banner
مساحة «للتعارف» بين الإیرانيين و العرب
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
  کلمات   جمل   تعليقات      

سيف الدولة و غزوات الصليبيين
رسالة التقريب - العدد ١٥
تاريخ
بتول مشكين فام
1418

هذه دراسة تاريخية لها مؤشرات هامة في حياة المسلمين وعظة وعبرة في حياتهم. إنها تصوّر لنا المواقف الجهادية العظيمة لدولة الحمدانين أمام الصليبيين، وأهم من ذلك تعطينا صورة رائعة عن وحدة المسلمين آنئذ تجاه الغزو الاجنبي. فقد وقف أهل السنة الى جانب هذه الدولة الشيعية، ووقف الخراسانيون العجم إلى جانب سيف الدولة العربي ليدافعوا معا عن حياض الاسلام. وهي دروس رائعة نحن اليوم أحوج ما نكون اليها في مواجهة التحديات.
العباسيون والبيزنطيون
لقد حلَّ بالخلافة الاسلامية خلال العصر العباسي ضعف شديد، وانحلال، ومصائب، فانتهز البيزنطيون هذه الفرصة للاغارة على بلاد الدولة العباسية. ففي سنة ٢٣٨هـ أغار البيزنطيون على سواحل مصر، واستولوا على دمياط [٢] وتنيس [٣]
ـ
١ - مدرّسة جامعيّة في طهران.
٢ - دمياط: ثغر من ثغور الاسلام وهي مدينة قديمة بين تنيس ومصر على زاوية بين بحر الروم الملح والنيل. الحمدي، ياقوت، معجم البلدان ٢ / ٤٧٢.
٣ - تِنّيس = بكسرتين وتشديد النون، وياء ساكنة والسين مهملة: جزيرة في بحر مصر قريبة من البرّ بين الفَرَما ودمياط، والفرما في شرقيّها. (المصدر السابق ٢ / ٥١).
وعاثوا فيهما. وفي سنة ٢٤١هـ أغاروا في عهد المتوكل على مدينة عين زربة [١] القريبة من المصيصة [٢]، وأسروا آلافاً من المسلمين، وأرغموهم على اعتناق المسيحية [٣]. وكذلك أغار البيزنطيون على الاراضي الواقعة شمالي العراق حتى بلغوا آمِد [٤]، وأسروا نحو عشرة آلاف من المسلمين، فثار المتوكل لينتقم من البيزنطيين، فاستولى على بعض بلادهم جنوبي آسيا الصغرى سنة ٢٤٤هـ [٥].
وفي عهد المستعين غزا المسلمون بلاد الروم واستولوا على بعض الحصون البيزنطية، وفي هذه المعركة استشهد اثنان [٦] من أكبر قُوّاد المسلمين، فأثار نبأ استشهادهما حماسة العامة ببغداد. واستطاعت الروح الدينية أن تجتذب جموعاً كثيفة من الامصار القريبة للجهاد [٧].
ولمّا تولَّى المعتمد (٢٥٦ - ٢٧٩هـ) الخلافة تقلّصت الدولة العباسية الى حدود
ـ
١ - عين زربة أو عين زَرْبَى: بلد بالثغر من نواحي المصيصة (معجم البلدان ٤ / ١٧٧).
٢ - المصيصة: مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام بين انطاكية وبلاد الروم تقارب طرسوس. (معجم البلدان ٥ / ١٤٥).
٣ - الطبري، ابو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الامم والملوك ٥ / ٣١٧ ط بيروت، ١٩٨٨م / ١٤٠٨هـ.
٤ - آمِد: أعظم مدن ديار بكر وأجلُّها قدراً، وأشهرها ذكراً. بلد قديم حصين ركين، مبنيّ بالحجارة السُود مطلّة على دجلة. (معجم البلدان ١ / ٥٦).
٥ - الطبري ٥ / ٣٢١.
٦ - هما عمر بن عبيد اللّه الاقطع، وعلي بن يحيى الارمني اللذان يقول فيهما الطبري (٥ / ٣٥٧): "كانا نابين من أنياب المسلمين، شديداً بأسهما، عظيماً غناؤهما عنهم في الثغور التي هما بهما". ويقول صاحب مروج الذهب (٢ / ٤٥) "انهما كانا من أهل البأس والنجدة والمكايدة في النصرانية، حتّى أن الروم صوّروا في كنائسهم عشرة من كبار قواد المسلمين، من بينهم عمر بن عبيد اللّه، وعلي بن يحيى الارمني".
٧ - حسن، ابراهيم حسن، تاريخ الاسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي ٣ / ٢٣٣، ط مصر ١٩٥٥م.
الجزيرة والعراق، وتجدّد النزاع بين المسلمين والروم، وكانت كفّة الحرب لصالح البيزنطيين [١].
أمّا موقف البيزنطيين من أحمد بن طولون والاخشيديين فكان موقفاً ليّناً الى حدٍّ ما، فانهم هادنوا أحمد بن طولون سنة ٢٦٥هـ، وأهدوا اليه عدة مصاحف مع عدد من أسرى المسلمين [٢]. وحاول الامبراطور رومانوس أن يتودد الى الاخشيد ويمدحه ويكاتبه دون الخليفة على غير ما جرت به العادة ذلك الوقت [٣].
وقد أتاح اشتغال العباسيين بالثورات الداخلية الفرصة للبيزنطيين للايغال في البلاد الاسلامية، فحاصروا قلمية [٤] القريبة من طرسوس سنة ٢٧٠هـ [٥] وأغاروا سنة ٢٩٢هـ على مرعش ونواحيها [٦]، وقصدوا سنة ٣٠٣هـ حصن منصور وسبوا من كان فيه، كما أوقعوا بجند المسلمين في طرسوس وعاثوا فساداً بمرعش [٧].
ورغم صمود المسلمين أمام هجمات البيزنطيين، كان النصر في أغلب الاحيان من نصيب العدو. وقد وقف البيزنطيون على مبلغ الضعف الذي حلَّ بالدولة العباسية، ولذلك نراهم يفرضون أداء الخراج على المسلمين المرابطين بالثغور ويؤكد الامبراطور البيزنطي على ضعف المسلمين عند فرضه هذا الخراج بقوله [٨]:
"إن فعلتم ذلك طائعين، والا قصدتكم، فقد صحَّ عندي ضعفكم".
ويرى الباحثون أن انتصار الروم على المسلمين في القرن الرابع، لم يكن نتيجة ضعف العباسيين فحسب، بل إنه نتيجة تحوّل عند الروم، فانهم أعادوا النظر في أنظمتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واهتموا بالجيش وأعادوا تنظيمه وتكميله.
ـ
١ - المصدر السابق ٣ / ٣٣٣.
٢ - الطبري ٥ / ٥٢٠.
٣ - الاندلسي، ابن سعيد، المغرب في حُلى المغرب ١ / ١٦٧ ط مصر ١٩٥٣.
٤ - قَلَمْيَة ; كورة واسعة برأسها من بلاد الروم قرب طرسوس. (معجم البلدان ٤ / ٣٩٢).
٥ - ابن الاثير، عز الدين ابي الحسن علي بن ابي الكرم: الكامل في التاريخ، ٧ / ٤٠٦ ط بيروت ١٣٨٦هـ / ١٩٩٦م.
٦ - المصدر السابق ٧ / ٥٣٧.
٧ - المصدر السابق ٨ / ٩٥، ٨ / ٩٦.
٨ - تجارب الامم / ١٤٦.
الصليبيون والحمدانيون
عصر سيف الدولة كان متزامنا مع حكم الاسرة المقدونية (٨٦٨ - ١٠٥٧م) التي بلغت الامبراطورية البيزنطية ذروة العزة والقوة في عهدها. وقد توالت على عرش هذه الاسرة سلسلة من الحكام البارزين مثل نقفور فوقاس، ويوحناتسيمكس، وباسيل الثاني وكانت لهؤلاء نفوس متحفّزة، قوية الشكيمة، وكان يغلب عليهم جميعاً الميل للاستبداد والعنف، ويتصرفون في كثير من الاحيان دون رحمة أو اعتبار للحرمة، وكانوا الى ذلك قادة حرب ماهرين، مبرزين [١].
أمّا عن الجيش الرومي فقد كان يربو عدده في الموقعة الواحدة على مائتي ألف محارب أحياناً، وهم بعد ذلك من أجناس مختلفة بين روس وبلغار وروم وصقلب وأرمن وخزر، فجيش البيزنطيين على حدّ قول المتنبي [٢]:
تَجَمَّعَ فيه كُلُّ لسن وأمَّة *** فما يُفْهِمُ الحدَّاثَ إلا التَرَاجِمُ
واذا درسنا غزوات الصليبيين لبلاد المسلمين في منتصف القرن الرابع نلاحظ تجهيز قواتهم العجيبة، حيث كانت عدة قواتهم تناهز مائتي ألف رجل، منهم ثلاثون ألف رجل بالجواشن، وثلاثون ألفاً للهدم وإصلاح الطرق من الثلج، وأربعة آلاف بغل يحمل الحسك الحديد [٣].
كان نقفور قبل توليه القيادة والملك قائداً عاماً للقوات البيزنطية البرية والبحرية في الجبهة الغربية، وقد نجح فيما اخفق فيه كثير من القواد السابقين حينما استطاع استعادة جزيرة كريت من يد المسلمين سنة ٣٥٠هـ / ٩٦١م [٤]. ونقفور هذا حارب سيف الدولة عشرين سنة.
أمّا برداس أخو نقفور فقد التقى بسيف الدولة في عدة معارك، وعلى رغم كثافة جيوشه، لم يحرز نصراً واحداً، بل كان يفقد في كل معركة جانبا كبيراً من جيشه
ـ
١ - الشكعة، مصطفى، سيف الدولة الحمداني / ١١٢.
٢ - شرح ديوان المتنبي للبرقوقي، ٣ / ١٠٠، بيروت ١٤٠٧ هـ / ١٩٨٦م.
٣ - الكامل في التاريخ ٨ / ٥٤١.
٤ - العرب والروم لغازيليف / ٥٨ ; الشكعة / ١١١.
وعدداً خطيراً من بطارقته - أي قواده - ثم اكتمل سوء حظه حينما التقى بسيف الدولة قرب مرعش سنة ٣٤٢هـ / ٩٥٣م - وفي هذه المعركة جرح برداس في وجهه، ووقع ابنه قسطنطين أسيراً في يد سيف الدولة فضلاً عن أسرى آخرين من قواده.
وكانت هذه المعركة من أكبر ما مرّ على البيزنطيين من نكبات، فبعدها حزن برداس حزناً شديداً على أسر ولده، ودخل الدير مترهباً. وفي ذلك يقول المتنبي [١]:
فَلَو كان يُنجي مِنْ عليٍّ ترهّـبٌ *** تَرَهَّبَتِ الأملاكُ مَثنَى ومَوْحدا
ويقول أبو العباس أحمد بن محمّد النامي، شاعر سيف الدولة الحمداني [٢]:
لكنَّهُ طلبَ الترهَّبَ خيفةً *** ممنْ لَهُ تتقاصرُ الاعمارُ
فمكان قائمِ سَيْفهِ عكازه *** ومكان ما يتمنطقُ الزّنارُ
نوايا الصليبيين وأهدافهم
إذا درسنا غزوات الروم لبلاد المسلمين في فترة حكم الحمدانيين، وأمعنا النظر فيها، نرى أن الحروب الصليبية يبدأ عهدها من هذه الفترة، لا من فترة صلاح الدين الايوبي في منتصف القرن الخامس للهجرة، وكانت غاية الروم في تلك الفترتين واحدة، والهدف واحد، ولكن أسماء المهاجمين تبدلت، وألبستهم تغيّرت، وأسلحتهم تطوّرت، فان قواد الروم المتعصبين، منهم نقفور فوقاس كان يسعى الى احتلال بيت المقدس، وهي الفكرة نفسها التي قامت عليها الحروب الصليبية بعد ذلك بقرن ونصف من الزمان [٣]. فها هو نسمعه سنة ٣٥٤هـ، وهو على منابر طرسوس يقول لمن
ـ
١ - شرح ديوان المتنبي ٢ / ٧.
٢ - كانار، ماريوس، نخب تاريخية وأدبية جامعة لاخبار الامير سيف الدولة الحمداني / ٣٧٧.
٣ - وقد بقيت هذه الفكرة وراء كل حرب يشنّها الغرب ضد الاسلام والمسلمين. على الصعيد العسكري رأينا قائدهم في عصرنا الحديث يحتل أرض فلسطين ويقول: الآن انتهت الحروب الصليبية. ولم تنته بعد مادامت في المسلمين روح تستهدف استعادة عزتهم وهذه الحرب تتواصل اليوم على شكل هجوم ثقافي، ففي شهر حزيران الماضي بدأت قناة تلفزيون الشرق الاوسط بالبث من القدس، بتقنيات حديثة تغطي منطقة واسعة من البلاد العربية وغرب إيران. وتستهدف القناة بث أفكار "شهود يهوه" وهي حركة نصرانية حديثة تنتظر عودة السيد المسيح الى اسرائيل. وتدور برامجها حول محور تشويه صورة المسلمين والدعوة الى النصرانية.
وهكذا يلتقي على أرض القدس كل أعداء الاسلام من اليهود والنصارى ليشكلوا جبهة عسكرية وإعلامية وثقافية لمحاربة المسلمين. فأين المسلمون؟ وأين لجان القدس من هذه الحرب الشرسة؟ ! (التحرير)
حوله: أين أنا؟ فقالوا: على منبر طرسوس، فقال: لا ولكنّي على منبر بيت المقدس، وهذه كانت تمنعكم من ذلك [١].
وقد أخذ هذا القائد يمهّد لفكرته الصليبية في القسطنطينية نفسها حين كان يظهر في أعياد الفصح مرتدياً ملابس غريبة مذهبة، منتعلاً نعلا مذهباً تشبّهاً بالسيد المسيح. وكان إذا خرج لحرب الحمدانيين حشّد في مقدمة جيشه البطاركة والقساوسة، وحمل الجنود الصلبان الكبيرة ليعطي الحرب صبغة دينية مقدسة [٢] وكان الهدف الوحيد هو الانتصار على المسلمين، والاستيلاء على بيت المقدس!
ولم يألُ العدو جهداً في تخريب مساجد المسلمين، وتدنيس مكانتها، وإيطائها بحوافر خيولهم، كما نلاحظ ذلك في حوادث سنة ٣٣٩هـ بمدينة سروج، وحوادث سنة ٣٤١هـ وسنة ٣٥١هـ وحاولوا إرغام المسلمين على التنصر واعتناق المسيحية، ففي حادثة سقوط طرسوس سنة ٣٥٢هـ طلبوا من كل الذين يرغبون الاقامة في طرسوس اعتناق النصرانية، والا فعليهم دفع الجزيه.
موقف المسلمين من غزوات الصليبيين
تنبه المسلمون للخطر الصليبي المحدق بالثغور الاسلامية، فتجهزت في خدمة
ـ
١ - ابن العديم، كمال الدين، زبدة الحلب من تاريخ حلب، تحقيق سامي الدهان ١ / ١٤٣ ط دمشق ١٣٧٠هـ / ١٩٥١م.
٢ - سيف الدولة الحمداني لمصطفى الشكعه / ١٤٠.
سيف الدولة من أهله جماعة كثيرة [١]. وبدأت النجدات والامدادات من مال ورجال ومعدات تتواكب على حلب من الامصار الاسلامية وبخاصة من خراسان [٢]، فلقد سمعوا بما أوقعه القائد البيزنطي الصليبي بـإخوانهم في طرسوس والمصيصة وما أعمل فيهم من قتل وتعذيب، وإرغامهم على اعتناق النصرانية، وتخريب المساجد، وحرق منابرها، وامتهانها بجعلها حظائر للخيل. كل ذلك نبه المسلمين على الخطر الجديد، فتوافدت الآلاف من الجنود المسلمين مجهزين بسلاحهم، بين فرسان ورجالة، وانضموا الى جيوش سيف الدولة العربية، وبدأوا يندفعون الى الثغور الاسلامية لتحريرها، والانطلاق خلف الجيوش الصليبية للثأر منها.
واذا رجعنا الى المصادر التاريخية نلاحظ أن الجيوش الخراسانية وصلت الى البلاد الشامية في وجبات عديدة وفي أحرج الظروف. فقد وصلت جموع منهم في سنة ٣٥٢هـ يريدون جهاد الصليبيين [٣]. فالتقوا بسيف الدولة وكان مريضاً فطلب منهم الرجوع لشدة الغلاء والوباء في المصيصة وطرسوس فرجعوا [٤].
وفي سنة ٣٥٣هـ وصلت الى حلب جموع من القوات الخراسانية في نحو خمسة آلاف، وصاروا في ركب سيف الدولة فمضوا الى المصيصة للجهاد، ولكن وجدوا
ـ
١ - يقال "إن أخت سيف الدولة صعدت يوماً الى برج فاطلعت على الميدان ورأت بالميدان من أهلها ما يقارب عشرين ألف فارس. فقالت: لا اله الا الله يوشك أن تقدم الساعة على آل حمدان". ابن شداد، عز الدين: الذخيرة في ذكر امراء الشام والجزيرة القسم الاول من الجزء الثالث ص ٣١٠، ط دمشق ١٩٧٨.
٢ - نعم من خراسان… أقصى شرق العالم الاسلامي… هذا هو مظهر الحياة في الامة: إذا اشتكى منه عضو…. فإين نحن اليوم من هذه الحالة التي كانت سائدة في القرن الرابع الهجري؟ ! أيحدث مثل هذا "التداعي" في عالمنا الاسلامي اليوم بعد عشرة قرون مضت على تلك الحياة الاسلامية؟ ! (التحرير).
٣ - زبدة الحلب ١ / ١٤٢; ابن تغري بردى، جمال الدين ابو المحاسن: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ٣ / ٣٣٥ ط مصر.
٤ - زبدة الحلب ١ / ١٤٢.
جيش الروم قد انصرف عنها، وتفرقت جموع الخراسانيين لشدة الغلاء في الثغور بحلب ورجع أكثرهم الى بغداد وعادوا الى خراسان [١].
وفي سنة ٣٥٥ - ٣٥٦هـ قدمت الجيوش الخراسانية للمرة الثالثة، فتلقاهم أبو المعالي ابن سيف الدولة، وبالغ في إكرامهم بالاطعمة والعلوفات، ورئيسهم أبو بكر محمد بن عيسى. وفي هذه المرة غزت القوات الخراسانية مع لؤلؤ الجراحي من انطاكية الى ناحية المصيصة، فالتقاهم ثلاثة آلاف فارس من الصليبيين، فنصر الله هذه القوات وقتلوا ألفاً من الجيوش الصليبية، وأسروا جماعة منهم وعادوا بالغنائم الى أنطاكية [٢].
وأخيراً يروى أن سيف الدولة بلغه أن بعض أسرى المسلمين عند الروم قالوا: "إنْ ثقل على الامير دفع فدية الاسرى كاتبوا بهذا الامر صاحب خراسان". ويروى أن سيف الدولة اتَّهم ابن عمه أبا فراس الحمداني بهذا القول، وقال: ومن أين يعرفه صاحب خراسان؟ فانشد أبو فراس قصيدة يعاتب فيها سيف الدولة، ويشير الى خراسان التي كانت آنذاك في عون الامير الحمداني وصارت مطمح الاسرى ورجاءهم لامر الفداء أيضاً، ويقول [٣]:
فإنّ خراسانَ وإن أنكرتْ *** عُلاي، فقد عرفتها حلب
ومن أين ينكرني الأبعدون *** أمن نقص جدّ أم من نقص أبْ
هذه الرواية أيضاً تبين موقف الايرانيين من أمر الحروب الصليبية التي دارت رحاها بين سيف الدولة والبيزنطيين وتؤكد على رجاء الأسرى المسلمين لنيل مساعدات الخراسانيين الذين هبّوا في العصر الحمداني لنجدة إخوانهم العرب من منطلق إسلامي بحت، وبغض النظر عن الحواجز الجغرافية والقومية والمذهبية.
ـ
١ - مسكويه، ابو علي احمد بن محمد، تجارب الامم ٦ / ٢٠، ط مصر ١٣٣٢هـ / ١٩١٤م.
٢ - المصدر السابق ٦ / ٢٢٨، النجوم الزاهرة ٤ / ١٢.
٣ - ديوان أبي فراس الحمداني، تحقيق التونجي / ٢٤، ط سورية ١٤٠٨ / ١٩٨٧.
غزوات سيف الدولة لبلاد الصليبيين
ندب سيف الدولة نفسه لمهمة عظمى طالما هيّأ نفسه لها منذ شبابه، وهي النهوض بعبء الحرب ضد الروم البيزنطيين. غزا خلال فترة حياته الجهادية الصليبيين أربعين مرة.
يرى صاحب النجوم الزاهرة [١] أن أوّل مغازي سيف الدولة كانت سنة ٣٢٤هـ، سار فيها الى آمِد ليقابل جيوش الدمستق المتحركة نحو هذه المدينة وسميساط [٢] فحاربه، ووقع له معه أمور حتى ملك الدمستق سميساط وأمّن أهلها.
وفي سنة ٣٢٦هـ سجّل سيف الدولة انتصاره الاوّل أمام حصن زياد، فدخله عنوة. ثم خرج منه يقاتل جيشاً كبيراً أنفذه الروم يضم مائتي ألف جندي. وأدركه الروم بين حصني زياد وسلام، واقتتل الطرفان، فدارت الدائرة على الروم وأسر منهم سبعين بطريقاً بعد أن ولَّى الجيش منهزماً [٣].
وفي سنة ٣٢٨هـ. خرج سيف الدولة من نصيبين [٤] غازياً، فنزل منازكرد يريد مدينة قاليقلا، وكان الروم قد بنوا حذاءها مدينة هفجيج، فلما علم الروم بمسيره، أخربوا هذه المدينة وهربوا، فرجع سيف الدولة الى مدينة أرزن حتى ينحسر الثلج، ويتمكن الغزو في الربيع، فخرج الى خلاط ودخل بلاد الروم، فجاءه ملك أرمينية وخزران، وهو ملك عظيم، يقال أنه لم يطأ بساط ملك قط، فاحسن اليه وخلع عليه، واستحلفه على الطاعة، فأعلن بقية عمّال هذا الملك أيضا الطاعة والانقياد لسيف الدولة، ثم سار الى ابن طُرْنيق وأناخ على مدينة موش فخربها، وهدم حصونا
ـ
١ - النجوم الزاهرة ٣ / ٢٥٨.
٢ - سُمَيْساط: مدينة على شاطئ الفرات في طرف بلاد الروم على غربي الفرات، ولها قلعة في شقّ منها يسكنها الأرمن. (معجم البلدان ٣ / ٢٥٨).
٣ - الروم في سياستهم وحضارتهم / ٣١.
٤ - نصيبين: مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل الى الشام وبينها وبين سنجار تسعة فراسخ، وبينها وبين الموصل ستة أيام (معجم البلدان ٥ / ٢٨٨).
كثيرة، وفتح قلاعاً منيعة ببلاد الروم، ووطئ منها مواطئ لم يطأها أحدٌ من المسلمين قبله.
وبعد هذه الغزوة وصله كتاب ملك الروم، فأرسل اليه جوابا حادّا، وأنفذه اليه. فقال الملك لرسول سيف الدولة: "يكاتبني هذه المكاتبة كأنّه قد نزل على قلونيه" [١] استعظاماً لذلك. فلما وصل ما قاله ملك الروم الى مسامع سيف الدولة عزم على فتح هذه المدينة (قلونيه)، وقال رادّاً على بعض أصحابه الذين استعظموا فتح هذه المدينة: "لست أقلع عن قصد هذه المدينة، فامّا الظفر وإمّا الشهادة. فسار حتّى نزل عليها، وأحرق رساتيقها، وسلب ضياعها، وكتب الى الدمستق، ومنه الى الملك كتابا من قلونيه، فاستعظم الروم هذا الفعل، وخافوه خوفاً عظيماً، لانه بلد ماوطئه أحدٌ من المسلمين [٢].
غزوات سيف الدولة بين فترتي ٣٢٩ - ٣٥٦هـ
في سنة ٣٣٠ هـ دخل الروم حلب، ونهبوا، وخرّبوا البلاد وسبوا نحو خمسة آلاف إنسان [٣].
وفي سنة ٣٣١هـ غزا الروم ديار بكر، ودارا، وأرزن، ونصيبين، وسبوا من أهالي هذه المدن جماعة كثيرة [٤].
ومن هذه السنة نفسها، التمس الروم من أهل الرّها أن يدفعوا اليهم المنديل الذي يزعمون أنه يحمل صورة وجه المسيح إزاء فداء أسرى المسلمين [٥].
وفي سنة ٣٣٣هـ انتهز الصليبيون فرصة اشتغال سيف الدولة بحرب الاخشيديين بحلب، وشنوا هجوماً على بغراس ومرعش [٦]، فسارع سيف الدولة
ـ
١ - قلونيه: بلد بالروم، بينه وبين قسطنطينية ستون بريداً (المصدر السابق ٤ / ٣٩٣).
٢ - نخب تاريخية / ٧٤، نقلاً عن ابن ظافر.
٣ - الكامل في التاريخ ٨ / ٣٩٢.
٤ - نخب تاريخية / ٧٩ و ٨١.
٥ - الكامل في التاريخ ٨ / ٤٠٥.
٦ - مرعش: مدينة في الثغور بين الشام وبلاد الروم لها سوران وخندق وفي وسطها حصن عليه سور يعرف بالمرواني، وبها ربض يعرف بالهارونية. (معجم البلدان ٥ / ١٠٧).
وبغراس: مدينة في سفح جبل، بينها وبين أنطاكية أربعة فراسخ، (المصدر السابق ١ / ٤٦٧).
والتقى بالصليبيين في جيش كبير، وأوقع بهم هزيمة نكراء، وغنم غنائم كثيرة، واستنقذ الاسرى من أيدي الروم، ثم بلغه أن مدينةً للروم تهدّم بعض سورها، فاغتنم سيف الدولة الفرصة، وبادر فأناخ عليها، وقتل وسبى، ولكن أصيب بعض جيشه [١].
وفي سنة ٣٣٥هـ تمّ الفداء بين المسلمين والروم على يد نصر الثملّي أمير الثغور لسيف الدولة، وكان عدد الاسرى ٢٤٨٠ أسيراً من ذكر وأنثى، وفضل للروم على المسلمين ٢٣٠ أسيراً لكثرة من معهم من الاسرى، فوفاهم ذلك سيف الدولة من ماله [٢].
وفي سنة ٣٣٦هـ استولى الروم على حصن برزويه، وهو أحد الحصون الحربية الهامة، فانطلق سيف الدولة الى هذا الحصن، وأطال حصاره، فانتهز لاوون بن برداس الفرصة وحاصر قلعة الحدث [٣]. ونجح كل من القائدين في مهمته. استردّ سيف الدولة حصن برزويه سنة ٢٣٧هـ.
التقى سيف الدولة بالروم سنة ٣٣٧هـ، ولكنه انهزم، فأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس [٤].
وفي سنة ٣٣٩هـ فتح سيف الدولة سمندو وخرشنة [٥]، بعد أن وافاه عسكر طرسوس في أربعة آلاف رجل بقيادة ابي حصين قاضي سيف الدولة، وأخذت
ـ
١ - النجوم الزاهرة ٣ / ٢٨٣.
٢ - الكامل في التاريخ ٨ / ٤٦٨.
٣ - الحدث: قلعة حصينة بين ملطية وسُمَيساط ومرعش من الثغور، (معجم البلدان ٢ / ٢٢٧).
٤ - الطباخ، محمد راغب، اعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ١ / ٢٥٧، ط حلب ١٣٤٢ / ١٩٢٣م.
٥ - سمندو: بلد وسط بلاد الروم. (معجم البلدان ٣ / ٢٥٣). وخرشنة: بلد قرب ملطية من بلاد الروم، سمي خرشنة باسم عامره، وهو خرشنة بن الروم بن اليقن بن سام بن نوح (ع). (معجم البلدان ٢ / ٣٥٩).
الجيوش الحمدانية زحفها نحو صارخة، وهي منطقة قريبة من العاصمة القسطنطينية، فانهزم الجيش البيزنطي، وعند الرجوع أخذ الروم الدرب على الجيوش المسلمة، فاستشهد عدد كبير من المسلمين، وأسروا الامراء والقضاة من الحمدانيين، ونجا سيف الدولة في عدد قليل، ووصل من سلم في أسوأ حال [١]. فعرفت هذه الحرب بـ "غزوة المصيبة" [٢]. وبعد هذا الانكسار، أرسل الدمستق الى سيف الدولة يطلب الهدنة فلم يجب سيف الدولة [٣]، فجمع جيوش الموصل والجزيرة والشام والاعراب ودخل بلاد الروم، فقتل وسبى كثيراً، وعاد الى حلب سالماً [٤].
وفي سنة ٣٤١هـ أخذت الروم مدينة سروج [٥]، فاستباحوها [٦]، وسبوا وغنموا وخربوا مساجدها، وانصرفوا فتبعهم سيف الدولة وظفر بهم [٧].
وفي هذه السنة بنى سيف الدولة مرعش بعد أن خربها الروم سنة ٣٣٧هـ، فجاء الدمستق ليمنع من بنائها، فقصده سيف الدولة، فوّلى هارباً، فتمّم سيف الدولة عمارتها [٨].
وفي سنة ٣٤٢هـ غزا سيف الدولة ملطية وشاطئ الفرات. وظل الجيش الاسلامي يضرب في الروم باسطاً سلطانه على سمنين وحصن الران وغيرها من المواقع، فانتهز العدو هذه الفرصة، وأغار على بعض الاطراف الاسلامية، فبلغ سيف الدولة هذا الخبر، فاسرع الى دلوك [٩] وعبرها، فهزم العدو على نهرجيحان [١٠]. وكانت معركة
ـ
١ - تجارب الامم ٦ / ١٢٥.
٢ - الروم في سياستهم / ٣٢.
٣ - تجارب الامم ٦ / ١٢٥.
٤ - النجوم الزاهرة ٣ / ٣٠٥.
٥ - سروج: بلدة قريبة من حرّان من ديار مضر (معجم البلدان ٣ / ٢١٦).
٦ - الحنبلي، ابن العماد: شذرات الذهب في أخبار من ذهب ٢ / ٣٥٨ ط بيروت.
٧ - الحلبي الغزي، كامل بن حسين: نهر الذهب في تاريخ حلب ٣ / ٤٨ ط حلب ١٣٤٥هـ / ١٩٢٦م.
٨ - زبدة الحلب ١ / ١٢٢.
٩ - دُلُوك: بلدية من نواحي حلب بالعواصم. (معجم البلدان ٢ / ٤٦١).
١٠ - نهر جيحان نهر يخرج من بلدا لروم حتّى ينتهي الى المصيصة ثم الى رستاق يُعرف بالملوان، (النصيبي، ابو القاسم ابن حوقل: صورة الارض / ١٦٨ ط بيروت، لا. ت).
رهيبة جرح فيها القائد البيزنطي الخطير برداس فوكاس، وأسر فيها ابنه قسطنطين الذي ظل مكرّماً عند سيف الدولة حتى مات [١]. وكانت هذه الهزيمة شديدة الوقع على القائد الصليبي فلم يتحمل إهانتها، ولذلك دخل الدير مترهباً [٢]، كما أشرنا الى ذلك آنفا.
سار سيف الدولة سنة ٣٤٣هـ نحو ثغر الحدث لبنائها بعد أن أخضعها الروم ولمدة ست سنوات متوالية، وأسرع سيف الدولة في وضع أساس الحصن. ولما علم برداس فوكاس بذلك حشّد خمسين الفاً من الروم والأرمن والصقلب والبلغار والخزر، والتحم الجيشان، وكان النصر في هذه المعركة حليف المسلمين، وقتل خلالها نحو ثلاثة آلاف من الصليبيين، فضلاً عن عدد ضخم من الاسرى من بطارقة وجنود، وفي مقدمتهم تودس الاعور، وصهر فوقاس، كما أُسر حفيد الدمستق.
وكانت هذه المعركة مريرة بالنسبة للطرفين، ولكنها كانت مشرفة للمسلمين، مهينة للصليبيين، لان هزيمتهم مع ضخامة جيشهم كانت هزيمة نكراء.
وبعد ١١ شهراً من تاريخ هزيمة البيزنطيين عاود الجيش الصليبي الكرة لاسترداد الحدث، ولكن سيف الدولة صدّ هجماتهم، وأحرز نصراً مؤزراً على الجيش الصليبي [٣].
وفي محرم سنة ٣٤٤ هـ ورد على سيف الدولة فرسان طرسوس وأذنة والمصيصة ومعهم رسول ملك الروم في طلب الهدنة والفداء [٤].
وفي جمادى الاولى من هذه السنة نهض سيف الدولة الى الثغر لما ورد عليه من أن الدمستق وجيوش النصرانية قد نزلوا على حصن الحدث، ونصبوا عليه مكايد، فسار سيف الدولة من حلب، فلما قرب من الحدث رحل العدو الى حصن رَعبان [٥].
وفي سنة ٣٤٥هـ واصل جيش المسلمين زحفه مزوداً بالسفن والاطواف التي
ـ
١ - نهر الذهب ٣ / ٤٩.
٢ - زبدة الحلب ١ / ١٣٣.
٣ - نخب تاريخية / ١٠٦ وما بعدها.
٤ - نهر الذهب ٣ / ٥٢.
٥ - نهر الذهب ٣ / ٥٤.
عبرت عليها الجيوش نهر أرسناس، فسقطت في أيديهم مدينة تل بطريق. وأسر في هذه المعركة القائد أبو العشائر الحمداني وحمل الى القسطنطينية حيث مات بها [١]. ورغم ذلك واصل سيف الدولة الغزو وفتح عدة حصون، وبلغ خرشنة وصارخة. وانتهز الصليبيون فرصة وجود سيف الدولة في بلادهم، فأرسلوا جيشاً عن طريق الاطراف الى ميّافارقين، أنزل الرعب في قلوب الناس، وخرب ونهب وأحرق وسبى [٢].
وفي هذه السنة غلب الصليبيون على طرسوس، فقتلوا من أهلها ألفاً وثلاثمائة رجل وسبوا وحرّقوا قراها [٣].
وفي سنة ٣٤٨هـ مات قسطنطين بن لاون ملك الروم، وصيّر نقفور فوقاس دمستقاً (قائدا) على حرب المغرب، وأخاه ليون دمستقاً على حرب المشرق، فتجهز ليون الى نواحي طرسوس، وسبى، وقتل، وفتح حصن الهارونية القريبة من مرعش، وسار الى ديار بكر [٤].
وفي هذه السنة أيضاً ظفر الروم بسرية من المسلمين، وأسروا أميرها محمّد بن ناصر الدولة، ثم أغاروا على الرُّها وحران [٥]، فقتلوا وسبوا [٦].
وفي سنة ٣٤٩هـ جهّز سيف الدولة ثلاثين ألفاً، فسار بهم نحو خرشنة القريبة من ثغور الروم بعد أن فتح عدة حصون بيزنطية، وقد مكّنه البيزنطيون أن يتوغل في بلادهم، ومازالوا حتى طوّقوه في ممر جبلي يُدعى مغارة الكحل. ورغم كل ما بذله رجال سيف الدولة من الحنكة والبطولة ومقاومة العدو، فان النصر لم يحالفهم هذه المرة، فخسر الامير وأضاع جيشه كله، ونجا هو وثلاثمائة من خُلّص رجاله بكثير من الجهد والمشقة [٧].
ـ
١ - نخب تاريخية / ١١٥ وما بعدها.
٢ - الكامل في التاريخ ٨ / ٥١٧.
٣ - شذرات الذهب ٢ / ٣٦٩.
٤ - زبدة الحلب ١ / ١٢٩.
٥ - حرّان: مدينة عظيمة مشهورة بنيها وبين الرّها يوم، وبين الرّقة يومان، (معجم البلدان٢ / ٣٢٥).
٦ - شذرات الذهب ٢ / ٣٧٦.
٧ - تجارب الامم ٦ / ١٨٠; الروم في سياستهم / ٣٥.
ومن الذين قتلوا في هذه المعركة القاضي أبو الحصين [١]، ومن الذين أسروا أبو فراس الحمداني [٢].
وفي سنة ٣٥٠هـ سار قفل عظيم من انطاكية الى طرسوس، ومعهم صاحب انطاكية، فخرج عليهم كمين للروم، فأخذ من كان فيها من المسلمين، وقتل كثيراً منهم، وأفلت صاحب انطاكية وبه جراحات [٣].
وفي شهر رمضان من هذه السنة دخل نجا غلام سيف الدولة بلاد الروم من ناحية ميافارقين غازياً، وسبى ألفاً وغنم أموالاً [٤].
وفي هذه السنة نقل الملك رومانوس الى حرب المشرق نقفور فوقاس فسار اليه رشيق النسيمي أمير طرسوس في حميّة من المسلمين، فبرز نقفور فقاتله، وانهزم رشيق، وقُتل من المسلمين زهاء تسعة آلاف رجل [٥].
وفي سنة ٣٥٠ - ٣٥١هـ ورد الصليبيون عين زربة في مائة وستين الفاً، فملكوا الجبل المطل على هذه المدينة، ، واستباحوا الناس العزل فيها، وهدموا منازلهم، وأخذوا مافيها من المتاع والاموال، وأحرقوا المسجد الجامع.
وفي هذا الاحتلال الشنيع تعرّض بعض الأرمن لنساء المسلمين، فثارت غيرة الرجال وجرّدوا السيوف، فاغتاظ الدمستق منهم، وأمر بقتل الجميع، وكانوا أربعمائة رجل، وقتل النساء والصبيان، ولم يترك الا جارية حدثة، ومن يصلح أن يسترق [٦].
خرج الدمستق من هذه المدينة ليعود اليها بعد عيد الفطر، وركن الى الهدنة في قيسارية [٧]. وبعدها اتجه نحو حلب ومعه جيش مؤلف من مائتي ألف محارب، فخرج
ـ
١ - تجارب الامم ٦ / ١٨٠.
٢ - سيف الدولة الحمداني للكيالي / ٩٤.
٣ - الكامل في التاريخ ٨ / ٥٣٦.
٤ - النجوم الزاهرة ٣ / ٣٢٧.
٥ - زبدة الحلب ١ / ١٣٢.
٦ - نخب تاريخية / ١٣٩.
٧ - قيسارية: بلد على ساحل بحر الشام، تُعَدّ من اعمال فلسطين، بينها وبين طبرية ثلاثة أيام. (معجم البلدان ٤ / ٤٢١).
اليهم سيف الدولة ليقابل هذا الجيش بأربعة آلاف من رجاله، ولمّا كان منهمكاً بالقتال شن نقفور هجوماً على حلب، ليستولي عليها وقد أمكن له ذلك; لأنّ بعض اللصوص انتهزوا الفرصة واعتدوا على الناس، ونهبوا أموالهم، فهال الأمر على أهالي المدينة، فانصرفوا لحماية بيوتهم، وصيانة حرماتهم، فلمّا رأى الروم السور خالياً من الناس قصدوه وصعدوه وفتحوا الابواب ودخلوا حلب. واستباحوا - كعادتهم المألوفة - الناس فيها، وأعملوا السبي والحريق لمدة ستة أيام، ولم يرفعوا السيف حتى تعبوا وسبوا من الصغار بضعة عشر ألف صبي وصبية، وأفسدوا تموين المدينة، وأحرقوا مسجدها، وخرّبوا قصر الحلبة، أجمل قصور حلب، ونهبوا كل ماكان فيه من سلاح وعتاد وحلي وحرير وديباج وأوان ذهبية [١].
لم يبق نقفور في حلب، بل تركها لاسباب مختلفة يذكرها المؤرخون. ولما رحل الروم عن حلب، عاد سيف الدولة اليها، وعمّر ما خرب منها [٢].
أثارت أحداث حلب المؤلمة ضجة في العالم الاسلامي، فاجتمع المسلمون في بقاع شتّى في المساجد.
ففي الموصل أغلق أهلها الاسواق، واجتمعوا في المسجد الجامع ومضوا الى ناصر الدولة، فضمن لهم الغزو [٣]. ووردت الكتب من بغداد أن الرعية أغلقت الابواب وذهبوا الى باب الخلافة، ووبّخوا الخليفة المطيع لله بكائنة حلب [٤]، وطلبوا منه أن يخرج الى الغزو ويأخذ بثأر أهل حلب، فوكلهم الى معزّ الدولة، فألحوا عليه وقالوا: "لا نقنع الا بخروجك أنت، وأن تكتب الى سائر الآفاق، وتجمع الجيوش، والا فانعزل لنولّي غيرك"، فغاظه كلامهم. ثم وجه الى دار معز الدولة فركب ومعه الاتراك،
ـ
١ - تجارب الامم ٦ / ١٩٤ ; الكامل ٨ / ٥٤٠.
٢ - زبدة الحلب ١ / ١٤٥.
٣ - نخب تاريخية / ١٦٥.
٤ - حادثة عظيمة تستحق الوقوف عندها طويلا. الجماهير تتجمع حول قصر الخليفة توبّخه لأنه لم يثأر لأهل حلب. إنها تكشف عن روح جهاديّة وغيرة إسلامية مدهشة (التحرير).
فصرفهم صرفاً قبيحا [١].
ثم جاءت الاخبار بموت طاغية الروم، وأن الخلف واقع بينهم في من يملكونه. فطمع عسكر طرسوس ودخلوا أرض الروم في عدّة وافرة، وأوقعوا بالروم، وانتصروا عليهم، وعادوا بغنائم لم ير مثلها.
وبعد شهر أو شهرين توجه سيف الدولة غازياً، فسار الى حرّان، وعطف على مَلْطية، فملأ يديه سبياً وغنائم ثم خرج الى آمِد [٢].
وفي سنة ٣٥٣هـ سار الروم نحو مدينة اذنة القريبة من المصيصة، فاستنجد أهلها بأهل طرسوس، فجاءهم خمسة عشر ألفاً من فارس وراجل، فالتقوا واشتد القتال ودارت الدائرة على الصليبيين، وبعد قتال دام يومين أحاط الروم بالمسلمين واستأصلوهم [٣].
وهرب أهل أذنة الى المصيصة، فحاصرها نقفور، ولكنه لم يقدر على فتح هذه المدينة لصمود المسلمين ودفاعهم عنها، وقلّة الميرة عندهم. فانصرف بعد أن أحرق ما حولها [٤].
وفي هذه الفترة الحرجة - كما قلنا سابقاً - تصل قوات كثيرة من خراسان لتجاهد في سبيل الله، وتنقذ بلاد الاسلام من دنس الصليبيين، فتقصد مع سيف الدولة المصيصة المحاصرة، ولكن عندما يصلون اليها يرون أن القوات الصليبية قد رحلت عن هذه المدينة فتتفرق جموعهم لعظم الغلاء والوباء.
أمّا طرسوس فقد نزل ملك الروم عليها سنة ٣٥٣هـ، واشتدّ القتال بين الصليبيين وأهالي طرسوس، وأسر أهل طرسوس بطريقاً كبيراً من بطارقة الروم، وأخيراً اضطرت القوات الصليبية أن تترك طرسوس بعد محاصرة دامت ثلاثة أشهر لشدة الغلاء والوباء [٥].
ـ
١ - النجوم الزاهرة ٣ / ٣٣٥.
٢ - نخب تارخية / ١٦٥.
٣ - النجوم الزاهرة ٣ / ٣٣٦.
٤ - المصدر السابق، زبدة الحلب ١ / ١٤١.
٥ - الكامل في التاريخ ٨ / ٥٥٢.
وبعد سنة قرّر نقفور أن يقوم بحملته الكبرى للقضاء على هذه الامارة الفتية التي شغلت بيزنطية عشرين عاماً كاملاً. وكان أوّل عمل قام به أن انقضّ على المصيصة ففتحها عنوة بالسيف، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم رفع السيف وأمر أن يساق من بقي في المدينة من الرجال والنساء والصبيان الى بلد الروم، وكانوا نحو مائتي ألف إنسان.
وإذ قضى نقفور على المصيصة اتجه الى طرسوس، فحاصرها حصاراً شديداً، فأذعن أهلها بالطاعة، وأخذ يشترط عليهم أن ينزح أهل طرسوس عن البلد، وأن لا يأخذوا معهم الا ما يستطيعون حمله، وأن تؤول جميع الدور والضياع الى الصليبيين، وأن يترك كل من أحبّ المقام في طرسوس دينه، وأن يعتنق النصرانية، والا يدفع جزية وهو على دينه [١].
فسار أهل طرسوس عنوة في البر والبحر، ومعهم من يحميهم الى أنطاكية، ولقيهم أهل هذه المدينة بالبكاء والنحيب، وكان في مقدمة الطرسوسيين رجلٌ يقرأ: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وان اللّه على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا اللّه…) [٢].
ثم جعل الملك المسجد الجامع بطرسوس اصطبلاً لدوابه، ونقل ماكان فيه من قناديل الى بلده، وأحرق المنبر وقلَّد البلد بطريقاً من بطارقته فى خمسة آلاف رجل، وقلَّد المصيصة بطريقاً آخر [٣].
وفي سنة ٣٥٤ - ٣٥٥هـ ورد الخبر باجابة نقفور الى ما طلبه منه سيف الدولة من الهدنة والفداء. فاطلق سيف الدولة من كان من القواد، كما أطلق نقفور عيون رجال سيف الدولة، وكان بينهم ابو فراس ومحمد بن ناصر الدولة وغيرهم من رجاله وغلمانه [٤].
ـ
١ - تجارب الامم ٦ / ٢١٠ وما بعدها.
٢ - نهر الذهب ٣ / ٦٣، والاية في سورة الحج (٣٩ - ٤٠).
٣ - تجارب الامم ٦ / ٢١١.
٤ - التنوخي، المحسن بن علي: نشوار المحاضرة واخبار المذاكرة، تحقيق: عبود الشالجي، ١ / ٢٨١ ط بيروت ١٣٩١هـ / ١٩٧١م.
وفي سنة ٣٥٥هـ سار طاغية الروم بجيوشه الى الشام، فعاث وأفسد، وأقام به نحو خمسين يوماً، فبعث سيف الدولة يستنجداخاه ناصر الدولة. فأعلن ناصر الدولة استعداده لمساعدة سيف الدولة على أية حال.
وفي هذه السنة أصعد سيف الدولة الناس الى قلعة حلب، وشحنها وانجفل الناس وعظم الخطب، وأخليت نصيبين، ثم نزل طاغية الروم بجيوشه على منج، وأحرق الربض وتحرك منها الى وادي بطنان. وسار سيف الدولة متأخراً الى قنسرين ورجاله والاعراب قد ضيقوا الخناق على الصليبيين، فلم يتركوا لهم علوفة تخرج الا أوقعوا بها. وأخذ الصليبيون أربع ضياع بما حوت، فراسل سيف الدولة ملك الروم وبذل له مالاً يعطيه إياه في ثلاثة أقساط، فقال: لا أجيبه الا أن يعطيني نصف الشام، فان طريقي الى ناحية الموصل على الشام. فقال سيف الدولة: لا أعطيه ولا حجرا واحدا. ثم جالت القوات الصليبية بأعمال حلب، وتأخّر سيف الدولة الى ناحية شيزر ونزل طاغية الروم على أنطاكية يحاصرها ثمانية أيام ليلاً ونهاراً، وبذل الامان لاهلها فابوا إطاعتهم والانقياد اليهم، فناجزهم الحرب من جوانبها، فحاربوه أشدّ حرب، وكان عسكره معوزاً الى العلوفة.
وفي هذه السنة خرجت الروم فقصدوا مدينة آمِد ونزلوا عليها، وحصروها وقاتلوا أهلها، فقتل منهم ثلاثمائة رجل، وأسر نحو أربعمائة أسير، ولم يمكنهم فتحها فانصرفوا الى دارا وقربوا من نصيبين خوفاً منهم [١].
وفي سنة ٣٥٢هـ أصيب سيف الدولة بفالج في يده ورجله، وفي سنة ٣٥٦هـ لبّى نداء ربه. وكان قد أوصى بأن يوضع خده في لحده على لَبِنة بقدر الكف جمعها مما علق بثيابه ودروعه وسلاحه من غبار غزواته للصليبيين. ونفذت وصيته [٢].
وبذلك انقضت تلك الصفحات الطويلة من كفاح سيف الدولة الذي دوّخ أكبر امبراطورية في زمانه. ولم يغمد سيف جهاده الى آخر لحظة من حياته.
ـ
١ - الكامل في التاريخ ٨ / ٥٧٢.
٢ - اعلام النبلاء ١ / ٢٧٨.

مقالات أخرى من هذا الموضوع
• كلمة عن المؤلف والكتاب   (بازدید: 945)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• محاسن إصفهان   (بازدید: 1041)   (نویسنده: سعد بن الحسين المافرّوخي الاصفهاني)
• محاسن إصفهان   (بازدید: 932)   (نویسنده: سعد بن الحسين المافرّوخي الاصفهاني)
• محاسن أصفهان / القسم الأول   (بازدید: 1921)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• محاسن أصفهان / القسم الثاني   (بازدید: 1267)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• مصادر مختصة باصفهان   (بازدید: 1383)   (نویسنده: السيد مهدي فقيه إيماني)
• نصوص موثـّقة من أقوال الحسين بن علي في كربلاء   (بازدید: 2994)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• موقف الايرانيين من الدعوة الإسلامية   (بازدید: 1132)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• إعادة كتابة التاريخ   (بازدید: 611)   (نویسنده: شاكر الفردان)
• مقدمة فكرية لحركة المشروطة   (بازدید: 617)   (نویسنده: الدكتور علي اكبر ولايتي)
• مقدمة فكرية لحركة المشروطة   (بازدید: 668)   (نویسنده: الدكتور علي اكبر ولايتي)
• مقدمة فكرية لحركة المشروطة   (بازدید: 633)   (نویسنده: الدكتور علي اكبر ولايتي)
• مقدمة فكرية لحركة المشروطة - ٥ -   (بازدید: 720)   (نویسنده: الدكتور علي اكبر ولايتي)
• موقف الخلفاء العباسيين من أئمة أهل السنة الأربعة و مذاهبهم   (بازدید: 1467)   (نویسنده: الدکتور عبد الحسين علي أحمد)
• مقدمة فكرية لحركة المشروطة   (بازدید: 715)   (نویسنده: الدكتور علي اكبر ولايتي)
• موقف الإيرانيين من الدعوة الإسلاميّة   (بازدید: 837)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• موقف الإيرانيين من الدعوة الإسلاميّة   (بازدید: 655)   (نویسنده: )
• موقف الإسلام من التراث الإيراني القديم   (بازدید: 1840)   (نویسنده: محمّد علي آذرشب)

التعليقات
الاسم:
البريد الالکتروني:
العنوان:
التعليق:
ثبت
[ Web design by Abadis ]