المنطلقات الفكرية للتعددية السياسية في القرآن الكريم 2/2
|
ثقافتنا - العدد 14
قرآن
الدكتور حسان عبدالله حسان
1428
ثانيا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لغـة: يمثل مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، القاعدة الثانية التي يمكن من خلالها "الممارسة العملية" للتعددية السياسية في المجتمع، والتحليل اللفظي يبين لنا ماهية "المعروف" وماهية "المنكر" في إطارهما العام، فالمعروف: "اسم لكل فعل يعرف حسنه بالعقل أو الشرع"(1)، و"المنكر" كل ما تحكم العقول الصحيحة بقبحه: أو يقبحه الشرع أو يحرمه أو يكرهه"(2) (*) فالمعروف اسم جامع لكل ما ينبغي فعله من الخير، والمنكر اسم جامع لكل ما ينبغي تركه من الإثم أو المعصية أو غير ذلك مما يؤدي إليهما. والمتأمل في قضية "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، يجد أن القرآن قدم لها عدة معالجات سواء على المستوى التاريخي ـ باستعراض الأمم التي عملت بهذه الفريضة أو لم تعمل ـ أو على المستوى السنني ـ بإبراز أهم النتائج والآثار للأخذ بهذا المبدأ أو إهماله. يقول تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (، ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(، ( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (،( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(. يوضح لنا هذا العرض السابق عدة ملاحظات مهمة منها: 1- أن مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" كان واجباً على الأمم السابقة أي أنه من أصول الشرع التي لم تنسخ في شريعة الإسلام. 2- إن فرض هذا المبدأ إنما جاء بهدف مواجهة "الفساد" و"الانحراف الذي يضر الصالح العام أو "المجتمع". 3- أن هذا الفرض جاء ـ أيضاً ـ من أجل إحداث تغيير اجتماعي تربوي في نفسية الإنسان وسلوكه. 4- أن المنوط بهذا الفرض هو المجتمع كله، إلا أنه يعول ـ بصفة خاصة ـ على الفئة التي تعرف شرع الله أكثر، وذلك انطلاقاً من كونها أكثر معرفة لأهمية هذه الفريضة من غيرها. 5- إن التقاعس عن القيام بتطبيق هذا المبدأ من شأنه أن "يشيع" الانحراف والفساد في جنبات المجتمع. لهذه الأسباب وغيرها وجه الله تعالى نداءه إلى الجماعة المسلمة بأن يكون منها ما يقوم بهذه الفريضة ليتجنب المخاطر التي يمكن أن تنشأ عن تضييعها أو إهمالها: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (. وقد اختلف اللغويون حول كلمة "منكم" في هذه الآية، ففريق قال أن " من" هنا للتبيين لا للتبعيض وعليه فإن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة كما في قولـه تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ(، بينما ذكر فريق آخر أن "من" للتبعيض، ومن ثم فهناك فريق هم "العلماء" الذين يختص بهم القيام بهذا الأمر وذاك النهي(3). وقد حذرهم ـ جلّ شأنه ـ من مثل فعل أهل الكتاب، وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص فقال: «ولا تكونوا» أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات «كالذين تفرقوا واختلفوا» من أهل الكتاب «من بعد ما جاءهم» في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة.. وأنه تعالى أمرهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وذلك ما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادراً على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتعالين، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الألفة والمحبة بين أهل الحق والدين، لذلك حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سبباً لعجزهم عن القيام بهذا التكليف(4). إن الهدف الأساسى لمبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" هو هدف "تغييري" أو إحداث "تغيير اجتماعي" عن طريق إزالة "الفساد" أو المنكر الموجود وإيجاد "الصلاح" أو المعروف غير الموجود وهذا كله من أجل "صيانة المجتمع من عوامل الفساد لإقامة مجتمع صالح"(5) وقد جاءت الرؤية النبوية تؤكد هدفية هذا المبدأ ـ كما أشرنا إليه سابقاً ـ واتجاهه نحو إنقاذ المجتمع من المفاسد على إطلاقها نظراً للأخطار التي تنتظر الجماعة جراء تعطيل هذه الفريضة، ومنها حدوث الاضطرابات الاجتماعية، والشعور بالغبن، وقدوة المنكر، قال T: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً"(6). وقد دل هذا الحديث على أن "الحق العام" المتعلق بمصالح المجتمع مما يجب أن يحفظ، وأن هذا الواجب يقع على عاتق كل إنسان حتى لا تتطاول يد العابثين إليه بما يخربه؛ لأن أفراد المجتمع ركاب سفينة واحدة، وأصحاب هدف مشترك ووحدة مصير، وحديث النبى T يصور هذا المعنى، وذلك حتى يتواصل الفرد مع الجماعة بالخير، ويتواصل معها في سبيل الله والصالح العام بما يحقق مصلحة الناس جميعا(7). ويحذر النبي T من عاقبة ترك هذه الفريضة سواء على المكلفين بها وهم مجموع الأمة، أو مرتكبي "المنكر" و"الفساد". فعن حذيفة-Z ـ قال T "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم"(8). والسنن التاريخية تبين لنا ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ أن "الاستبداد" هو أخطر أنواع العقاب التي تنزل بالأمم التي تترك فريضة "الأمر والنهي" وما يترتب على ذلك من أفول للحركة العلمية والثقافية، والتأخر، والتخلف التقني، وضعف الدخل القومي، وانتشار الرشوة والفساد.. إلخ من صفات "الدولة المستبدة" والشعب "الخاضع" لإله الدولة المزيف. كما أثبتت السنن التاريخية، أن من يمارس هذه الفريضة حتى ولو لم يكن مسلماً يتمتع بثمارها ونتائجها من تقدم علمي وفكري وزيادة في الإنتاج والتقنية العلمية، وذلك لأن "حركة" إزالة المنكر ووضع المعروف بدلاً منه إنما يرتقي بجميع جوانب المجتمع النفسية والفكرية والعلمية، حيث يتم استبدال: "الاستبداد بالحرية"، و"الفساد بالصلاح"، و"الظلم بالعدل".. وهكذا فيزيد ذلك من الطاقات العاملة المخلصة لخدمة الوطن والمجتمع في ضوء ممارسة فعلية وسليمة لهذا المبدأ الذي يقف في وجه أي ظلم أو استبداد أو طغيان. ومن المعروف تاريخياً أن فريضة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" قد نظمت فقهياً في مؤسسة أطلق عليها "الحسبة"(*)، ويعد الماوردي (ت 45.هـ) أول من كتب فيها وجعلها ضمن الولايات الدينية وميزها عن ولاية المظالم في كتابة "الأحكام السلطانية"، وقد قال عنها أنها ـ أي الحسبة ـ "من قواعد الأمور الدينية، وكان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها.." (9)، كما ذكر الغزالي ـ في الإحياء ـ بابين من المنكرات أطلق على الأولى: المنكرات المألوفة في العادات، والثاني في أمر الأمراء والسلاطين بالمعروف ونهيهم عن المنكر إلا أنه أكد في بداية حديثه أن الجائز مع السلاطين في ذلك هو: "التعريف والوعظ ، وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان، فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر..." (10)، إلا أن الغزالي لا يقف عند ذلك أي إقرار أوضاع الأمراء والسلاطين "الفاسدة"، والاكتفاء بالموعظة بل يورد أحاديث للنبي T تحض على مواجهة "السلاطين الجائرة"، قال ـ T ـ "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك"(11)، ثم يورد ـ أيضاً ـ مجموعة من المواقف التاريخية للعلماء في مواجهة "جور" بعض الحكام(*). ويصنف عبدالكريم زيدان عمل الحسبة في الدولة الإسلامية إلى خمسة ميادين(12): الأول: الأقارب. الثانى: غير المسلمين. الثالث: الأمراء. الرابع: القضاة. الخامس: أصحاب المهن المختلفة. إن فكرة وجوب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" تصبح ذات دلالة واضحة على فكرة "التعددية" و"المراقبة" و"المساءلة" لا سيما فيما يتعلق بميدان "السياسة" ـ موضوع البحث، بل يجعل ذلك فرضاً واجباً وليس حقاً ـ كما تمارسه الديمقراطية المعاصرة ـ "فمن المتفق عليه بين الفقهاء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حقاً للأفراد يأتونه إن شاءوا ويتركونه إذا شاءوا، وليس مندوباً إليه يحسن بالأفراد إتيانه وعدم تركه، وإنما هو واجب على الأفراد ليس لهم أن يتخلوا عن أدائه، وفرض لا محيص لهم من القيام بأعبائه، وقد أوجبت الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوم الجماعة على الخير وينشأ الأفراد على الفضائل وتقل المعاصي والجرائم..." (13). وإذا كانت الدولة المعاصرة في ممارستها لوظيفتها التغييرية أو التطويرية تجعل من "المشاركة السياسية" بكافة درجاتها ومستوياتها ـ من حقوق الأفراد والمجتمعات ـ فإن الدولة الإسلامية في ممارسة وظائفها ترفع مرتبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث تجعله فرضاً إسلامياً تمليه العقيدة وتحدد مستوياته الشريعة وتجعله يرتبط بتأسيس الإنسان والمجتمع العابد الذي يمارس في كافة جنبات حياته لمرضاة الله تعالى..." (14) إن التطبيق السياسي لهذا المبدأ يتمثل في وجوب "مساءلة الحكام" لمنع استبدادهم وانحرافهم، وهو ما يترتب عليه أن تكون هناك هيئات مسئولة عن تطبيق هذا المبدأ، كما أنها: يجب أن تكون خارج سلطانه أي تكون "مؤسسة مستقلة" لها امتيازاتها وإمكاناتها التي تمكنها من تطبيق هذا المبدأ الأساسي في فقه الدولة الإسلامية، وإذا كانت هناك من التطورات المعاصرة في مجال "الحكم" و"الدولة" مثل إنشاء الأجهزة الرقابية، والبرلمانية، والإدارية والإعلامية المتعددة والتي من المفترض ـ على الأقل شكلاً ـ أن تقوم بهذا الدور من خلال مستوياته الثلاث التي حددها النبي T باليد، واللسان، والقلب.. إلا أننا لا نلاحظ ـ بالفعل ـ هذا الدور وإلا لما كانت الجرائم السياسية، والفساد والاستبداد الحكومي يتزايد يوماً بعد يوم في بلادنا الإسلامية. ومن ناحية أخرى لابد من الدعوة إلى تطبيق هذا المبدأ، ومصاحبة هذه الدعوة بإبراز أوجه التطبيق المناسبة لهذا العصر ووفقاً لمقاصد الشرع وأهداف الأمة، وهذا أدعى إلى "التحريض" على "الاجتهاد" وحض "المجتهدين" في المجال السياسي على تقديم أشكال مؤسسية يمكن أن تحقق الهدف الرئيس لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو إقامة مجتمع خال من الفساد والانحراف. وتؤكد نيفين عبدالخالق(15)، على العلاقة بين مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومفهوم "الرقابة على السلطة" من حيث إن مفهوم الرقابة على السلطة بما يعنيه من خضوعها للمناقشة والتقويم وهي تمارس اختصاصاتها لمعرفة هل تقع تلك الممارسة في نطاق المعروف أم في نطاق المنكر يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثيق الصلة بمفهوم الرقابة، حيث أن المؤمنين أولياء بعضهم البعض وحيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ومن ثم فإن كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أخص واجبات ووظائف الحكومة في الإسلام، حيث أن ذوي السلطان أقدر على القيام به وحيث أن الله "يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"(16)، إلا أن ذلك لا يعني أن السلطة ـ الممثلة في الحاكم المنوط به القيام بهذا الواجب ـ مستثناه من التعرض للرقابة وفقاً لهذا المبدأ ومن ثم فإن ارتكاب السلطة ما يستوجب اللوم أو ما يستوجب حثها على اتباع المعروف ونهيها عن ارتكاب المنكر لهو المسوغ الشرعي لممارسة الرقابة عليها. وهكذا فإن مفهوم الرقابة ـ الذي يعني بأن السلطة تخضع في ممارستها لإمكانية المناقشة والتقويم سواء كانت هذه المناقشة والتقويم سابقة على ممارستها للسلطة أو لاحقة عليها وسواء كان مصدرها جهاز مستقل أم أن الأفراد يتولون ذلك بأنفسهم يجد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجال المشروعية، وأنه حتى في ممارسة النهي عن المنكر باللسان أو القلب فقط فإن ذلك يعبر عن الرأي العام وهو يمارس "جزاء غير منظم للحاكم"(17)، المرتكب للمنكر ومن ثم يؤدي وظيفة الرقابة على السلطة. كما يؤكد جمال عطية(18)، على دور الأفراد في القيام بمسئولية أداء هذا الفرض "الأمر والنهي" حيث "تظل مسئولية الأفراد قائمة ـ في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ لأن هذا الواجب واجب كفائي، وإذا كانت الأجهزة التي عينتها الدولة تقوم به على أكمل وجه تكون قد وفرت على الأفراد القيام به، أما إذا قصرت هذه الأجهزة في القيام بهذا الواجب، أو كانت هناك مساحات خالية لم تنشأ لها مؤسسات تقوم بها، أو إذا كان الانحراف واقعاً في هذه الأجهزة نفسها التي عينتها الدولة يكون من الطبيعي أن يتقدم الأفراد لسد هذه الثغرة والقيام بهذا الفرض الكفائى. أما مجدي حسين(19) فيشير إلى مجموعة من المعاني الأساسية والسياسية لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء الظروف والمتغيرات المعاصرة، وهذه المعاني هي: 1- أن دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوسع من دائر الحلال والحرام، فالمنكر قد يشمل أموراً مباحة في حد ذاتها، ولكنها في زمان ومكان محددين تكون ضارة بالمجتمع... وكذلك فإن دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمتد لتشمل كل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن بينها أمور قاطعة تمس دائرة الحلال والحرام ولا تحتاج لأي اجتهاد، وهناك أمور تحتمل وجهات النظر وتحتاج للعلماء والمتخصصين كي يحسموها، وهي الأمور المتعلقة بالمصلحة، ولكننا سنجدها في النهاية تنضبط بضوابط الشرع. 2- إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم ومسلمة، وليس مجرد حق، وهذا ما يرفع مستواه إلى أعلى من مستوى الحقوق في المفهوم الديمقراطي الغربي، فالحق يمكنك أن تستخدمه أو لاتستخدمه، أما الواجب فيتعين عليك القيام به كي يصح اعتقادك الديني، وبالتالي فإن ممارسة "الأمر والنهي" قربى لله سبحانه وتعالى الذي يحض عليها، ويعتبرها جوهر عبادته. 3- عموم الالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل المواطنين، لاحظ تعبير "كنتم خير أمة" أي أنه يشمل الأمة بأسرها فنحن أمة "يسعى بذمتهم أدناهم، يحكمنا الحديث الشريف "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.." بدءاً من الحاكم حتى الخادم.. وعلى هذا فالنموذج الإسلامي يكرس ما يسمونه الآن "المجتمع المدني" أي "الأهلي"، يكرس مسئولية الجميع في المشاركة السياسية، وأنها واجبة كأمر مقدس من الله عز وجل، وليس مجرد حق قانوني يمكن استخدامه بصورة اختيارية. 4- المسئولية الخاصة للأئمة: إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لازمة لكل أبناء الأمة، فمن باب أولى أن تكون مهمة الخاصة من العلماء والأئمة وأولي الأمر من أهل الحل والعقد.. ولأن الإسلام لا يعرف الكهنوت، فإن أهل الحل والعقد، من قادة الجماعات والأحزاب والمفكرين الإسلاميين والمتخصصين من الاتقياء المؤمنين في شتى مناحي العلوم الطبيعية والاجتماعية، عليهم واجب التصدي بالرأي والمشورة والأمر والنهي... وهذا يعني أن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمتد لتشمل القضايا الكلية التي تشمل المجتمع ككل "التشريعات ـ السياسات الاقتصادية والسياسات الداخلية والخارجية" تتوزع على كل هؤلاء: البرلمان، الأحزاب، الصحف، وسائل الإعلام، الجماعات السياسية، والجمعيات الأهلية في شتى التخصصات. 5- إن جوهرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحتم أن يكون النظام السياسي الإسلامي، ملتزماً بحرية الرأي والتعبير وازدهار شتى مؤسسات العمل الشعبي والأهلي والنقابي والعلمي، وعلى رأسها البرلمان الذي له دور رقابي ولا يقتصر على التشريع، ثم الأحزاب والهيئات الشعبية كالنقابات، والجمعيات العلمية، وأيضاً هيئات الحكم الشعبي التي تجمع بين الإدارة والرقابة وأن تكون كل هذه الهيئات بالانتخاب. 6- ممارسة الأمر والنهي مع الحكام هو الأهم في هذه الفريضة، لأن الحكام هم الذين يصلحون أو يفسدون المجتمع ككل. 7- الأمر والنهي ليس مجرد إبداء النصيحة، بل يستهدف تغيير المنكر بعمل فعال، ويستهدف الوصول إلى نتيجة وهي الإصلاح... إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتطابق مع ما نسميه الآن "العمل السياسي" الذي يتضمن سياسات الحكومة وقوانينها وممارستها.. التي قد تستدعي عند مخالفتها للشريعة الإسلامية اتخاذ المواقف "الناهية عن المنكر" بشتى الوسائل التي أشار إليها الحديث الشريف : اليد واللسان والقلب. ..وبعد فإن مسألة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" تفتح أبواباً متعددة لمجالات "الاجتهاد" فيما يتصل بـ "التعددية السياسية" والتي مناط عملها الأساسي هو تحقيق مصلحة المجتمع وليس "التعدد" في ذاته، وهذه المصلحة هو ما تلتقي عليها كافة الآراء والأفكار التي تصب في النهاية مهما اختلفت وسائلها وطرق مباشرتها في سبيل "الإصلاح الاجتماعي". ثالثا: مقاصد الشريعة: الإطار الثالث الذي يحكم "التعددية السياسية" في المجتمع المسلم هو إطار "مقاصد الشريعة"، والمقاصد لغة من "قصد والقصد استقامة الطريق، قال ابن جني أصل " ق ص د " الاعتزام والتوجه والنهوض نحو الشيء، على اعتدال كان أوجور هذا أصلة في الحقيقة، وإن كان قد يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل"(20). والشارع ـ جلّ وعلا ـ لم يضع الأحكام الشرعية اعتباطاً، وإنما قصد بها تحقيق مقاصد عامة، ولا يمكن أن تفهم النصوص على حقيقتها إلا إذا عرف مقصد الشارع من وضعها، لأن دلالة الألفاظ والعبارات على المعاني قد تحتمل أكثر من وجه، والذي يرجح واحداً من هذه الوجوه على غيره هو الوقوف على قصد الشارع. وقد تتعارض النصوص بعضها مع بعض فلا يرفع هذا التعارض ولا يوفق بينها إلا ما قصده الشارع منها. ويعرف ابن عاشور المقاصد من خلال مفهوم عام وجامع يعالج به عدم وجود تعريف محدد عند القدماء سواء الأصوليين أو غيرهم ممن كتب في المقاصد يقول فيه "مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة فيدخل في هذا ما في الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع من ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معاني من الحكم ليست ملحوظة في أنواع كثيرة منها"(21). والمقاصد كما يقربها في التعريف علال الفاسي بأنها "الغاية من الشريعة، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها"(22). أما الريسوني فيستخلص تعريفاً من بين عدة تعريفات يرى فيه أن "مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها، لمصلحة العباد"(23)، وهذه المقاصد يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: (24). 1- المقاصد العامة: وهي التي تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية، أو في كثير منها. 2- المقاصد الخاصة: وهي المقاصد التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب أو مجال معين من المجالات التشريعية مثل: مجال المال والمعاملات المنعقدة على العمل والأبدان، القضاء والشهادة، العقوبات. 3- المقاصد الجزئية: وهي ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي، من إيجاب أو تحريم، أو ندب أو كراهة، أو إباحة أو شرط. إن مضمون التعريفات المختلفة يشير بوضوح إلى أن موضوع المقاصد هو هدفية الشريعة الإسلامية التي وضعت من أجل تحقيق مبدأي "الهداية" و"العمران"، لذا فإننا نجد آيات التكليف والأحكام في القرآن يتبعها غالباً "تعليل" يوضح هذه "الهدفية"، يقول تعالى على سبيل المثال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ،(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). وهذا ـ أيضا ـ ما نلاحظه في السنة النبوية وعمليات الاجتهاد التي حدثت منذ عصر النبوة مروراً بعصر الخلفاء والتابعين حتى توقف هذه العملية(*). وقد وضع الشاطبي المقاصد في ثلاث مراتب هي: الضروريات الخمس: الدين والنفس والمال والنسل والعرض، ثم الحاجية، وهي التي يحتاج إليها الناس لانتظام حياتهم، والتحسينية وهي راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية، "وعلى هذا الترتيب جرت الضروريات مع الحاجيات والتحسينات؛ فإن التوسعة ورفع الحرج يقتضي شيئاً يمكن فيه التضييق والحرج، وهو الضروريات بلاشك، والتحسينات مكملات ومتممات، فلابد أن تستلزم أموراً تكون مكملات لها؛ لأن التحسين والتكميل والتوسيع لابد له من موضوع إذا فقد فيه ذلك عد غير حسن ولا كامل ولا موسع..."(25). ويقدم يحيى محمد مجموعة من القيم يرى أنها تمثل المقاصد الغائية للشريعة وهي: "التعبد والتعقل، والتحرر، والتخلق والتوحد والتكمل، ولكل منها ظاهر وباطن"(26). ومن خلال تتبع كتابات المقاصد نجد أن الفكرة المركزية التي تقوم عليها "المقاصد" هي قاعدة "المصلحة"، والتي يعرفها الطوفي بقوله "أما المصلحة فلفظها مفعلة من الصلاح، وهو كون الشيء على هيئة كاملة بحسب ما يراد ذلك الشيء له كالقلم يكون على هيئة المصلحة للكتابة، والسيف على هيئة المصلحة للضرب، وأما حدها بحسب العرف فهي السبب المؤدي إلى الصلاح.. وبحسب الشرع هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة..." (27). هذا بالإضافة إلى ارتباطها ـ أي المقاصد ـ بمنهج "الاستحسان" و"رفع الحرج" و"عنت المشقة" و"التيسير"، وقد توصل الكيلاني إلى مجموعة من النتائج من خلال دراسته "قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي عرضاً ودراسة وتحليلاً"، منها: (28). 1- قيام الشريعة على أساس جلب المصالح ودفع المفاسد مبدأ مقرر معتبر، لا تنحصر الأدلة التي تنهض به وتفضى إليه، وكليات الشريعة وجزئياتها ترشد إلى هذا المعنى وتدل عليه. 2- لوسائل حفظ مقاصد الشريعة من جانبي الوجود والعدم، أثر بيّن في استيعاب بعض القضايا المعاصرة التي يظهر فيها التأثير على الضروريات الخمس: (الدين والنفس والنسل والعقل والمال) سواء أكان ذلك التأثير سلباً أم إيجاباً، ويتحدد الحكم المناسب لتلك الوقائع الطارئة على ضوء نوع التأثير الذي يصيب هذه المقاصد. 3- إن لارتباط الكبيرة والصغيرة بمفهوم المصلحة والمفسدة دوراً في توسيع نطاق الكبائر، بحيث لا تقتصر على تلك التي ورد بها النص وإنما تتعدى ذلك لتشمل كل فعل تزيد مفسدته مفسدة الكبائر المنصوص عليها أو تساويها، وتتناول جميع المعاصي ذات المفاسد العظيمة، سواء أكان مجالها أخلاقياً أم اجتماعياً أم سياسياً أم اقتصادياً. 4- لا ينحصر مجال مرتبة الحاجيات على المسائل التي ذكرها الفقهاء، والتي تيسر على الإنسان وجوده المادي في الحياة، وإنما تتناول ـ أيضاً ـ العناصر المعنوية للشخصية الإنسانية، من مثل: الكرامة، وحرية الرأي، والمساواة، ذلك أن انعدام مثل هذه العناصر مظنة لإيقاع الإنسان في الحرج الشديد أو ترتيب مشقة بالغة غير معتادة تصبح الحياة معها عبئاً ثقيلاً لا يطاق. 5- أن الأصل في أحكام الشريعة كلها المعقولية، سواء أكانت من قبيل العبادات أم من قبيل المعاملات والعادات، وخفاء بعض الحكم والمعاني الخاصة لا يعود إلى موضوع ذاك الحكم عبادياً أو عادياً، وإنما يعود إلى طبيعة الفعل ذاته من كونه مما استأثر الله إخفاء حكمته عن الناس. 6- تبين من خلال البحث، العلاقة والصلة بين الاستحسان كمنهج أصولي معتبر، وبين رفع الحرج كمبدأ كلي مقرر، وأن القواعد المقاصدية تكشف عن هذه العلاقة بين المناهج الأصولية والمبادئ الكلية، وتظهر أن مراعاة تلك المبادئ، التي اطّردت أصولاً ثابتة، تحتم اعتبار منهج الاستحسان، وبناء الأحكام عليه، لأن كل أصل أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد. 7- كما تضمنت القواعد المقاصدية ضوابط بعض المبادئ العامة، من مثل: تعبيرها عن ضوابط المصلحة المعتبرة شرعاً، وأنها المصلحة التي تقيم الحياة الدنيا من أجل الأخرى، لا المصالح التي تقام من حيث أهواء النفوس. كما عبرت ضوابط الحرج الذي توجهت إرادة الشارع إلى رفعه، وأنه الحرج الذي يخرج عن معتاد المكلفين ومألوفهم، كما بينت القواعد المقاصدية مظاهر الاختلاف بين المشقة المعتادة وغير المعتادة، عملاً لضبط المشقة بقدر الإمكان، وحتى لا يبقى الحرج والمشقة تعبيراً فضفاضاً سياباً. 8- أكد البحث أهمية النظر إلى مآل الفعل، وما يترتب عليه من مصالح ومفاسد، ودور ذاك المآل في تكييف الحكم الشرعي، كما أظهرت إدراك الأصوليين والفقهاء لهذا المعنى، من خلال ما أصّلوه من قواعد كسد الذريعة، والاستحسان، ومنع التحايل، ومراعاة الخلاف، والتي تراعي هذا المبدأ العام وتلتفت إليه، إضافة إلى الفروع الكثيرة التي تبني على هذه القواعد العامة والتي يلحظ فيها معنى النظر إلى المآل. وفيما يتعلق بـ "التعددية السياسية" و"مقاصد الشريعة"، فقد أولت بعض الكتابات المقاصدية الاهتمام بمجال "السياسة الشرعية" الذي يندرج تحته موضوع "التعددية"، فيرصد حماد العبيدي(29) هذا المجال تحت عنوان "نظرية الشاطبي في الإصلاح السياسي" وجهة نظر الشاطبي والتي أكد فيها على أن السلطة السياسية التي تعد أهم عنصر في كيان الدولة، ضرورة من ضرورات الدين، حيث يوكل إليها حفظ الكليات العامة الأصلية للشريعة والتي لا يستطيع الفرد وحده القيام بها، ثم يؤكد ـ الشاطبي ـ على أن الأمة هي القوامة على رجال السلطة، فإنه ينبغي أن تكون صاحبة الاختيار، فيكون مرد الأمر إليها في تعيين الحاكم، ولا يكون ذلك إلا بالشورى.. ويحمل الشاطبي الأمة كلها مسئولية فساد الحكم حين تولى الأمور من ليس أهلاً لها، كما نبه ـ الشاطبي ـ إلى قيمة الرأى العام في الحد من سلطة الحاكم إذا أراد الخروج عن حكم القانون إلى الحكم بإرادته الشخصية مستدلاً بالخطب الأولى للخليفة الأول -أبو بكر ـ والخامس ـ عمر بن عبدالعزيز. ويوضح عبدالمجيد الصغير(30) محورية فكرة "المصلحة" عند الشاطبي ودورها في التنظيم الاجتماعي أو ضبط السلطة السياسية بضوابط الشريعة واعتمادها كوسيلة لإصلاح السياسة الشرعية التي يجب أن تكون مطابقة للوحي. أما إسماعيل الحسني(31) الذي تناول "مقاصد الشريعة عند ابن عاشور" فتناول التأصيل السياسي عند ابن عاشور والذي تمثل في أن إقامة أمة قوية مرهوبة الجانب يستلزم من "الجماعة" وولاة أمرها سن القوانين وإقامة جهاز تنفيذى يوكل إليه حمل الناس بالرغبة والرهبة على رعاية مصالح الأمة، وبذلك تؤدي الوظائف التي على الوازع الديني إنجازها، وأولها تحقيق العدل. ومناط ذلك مقامان: مقام إثبات الحقوق ومقام إقامة الشريعة، ويليها ضبط أموال الأمة، ثم تحديد طرق تنصيب الخليفة الولايات ثم الدفاع عن الأمة وتحديد الميادين التي تتجه إليها سياسة الحكومة. أما الصفة الضابطة للمقاصد ـ عند ابن عاشور ـ تنحصر في نوعين: معان حقيقية ومعان عرفية عامة. ويشترط في جميعها أن يكون ثابتاً ظاهراً منضبطاً مطرداً. فأما المعاني الحقيقية فهى التي تتحق في نفسها بحيث تدرك العقول السليمة ملاءمتها للمصلحة أو منافرتها لها ـ أي تكون جالبة نفعاً عاماً أو ضرراً عاماً ـ إدراكاً مستقلاً عن التوقف على معرفة عادة أو قانون، كإدراك كون العدل نافعاً، وكون الاعتداء على النفوس ضاراً، وكون الأخذ على يد الظالم نافعاً لصلاح المجتمع. فإذا توافرت هذه الأوصاف الأربعة السالفة تسنى للناظر تحصيل مقصد شرعي من المقاصد العامة للشريعة(32). التعددية السياسية في ضوء ما تقدم إذن تعد من مجالات مقاصد الشريعة في ميدان "السياسة الشرعية" فانطلاقاً من مجموعة القواعد المقاصدية الآتية نجد من الضروري القيام بالاجتهاد المقاصدي في إبراز الوجه المقاصدي للتعددية السياسية، ومن هذه القواعد: 1- وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل(33). 2- تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة(34). 3- مقاصد الشريعة في جميع المجالات وهي مطلقة وعامة ولا تختص بباب دون باب ولا فيما اتفق عليه دون ما اختلف فيه(35). وبالنظر إلى "التعددية السياسية" نجد أنها تشمل عدة وجوه من المصالح التي تعتبر "ضرورية" إذا نظرنا إليها في أبعادها الاجتماعية المختلفة وفي ضوء ذلك نلاحظ ما يلى: 1- إن "التعددية السياسية" ضد "الاستبداد" وهو ما ذمه الشرع ذماً في مقابل "الحرية" التي يقررها الشرع ويحث عليها في جانبها الإنساني العام. 2- أن حالة "الواحدية" و"الأحادية" التي هي ضد "التعددية السياسية" إنما هي السبيل الميسر "للظلم" الذي حرمه الله على نفسه وحذر منه ونهى عنه نهياً وتوعد "الظلمة" و"الظالمين" وأعوانهم، والساكتين عليهم والصامتين على ظلمهم بل على ظلم أنفسهم على الرغم من "الإذن" الإلهي لرفع الظلم ومقاومته إلى حد "المقاتلة". 3- أنها ـ أيضاً ـ ضد الهوى والذاتية وشهوة السلطة وهذا أدعى إلى تهديد مقاصد الشارع في الخلق والعمران. 4- أن "الاستبداد" و"الظلم" و"الهوى" اللائي يمثلن التعبير الأمثل عن حالة "الأحادية السياسية"، يمثلن طريقاً سهلاً لانتهاك وإهدار حق الجماعة أو "الشعب" الذي هو في عرف المقاصد حق الله(*) الذي لا يحق لأحد إسقاطه، والتجارب المعاشة والسنن التاريخية تؤكد ذلك. وبعد فإن المطلوب بعد هذه المقدمات المتناثرة ـ النظرية ـ أن يتم تجاوز حالة التأسيس النظري للتعددية السياسية في الشريعة الإسلامية، وذلك لأن قياس المضار والمصالح لن يأتي إلا من خلال الممارسة الفعلية التي تحتاج بدورها إلى معالجة مقاصد التعددية من خلال عملية الاجتهاد السياسي، وذلك بتحديد ما يرجح الظن بتحقيقه مقصده في الواقع والأحكام وعدولاً بوجه من وجوه العدول عما يرجع الظن أنه لا يحقق مقصده، لأعراض تلم بالوقائع المراد إجراء الأحكام عليها. كما يجب الالتفات إلى عنصر مهم في طرح مسألة "التعددية السياسية"، فنحن نتكلم بالطبع عن الطموح الاجتهادي في إقرار هذه التعددية من عدمه في المجتمع المسلم ـ حتى لو كان ذلك على سبيل الطموح النظري ـ فالتعددية السياسية التي نرجوها والتي نتحدث عن كونها في "الشريعة الإسلامية" ـ وليست في نظم حكم معينة ـ هي التعددية الإيجابية التي تحمل عناصر الإصلاح المجتمعي برؤى واتجاهات تبدو في ظاهرها مختلفة إلا أنها تتفق جميعاً على السعي نحو: الإصلاح، المعروف، والخير، كما تسعى إلى إزالة: الفساد، والمنكر، والشر وكل ما يتعلق بهم، وليست هي تعددية شكلية فارغة المضمون ولكنها تعددية تحقق مقاصد الشرع في الخلق والعمران. نتائج البحث : توصل البحث إلى عدة نتائج أهمها : 1- أن مفهوم التعددية في القرآن مفهوم أصيل، لأن مفهوم الواحدية في القرآن لا يتصف به إلا الله تعالى، أما باقي الكون بما فيه فيلزم تكوينياً بصفة "التعددية" "وما خلق الذكر والأنثى". 2- أن القرآن الكريم قدم مجموعة من الأصول الفكرية لمفهوم التعددية السياسية، وتظهر في أصل التنوع والاختلاف، وأصل الحرية، وأصل الحوار القائم على الاعتراف بالآخر. 3- أن هذه الأصول القرآنية السابقة يمكن أن تمثل المنطلقات الأساسية لتطبيق مفهوم التعددية في جميع المجالات الإنسانية، لاسيما وأن القرآن أقر بهذا المبدأ في كافة الميادين وأولها ميدان العقيدة. 4- قدم القرآن الكريم طريقتين واضحتين لممارسة التعددية في المجال السياسي بشكل خاص، أولها : طريق الشورى، وثانيها : طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (36) الهوامش: * ـ باحث مصري (1 ) مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، جـ2، مرجع سابق، ص: 595 . (2 ) المرجع السابق، ص: 953 . (* ) انظر ـ أيضاً ـ ابن منظور، لسان العرب، جـ9 مادة (عرف)، جـ14، مادة (نكر)، مرجع سابق. (3 ) الرازي: مفاتيح الغيب، جـ8، مرجع سابق، ص: 183 . (4 ) الرازي: مفاتيح الغيب، جـ8، مرجع سابق، ص: 185 . (5 ) سيد قطب : في ظلال القرآن، مج1، مرجع سابق، ص: 447 . (6 ) البخارى: كتاب الشركة ، جـ5، مرجع سابق، حديث رقم (2493) . (7 ) عبدالله مبروك النجار: الحسبة ودور الفرد فيها، كتاب الأزهر، ذي الحجة 1415هـ، ص ص: 23، 24 . (8 ) الترمذى: كتاب الفتن، جـ4، حديث رقم (2169). (* ) والحسبة عند الفقهاء تعني: "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهى عن المنكر إذا ظهر فعله"، فهى إذن من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر احتساباً وحسبة، ما دام القائم به يفعله ابتغاء مرضاة الله وما عنده من ثواب (عبدالكريم زيدان: أصول الدعوة، بغداد مكتبة القدس، ط6 1992، ص: 174 ). (9 ) الماوردى: الأحكام السلطانية والولايات الدينية ، تحقيق أحمد مبارك البغدادي، الكويت، دار ابن قتيبة، 1989، ص: 339 . (10 ) الغزالى: إحياء علوم الدين، تحقيق: سيد إبراهيم، جـ2، القاهرة، دار الحديث، 1994، ص: 534 (11 ) المرجع السابق: نفس الصفحة. (* ) انظر المرجع السابق: ص ص: 535 : 556 . (12 ) عبدالكريم زيدان: أصول الدعوة، مرجع سابق، ص ص: 186، 187 . (13 ) عبدالقادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، جـ1، مرجع سابق، ص: 489 . (14 ) محمد كمال الدين إمام: أصول الحسبة في الإسلام، دراسة تأصيلية مقارنة، القاهرة، دار الهداية، 1986، ص: 133 . (15 ) نيفين عبدالخالق: المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي، القاهرة، مكتبة الملك فيصل الإسلامية، 1985، ص: 137 . (16 ) ابن تيمية: الحسبة في الإسلام، القاهرة، مطبعة المؤيد، 1318هـ، ص: 38 . (17 ) حامد ربيع: نظرية القيم السياسية، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 197.، ص: 184 . (18 ) جمال عطية: "مؤسسات العدالة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، المسلم المعاصر، السنة السابعة والعشرون، العدد (1.5) سبتمبر 2..2، ص: 217 . (19 ) مجدي حسين: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عصب النظام السياسي الإسلامي"، موقع حزب العمل المصرى ،19/6/2..5 www.el-3 amal.com. (20 ) ابن منظور: لسان العرب، جـ11 مادة (قصد)، مرجع سابق، ص: 181 . (21 ) الظاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس، الشركة التونسية للتوزيع، 1978، ص:52 (22 ) علال الفاسي: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، الدار البيضاء مكتبة الوحدة العربية للنشر، د.ت. (23 ) أحمد الريسوني: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبى، المنصورة، دار الكلمة، 1997، ص:7 . (24 ) المرجع السابق: نفس الصفحة . (* ) انظر حول استقراء المقاصد في هذه العصور في: د. عمرو مصطفى الورداني: "المقاصد الشرعية عند الإمام شريح القاضي ، المسلم المعاصر، السنة السادسة والعشرون، العدد (1.3)، مارس 2..2 وبشير بن مولود جحيش: في الاجتهاد التنزيلى، قطر، كتاب الأمة العدد (93)، 2..3 . (25 ) الشاطبي: الموافقات: تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، جـ3، السعودية، دار ابن عفان، 1997، ص: 487 . (26 ) يحيى محمد: "المقاصد والواقع"، قضايا إسلامية معاصرة، بيروت، العدد الثامن (عدد خاص عن مقاصد الشريعة)، 1999، ص ص: 153، 154 . (27 ) نجم الدين الوفي: "المصلحة في الشريعة الإسلامية"، رسالة الإسلام، دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة، السنة الثانية، العدد الأول، يناير 195.، ص: 95 . (28 ) عبدالرحمن إبراهيم الكيلاني: قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبى عرضاً ودراسة وتحليلاً، دمشق، دار الفكر، 2... . (29 ) حمادي العبيدي: الشاطبي ومقاصد الشريعة، السلسلة التراثية (9)، طرابلس، كلية الدعوة الإسلامية، 1992، ص ص: 241: 245 . (30 ) عبدالمجيد الصغير: الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، وقراءة في علم الأصول ومقاصد الشريعة، بيروت، دار المنتخب العربى 1994، ص ص: 46: 47 . (31 )إسماعيل الحسني: نظرية المقاصد عند الطاهر بن عاشور، فيرجينيا المعهد العالمي للفكر الإسلامى، 1995، ص ص: 4..: 4.1 . (32 ) إسماعيل الحسني: مرجع سابق، ص: 233 . (33 ) الشاطبي: مرجع سابق، جـ2 ص89، جـ 3 ص 415، جـ 5 ص 42 . (34 ) المرجع السابق: جـ 3 ص 95 . (35 ) المرجع السابق: جـ 2 ص 86 . (* ) انظر حول حق الناس هو حق الله: عبدالقادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي جـ1، مرجع سابق، ص: 2.4 . (36 ) حذفنا قائمة مصادر البحث للاختصار (التحرير) .
|
مقالات أخرى من هذا الكاتب |
• المنطلقات الفكرية للتعددية السياسية
(بازدید: 1877)
(موضوع: فكر إسلامي)
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• المفهوم القرآني للإحياء
(بازدید: 839)
(نویسنده: مرتضى مطهري)
• مدخل الصدق ومخرج الصدق
(بازدید: 1563)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• الرحلة بين المعرفة و التفويض
(بازدید: 1164)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• الكتاب الناطق
(بازدید: 1294)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• تأملات في آية التقوى من سورة الاعراف
(بازدید: 2401)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• أحكام المفردات في القرآن
(بازدید: 729)
(نویسنده: الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي)
• أربعة دروس من سورة الانشراح
(بازدید: 1885)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• القبول و الجزاء في القرآن
(بازدید: 1693)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ٦
(بازدید: 1089)
(نویسنده: السيد محمّد باقر الحكيم)
• المجتمع الإنساني في القرآن الكريم - ٥
(بازدید: 748)
(نویسنده: السيد محمّد باقر الحكيم)
• المجتمع الانساني في القرآن الكريم - ٣
(بازدید: 1095)
(نویسنده: السيد محمّد باقر الحكيم)
• حساب المستضعفين
(بازدید: 1344)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• سؤالات مجهولة من أسئلة نافع بن الأزرق إلى عبدالله بن عباس
(بازدید: 2134)
(نویسنده: محمّد علي آذرشب)
• القصص القرآني - القسم السابع
(بازدید: 1531)
(نویسنده: السيد محمّد باقر الحكيم)
• المجتمع الانساني في القرآن الكريم [٢]
(بازدید: 1046)
(نویسنده: السيد محمّد باقر الحكيم)
• الفـرقـان
(بازدید: 774)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• القصص القرآني - القسم الخامس -
(بازدید: 751)
(نویسنده: السيد محمّد باقر الحكيم)
• القصص القرآني - القسم الرابع
(بازدید: 831)
(نویسنده: السيد محمّد باقر الحكيم)
• الكلمات الابراهيمية - ١
(بازدید: 1868)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
• الكلمات الابراهيمية القسم الثاني
(بازدید: 876)
(نویسنده: محمد مهدي الآصفي)
|