banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

معالم فلسفة جديدة في كتابات الصدر
ثقافتنا - العدد 7
فكر إسلامي
الدكتور محمد عبداللاوي
1426

«ملخّص»
السيد الصدر أعاد صياغة الفلسفة الإسلامية القديمة والفكر الإسلامي على العموم، وأعاد كذلك صياغة فلسفة كل من الغزالي وإبن رشد، فصاغ عن طريق هذا النقد، نقد الفلسفة الإسلامية ونقد الفلسفة الغربية، فلسفة إسلامية معاصرة ثرية من حيث المفاهيم والمنهج، فهي فلسفة لها موقعها ضمن الاتجاهات الفكرية المكوّنة للثقافة المعاصرة، بل وأكثر من ذلك فقد قدّم الصدر للثقافة الإنسانية عامة فلسفةً جديدة تسعى إلى ربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى وبالقيم عن طريق ربطه بالنبوة والإمامة.

تمهيد
هل يمكن القول بوجود فلسفة إسلامية معاصرة؟ ماهي المبررات المنهجية والمفهومية التي تسمح بوجود فلسفة إسلامية معاصرة؟
إن الفكر الإسلامي يسعى إلى تغيير المجتمع وإعادة بناء الأمة الإسلامية، فهل يقتضي هذا العمل من الفكر الإسلامي أن تتم مقاربته للواقع من خلال مفاهيم فلسفية؟
لقد حاول الفكر الإسلامي إبتداء من القرن التاسع عشر، وعن طريق نقد فكر عهد الانحطاط، أن يتكيف مع متطلبات المرحلة التاريخية الجديدة، فالمفكرون المسلمون قد استخدموا بعض المفاهيم في مجابهتهم للفكر الغربي الجديدة، (الرد على الدهريين للسيّد جمال الدين ورسالة التوحيد لمحمّد عبده).
غير أن الفكر الإسلامي مايزال إلى يومنا هذا في بداية الطرح الفلسفي للقضايا، الفكر الإسلامي لم يتحرّر بعد تحرّراً كليّاً من الطرح الجزئي للقضايا. لا شك أن رجال الإصلاح حاولوا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن يستوعبوا أسباب وعوامل تقدّم الغرب وأن يكشفوا عن الوسائل التي تمكّن العالم الإسلامي من اللحاق بالحضارة الغربية. غير أن الفكر الإسلامي في تلك المرحلة بقي فكراً دون مستوى التحدّيات بسبب غياب الأدوات الفلسفيّة. لقد أعطى رجال الإصلاح الثقة للشعوب الإسلامية عندما عرّفوهم بتراثهم العريق. لكن لا وجود وراء هذا الموقف العاطفي تجاه تاريخ الأمة لأية رؤية اجتماعية وسياسية. فرجال الإصلاح وكثير من المفكّرين المسلمين إلى يومنا هذا لم يعيدوا صياغة الفكر الإسلامي حسب متطلبات العصر.
لقد كان الفكر الإسلامي متمحوراً حول الفقه (فقه الفروع) وعلم الكلام ولم ينفتح على الطرح الفلسفي للقضايا إلاّ ابتداء من السيد جمال الدين. غير أن هذا الانفتاح على البعد الفلسفي كان محتشماً وضمنياً ولم يصبح مباشراً إلاّ على يد محمد إقبال والإمام الخميني (قدس الله روحه) ولم يتخذ صورته الفلسفيّة الواضحة والمكتملة إلاّ على يد السيّد محمد باقر الصدر.
إن الطرح الفلسفي للقضايا عند الصدر هو طرح يعتمد على النقد في الأساس. وهذا يختلف تماماً عن النزعة التوفيقية كما تجلّت في الفلسفة الإسلامية قديماً (1) . وكما تتجلّى في الاتّجاه المحدث (في العالم الإسلامي) الذي حاول أصحابه أن يوفقوا بين الماركسية والإسلام كما حاولوا أن يصيغوا فلسفة وجوديّة عربيّة (عبدالرحمن بدوي). فالصدر حدّد الإطار المنهجي والمعرفي لفلسفة إسلامية معاصرة حسب متطلبات المفاهيم الإسلامية كالتوحيد والبعث وخلافة الإنسان. وقد طرح الصدر، انطلاقاً من هذه المفاهيم، مسئلة علاقة الفلسفة بالتاريخ وبالمجتمع ومشكلة الميتافيزيقيا ونقد العقل، كما طرح في هذا السياق مسئلة العلوم الإنسانيّة في العالم الإسلامي.
لقد فتح الصدر أفقاً جديداً للبحث في ميدان الفلسفة خارج الرؤية الغربية. وهذا عكس الاتّجاه المحدث الّذي استخدم مفاهيم الفلسفة الغربية في دراسته للتراث ولتاريخ الأمة الإسلامية كما يتجلّى ذلك عند كل من طيب تيزيني والجابري وعلي أمليل وعبد الله العروي وفؤاد زكريا وعبدالرحمن بدوي، فهؤلاء المفكّرون لجأوا إلى مذاهب الفلسفة الغربية كالماركسية والوجودية والبنيوية في دراستهم للفلسفة الإسلامية ودراستهم لتاريخ الأمة الثقافي والسياسي.
لقد أعاد الصدر صياغة الفكر الإسلامي صياغة فلسفية جديدة في أفق نقدي أقوى من فلسفة كل من الغزالي وابن رشد. لاشك أن الصدر قد صاغ المفاهيم حسب متطلبات الشروط الجديدة للعقلانية. فالصدر كان واعياً بعمق بأنه لا يمكن اليوم استخدام مفاهيم مثل العقل والنقل والاجتهاد والانحطاط والتقدّم والأمة والقوميّة خارج الإطار الفلسفي، فلا يمكن صياغة حلول للمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأمة بدون اجتهاد مفلسف. ولا يمكن اتخاذ موقف نقدي من تيارات الفكر الغربي بدون فلسفة.
على الرغم من محاولة الفكر الإسلامي الانفتاح على ثقافة العصر منذ القرن التاسع عشر إلاّ أن المفكرين المسلمين لم يبدأوا في استيعاب الفلسفة الغربية المعاصرة إلا ابتداء من محمد إقبال. فالفكر الإسلامي مايزال لدى كثير من ممثليه يتّخذ موقفاً اندفاعياً وانفعاليّاً تجاه الفلسفة الغربية. فلم يحاول الفكر الإسلامي اتخاذ موقف من فلسفة كل من كانط وهيجل وماركس وينتشه وبرجسون إلا ابتداء من محمد إقبال، وهكذا فالفكر الإسلامي مايزال إلى يومنا يتجاهل أو يتغافل عن اتّجاهات ومذاهب الفلسفة الغربية، ويرجع الفضل إلى الصدر في طرحه لمشكلة العلاقة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي طرحاً علمياً وفلسفياً بعيداً عن العاطفة العفوية والانفعال أوالتبعية والتقليد، فالصدر قد حلل فلسفة كل من كانط وأجوست كونت وهيجل وماركس (2) وغيرهم تحليلاً نقدياً في الشكل والمضمون، فهو لم يكتف بنقد محتوى مذاهب هؤلاء الفلاسفة على غرار ما فعله الغزالي في موقفه من الفلسفة اليونانية حيث أنه انتقد المضمون ولكنّه تبنى منهج هذه الفلسفة (المنطق الأرسطي) (3) .
فنقد الصدر للفلسفة الغربية هو نقد جذري شمل مضمون هذه الفلسفة كما شمل منهجها الذي ارتكزت عليه، فالصدر قرأ الفلسفة الغربية قراءة إسلامية، فهو قد حلل فلسفة كل من هيجل وكانط وماركس من خلال معايير ومفاهيم الثقافة الإسلامية.
وهكذا يرى الصدر بأنّه إذا كانت مقولة التوفيق بين الدين والعقل – على طريقة الفلاسفة المسلمين – تختزل كلا من الدين والعقل، فإن إخضاع العقل لمتطلبات الدين يفتح أمام العقل إمكانيات لا نهاية لها، فالصدر هنا يختلف مع كانط الذي يجعل نسبية العقل نسبية محدودة بحدود الظواهر المحسوسة ولا تتجاوزها إلى ماوراء الظواهر، في حين أن ربط العقل بالدين تنشأ عنه عقلانية نسبية منفتحة على الحركة وعلى التجاوز: تجاوز عجز العقل ونسبيته بصورة مستمرة.
إن التطلع إلى المطلق هو تعبير عن فطرة الإنسان وخلافته، لذلك يرى الصدر أن هذا التطلع هو عنصر معرفي له أهمية كبرى في المجال الميتافيزيقي حيث أن هذا التطلع هو الذي يجعل العقل قادراً على تجاوز نفسه، فالعقل، من هذا المنظور، هو امتداد للبعد الغيبي في الإنسان، وليس الأمر كذلك في فلسفة كانط التي تجعل العقل حبيس المعطيات الحسيّة (4) .
إن كانط لم يستطع تجاوز التناقض الذي طرحته فلسفته حيث أنه يرى بأن العقل
لا يستطيع أن يغوص في المجال الميتافيزيقي، فمبادئ العقل تتعدّد وظيفتها المعرفية بحدود الظواهر المحسوسة، ويرى في نفس الوقت بأن الإنسان يستطيع أن يصل إلى الميتافيزيقيا عن طريق الأخلاق، فالقول بعجز العقل ينفي، في الحقيقة، كل إمكانيّة ماعدا الإمكانيات المعرفية الأخرى كالقلب أو الحدس مثلاً، مع العلم بأن كانط لا يؤمن
إلا بالعقل كأداة معرفية.
أما موقف الصدر فلا تناقض فيه. فنسبية العقل عند الصدر ليست نسبية تحديد وعجز بل هي نسبية الانفتاح على الحركة وعلى التجاوز (تجاوز العجز) لذلك فهي تؤهل العقل للقيام بنشاطه المعرفي في المجال الميتافيزيقي.
لقد كان الصدر واعياً بأن المشاكل والتحديّات التي تطرحها الفلسفة الغربية على الفكر الإسلامي لا يمكن التغلب عليها بمجرد تفسير الإسلام وتأويله تاويلاً عقلياً على غرار الفلسفة الإسلامية. إن نقد الصدر لعقلانية الفلسفة الإسلامية ولعقلانية الفلسفة الغربية تمَّ من موقع عقلانية نوعية تستمد وجودها من ربط العقل بمتطلبات الدين، فالعقلانية تتحدّد في إطار علاقتها بالغيب، وبما أن الغيب يتجاوز العقل مهما كانت مفاهيمه وتصوراته فإن العقلانية كما تتجلّى في فلسفة الصدر هي عقلانية تستمد قوّتها من نسبيتها ومن تواضعها أمام الغيب (5) .
لذلك يمكن القول بأن فلسفة الصدر يتحدّد موقعها خارج الصراع بين الواقعية والمثالية، فالغيب يتطلب البيان، أي يتطلب الدين الذي يساعد الإنسان في تطلعه نحو المطلق. هذا التطلع لا ينفي العقل، حجية العقل ثابتة شرعاً ولكنها حجية لها حدودها في الميدان الميتافيزيقي، إن قوة عقلانية الفلسفة الصدرية تكمن في وعيها بنسبيتها أمام إطلاقية الدين، فلسفة الصدر تتحدّد معالمها في تحديد العلاقة بين التساؤلات الميتافيزيقية والأجوبة الدينية، فالصدر حاول في كل كتاباته، وحتّى في الأسس المنطقية للاستقراء الذي اعتمد فيه على المنهج التجريبي، حاول أن يبيّن عن طريق التحليل الفلسفي والعملي، قدرة الإنسان على تقبّل الغيب وتجاوز نسبية عقله.
لا شك أن فكرة نسبية العقل لم تحلل من طرف الفكر الإسلامي المعاصر من منظور فلسفي، فأكثر المفكّرين أكّدوا على نسبية العقل ليبرهنوا على إطلاقية الإسلام، ومن هنا فأكثر المفكّرين المسلمين تهرّبوا من طرح المشكلة الفلسفيّة لعلاقة العقل بما يفوقه فلجأوا إلى مفهوم الغيب لجوءاً تبريرياً بدلاً من التحليل الفلسفي لعلاقة العقل بالغيب، ويرجع الفضل إلى الصدر في تحليل العقل تحليلاً فلسفياً انتهى إلى نقد العقل ونقد نظرية المعرفة كما تتجلّى في مذاهب الفلسفة الغربية.
إن الجديد في فلسفة الصدر يكمن في توسيعه للنقاش في الميدان الميتافيزيقي، فهو قد طرح قضايا جديدة وفتح آفاقاً جديدة للفكر الإسلامي (نسبية العقل، العقل والغيب، الاستقراء والميتافيزيقيا، العلاقة بين المجتمع والغيب… الخ)، ونتيجة لذلك فإن الصدر قد طرح مشكلة العلاقة بين العقل والدين على العموم، والرؤية الإسلامية إلى الغيب على وجه الخصوص، خارج إطار كل من علم الكلام والفلسفة الإسلامية، فالصدر قد طرح هذه المشكلة في أفق نظرة تركيبية لكل من علم الكلام والفلسفة والتصوّف. (6)
نلاحظ أن الصدر أعطى لمشكلة العلاقة بين العقل والدين صورة جديدة، فهو لم يحلل هذه العلاقة خارج أبعادها الاجتماعية والسياسية والفلسفية ، فالصدر تجاوز الفقه في صورته القديمة عندما بحث عن المفاهيم المتضمّنة في الاحكام الشرعية من أجل صياغة المذهب الاجتماعي الإسلامي، هذا الموقف يعتبر قطيعة إبستمولوجية (7) مع كل من الفلسفة الإسلامية ومع الفقه كما طرح قديماً.
فعلى العكس من أكثر المفكرين المسلمين فإن الصدر ينظر إلى العقل لا كمجرد كلمة بل كمفهوم، أي ينظر إلى العقل داخل إشكالية العقل النقدي، انطلاقاً من هذا الموقف نظر الصدر نظرة جديدة إلى كل من الفلسفة الإسلامية القديمة وعلم الكلام وأصول الفقه. وهكذا فمقاربة الصدر للفكر الإسلامي في كل جوانبه قد أصبحت مقاربة نقدية، فمعالم الفلسفة الإسلامية المعاصرة التي صاغها الصدر تحدّدت خارج كل من الفلسفة الإسلامية واتجاهات علم الكلام، فمسار فلسفة الصدر تمّ انطلاقاً من موقف نقدي تجاه الفكر الإسلامي القديم والمعاصر، أي انطلاقاً من قطيعة إبستمولوجية وجّهت الفكر الإسلامي توجيهاً جديداً.
لقد تجاوز الصدر الاختلاف بين إبن رشد والغزالي فيما يخص علاقة العقل بالدين، فطرح الصدر لهذه المشكلة يعتبر نقداً جذرياً لفلسفة إبن رشد، كما يعتبر من الناحية المنهجية، نقداً لفلسفة الغزالي على اعتبار أن هذا الاخير قد انتقد محتوى الفلسفة اليونانية ولم ينتقد المنهج الذي كانت تقوم عليه هذه الفلسفة.
إن الرجوع النقدي إلى التراث وتفسير القرآن الكريم في أفق اجتماعي وتاريخي كما يتجلّى في كتابات الصدر فتح مجالاً فلسفياً جديداً وواسعاً أمام الفكر الإسلامي المعاصر، ويتجلّى ذلك فيما يلي:
1ـ محاولة الصدر إعادة صياغة الفكر الإسلامي ورفعه إلى مستوى التحديات، أي مستوى مجابهة الفكر الغربي بكل تياراته وطرح البديل الإسلامي في المجال المعرفي والمنهجي والاجتماعي والحضاري.
2- إعادة صياغة الفكر الإسلامي صياغة جديدة كما حاولها الغزالي قد وصلت إلى صورتها القصوى على يد الصدر.
3- تأثر الصدر في تنظيره للرؤية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الإسلامية بالفقه لا بالفلسفة، فالمفاهيم التي تمّ من خلالها التنظير في المجالات السابقة هي مفاهيم متضمّنة في الأحكام الشرعية، لذلك يمكن القول بأن الصدر تجاوز القطيعة بين الفقه والفلسفة كما تجلّت في الفكر الإسلامي قديماً وأحدث العملية التركيبية بين الفقه والفلسفة .(8)
لقد حدّد معالم فلسفة جديدة من خلال نظرية المعرفة التي استنبطها من التفسير الموضوعي، وهي نظرية للمعرفة أخرجت الفكر من العلاقة العقيمة بين الذات والموضوع. لاشك أن هيجل قد صاغ فلسفته كفلسفة وفّقت الذات مع الموضوع، وقد ظن هيجل أنّه أوصل الفلسفة إلى منتهاها من خلال هذه العملية التركيبية بين الذات والموضوع، وهي العملية التي حوّلت الواقع كله إلى مفهوم، فلا وجود للذات ولا وجود للموضوع ولا وجود لله وللإنسان، ولم يبق إلا المفهوم، فالكل تحوّل إلى مفهوم، فعندما نقارن فلسفة هيجل بفلسفة الصدر كما تتجلّى من خلال التفسير الموضوعي يبرز عطاء الصدر بكل وضوح، فالتفسير الموضوعي يعتمد على نظرية للمعرفة منقطعة النظير خاصة فيما يخص إشكالية العلاقة بين الذات والموضوع، ماذا يعني التفسير الموضوعي في المجال المعرفي؟ إنه يعني أن المعرفة لا تتم من خلال العلاقة بين الذات والموضوع فحسب، بل هناك جانب ثالث يعطي للمعرفة معنى جديداً ويفتح أمامها آفاقاً لا نهاية لها: إنه النص الموحى، فنظرة الإنسان إلى الموضوع (الواقع) من خلال القرآن الكريم من جهة، ومن خلال علاقة الذات بالموضوع من جهة أخرى (أي نظرة الإنسان إلى القرآن الكريم حسب وضعية المرحلة التاريخية).
إن هذا الإطار من العلاقات تنتج عنه فلسفة لا تذيب الذات في الموضوع، ولا تختزل كلاً من الذات والموضوع في عملية تركيبية على الطريقة الهيجلية، فلا وجود لنهاية للفلسفة ولا وجود لنهاية التاريخ، ذلك أن علاقة الإنسان مع القرآن الكريم كما تتجلّى في التفسير الموضوعي ليست في حقيقتها إلا منهجاً لعلاقة الإنسان بالمثل الأعلى، وهذا مالم يستوعبه الفلاسفة المسلمون قديماً حيث وضعوا هم كذلك نهاية للفلسفة بلجوئهم إلى التوفيق بين الإسلام والفلسفة اليونانية، أي التوفيق بين القرآن المطلق والفلسفة اليونانية النسبية، فبدلاً من فتح آفاق جديدة لصياغة فلسفة جديدة بالانطلاق من مبدأ علاقة العقل النسبي بالدين المطلق أخضع الفلاسفة المسلمون المطلق إلى النسبي فوضعوا حداً لصيرورة الفكر ولصيرورة الأمة تماماً كما فعل هيجل عندما أخضع العقل الكوني (الله في نظر هيجل) إلى التاريخ، في حين نلاحظ عكس ذلك بصورة جذرية في فلسفة الصدر، فهو قد أخضع الإنسان إلى المثل الأعلى وأخضع التاريخ إلى الله وأخضع، نتيجة لذلك الفلسفة إلى القرآن الكريم.
إن الفلسفة الإسلامية قد انتهت إلى «نهاية» لأن مقولات الفلسفة اليونانية لا قدرة لها على استيعاب المبادئ والمفاهيم الإسلامية، فالقرآن الكريم قد أتى بنظرة جديدة إلى الألوهية والكون والإنسان وتغيير العالم تختلف عن الفلسفة اليونانية، لذلك اصطدمت الفلسفة الإسلامية في تنظيرها للنبوّة بصعوبات كما يتجلّى ذلك في فلسفة الفارابي، فعلى الرغم من محاولة هذا الأخير تبرير النبوة معرفياً فهو قد ابتعد عن حقيقة النبوة لإنه لم يستوعب مبدأ نسبية الفلسفة اليونانية ومبدأ إطلاقية مصدر النبوة.(9)
لذلك بقيت فلسفته في هذا المجال بعيدة عن النبوة الّتي لا يمكن أن يتم تنظيرها عن طريق مقولات الفلسفة اليونانية التي تختزل الألوهية في المفهوم.
وقد يتجلّى في هذا المجال عطاء الصدر حيث أنه قدم للفكر الإسلامي الإطار العام لعلاقة الفلسفة بالدين، وضمن هذا الإطار صاغ نظرية المعرفة في مجال النبوة، لم يرفض الصدر الفكر الغربي رفضاً جذرياً، ولم يحاول أن يوفق بين الإسلام والفلسفة الغربيّة، وإذا كان الصدر لم يرفض الفكر الغربي جملة وتفصيلاً فإنه أعاد صياغة كثير من مفاهيم الفلسفة الغربية، ويتجلّى ذلك في نقده ورفضه لكل من النزعة الاجتماعية والنزعة التاريخية، فالصدر يرى أن العوامل الاجتماعية والتاريخية لظهور النبوة هي شروط ضرورية ولكنها ليست كافية، فالبعد الاجتماعي والتاريخي عنصر ضروري في نظرية المعرفة لتفسير النبوة، ولكن الدراسة الاجتماعية والتاريخية غير النزعة الاجتماعية والتاريخية، فالصدر يرى في هذا السياق أن القول بأن العوامل الاجتماعية والتاريخية في الحجاز وفي العالم كانت تتطلب ظهور النبوة لا يعني أن النبوة قد فسّرت بصورة كلية وشاملة بحيث يمكن نفي المصدر الغيبي للرسالة على غرار ما تفعله نظرية المعرفة المتضمّنة في النزعة الاجتماعية والتاريخية، فالعوامل الاجتماعية والتاريخية تفسّر النبوة ولا تفسّر مصدرها. (10)
وهكذا يأتي الصدر بنظرية جديدة في مجال المعرفة تعتبر نقيضاً لنظرية المعرفة في الفلسفة الوضعية التي تسيطر على الفكر منذ القرن الثامن عشر والتي تنفي الغيب باسم العلم، فالتفسير العلمي للنبوة عند الصدر لا ينفي الغيب، ويتجاوز الصدر التفسير العلمي كما يتمثل في الدراسات الاجتماعية والتاريخية ليعتمد على المنهج التجريبي ليفسّر عن طريق الاستقراء النبوة كظاهرة تاريخية واجتماعية ذات مصدر غيبي.
لقد وصلت الفلسفة الإسلامية إلى منتهاها عند إبن رشد في خضوعها للفلسفة اليونانية وفي إخضاع الإسلام لمتطلبات مفاهيم الفلسفة اليونانية إلى درجة أن إبن رشد نفى البعث ونفى خلق العالم، فعن طريق فلسفة إبن رشد وصل التناقض إلى أعلى درجة بين الفلسفة والغيب، في حين أن الفلسفة الإسلامية التي صاغها الصدر قد كسرت هذه الثنائية: ثنائية العقل والغيب، فالصدر اعتمد على المنهج التجريبي للاستدلال على وجود الله وللاستدلال على حقيقة النبوة، وإذا كانت فلسفة إبن رشد قد أحدثت قطيعة بين الفلسفة والحياة، بين العقل والغيب إلى درجة أن إبن رشد جعل الفلسفة للخاصة والشريعة للعامة، فإن فلسفة الصدر تجاوزت هذه الثنائية عندما ربطت الفلسفة بالحياة، فالصدر صاغ فلسفة اجتماعية وسياسية لتغيير الواقع ولإعادة بناء الحضارة الإسلامية وجعل معنى الوجود أساساً لعملية التغيير، كما أنه أعاد صياغة العلاقة بين العقل والدين من موقع إطلاقية الدين ونسبية العقل ونسبية الفلسفة، وأعاد، تبعاً لذلك، صياغة مفهوم الخاصة ومفهوم العامة حيث جعل الجماهير عاملاً رئيسياً وحاسماً في عملية التغيير، فالصدر هنا انطلق من مفهوم قرآني هو مفهوم المستضعفين الذي يستقطب عملية التغيير وعملية إعادة بناء الحضارة الاسلامية، وإضافة إلى هذا فإن الصدر، عكس كل من الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية، صاغ فلسفة جديدة للإنسان انطلاقاً من مفهوم الخلافة، وهو مفهوم يكاد يكون لا وجود له لدى الفلاسفة المسلمين المتأثرين بالفلسفة اليونانية المحتقرة للشعوب، لذلك قسم هؤلاء الفلاسفة الناس إلى خاصة وعامة ورعاع وأوباش وغوغاء.. الخ.
فالصدر فتح آفاقاً جديدة للفكر الإسلامي فهو قد حرر هذا الفكر من محاولة التوفيق بين الإسلام والفلسفة الغربية، لقد حرر الصدر الفكر الإسلامي من محاولة التوفيق التي ليست في الحقيقة إلا صورة التبعية، ويتجلّى هذا العطاء الجديد لفلسفة الصدر في محاولته لاكتشاف الرؤية الإسلامية للإنسان والمجتمع.
وقد انطلق الصدر في كل ذلك من مبدأ تعبّدي وعقائدي وأبستمولوجي في نفس الوقت: الإسلام ليس مجرد موضوع للفلسفة، فمصدر الدين يفوق الفلسفة ويفوق العقل: فكلمة الله لا تنفد في حين أن كل المذاهب الفلسفية قد وصلت إلى منتهاها بحكم نسبيه العقل ونسبية المثل الأعلى الذي يتطلع إليه كل فيلسوف، فالصدر اعتمد على منهج في معالجته لعلاقة العقل بالدين، في حين أن الفلاسفة المسلمين انطلقوا من مسلمة لا أساس لها: الدين حق والفلسفة حق، والحق لا يتناقض مع الحق، أو «الفلسفة والشريعة أختان رضعيتان» كما يقول إبن رشد.
وهكذا فالصدر تجاوز كلا من الفلسفة الإسلامية والتصوّف، لا في المجال المعرفي فحسب، بل في المجال العملي كذلك أي في مجال الفلسفة بالحياة وعلاقة الفيلسوف أو المتصوّف بواقع الأمة واهتمامات الشعوب الإسلامية، لقد كانت علاقة الفلاسفة والمتصوفة باهتمامات الأمة علاقة مفككة، فالفلاسفة المسلمون، رغم عمق فلسفاتهم، لم يقفوا مواقف نقدية من الأوضاع الاجتماعية والسياسية فموقفهم تجاه السلطات المستبدة في العالم الإسلامي كان موفقاً مهادناً، فهم قد تجاهلوا هموم الجماهير بما في ذلك أبو حامد الغزالي الذي مثّل هو الآخر خط الضعف: صاغ مفهوم «السلطان المطاع» كما أنه لم يتّخذ أي موقف من الحروب الصليبية، ونفس الأمر بالنسبة للمتصوّفة، لقد كان تشوقهم إلى الله محصوراً في الدائرة الذاتية ولم يعبّر عن نفسه في المجال الاجتماعي والسياسي.
وليس الأمر كذلك بالنسبة للصدر، فقد كانت فلسفته فلسفة ملتزمة باهتمامات الشعوب الإسلامية وباهتمامات الإنسانية على العموم. فالصدر لم يحدث العملية التركيبية بين الفقه وعلم الكلام والفلسفة فحسب، بل أحدث العملية التركيبية بين الفلسفة والتصوّف والجهاد، فطرح الصدر للقضايا كان طرحاً فلسفياً واجتهادياً وجهادياً في نفس الوقت، لذلك يمكن القول بأن النموذج الذي اقتدى به الصدر هو سيّدنا الإمام الحسين(ع)، فهو قد كسر حاجز الخوف(11) كما كسر الإمام(ع) حاجز كربلاء، فحب الله نتج عنه عند الصدر حب البشرية والالتزام بقضاياها.
لقد فتح الصدر الفكر الإسلامي على البعد الفلسفي انطلاقاً من محاولته لربط الوحي المتعالي بالتاريخ، أي ربط الحقيقة المطلقة بحركة التاريخ، فالصدر لم يحصر المسألة في إطار علاقة الوحي بالعقل بل عالج المسألة في إطار علاقة العقل بالوحي وبالواقع، ومن هنا يمكن القول بأن الصدر فتح الفكر الإسلامي على الفلسفة باسم الاجتهاد، فهو قد صاغ وحلل المفاهيم الاقتصادية والسياسية والمعرفية حسب متطلبات الدين.
إن نقد الصدر للفلسفة الإسلامية وللفلسفة الغربية لا يعني أنه رفض العقلانية ورفض الفلسفة بإطلاق، هذا النقد يتضمّن رفضاً لعقلانية معيّنة، أي لعقلانية تزعم أنها تكفي نفسها بنفسها (الفلسفة الغربية) أو تزعم بأنها لا تختلف عن الدين (الفلسفة الإسلامية التي وفقت بين الدين والفلسفة اليونانية) فالصدر انتقد الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية باسم رؤية فلسفية جديدة تربط العقل بالدين وبالتاريخ.
لذلك يمكن القول بأن الصدر جابه الفكر الغربي عن طريق إرث ثقيل، أي عن طريق إرث لا يخلو من جوانب سلبية كالطابع المجرد للفلسفة الإسلامية وطغيان فقه العبادات على فقه المعاملات وطغيان فقه الفروع على أصول الفقه، وكالقطيعة بين الفقه والفلسفة وما نتج عنها من غياب للمذهب الاجتماعي الإسلامي، وقد رجع الصدر إلى كل جوانب هذا التراث رجوعاً نقدياً، وهذا ما جعله لا يجابه الفكر الغربي بالاعتماد على فقه الفروع بل بالاعتماد على مفاهيم فلسفية صاغها انطلاقاً من مقاربته النقدية للتراث، وهي مقاربة جعلته يربط المفاهيم الفقهية الفلسفية لصياغة المذهب الاجتماعي ولصياغة الرؤية الإسلامية إلى التاريخ التي يتحدّد ضمنها المذهب الاجتماعي الإسلامي.(12)
لم يحصر الصدر الفكر الإسلامي في موقف المدافع عن الإسلام تجاه تيارات الفكر الغربي من موقع رد الفعل الدفاعي والانفعالي على غرار كثير من المفكرين المسلمين، بل تناول الصدر مذاهب الفلسفة الغربية بالتحليل والنقد وطرح البديل الإسلامي عن طريق تحديد معالم العقلانية خارج الرؤية الوضعية وخارج النزعة العلمية، وقد تمّ كل هذا انطلاقاً من «تفسير موضوعي» (13) . للقرآن الكريم، أي انطلاقاً من النظر إلى القرآن الكريم من موقع علاقة الدين بتطور الفكر وبحركة التاريخ.
إن هذا العمل الذي يتمثل في استيعاب ونقد كل مذاهب الفلسفة المعاصرة، هو عمل لا يمكن أن يتم إلاّ عن طريق جيل من الفلاسفة والمفكرين، هذا العمل قد قام به الصدر وحده، فهو قد فتح الفكر الإسلامي المعاصر أمام تساؤلات جديدة تتمحور حول العقل ونظرية المعرفة والمنهج والتقدم وإعادة بناء الحضارة الإسلامية، لذلك أعاد الصدر النظر في كثير من جوانب الفكر الإسلامي القديم والمعاصر كما أعاد النظر في الفكر الغربي.
والعقلانية كما تتجلّى في فلسفة الصدر هي عقلانية تختلف عن العقلانية التي تتجلّى في كل من الفلسفة الإسلامية والنزعة العلمية، إنها عقلانية تستمد قوّتها من تواضعها، وهي، نتيجة لذلك، عقلانية انتقادية تجاه ذاتها وتجاه الموضوع، موضوع المعرفة، فالعقل هنا يستوعب إمكانياته ويستوعب نسبيته في الميدان الميتافيزيقي والاجتماعي ، فالصدر، عبر هذا الموقف، قد انتقد وأعاد صياغة نظرية المعرفة في ميدان الاجتهاد وعلم الكلام والفلسفة والميتافيزيقا.
لقد جابه الصدر مشكلة نسبية المعرفة ونسبية الحقيقة، فالفلسفة الغربية كالماركسية والوضعية وغيرهما من المذاهب التي تنفي كل مصدر مطلق للوجود وللمعرفة وللحقيقة تهدّد الفكر الإسلامي الذي يعتمد على الدين كحقيقة مطلقة، فكيف يمكن للفكر الإسلامي أن يقدم المعايير لإعادة بناء الحضارة الإسلامية؟
عالج الصدر هذه المشكلة خارج الإطار الضيق للاختيار بين إطلاقية الحقيقة أو نسبيتها، فعلاقة الإنسان بالحقيقة، أي بالدين هي علاقة بحث مستمر، لاشك أن الدين من حيث هو وحي يعتبر كحقيقة معطاة رحمة من الله، ولكن هذه الحقيقة لا يستوعبها الإنسان بصورة نهائية، فهو في وضعية بحث مستمر من موقع نسبيته ومن موقع علاقته بالدين المطلق، وقد صاغ الصدر مفهوم «منطقة الفراغ» كمنهج يعبر عن العلاقة بين إطلاقية الحقيقة ونسبية الحوادث وما ينجم عن ذلك من نسبية للمعرفة على المستوى الإنساني، ويعتبر هذا دحضاً للفكر المحدث الذي يتهم الفكر الإسلامي بأنه فكر يعتمد على أفكار جاهزة وبأنه يطرح نفسه كحقيقة مطلقة (14) . مع العلم بأن نسبية المعرفة في نظرية الصدر تختلف عن نسبية المعرفة في الفلسفة الغربية كما تتجلّى مثلاً في المذهب التجريبي، الفكر مرتبط بالتجربة كما يرى الصدر، ولكن هنا يقف الاتفاق مع الفلسفة التجريبية التي تعطي الأهمية للتجربة ولكنها لا تتجاوز الحوادث، وعلى العكس من ذلك فلأن فلسفة الصدر لا تربط العقل بالحوادث إلا من أجل وضعه في وضعية التجاوز: تجاوز المعطيات التجريبية لفتح باب الميتافيزيقا.
ويمكن القول على العموم بأن فلسفة الصدر لا تتخذ موقعها في الميدان الوصفي وحده (وصف الواقع) على غرار منهج العلوم الاجتماعية السائدة اليوم، أي فلسفة الصدر لا تكتفي بوصف الواقع وتحليله، كما أنها لا تتخذ موقعها في خط فلسفات «المدن الفاضلة». ففي كلتا الحالتين تتحول الفلسفة إلى فلسفة محايدة: لأنها إما أن تكتفي بوصف الواقع، أو تكتفي بصياغة أفكار عامة ومجردة، وعلى العكس من كل ذلك فإن الصدر حاول أن يقدم من خلال كل كتاباته الأسس المنهجية والنظرية لفلسفة إسلامية معاصرة، كما حاول من خلال هذه الفلسفة أن يرسم معالم مسار الأمة نحو إعادة بناء الحضارة الاسلاميّة، ففلسفة الصدر تجمع بين الواقع والمثال، فإذا كانت هناك مثالية في فلسفة الصدر فهي مثالية نوعية أي مثالية لها خصوصيتها على اعتبار أنها ليست من أنواع المثاليات الحالمة، بل هي مثالية متجذرة في تاريخ الأمة وفي الواقع فهي تنطلق من الواقع لتغييره.
فالصدر قد فتح، بموقفه هذا، طريقاً جديداً للفلسفة، فهو قد رسم معالم فلسفة إسلامية معاصرة خارج الواقعية التبريرية والمثالية الحالمة، الحقيقة عند الصدر لا تتمثل في توافق العقل مع نفسه كما أن الحقيقة ليست في توافق العقل مع الوجود، مفهوم الخلافة تنتج عنه رؤية فلسفية تتمحور حول التطلع إلى المثل الأعلى وما ينجم عن هذا التطلع من إرادة التجاوز: تجاوز عجز العقل وتجاوز الواقع المعطى، إن مايميز فلسفة الصدر هو التحليل لمواضيع قرآنية جديدة ولمفاهيم جديدة، وقد نتج عن هذا فتح مجال واسع للبحث أمام الفكر الإسلامي المعاصر، إن طرح الصدر لمشكلة علاقة الفلسفة بالدين من موقع نسبية الفلسفة يعبر عن موقف نقدي تجاه الفلسفة وتجاه العقل.
إن هذه الرؤية الجديدة لعلاقة الفلسفة بالدين جعلت فلسفة الصدر في موقف بحث مستمر، فبدلاً من التوفيق بين الفلسفة والدين بصورة مبسطة ومتسرعة وجه الصدر الفلسفة الإسلامية المعاصرة نحو تجاوز مفهوم التوفيق وتوسيع مجال البحث أمام الفكر الإسلامي المعاصر، لقد كشف الصدر عن قضايا ومواضيع فلسفية جديدة في القرآن الكريم كالفطرة والعقل والقيم والمجتمع والأمة والانحطاط والتقدم وحركة التاريخ وعلاقتها بسنن الله.. الخ . هذا إضافة إلى المواضيع الفقهية التي كشف الصدر عن أبعادها المفهومية التي يتم من خلالها تنظير المذهب الاجتماعي الإسلامي.
لقد تميز الفكر الإسلامي القديم بالقطيعة بين الفقه والفلسفة، وقد فقد الفقه حركيته عندما جمد ضمن إطار فقه الفروع، فبدلاً من تحليل المواضيع الفقهية في أفق فلسفي لحصر الفقه في النظرة التجزيئية للقضايا وابتعد، نتيجة لذلك، عن الرؤية الكلية التي يمكن من خلالها صياغة الرؤية الاجتماعية الإسلامية.
وهكذا كانت النتيجة الأولى، على الصعيد المعرفي، للقطيعة بين الفقه والفلسفة، القطيعة بين الفقه والسياسية التي انتهت إلى غياب وجود فكر اجتماعي انطلاقاً من القضايا والمفاهيم الفقهية، فالفقه قد تاه وتشتت في جزئيات فقه الفروع، والفقهاء لم يطرحوا القضايا الاجتماعية وحلولها ضمن رؤية اجتماعية كلية، فالأحكام الشرعية المرتبطة بالصيام والزكاة والعمل والجهاد والامامة والخلافة لم يتم تحليلها ضمن رؤية كلية ومفهومية بسبب غياب الطرح الفلسفي للأحكام الشرعية.
وهناك نتيجة أخرى خطيرة بالنسبة للفكر الإسلامي: إن القطيعة بين الفقه والفلسفة قد دفعت بالفلسفة الإسلامية نحو التجريد والابتعاد عن واقع الأمة واهتمامات الشعوب الإسلامية.
لاشك أن علم الكلام قد استنبط بعض المفاهيم من القرآن الكريم كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتأكيد على مسؤولية الإنسان، غير أن علماء الكلام لم يحددوا عن طريق هذه المفاهيم رؤية إلى الإنسان والمجتمع ، فهذه المفاهيم قد عزلت عن النظرة الإسلامية إلى الكون والإنسان.
ويتجلى في هذا السياق عطاء الصدر، فلسفة الصدر تتحدّد في خط الاجتهاد، نقطة الاتفاق بين اجتهاد الصدر والاجتهاد في القديم تتمثل في الموقف التعبّدي من النص، وقد تجاوز الصدر الاجتهاد بمفهومه القديم عندما فتح العملية الاجتهادية على الفلسفة، وهذا ما مكنه من صياغة المذهب الاجتماعي الإسلامي ومن صياغة الإطار العام لعلوم اجتماعية إسلامية تختلف عن العلوم الاجتماعية ذات المصدر الغربي، وهي العلوم الاجتماعية السائدة اليوم.
فالصدر اتخذ موقفاً من رؤية الفلسفة الغربية إلى الإنسان، وهي رؤية منفصلة عن الغيب، وعالج في هذا السياق المشكلة الميتافيريقية من الناحية المعرفية كما أنه طرح هذه المشكلة من موقع علاقتها بالدين وحلل مدى تأثير الميتافيزيقا على الحياة الاجتماعية.
رفض الصدر الموقف الماركسي والوضعي من الميتافيزيقا، وهو رفض مبني على التحليل النقدي وطرح الفلسفة الإسلامية كبديل، إن الميتافيزيقا في نظر الصدر ضرورية من الناحية العقلية ومن الناحية الدينية، فهي ليست مرتبطة بتطور العقل كما تزعم الوضعية التي تنفي الميتافيزيقا باسم تاريخ الفكر (مذهب أجوست كونت) ، كما يرى الصدر بأن الميتافيزيقيا ليست مرتبطة بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة كما ترى الماركسية، فالتساؤلات الميتافيزقية تساؤلات تصدر عن الإنسان بصورة فطرية، هناك تناسق، في نظر الصدر، بين العقل والوجود، بين نظام الكون وتطلع العقل نحو معرفة معنى الوجود، فبنية العقل ليست غريبة عن الوجود، فالمبادئ الموجّهة للعقلانية وللمعرفة كالعلية والغائية هي مبادئ ضرورية لا يمكن تصور العقل بدونها، إن الصدر يرفض المذاهب الفلسفية التي ترى أن الله خارج الكون، ويرفض في نفس الوقت، المحايثة التي تذيب الله في الكون، فصفات الله وأسمائه تنفي المحايثة كما تتجلّى في المذاهب الفلسفية التي لا تميز بين الله والكون، فالصدر انتقد المحايثة باسم التعالي، غير أن التعالي في فلسفة الصدر لا ينفي المحايثة من حيث هي تعبير عن علاقة الله بالكون.
وعلى الرغم من أن الصدر يعتمد على المنهج التجريبي للاستدلال على وجود الله (اكتشف الصدر دليلاً جديداً للاستدلال على وجود الله هوالدليل الاستقرائي أوالعلمي) فعلى الرغم من ذلك فإنه يرى بأن حقيقة الله سبحانه وتعالى والبعث الجسدي هي أمور تفوق قدرة العقل ومن هنا ضرورة الدين ، فالدين يتضمن الغيب، لكن الغيب بدوره لا ينفي العقل، فالدليل الاستقرائي يبرهن على وجود الله ولكنه لا ينفي نسبية العقل أمام حقيقة الله، ويرى الصدر بأن القول بمعنى الوجود يتماشي مع الرؤية العلمية إلى العالم، وهذا هو التناقض الذي تصطدم به الفلسفة المادية في نظر الصدر، لأن هذه الفلسفة تنظر إلى الطبيعة كمجرد صدفة، أي لا مبرر لوجود الطبيعة ولوجود نظام الطبيعة، وتؤكد الفلسفة المادية، من جهة أخرى، على النظرة العلمية إلى الطبيعة، وهكذا فالصدر يرى بأن وجود الله يبرر الرؤية التي تعتبر أن العالم يخضع لنظام، أي يبرر مبدأ خضوع العالم إلى قوانين، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الصدر اعتمد كذلك على المنهج العلمي (الاستقراء) ليستدل على وجود نظام للكون وعلى وجود الله، فالصدر عالج المشكلة الميتافيزيقية من منظور ديني وعلمي وعقلي واجتماعي ، قوة العقل بالنسبة إليه لا تكمن في العقل ذاته بل تكمن في علاقات العقل مع الدين ومع العالم، فكل تغيير اجتماعي لا يتحقق إلا عن طريق تغيير نظرة الإنسان إلى الكون.
ونتيجة لما تقدم يمكن القول بأن الصدر أعاد صياغة الفلسفة الإسلامية القديمة والفكر الإسلامي على العموم، وأعاد كذلك صياغة فلسفة كل من الغزالي وإبن رشد، فصاغ عن طريق هذا النقد، نقد الفلسفة الإسلامية ونقد الفلسفة الغربية، فلسفة إسلامية معاصرة ثرية من حيث المفاهيم والمنهج، فهي فلسفة لها موقعها ضمن الاتجاهات الفكرية المكوّنة للثقافة المعاصرة، بل وأكثر من ذلك فقد قدّم الصدر للثقافة الإنسانية عامة فلسفةً جديدة تسعى إلى ربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى وبالقيم عن طريق ربطه بالنبوة والإمامة.

الهوامش:
* - معهد الفلسفة – جامعة وهران – الجزائر.
1 - المقصود هنا الفلسفة الإسلامية الّتي تأثرت بصورة سلبية بالفلسفية اليونانية.
2 - محمّد باقر الصدر – فلسفتنا – الأسس المنطقية للاستقراء.
3- هذا لا يعني الحط من قيمة فلسفة الغزالي، فهي فلسفة ثرية وذات جوانب جديدة لكن نقد الفلسفة اليونانية يقتضي حتماً نقد المنطق الأرسطي على غرار ما فعله الصدر في نقده للفلسفة الغربية حيث أنه انتقد منهج هذه الفلسفة، كنقده للمنطق الجدلي مثلاً.
4 - سأبيّن في بحث أقوم به حول الميتافيزيقا عند الصدر أنه أكتشف دليلاً جديداً على وجود الله يمكن أن نطلق عليه إسم «الدليل عن طريق المثل الأعلى».
5 - التواضع هنا مفهوم إبستمولوجي كما أنه عنصر جوهري في أخلاقيّة البحث.
6- ويعتبر هذا دحضاً لموقف محمد عابد الجابري الذي يقسم الفكر الاسلامي إلى بيان وبرهان وعرفان، ففلسفة الصدر تتضمن كل هذه الجوانب بصورة منسقة وكذلك فلسفة الامام الخميني.
7- القطيعة الإبستمولوجية تعني الطرح الجديد للموضوع، فهي لا تعني اختلاف المواضيع بل تعني الاختلاف في النهج وفي الطرح.
8- العملية التركيبية بين الفقه والفلسفة بدأت في الفكر الإسلامي المعاصر على يد السيّد جمال الدين وانتهت إلى صورتها المنسقة عند كل من الإمام الخميني والصدر (رضي الله تعالى عنها).
9 - يرى كثير من النقاد أن الفارابي وضع الفيلسوف في درجة أعلى من النبي.
10 - محمّد باقر الصدر: المرسل، الرسول، الرسالة، وكذلك: أهل البيت(ع) تنوع أدوار ووحدة هدف.
11 - مع العلم بأن استبداد السلطة في العراق هو استبداد لا نظير له.
12- المحدثون في العالم الإسلامي يظنّون بأنهم هم وحدهم الذين ينتقدون التراث خاصة محمد أركون والجابري وفؤاد زكريا.
13 - محمد باقر الصدر: التفسير الموضوعي.
14- المحدثون في العالم الإسلامي ليسوا نزهاء فلأنّهم يعتبرون أن الفكر الإسلامي المعاصر هو مجرد وعظ وإرشاد ولا يتضمّن مفاهيم فلسفية ، ويستدلون على ذلك بلجوئهم إلى بعض الكتابات ذات الأسلوب الوعظي ولكنّهم يتغافلون – عمداً – عن ذكر مفكرين من أمثال الصدر ومالك بن نبي وعلي شريعتي ومرتضى مطهّري.

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• الإمامة   (بازدید: 1736)   (نویسنده: الشيخ مجيد العصفور)
• الامداد الغيبي في حياة البشرية   (بازدید: 1445)   (نویسنده: مرتضى مطهري)
• البرهان والعرفان   (بازدید: 1334)   (نویسنده: الدكتور علي أبو الخير)
• المنطلقات الفكرية للتعددية السياسية   (بازدید: 1877)   (نویسنده: الدكتور حسان عبدالله حسان)
• المنظومة الفكرية للشهرستاني وموقع ابن سينا منها   (بازدید: 2123)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• تأملات في دعاء شهر رجب   (بازدید: 3400)   (نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• قصة الناي في فكر الكواكبي   (بازدید: 1794)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• ما الذي يعنينا في هذا الاستشراق؟   (بازدید: 1289)   (نویسنده: عبدالنبي اصطيف)
• مقاصد الشريعة في المجتمع الإسلامي   (بازدید: 2789)   (نویسنده: الدكتور عمار الطالبي)
• مناهج دراسة مسألة «المهدي»   (بازدید: 1296)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ   (بازدید: 1222)   (نویسنده: مرتضى مطهري)
• الاسلام وايران / الاتجاه الحضاري   (بازدید: 2176)   (نویسنده: الدکتور محسن الويري)
• التجديد والزمن - رؤية الشهيد الصدر لمؤثرات التجديد   (بازدید: 1254)   (نویسنده: السيد حسين الشامي)
• التحديات التي تواجه الإسلام / في العصر الحديث   (بازدید: 6892)   (نویسنده: الدكتور محمود حمدى زقزوق)
• الحداثة والتجديد / في فكر الإمام الخميني العرفاني   (بازدید: 1723)   (نویسنده: الدكتورة فاطمة الطباطبائي)
• الشهيد مطهري وإحياء الفكر الاسلامي   (بازدید: 2456)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• العلاقات الدولية / واحترام العهود والمواثيق في الإسلام   (بازدید: 2924)   (نویسنده: الدكتور وهبة الزحيلي)
• الغلو والتطرّف والإرهاب / وموقف الإسلام منها   (بازدید: 1333)   (نویسنده: الدكتور مراد ويلفريد هوفمان)
• الغلوُّ والتَّطرف والإرهاب / وموقف الإسلام منها   (بازدید: 1617)   (نویسنده: الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي)
• دور الامام الصدر في التطوير الفقهي / وتحديد المشكلة الاقتصادية   (بازدید: 1078)   (نویسنده: الدكتور عبد الهادي الفضلي)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]