسابات الاحتمالات، يضعف الاحتمال المخالف الذي يصدر من فتوى مخالفة بحيث لا يهتم به الذهن البشري ولا يقوى أساساً على حفظه (48) .
جواب الإشكال الثاني:
صحيح أنه لابد للفقيه من تجنب الأحكام المسبقة وتجنب دوافعه الذاتية، لكنه يبقى هذا الاحتمال موجوداً كما هو الحال في سائر أساليب وطرق الاستنباط، في حين أن الشهيد الصدر يؤكد على مراعاة أصول الاستنباط المنهجي والدقيق، وكما أشرنا سابقاً يرى أن هذا الاسلوب يمتلك المتانة والدقة اللازمة، ومن خلال ذلك يتضح أن استخدام الاسلوب الاستقرائي في الحصول على الاصول أو القواعد الكلّية، يمنع من إدخال عنصر الاختيار الذي عنون في الإشكال الثاني، لأن الفتاوى التي تنتج عناصر غير منسجمة مع القاعدة، تكوّن الاحتمال الذي يخالف الفرض، وعلى المستنبط إضعاف تلك الاحتمالات المخالفة بواسطة حساب الاحتمالات، ولو لم يستطع تضعيفها، لا يمكنه إثبات الاصل والقاعدة التي فرضها (49) . وعلى الرغم من ذلك كله، فالنقطة الاساسية التي نحصل عليها في مجال ماهو المطلوب من الدين، وإقامة النظام الديني من خلال المباحث المتقدمة؟ هو أن الشهيد الصدر الذي يدافع بقوة عن النظام الاقتصادي الإسلامي، اكتفى بطرح بعض الأصول العامة، وترك الباقي ضمن منطقة الفراغ وعلى عاتق خبراء الاقتصاد، بعبارة أخرى يرى الشهيد الصدر أن أوجه الحياة المتغيرة، ليس لها حكم ثابت؛ ولذلك فهي واقعة ضمن منطقة الفراغ. وفي هذه المنطقة يقوم الحاكم والدولة الاسلامية بإنشاء القوانين من خلال مراعاة الأصول العامة للشريعة. كما أنه يرى أن حلّ المشاكل الاقتصادية يحتاج إلى سياسة وبرامج دقيقة تتناسب وظروف كلّ عصر، وفي هذا المجال لابد من الاستعانة بأهل الاختصاص في كلّ علم (50) .
ب- التفسير الموضوعي للقرآن (السنن التاريخية في القرآن)
ولعل طرح تفسير موضوعي للقرآن بالاستفادة من العلوم والمعارف البشرية والتساؤلات المختلفة في هذا المجال، توسع من دائرة المطلوب من الدين (الوحي). وفيما يتعلق بالتفسير الموضوعي واختلافه عن التفسير التجزيئي يقول: يمكن أن نتعامل مع النصوص الدينية وخاصة القرآن؛ على نحوين: الأول هو التفسير التجزيئي، الذي يكون فيه المفسر وعالم الدين منصتاً وحتى راكعاً مقابل الوحي يستمع لما يقال له ويتعلمه. والثاني، خلاف الأول، يقوم المفسر بحوار مع النصّ الديني، يسأله ويستمع إلى جوابه، والمفسر في هذا الاسلوب يضع جميع التراث البشري في عصره أمام القرآن ويطلب من مجموع الآيات أجوبة تساؤلاته (51) .
وقد استخدم الشهيد الصدر هذا الاسلوب الثاني فيما يتعلق بالسنن التاريخية، لكنه واجه هذا السؤال في عمله، وهو أن القرآن كتاب هداية، لا كتاب علمي، وليس من الضروري أن تكون مثل هذه المباحث العلمية والفلسفية موجودة في القرآن. وفي جواب ذلك يقبل بالفرض التالي وهو أن القرآن كتاب هداية وليس كتاباً علمياً، لذلك فهو
لا يبحث في المسائل العلمية المحضة التي لا ترتبط بهداية الإنسان، لكنه تناول مسألة السنن التاريخية لارتباطها المباشر بالهداية، وهذا يعني أن القرآن يشتمل على كل ما يتعلق بهداية الإنسان، وأنه يمكننا استخلاص المباحث المتعلقة بها من القرآن (52) .
ويقى هذا السؤال مطروحاً، وهو مدى حاجة الإنسان إلى هداية الوحي بشكل مباشر في مجال الهداية. هل كل ما يتعلق بالهداية من وجهة نظر الدين، يجب أن نأخذه من القرآن والوحي؟ وفي جواب ذلك يقول الشهيد الصدر: نتوقع من القرآن، باعتباره كتاب هداية، أن يطرح خطوطاً عامة حول حاكمية السنن على الاعمال الاجتماعية الانسانية، فان عملية التغيير التي مارسها القرآن ومارسها النبي(ص) لها جانبان، من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي، هي من جانب ربانية، وفوق التاريخ، ولكن من حيث كونها عملاً قائماً على الساحة التاريخية، من حيث كونها جهداً بشرياً يقاوم جهوداً بشرية أخرى، من هذه الناحية يعتبر هذا عملاً تاريخياً، تحكمه سنن التاريخ وتتحكم فيه الضوابط التي وضعها الله سبحانه وتعالى لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسماة بالساحة التاريخية.. من هنا يظهر بأن البحث في سنن التاريخ يرتبط ارتباطاً عضوياً شديداً بكتاب الله، بوصفه كتاب هدى، يخرج الناس من الظلمات إلى النور، لأن الجانب العملي من هذه العملية، الجانب البشري والتطبيقي من جانب هذه العملية جانب يخضع لسنن التاريخ، فلابد إذن من أن نستلهم، ولابد إذن من أن يكون للقرآن الكريم تصورات وعطاءآت في هذا المجال لتكوين إطار عام للنظرة القرآنية والاسلامية عن سنن التاريخ (53) .
ج – هل يمكن أسلمة جميع العلوم؟
الشهيد الصدر يرى أن القرآن كتاب هداية وليس كتاباً علمياً، لذلك يجب أن
لا نتوقع الحديث بشكل عام فيه عن الفيزياء والكيمياء وأمثالهما. وأما في مجال العلوم التي تتناول سلوك الإنسان وتصرفاته فيمكن أن نعطيها صفة دينية، وهي ما تبحث فيه علاقة الإنسان مع نوعه أو تبحث في هداية الإنسان حتى لو كان ذلك على المستوى الفردي فقط. بينما الاعمال التي ترتبط بعلاقة الإنسان مع الطبيعة، خارجة عن مجال البحث القرآني. فعلم الاقتصاد الذي يتناول الحقائق التي تحكم الظواهر الاقتصادية مثل الانتاج والفائدة وقانون العرض والطب و.. خارج عن ذلك، باعتبار أن القرآن كتاب هداية وليس كتاباً علمياً (54) .
وطبقا لما سبق، فكل ما يتعلق بهداية الإنسان، يمكن استخراجه من النصوص الدينية والقرآن، وذلك على شكل قواعد عامة. لكن يبقى شيء من الإبهام حول العلوم التي تتناول حقائق فيما يتعلق بعلاقات الافراد في المجتمع، فهل يمكن استخراجها من النصوص الدينية، بينما لا ينسجم ذلك مع اسثتناء علم الاقتصاد من مجموعة العلوم الدينية، لان علم الاقتصاد أيضاً ينظر إلى حقائق مصدرها علاقات الافراد مع بعضهم، إلاّ أن نقول: إنه أراد بذلك العلاقات التي تتعلق بالهداية التي يهدف إليها الدين، وتشتمل احياناً على علوم مثل: فلسفة التاريخ، والحقوق، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، أما كيف يمكن لهذه العلوم أن تكون إسلامية؟ فهو مالم نجد توضيحاً كافياً عنده، سوى أنه أشار إلى معيارين عامين:
1ـ طرح القرآن لعمومات في هذه المجالات.
2- اكتفى بأن يكون محورها الهداية الانسانية.
د- الثابت والمتغير
تتعرض بعض العلاقات الانسانية إلى تغييرات وتحولات على مدى الزمان، لذلك من المستحيل أن نضع لها أحكاماً ثابتة. والشهيد الصدر يرى أن هذا الجانب المتغير
لا يمكن أن نضعه ضمن القسم الثابت من الاحكام الاسلامية، لذلك وجب أن نفكر بحلّ آخر، والحلّ الذي وضعه الدين لذلك هو منطقة الفراغ. ومنطقة الفراغ مجال يوجد فيه من جانب الشريعة منع أو إلزام – بعبارة أخرى ليس هناك حكم معين سوى «إباحة اقتضائية» . وفي هذا المجال أعطت الشريعة ولي الأمر صلاحيات لوضع قوانين. وعلى هذا الأساس ، تكون المؤسسات المتغيرة والمتطورة وتبعات كل منها خارجة عن دائرة سلطة الثوابت الدينية، بل تقع مسؤوليتها على عاتق العقل الحاكم (55) .
وقد خرجت اليوم مسؤولية التنظيم والإرادة من دائرة النظرات الفردية للحاكم التي تولد على أساس فراسته وجدارته الشخصية أو تجاربه وتجارب الماضين البسيطة وغير المنتظمة، إلى دائرة الادارة المبنية على المؤسسات.
وعلى هذا، فالنقطة التي أكّدها الشهيد الصدر باسم منطقة الفراغ، تعطي مجالاً واسعاً للادارة العلمية، وقد نظر هو أيضاً إلى المرجعية الشيعية وكيفية تغيير شلكها من نفس هذه الزاوية. فقد طرح مشروع مرجعية مؤسساتية بدلاً من مرجعيات تقوم على الافراد، وكان يريد بكل إخلاص وأن تستفيد المرجعية الشيعية من العقل الجديد أي العقل العلمي في إصلاح أساليب قيادة المجتمع الشيعي والحوزات العلمية (56) .
هـ - علاقة العقل بالدين (الوحي)
من أجل معرفة دور الدين في الحياة، لابد من تشخيص علاقة العقل بالوحي في فكر الشهيد الصدر من خلال النقاط التالية:
1ـ هل فهمنا للدين (الكتاب والسنة) فهم عقلي، وإننا نستخدم في ذلك الوسائل العقلية مثل المنطق والقواعد الأصولية و.. الخ؟ وهل فهمنا للدين يزداد من خلال تطور المعرفة العقلية، أم إن الدين لا يحتاج إلى أمور خارج دائرته في فهمه؟
2- هل العقل من مصادر استنباط الحكم الشرعي أو لا؟
3- هل هناك موارد نطلب فيها الحلّ لمشاكلنا من العقل والعلوم العقلية (بالمعنى العام) أو لا؟
4- ماهو حلّ تعارض العلم مع الدين (الوحي)؟
ومن خلال عرض رأي الشهيد الصدر في المسائل التي ذكرناها، تتحدد دائرة العقل في فكره، ويتضح بطبيعة الحال المطلوب من الدين (أي مانراه مطلوباً من الكتاب والسنة) أيضاً.
المسألة الأولى: ينتظم فهمنا للدين بمساعدة الوسائل غير الدينية. فالاجتهاد عند الاصوليين الشيعة المتأخرين (منذ زمن العلامة الحلي وفيما بعد)، هو جهد بشري يستخدم لفهم موارد الشارع وتشخيص الروايات الصحيحة من غير الصحيحة، وحلّ التعارض بين الروايات، واكتشاف قواعد عامة من المصادر، استناداً إلى أسس عقلية تُبحَث في علم الأصول. والصدر أصولي متبحر، يرى أن الاستنباط الفقهي يعتمد على استخدام قواعد عقلانية، وهو ما نراه بوضوح في سيرته وأسلوبه العلمي. ويعدّ من معارضي الاخباريين الذين ينكرون دور علم الأصول في فهم النصّ الديني. وموقف الشهيد الصدر من التفسير الموضوعي للقرآن، يؤكد رأيه في دور المعرفة العقلية في فهم المعارف الدينية (57) .
المسألة الثانية: العقل من مصادر استنباط الحكم الشرعي. لقد قسّم الشهيد الصدر الاجتهاد إلى اجتهاد مقابل النصّ (ترجيحي) وآخر اجتهاد على أساس النصّ (تخريجي) وملاكه في هذا التقسيم هو ميزان تعبد المجتهد بالنصّ وعدمه…
مع أن استدلال القائلين بالاجتهاد الترجيحي يستند إلى بعض الآيات والروايات وموارد من السيرة والسنة، فإنهم يستندون أيضاً الى محدودية النصوص والاطلاق في الحوادث. وتعتمد هذه الصورة على الفرض التالي وهو إن المصادر الدينية لا تشتمل على أحكام جميع الأمور، فكيف باشتمالها على كلّ شيء، لذلك فالمجتهد لا يقوم بالكشف عن الحكم الشرعي في موارد القياس وأمثاله، بل بتشريع (تصويب)الحكم (58).
وفي مقابل هذا الاجتهاد يطرح الشهيد الصدر نوعاً آخراً من الاجتهاد يكن تسميته بالاجتهاد التخريجي، أي الاجتهاد الذي يستند إلى التعبد المطلق بالنصوص، فهو يؤمن بأن النصّ النبوي يمتلك حجية مطلقة، وأن النصوص الموجودة تعبر جميعها وبنحو عام عن أحكام يحتاجها الإنسان، وأنه يجب استخراج واستنباط أحكام الشرع من المصادر الشرعية. وهذا الاجتهاد هو اجتهاد الشيعة (59) .
أما القياس والاستحسان والاستصلاح فليس لها حجية، لأن جميع الأحكام يمكن استنباطها من النصوص الموجودة، ولأن التمسك بالقياس وأمثاله يعني فتح المجال أمام الترجيحات الظنية وإدخال الرأي الشخصي فيما يتعلق بأحكام الدين، وأن الترجيحات الظنية وقياس المصالح بشكله الشخصي يدعم التدخل والتصرف وبل التلاعب بالأحكام الإلهية.
وعلى الرغم من أن الشهيد الصدر مثل أكثر الأصوليين الشيعة لا يقبل بالاجتهاد الترجيحي، ويعتبره تطرفاً في العقلانية، فإنه يستند الى العقل باعتباره واحداً من مصادر استنباط الأحكام.
ولا يقصد بالعقل مجرد البرهان الفلسفي المحض، بل البرهان في ضوء نظريته في تفسير المعرفة، وأسلوبه في ذلك يشمل الأبحاث العلمية التي يمكن إثباتها بالاسلوب التجريبي – الاستقرائي أيضاً. وأن أحد مبانيه الأصولية التي تتمايز عن الأصول المتعارفة، هو بيان هذا الأصل المعرفي والمنهجي. ففي علم الأصول، دعم هذه المقولة وهي أن أكثر المعارف البشرية (المعارف العقلية) تأتي من الاستقراء المبني على حساب الاحتمالات، وأن تصور المنطقيين القدماء عن المعرفة وكيفية نشوءها غير صحيح. وأن الجزم من الاستقراء يمتلك الحجية.
والشهيد الصدر يتمسك بهذا الأصل وقد حاول في المعالم الجديدة بيان طرق استكشاف الحكم الشرعي بالاسلوب الاستقرائي (60) ...
ومما يذكر أنه يرى أن العلوم الاجتماعية التي تبحث في مشكلات المجتمع والفرد تفتقد للدقة التجريبية. ولربما يكون السبب في عدم إشارته لمنجزات العلوم الاجتماعية والانسانية كحل محتمل لاثبات الحكم الشرعي، هو أن هذا النوع من العلوم يفتقـــد « الموضوعية» اللازمة برأيه، وأن الاستنباطات المبنية عليها من سنخ الاجتهاد الترجيحي.
المسألة الثالثة: هناك موارد يمكن للعقل أن ينشط فيها، وأن الشرع أساساً – ولو بنحو إمضائي – ترك حلّ المشاكل المتعلقة بها إلى العقل. ويرى الشهيد الصدر أن الإسلام مذهب نظري، تركت مسؤولية تطبيقه والعمل به الينا. لكن عملنا على أساسه وتطبيق الآراء الدينية بشكل موضوعي في المجتمع، يحتاج دائماً إلى إصلاح واختيار أساليب عملية جديدة بسبب تطور المجتمع. كما أن اتخاذ أساليب جديدة ومناسبة يتطلب حلولاً عقلانية، لا العقل الفقهي والأصولي الذي نحلّ به مشكلة «الترتب» وأمثالها، بل يتطلب الاستفادة في هذا المجال من العقل العلمي والعقل الاجتماعي.
وفي مجال التقنين (التشريع) يقول أيضاً بوجود منطقة تسمى «منطقة الفراغ»، تشرع فيها قوانين تتناسب مع أهداف الدين وأحكامه الثابتة، طبقاً لمصالح العصر. وبملاحظة هذه الأمور يتضح حجم تدخل العقل وسعة دائرته في حياة الإنسان.
ولربما من المهم جداً الاشارة إلى هذه النقطة، وهي تعامل الشهيد الصدر مع العلمانية التي تفصل تماماً بين الدين من جهة والنظام الاجتماعي وتدبير أمور الحياة من جهة أخرى. فهو يرى ان الإنسان مضطر من جهات عديدة لأن يجعل الدين معياراً ومحكاً لجميع الحلول التي يقدمها، ولا يمكن للانسان الاغفال عن الدين أو أن لا يطلب رأيه في في شؤون الحياة الاجتماعية منها والفردية، أو ان لا يمتحن كفاءته من خلال الدين،
أو ان لا يجعل نفسه ومجتمعه في مسار أهداف الدين السامية.
المسألة الرابعة: تعارض العلم والدين (الوحي). حول هذا الموضوع لم يحدثنا الشهيد الصدر كثيراً ، لذلك سنطرح وبشكل مجمل تعارض الدليل العقلي واللفظي، وبالنحو التالي:
1ـ لو قطعنا بالدليل العقلي، سواءً كان برهانياً أم استقرائياً وكان الدليل اللفظي ظنياً، ففي هذه الحالة نقدم الدليل العقلي، لأن الدليل اللفظي دليل ظني.
2- وفيما لو كان الدليل اللفظي (النص الشرعي) يدلّ بوضوح على مدلوله (قطعي الدلالة) بينما الدليل العقلي لا يفيد القطع واليقين، في هذه الحالة يتقدم الدليل اللفظي (النص الشرعي).
3- لو كان الدليلان اللفظي (النص) والعقلي ظنيين، ففي هذه الحالة يجب تطبيق قواعد حلّ التعارض في دليل حجية الاثنين ، ويقول في كتاب المعالم الجديدة بتقدم الدليل اللفظي الذي ثبتت حجيته على الدليل غير اللفظي الذي لا يفيد القطع، لأن الدليل غير اللفظي لا تثبت حجيته حتى يفيد القطع.
4- معارضة النص القطعي للدليل العقلي القطعي (برهاني أو استقرائي). هذه الحالة لا يمكن فرضها، ومحال أن تظهر، وقد ثبتت هذه الحقيقة عن طريق استقراء النصوص الشرعية. وهذا الكلام لا يقال جزافاً، فلو حصل مثل ذلك، فهو بمعنى تكذيب وتخطئة المعصوم، بل وصلنا إليه باستقراء الأدلة والنصوص الشرعية، وهو أن مثل هذه الحالة لم تحدث، وهو ما يمتاز به الإسلام، بينما الأديان الأخرى، مثل المسيحية فإنها واجهت مشكلة تعارض العلم مع الدين (61) .
والنقطة المهمة في فكر الشهيد الصدر بشأن تعارض العلم مع الدين، هي أنه يقبل بالمعرفة العلمية التي تأتي حسب رأيه عن طريق الاستقراء المبني على حساب الاحتمالات، ويعتقد أنه يمكن بمساعدة هذا الأسلوب إثبات وجود الله، وإعجاز القرآن، بل حتى إثبات أصل العلّية. وطبقاً لهذا الموقف المعرفي يمكن للمعطيات العلمية مثل تمدد الحديد بالحرارة بلوغ حدّ اليقين. ويقصد باليقين، الحالة النفسية أو على حدّ تعبيره اليقين الذاتي الذي ينتج عن تراكم الاحتمالات المؤيدة، والذي يضعف خلاله الاحتمال المخالف بالحدّ الذي لا يستطيع العقل البشري حفظه. وعلى هذا الأساس، يرى الشهيد الصدر أن المعرفة العلمية باستطاعتها أساساً أن تكوّن اللدليل القطعي للعقل ولذلك يتقدم على الدليل النقلي الذي يفيد الظن في الغالب في حالة التعارض. وبقبول هذا الأصل في حلّ التعارض بين العلم والدين تجد الابحاث العلمية مجالاً أوسع لها.
أما العلوم الاجتماعية فلربما لا تكون بالمستوى الذي يقدمها على الظواهر الدينية، لأنه ذكر صراحة أن هذا النوع من العلوم يفتقد للدقة اللازمة. وهذا الرأي يفتح المجال أمام بحث منهجي ومعرفي كما يطرح السؤال التالي: هل استطاعت العلوم الاجتماعية أن تصل إلى مستوى من الوثوق الذي وصلته العلوم الطبيعية أم لا؟ فلو كانت العلوم الاجتماعية تعتمد على الوسائل التجريبية الدقيقة وتستخدم الأسلوب الاستقرائي على أساس حساب الاحتمالات، كان على الشهيد الصدر – وفي ضوء مبانيه – أن لا يشك في تقدم الابحاث العلمية على ظواهر الآيات والروايات.
والنتيجة التي نصل إليها هي أن الفهم الديني، عملية بشرية تحتاج إلى قواعد عقلية وعرفية، وأن فهمنا للدين لا يقع ضمن دائرة الدين نفسه، وأنه يمكن تنظيم فهمنا للدين في ضوء القواعد التي استخلصناها من الدين ذاته. ولربما يقال إن الفقهاء ومنهم الشهيد الصدر في علم أصول الفقه يستندون عملياً الى بعض الروايات والآيات (أي الوسائل الدينية) لاثبات القواعد الأصولية. ومع قبولنا لهذا الكلام بالكامل، نجد أننا مضطرون في فهم الدين إلى تقديم بعض القواعد العرفية أو العقلية على أي فهم آخر للشريعة، ومن الناحية العملية أيضاً، قد يشكك فقيه في دلالة الروايات والآيات على حجية الخبر الواحد أو ظواهر الخطابات الشرعية، ولا يقبل بها، وفي المقابل يستند الى سيرة العقلاء وأمثالها ويثبت حجية ظواهر كلام الشارع. ودراسة علم أصول الفقه مثمرة جداً في هذا المجال، فمثلاً في مباحث اجتماع الأمر والنهي، خصوصاً بحث الترتب، الذي يعد بحثاً عقلياً صرفاً، يرى الشهيد الصدر أنه حصيلة تأثير الموجات الفلسفية.
وفي كتاب «المعالم الجديدة»، يقدم الشهيد الصدر بحثاً تاريخياً حول تطور علم الأصول وأسباب نشوئه والمصادر التي يتغذى منها والمنجزات التي أتى بها. وفي هذا البحث يعرّف الأصول بأنه علم يستهلم من المشكلات الفقهية والمباحث الكلامية والتيارات الفلسفية والظروف المحيطية والزمانية. ويستفاد من علم الكلام كثيراً في علم الأصول، حيث يشير الشهيد الصدر إلى استخدام الحسن والقبح العقلي من جملة ذلك، فيقول: يستفاد من هذه القاعدة، حجية اجتماع علماء الامة، لأنه في غير هذه الحالة، فإن سكوت الإمام المعصوم(ع) قبيح. ويرى أن اجتماع الأمر والنهي متأثر بمباحث أصالة الوجود وأصالة الماهية، ولتأثير الظروف المحيطية والعوامل الزمنية يشير إلى هذه الواقعة التاريخية، وهي أن الفقهاء القريبين من عصر الائمة كانت لديهم روايات كثيرة لأي حكم لقرب عهدهم بالائمة(ع)، وكانوا يتصورون بقاء هذه الحالة في جميع العصور، ولذلك كانوا يقولون إن على الله ومن باب اللطف أن ينزل آية أو تكون هناك رواية لكل حكم شرعي مادام هناك أناس مكلفون (62) .
ويستفاد من مجموع ذلك أن لبحث أصول الفقه واختيار قواعد الفهم الديني في ميدان الفقه، أرضيات كلامية وفلسفية وبتأثير من الظروف المحيطية والزمنية، هذه الحالة تضطرنا إلى قبول أن فهمنا للدين خاصة في مجال الفقه، لم يأتِ من الدين (الوحي) ذاته تماماً، وأن فهمنا يتبع إلى حدّ ما الفكر خارج دائرة الدين، أو على حدّ قول بعض الأصوليين : فرضت (ألقيت) الروايات والآيات على فهمنا وارتكازاتنا العقلائية.
والنتيجة المستخلصة في المسألة الثانية هي التعريف بالعقل كمصدر لكشف حكم الشرع، وبالسعة التي طرحها في مفهوم العقل، وسعة دائرة الارتكاز على العقل.
أما نتائج البحث في المسألتين الثالثة والرابعة، فتوضحان سعة دائرة العقل، وتدعو رأي الأكثرية إلىمنازلة حقيقية. والمنازلة تكون حقيقية عندما نهتم بجدية أكثر برأي الشهيد الصدر المعرفي فيما يتعلق بحلّ التعارض بين العلم والدين.
ز – الحكومة الدينية
في بدء انتصار الثورة الاسلامية سألت مجموعة من علماء الشيعة اللبنانيين الشهيد الصدر حول الحكومة ودستورها وأمثال ذلك. ومن جملة ذلك، سألوه عن إمكانية وجود حكومة دينية: ماهو جوابنا على تحدي العلمانيين الذين يقولون: إن الحكومة مسألة أرضية لاترتبط بالسماء، ويدّعون أن الحكومة الدينية شعار فارغ، فما هو جوابنا عليهم؟ (63) .
وفي رده على ذلك السؤال، يتحدث الشهيد الصدر في البداية عن نشوء الدولة، ويعتبرها ظاهرة اجتماعية وجدت على يد الأنبياء وطبقاً للرسالة السماوية في المجتمع البشري. ومن خلال استناده إلى الآية(213) من سورة البقرة (64) ، يرى أن نشوء الدولة كان بسبب الاختلاف في الحياة بين البشر، وأن إقامة الدولة (الحكومة) من قبل الأنبياء كان لرفع هذا الاختلاف، فاذا أردنا طرح صورة عامة عن الحكومة الصالحة، نقول إن الخلافة والحكومة الصالحة تأسست لأول مرّة على يد أنبياء الله، من أجل إقامة العدل والوقوف أمام الاختلاف، بعد ان وضع الله قواعدها (65) .
ويرى الشهيد الصدر أن الرسول الله(ص) ترك ثلاثة أشياء عند رحيله:
1ـ الأمة الاسلامية.
2- المجتمع الإسلامي.
3- الدولة الاسلامية
فالأمة الاسلامية، هي مجموع المسلمين الذين آمنوا بالرسالة، والمجتمع الإسلامي، هو مجموع المسلمين الذين نظموا علاقاتهم على أساس الرسالة التي جاء بها الرسول(ص)، أما الدولة الاسلامية، فهي القيادة التي تقع عليها مسؤولية تطبيق الإسلام في المجتمع وصيانته من الانحراف. ولأن المجتمع الإسلامي يقوم على أساس الارتباط المبني على الإسلام، وعلى هذا لو لم تكن هناك قيادة تحفظ هذا الارتباط وتصونه، فسيكون مصيره التلاشي وبالتالي تلاشي المجتمع الإسلامي، ولن تبقى سوى الامة التي تتعرض هي الأخرى أيضاً إلى الزوال بمرور الأيام (66) .
وهذا يدل – إلى جانب آراء الشهيد الصدر الأخرى – على ضرورة الدولة الاسلامية، وبشكل عام فهذه الصورة تبين أن الإسلام يحتوى على الدولة في ذاته، ولا يمكن بالاساس تطبيق الإسلام والقيم والاهداف التي جاء بها دون وجود دولة ، كما أن الفكر الديني الاسلامي يدور بالأساس حول مجموعة من المحاور أهمها القيادة الصالحة وتطبيق الشريعة وجعلها المعيار في جميع جوانب الحياة، ولذلك فالفكر الديني في الإسلام يقع في مواجهة العلمانية. وهذا مانفهمه بوضوح من مؤلفات الشهيد الصدر (67) .

القيادة الدينية
يعتمد الشهيد الصدر في الحكومة الدينية التي يطرحها على القيادة الصالحة، فيعبر عنها بخط الشهادة. وخلاصة رأيه في هذا المجال، هو أن القيادة من مسلتزمات الحياة الاجتماعية للمجتمع الإسلامي، لأن تربية الإنسان بشكل كامل، لا تكون إلاّ بمثل هذه القيادة. بعبارة أخرى، بناء إنسان جديد، ذي تربية دينية متمايزة عن التربية الجاهلية تماماً، يحتاج إلى قيادة دينية صالحة (68) . وبرأيه فإن القيادة الدينية دليل رعاية الله للانسان وصيانته من الانحراف والفساد. وأن القيادة الدينية الشرعية بعد وفاة الرسول(ص) انتقلت إلى الأئمة(ع)… أما في زمن الغيبة فيعتقد بنوع من التعيين النوعي وهو تنصيب العلماء المتوفرة فيهم شروط معينة لمقام الولاية. بينا مسؤولية التعيين الشخصي لهم على عاتق الأمة. ولأن هذه القيادة فاقدة لصفة العصمة، فانها بحاجة إلى معيار وإشراف من قبل الآخر. لكن تأكيد الشهيد الصدر مسألة المشروعية وقداسة الحكومة الدينية، أمر واضح جداً، فهو يرى أن هذه المشروعية تأتي من إشراف وشهادة المرجعية الدينية، لذلك يؤكد على إشراف المرجع الديني، باعتباره يمثل الدولة الاسلامية على أعلى مستوى والنيابة العامة للامام الحجة(ع)، على القوة التنفيذية من خلال تنفيذ انتخابات رئاسة الدولة، بل وحتى تنفيذ أعضاء الحكومة بعد انتخابهم من قبل القوة التشريعية، وعلى القوة التشريعية من خلال الاشراف على مايصوت عليه المجلس من الناحية الشرعية، وعلى قيادة الجيش والقوة القضائية، والاشراف العام على مجريات الأمور بهدف الحيلولة دون وقوع الانحراف.
ومن جانب آخر سعى إلى إثبات حقوق مستقلة عن إرادة الحاكم الإسلامي للأمة، باعتبار أن هذه الحقوق لا يمنحها الولي الفقيه للامة، بل إنها مُنحت من قبل الله لهم. أي إن الله تعالى وضع حقوقاً للامة مقابل الحقوق التي منحها للحاكم. وقد سعى إلى تفسير هذه الحقوق من خلال الاستخلاف الالهي للبشر أو الخلافة العامة وتحمل الامانة الالهية. وعلى هذا يرى أن هذا الحق يمتلكه الجميع؛ ولذلك أكد دورَهم في التقنين انتخاب القائد، بشكل عام فقد حاول الجمع بين الحق الالهي في الحكم والذي يتجلى في نظرية الشهادة، وحقوق الإنسان. وتجدر الإشارة إلى أن كيفية رسم صورة الحكومة الالهية، في إطار قيادة المعصوم أو الفقيه العادل، تقع في دائرة المطلوب من الدين، والذي يتجلى في إرادة الحاكم، ودائرة صلاحيات وحرية الامة وعقلها الجمعي والعرفي، وهو ما يظهر في القوانين العرفية ورأي الناس، وكما ذكرنا فان مشروعية الحكومة تعتمد على إشراف المرجع الديني، وأهم ما يستند اليه في ذلك، الحديث الشريف: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا…». وعلى حدّ قول الشهيد الصدر نفسه، فهذا الحديث، لا يثبت مرجعية المرجع الديني إلاّ بمقدار تطبيق الشريعة في الحياة، وفي هذه الدائرة يحق للقيادة الدينية الاشراف، لأن الرجوع اليهم باعتبارهم حملة الشريعة ورواة الاحاديث، يحدد محور ذلك الرجوع. إذن لزوم إشراف الفقيه، يكون بحدود تشخيص مشروعية الاجراءات أو عدمها. لكنه يظهر أن الصلاحيات التي يراها الشهيد الصدر للمرجع الديني أوسع بكثير من مدلول الحديث الشريف، لأنه يعتبر ترشيحه مصدراً لقدسية رئيس الدولة، بينما لا يستفاد ذلك من الحديث ، سوى أن للفقيه إشرافاً من الناحية الشرعية (69) .
شكل ومحتوى الحكومة الدينية:
يرى الشهيد الصدر أن الحكومة الدينية لابد لها من مراعاة الأصول التالية:
1ـ ينتخب القائد من بين الذين بلغوا درجة الاجتهاد المطلق، وبواسطة علماء الدين والحوزات العلمية والكتّاب والمفكرين المسلمين أبو بواسطة الأمة.
2- تقتضي الخلافة العامة للأمة، أن يدير أبناء الأمة أمورهم على أساس الشورى، وفي حدود القانون، وبإشراف الولي الفقيه (القائد).
3- تتحقق فكرة الحلّ والعقد في إطار مجلس تختاره الأمة، بشكل ينسجم وأصلي الشورى وإشراف القيادة.
4- تقوم الامة بانتخاب رئيس الحكومة ، لكن القائد يمضي ذلك الانتخاب.
5- وظائف المجلس هي: انتخاب أعضاء الحكومة (مع إمضاء القائد)، واختيار أحد الآراء الفقهية في حالة اختلاف المجتهدين ووضع لمنطقة الفراغ.
6- على الحكومة الدينية السعي لتطبيق الشريعة، كما ان المرجع في الامور الشرعية هو المجتهد المطلق.
7- الشريعة الاسلامية هي مصدر التشريع، وهذا يعني أن الدستور يعتمد عليها، وفي ضوئها تدون القوانين الأخرى بالشكل التالي:
أولاً: الأحكام الثابتة في الشريعة والواضحة فقهياً، تعدّ الجزء الثابت في الدستور، وبمقدار ارتباطها بالحياة الاجتماعية.
ثانياً: في حال اختلاف الفقهاء ووجود عدة آراء اجتهادية، تستطيع القوة التشريعية اختيار إحداهما بما تقتضيه المصلحة العامة.
ثالثاً: في منطقة الفراغ التشريعية، تستطيع القوة التشريعية، وباعتبارها تمثل الامة، وضع قوانين لصالح الامة، بشرط عدم تعارضها مع الدستور (70) .

الهوامش:
* - موجز لدراسة أعدّ خطتها وأشرف عليها مركز الدراسات الاستراتيجية بمدينة قم ، استخلصها ونقلها إلى العربية الاستاذ علاء الرضائي .
1 - الصدر، السيد محمد باقر/ السنن التاريخية في القرآن.
2 - المجموعة الكاملة لمؤلفات الشهيد الصدر(13) المدرسة الاسلامية، ص 72.
3- الصدر، السيد محمد باقر/ فلسفتنا، ص 44 وراجع أيضاً: المجموعة الكاملة (13 المدرسة الاسلامية)
ص 96 .
4 - راجع: الإسلام يقود الحياة (2) صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي/ ص 10 - 24.
5 - الإسلام يقود الحياة (5) منابع القدرة في الدولة الاسلامية/ ص 14-15، 17، وأيضاً اقتصادنا ص 299 – 309 وكذلك: المدرسة الاسلامية ، ص 59 - 73.
6 - الإسلام يقود الحياة (5) منابع القدرة في الدولة الاسلامية/ ص 14-15، 17، وأيضاً اقتصادنا ص 299 – 309 وكذلك: المدرسة الاسلامية، ص 59-73.
7 - الانبياء ص 23.
8 - المصدر نفسه.
9 - الإسلام يقود الحياة (منابع القدرة في الدولة الاسلامية) ص 11-15.
10 - المدرسة الاسلامية، ص 19 - 23.
11 - المصدر نفسه، ص 19 - 38.
12 - المصدر نفسه، ص 40-44.
13 - المطهري، مرتضى/ الاعمال الكاملة، ج 3/ ص 173-202 و164. (بالفارسية).
14 - اقبال، محمد/ إحياء الفكر الديني في الإسلام/ الترجمة الفارسية، ص 144 - 168.
15 - فرانتس اشتارك/ ثورة أم إصلاح، حوار مع هربرت ماركوزة وكارل بوبر/ ص 61 - 62.
16 - المصدر نفسه.
17 - المصدر نفسه ص 335.
18 - المدرسة الاسلامية، ص 138.
19 - اقتصادنا، ص 338.
20 - المدرسة الاسلامية، ص 139 - 142.
21 - المصدر نفسه، ص 110.
22 - المصدر نفسه، ص 129-132.
23 - اقتصادنا، ص 364 - 365.
24 - المدرسة الاسلامية، ص 144 - 148.
25 - اقتصادنا، ص 367 - 370.
26 - المدرسة الاسلامية، ص 142 - 143.
27 - اقتصادنا، ص 373 - 374.
28 - المصدر نفسه، ص 375 ومابعدها.
29 - اقتصادنا، المجمع العلمي للشهيد الصدر/ ط 2/ 1408هـ .ق / ص 403.
30 - المصدر نفسه، ص 415 - 416.
31 - المصدر نفسه، ص 404 - 413.
32 - المصدر نفسه، ص 400.
33 - الإسلام يقود الحياة(2)، ص 22-24.
34 - اقتصادنا، ص 401 وكذلك الإسلام يقود الحياة، ج 2، ص 22 ومابعدها.
35 - المصدر نفسه، ص 311 - 312.
36- محمد مجتهد الشبستري، الدين والعقل، مجلة كيهان فرهنگي، السنة الخامسة، العدد 3، ص 10 (بالفارسية).
37 - المصدر نفسه، العدد التاسع، ص.
38 - الإسلام يقود الحياة (3) ، ص 22 - 24.
39 - المصدر نفسه، ص 36، دار التعارف: بيروت 1979. ط 2.
40 - المصدر نفسه، ص 38.
41 - المصدر نفسه، ص 48.
42 - المصدر نفسه، ص 60.
43 - المصدر نفسه، ص 3 - 19.
44 - المصدر نفسه، ص 67 - 74.
45 - المدرسة الاسلامية، ص 11 - 73.
46 - اقتصادنا، ص 419.
47 - الصدر، السيد محمد باقر، المعالم الجديدة، طبع طهران (1395هـ .ق) ص 161- 164.
48 - اقتصادنا، ص 402- 429. هنا حاول الشهيد الصدر الدفاع عن أسلوبه دفاعاً يرضاه الاصوليون..
49 - المعالم الجديدة، ص 161- 164.
50 - الإسلام يقود الحياة (3)، ص 17-74، وكذلك أنظر: اقتصادنا، ص 378 - 380.
51 - السنن التاريخية في القرآن، ص 28-41.
52 - المصدر نفسه، ص 47-48.
53 - المصدر نفسه، ص 48-51.
54 - المصدر نفسه. وكذلك أنظر اقتصادنا، ص 29.
55 - المصدر نفسه، ص 512.
56- المحنة، ص 49-60، وراجع في ذلك أيضاً: مباحث الاصول، الجزء الأول من القسم الثاني (المرجعية الصالحة والموضوعية).
57 - المعالم الجديدة، ص 5-98. وكذلك: اقتصادنا، ص 402 - 429.
58 - المعالم الجديد، ن ص 37 - 40.
59 - بحث حول الولاية، ص 69 (الترجمة الفارسية) .
60 - المعالم الجديدة، ص 148 و161 – 170، كذلك: بحوث في علم الأصول، ج 2، ص 119-120.
61 - المصدر نفسه، ص 171-175، وأيضاً: بحوث في علم الأصول، ج 7، ص 25.
62 - المصدر نفسه، ص 90-95.
63 - لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية، ص 9.
64 - (كان الناسُ أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..).
65 - خلافة الإنسان وشهادة الانبياء، ص 21 - 24.
66 - المجموعة الكاملة (11) أهل البيت، ص 57 - 58.
67 - المصدر نفسه (بحث حول الولاية)، ص 13 - 23.
68 - المصدر نفسه (أهل البيت)، ص 132 - 134.
69 - خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، ص 13 – 14 و17 - 27.
70- لمحة تمهيدية… وأيضاً: مجلة الفكر الجديد، السنة الثانية، العدد 7، ممارسة السلطة في الدولة الاسلامية، الصدر والمودودي نموجاً، عقيل سعيد، ص 165، وكذلك أنظر: مجلة راهبرد، العدد 4 (خريف 1373هـ . ش – 1994م)، نظريات الدولة في فقه الشيعة، محسن كديور، ص 16-18 (بالفارسية).

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• الإمامة   (بازدید: 1736)   (نویسنده: الشيخ مجيد العصفور)
• الامداد الغيبي في حياة البشرية   (بازدید: 1445)   (نویسنده: مرتضى مطهري)
• البرهان والعرفان   (بازدید: 1334)   (نویسنده: الدكتور علي أبو الخير)
• المنطلقات الفكرية للتعددية السياسية   (بازدید: 1877)   (نویسنده: الدكتور حسان عبدالله حسان)
• المنظومة الفكرية للشهرستاني وموقع ابن سينا منها   (بازدید: 2123)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• تأملات في دعاء شهر رجب   (بازدید: 3400)   (نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• قصة الناي في فكر الكواكبي   (بازدید: 1794)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• ما الذي يعنينا في هذا الاستشراق؟   (بازدید: 1289)   (نویسنده: عبدالنبي اصطيف)
• مقاصد الشريعة في المجتمع الإسلامي   (بازدید: 2789)   (نویسنده: الدكتور عمار الطالبي)
• مناهج دراسة مسألة «المهدي»   (بازدید: 1296)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ   (بازدید: 1222)   (نویسنده: مرتضى مطهري)
• الاسلام وايران / الاتجاه الحضاري   (بازدید: 2176)   (نویسنده: الدکتور محسن الويري)
• التجديد والزمن - رؤية الشهيد الصدر لمؤثرات التجديد   (بازدید: 1254)   (نویسنده: السيد حسين الشامي)
• التحديات التي تواجه الإسلام / في العصر الحديث   (بازدید: 6892)   (نویسنده: الدكتور محمود حمدى زقزوق)
• الحداثة والتجديد / في فكر الإمام الخميني العرفاني   (بازدید: 1723)   (نویسنده: الدكتورة فاطمة الطباطبائي)
• الشهيد مطهري وإحياء الفكر الاسلامي   (بازدید: 2456)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• العلاقات الدولية / واحترام العهود والمواثيق في الإسلام   (بازدید: 2924)   (نویسنده: الدكتور وهبة الزحيلي)
• الغلو والتطرّف والإرهاب / وموقف الإسلام منها   (بازدید: 1333)   (نویسنده: الدكتور مراد ويلفريد هوفمان)
• الغلوُّ والتَّطرف والإرهاب / وموقف الإسلام منها   (بازدید: 1617)   (نویسنده: الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي)
• دور الامام الصدر في التطوير الفقهي / وتحديد المشكلة الاقتصادية   (بازدید: 1078)   (نویسنده: الدكتور عبد الهادي الفضلي)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]