دور سيرة النبي في إيجاد الأُمة الإسلاميّة الواحدة
|
رسالة التقريب - العدد ١٤
سيرة
أبو الكلام آزاد
1417
عرض موجز لسيرة رسول الله - صلى الله عليه وآله - تدل بما لا يقبل الشك أن هم الرسول الأول - بعد إعلان كلمة التوحيد - رض صفوف الأُمة، واتخاذ الموقف التوحيدي من الاختلاف الطبيعي بين الصحابة، والتركيز على جمع القلوب وتوطيد روح الاخوة بين المسلمين. قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا﴾ [١]. إن الإنسان أشرف خلق الله، وهو عبد وخليفة لله؛ فالناس كلهم سواسية في وظيفة العبودية والخلافة، ومن ثم يعتبرون كوحدة واحدة، ومن جانب آخر هم متحدون في أصل الخلق وهو التراب، حيث قال تعالى: ﴿ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون﴾ [٢]، وجاء في الحديث النبوي: «لا فضل لأحد على أحد، كلكم لآدم وآدم من تراب». * - باحث من بنغلادش. ١ - النساء: ١. ٢ - الروم: ٢٠. (٥٠) ومن هنا اعتبر الإسلام الناس بغضّ النظر عن ألوانهم وأشكالهم وأجناسهم أمة واحدة، قال سبحانه وتعالى: ﴿كان الناس أمة واحدة…. ﴾ [١]، ﴿وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا…. ﴾ [٢]. ولم يعتبر الناس كأمة واحدة أيّ دين سوى الإسلام فقد نظر الإسلام إلى بني آدم من حيث إن خالقهم هو الله، وأصل خلقهم واحد وهو آدم وآدم من تراب. والهدف من خلق البشر واحد وهو أن يعبدوا خالقهم ومليكهم وربهم، وأن لا يشركوا به أحداً من خلقه؛ ومنزلة الإنسان هي أنّه خليفة الله في الأرض. وبناء على أن الناس أمة واحدة من حيث المبدأ والهدف والمكانة، ولحفظ وحدة الأُمة خلال أداء وظيفة العبودية ومسؤولية الخلافة، وإرشاد الناس إلى الطريق السوي، وإزالة الخلافات والنزاعات فيما بينهم، وتعزيز صلتهم بخالقهم وربهم فقد أُرسلت الرسل وبُعثت الأنبياء وأُنزلت الكتب والصحف في مختلف العصور والأزمان. الوضع الاجتماعي الذي ولد فيه الرسول - صلى الله عليه وآله - إن الحقبة الزمنية التي ولد ونشأ فهيا نبينا وحبيبنا محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وآله - تسمى بالعصر الجاهلي نسبة إلى الجهل؛ لا الجهل ضد العلم؛ فقد عاش في ذلك العصر خطباء مصاقع وشعراء فحول، ونشطت فيه حركة أدبية ملحوظة، تعد المعلقات السبع من أبرز سماتها، بل الجهل الذي يعني فقدان القيم الإنسانية من نفوس الناس الذي عاشوا فيه؛ فقد كان العرب يعيشون قبائل متنابذة لا يعرفون فكرة الأُمة الواحدة وإنّما يعرفون فكرة القبيلة، وكل قبيلة تتعصب لأفرادها تعصباً شديداً، فإذا جنى أحدهم جناية شركته في مسؤوليتها وإذا قُتل أحد أبنائها هبّت للأخذ بثأره هبة واحدة. وكانت تنشب الحرب بينهم لأتفه الأسباب وتستمر إلى أعوام وسنين وتؤدي إلى خسائر هائلة في الأموال والأنفس. في هذا الوضع الذي كان يسوده التفرق والتشتت ولد ونشأ وترعرع إمام ١ - البقرة: ٢١٣. ٢ - يونس: ١٩. (٥١) المرسلين نبينا محمد - صلى الله عليه وآله ـ. بعثة الرسول - صلى الله عليه وآله - شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يختار أفضل البشر من أوسط نسب من أشرف قبيلة ومن أم القرى للرسالة الخاتمة الخالدة ﴿… الله أعلم حيث يجعل رسالته…. ﴾ [١]، وبدأ الوحي ينزل عليه وهو ابن أربعين في أفضل الشهور وهو رمضان المبارك، وفي ليلة خير من ألف شهر وهي ليلة القدر. عندما أُمر النبي - صلى الله عليه وآله - بالصدع بالدعوة أمام مواطني مكة المكرمة، طلع الصفا ونادى قومه داعياً الناس جميعاً بقوله: «قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا» وهذه الصيغة تدل على عالمية رسالته واهتمامه بالبالغ بالقضاء على التمزق والتشتت الذي يسود مجتمعه وبلاده، وصراحة إعلانه لتوحيد الناس المتشتتين في صف واحد وتحويلهم إلى أمة واحدة تجمعها كلمة التوحيد «لا إله إلاّ الله». ولكونه - صلى الله عليه وآله - لم يبعث إلى قوم ما، بل إلى الناس كافة الذين كانوا أمة واحدة، ثم تفرقت وتشتت عندما تنازعت واختلفت وتباعدت من كلمة التوحيد، لذلك أمر الله سبحانه رسوله أن يقول: ﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً…. ﴾ [٢] فقد كان يخاطب في دعوته جنس الإنسان ولم يكن يخاطب قومه كإخوته السابقين من الأنبياء والرسل، فأول خطاب وأول أمر في المصحف الذي بين أيدينا هو: ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾ [٣]. كان النبي - صلى الله عليه وآله - تفسيراً واقعياً للقرآن الكريم، ولم تكن سيرته إلاّ مثالاً حياً للقرآن الكريم، وأشارت إلى ذلك أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها بقولها «كان خُلقه القرآن». إذا نظرنا إلى دعوته في الفترة التي قضاها في مكة المكرمة بعد البعثة وجدنا أنّه ١ - الأنعام: ١٢٤. ٢ - الأعراف: ١٥٨. ٣ - البقرة: ٢١. (٥٢) بذل قصارى جهوده في إزالة التشتت القبلي والقضاء على التمييز العنصري، ولتكوين أمة واحدة على أساس القيم الإنسانية بناء على عقيدة التوحيد؛ فقد سعى لرفع مكانة الإنسان بصفته إنساناً بغضّ النظر عن النسب واللون والجنس، وحاول أن يثبت أن انقسام الناس إلى شعوب وقبائل لا يدل على أن بعضهم أفضل من بعض، بل الناس سواسية من حيث الأصل: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ [١]. فوجدنا أنّه انضم إليه سادة قريش من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة، وعبيدها من بلال الحبشي وصهيب الرومي وأمثالهما، رضي الله عنهم جميعا. كانوا يجتمعون في مجلس واحد وكانوا يقفون في صف واحد في الصلاة خلف رسولهم وإمامهم محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وآله - ناسين التمييز العنصري، وكانت قلوبهم مملوءة بشعور الأخوة والمودة، حيث إنهم كانوا نموذجاً حياً لقوله تعالى ﴿إنّما المؤمنون اخوة…. ﴾ [٢]. قضى الرسول - صلى الله عليه وآله - ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة وذاق مختلف ألوان الظلم والاضطهاد هو وأصحابه، في هذه الفترة عندما اشتد الأذى والتعذيب وتآمر أهل مكة على قتله - صلى الله عليه وآله - أمر بالهجرة إلى المدينة المنروة، فهاجر هو وأصحابه إليها، هاجر المسلمون رجالاً ونساء تاركين بلادهم الحبيبة وديارهم العزيزة وكل ممتلكاتهم مفضلين العقيدة - التي هي أعظم وأقدس نعم الله وأجلّها على عبده - على الدنيا وما فيها. لم يحدث منهم أي خلاف ونزاع في ترك الديار والأقارب ولم يترددوا في الخضوع لحكم الله والامتثال لأمر الرسول - صلى الله عليه وآله ـ، وهم يعلمون أنهم يتركون بلادهم العزيزة التي ولدوا ونشأوا فيها وأموالهم وأقاربهم وذكريات حياتهم، لو حدث الخلاف في صف المسلمين ونشأ التردد في قلوبهم في هذا الوقت الصعب الحرج لاضمحل البنيان المرصوص لوحدة الأُمة الإسلاميّة الصغيرة التي أوجدها الرسول - صلى الله عليه وآله - في ثلاثة عشر عاماً. ١ - الحجرات: ١٣. ٢ - الحجرات: ١٠. (٥٣) هجرة الرسول - صلى الله عليه وآله - وسعيه لإرساء وحدة الأُمة بعد أن قدم الرسول - صلى الله عليه وآله - المدينة اهتم بثلاثة أمور لتعزيز وحدة الأُمة الإسلاميّة، هي: أولاً: بناء المسجد، وثانياً: المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، وثالثاً: المعاهدة مع اليهود. أولاً: بناء المسجد: وصل الرسول - صلى الله عليه وآله - المدينة يوم الاثنين وأقام بقباء وكث بها حتّى يوم الخميس، وخرج منها يوم الجمعة فأدركت رسول الله - صلى الله عليه وآله - الجمعة في بني سالم بن عوف ما بين قباء والمكان الذي يقع فيه المسجد النبوي الشريف، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة. بعد أن فرغ من الصلاة توجه النبي - صلى الله عليه وآله - إلى قلب المدينة حتّى إذا أتى دار بني مالك بن النجار بركت ناقته على باب مسجده، وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني النجار هما سهل وسهيل، اشترى الرسول - صلى الله عليه وآله - هذا المربد وأمر ببناء المسجد فيه ونزل عند أبي أيوب حتّى بنى مسجده ومساكنه، فعمل فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله - ليرغب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار وارتجز المسلمون وهم يبنون المسجد يقولون: لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللهم أرحم الأنصار والمهاجرة. فيقول الرسول - صلى الله عليه وآله ـ: لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللهم ارحم المهاجرين والأنصار. فالرسول - صلى الله عليه وآله - أول ما قام به في المدينة هو بناء المسجد، وهو شعار لتقوية صلة المسلمين بربهم وتعزيز الروابط فيما بين المسلمين، حيث يأتونه لأداء الصلوات ويلتفون فيه حول إمامهم ورسولهم - صلى الله عليه وآله ـ، ليسمعوا منه عن دينهم وواجباتهم ويأخذوا توجيهاته حول مسؤولياتهم، فكان المسجد مركز اجتماعاتهم ونادي أنشطتهم المتنوعة، وهكذا لعب المسجد دوراً طليعياً لإيجاد الأُمة الإسلاميّة الواحدة التي عقيدتها واحدة، وربها واحد وقبلتها واحدة ونبيها واحد وكتابها واحد وشعورها واحد وهدفها واحد. ثانيا: المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين: بعد بناء المسجد كرمز للرابطة بين العباد وربهم، قام النبي - صلى الله عليه وآله - بالمؤاخاة بين المهاجرين الذين تركوا ديارهم (٥٤) وأقاربهم لأجل دينهم والأنصار الذين آووا هؤلاء الأجانب الذين نزلوا عليهم ونصروهم، وقدموا لهم كل ما أمكن لهم لكونهم إخوتهم في الدين، وكتب الرسول - صلى الله عليه وآله - كتاباً بين الأنصار والمهاجرين في هذا الخصوص، جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس… وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس» وهذه المؤاخاة تدل على عناية الرسول - صلى الله عليه وآله - واهتمامه بإرساء الروابط في صفوف المسلمين، حتّى تكون كلمتهم واحدة وتكون العلاقة بينهم متينة راسخة، كالبنيان يشد بعضه بعضاً. ثالثاً: المعاهدة مع اليهود: الخطوة الثالثة التي قام بها الرسول - صلى الله عليه وآله - هي المعاهدة مع يهود المدينة المنورة حيث كتب كتاباً في هذا الخصوص، جاء فيه: «إن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يهلك إلاّ نفسه وأهل بيته» وهذه المعاهدة مع اليهود تشير إلى اهتمام الرسول - صلى الله عليه وآله - بالابتعاد عن الخلافات والتشتت في مجتمع واحد، والى عنايته بالتعاون والتضامن فيما بين أفراد المجتمع بغض النظر عن عقيدتهم ودينهم. الغزوات واهتمام الرسول - صلى الله عليه وآله - بالوحدة كان الرسول - صلى الله عليه وآله - شديد الاهتمام بتعزيز الوحدة في الأُمة الإسلاميّة وتوحيد كلمة أفرادها في الحرب والسلم، ويجد كل من يمر بسيرة الرسول - صلى الله عليه وآله - العطرة أنّه كان حريصاً على ما يرسي وحدة الأُمة، ومبغضاً لما يفتر عرى الوحدة في حياته كلها؛ في الغزوات والحروب وفي السير والجلسات والاجتماعات؛ أذكر هنا بعض المواقع المهمة التي تجلى فيها حرصه البالغ على الوحدة والاتحاد. غزوة بدر الكبرى: في السنة الثانية من الهجرة خرج رسول الله - صلى الله عليه وآله - من المدينة المنورة، ومعه عدد من الأنصار والمهاجرين، وأرد عير قريش بقيادة أبي سفيان التي كانت تأتي من الشام، ولما دنا رسول الله - صلى الله عليه وآله - من بدر أتاه الخبر عن قريش أنهم خرجوا للدفاع (٥٥) عن عيرهم، فاستشار - صلى الله عليه وآله - الصحابة الذين كانوا معه، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال وأحسن، وسر الرسول - صلى الله عليه وآله - ما قاله المقداد، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وآله - أشيروا علي أيها الناس، وإنّما يريد الأنصار، قال سعد بن معاذ: والله لكانك تريدنا يا رسول الله قال: أجل، قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق…. فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسرَّ بنا على بركة الله، فسر رسول الله - صلى الله عليه وآله - بقول سعد، ثم قال: سيروا وابشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. وتدل هذه الاستشارة على أن النبي - صلى الله عليه وآله - بصفته قائداً لم يحسم القرار بنفسه، بل أخذ آراء الصحابة، ولم يقتنع بتأييد المهاجرين، بل انتظر تأييد الأنصار حتّى تكون لكمة المسلمين من المهاجرين والأنصار كلمة واحدة للدفاع عن الإسلام. غزوة أحد: بعد هزيمة المشركين في بدر أجمعت قريش على رحب المسلمين، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله - أنّه خرجت قريش بقيادة أبي سفيان بن حرب للهجوم على المدينة استشار الصحابة، ورأى الرسول - صلى الله عليه وآله - أن يقيم المسلمون بالمدينة، وإن داهمت قريش المدينة يقاتلوهم، ولكنه رأى أن معظم المسلمين يريدون الخروج من المدينة وقتالهم خارجها، فالتزم الرسول - صلى الله عليه وآله - رأي الصحابة احتراماً واهتماماً بوحدة الأُمة حتّى لا يحدث أي خلاف ونزاع في صفوف المسلمين. بنو قريظة: نكث بنو قريظة عهدهم مع الرسول - صلى الله عليه وآله - في غزوة الخندق، فلما انتهى أمر غزوة الخندق رجع الرسول - صلى الله عليه وآله - إلى المدينة، والمسلمون وضعوا السلاح فأتى جبريل رسول الله - صلى الله عليه وآله ـ، وقال: إن الله عزّوجلّ أمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة؛ فأمر رسول الله - صلى الله عليه وآله - مؤذنا فأذن في الناس: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلاّ (٥٦) ببني قريظة، فأدركتهم في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتّى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلى ولم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وآله - فلم يعنف أحداً، وهذا الحادث في إصابة الرسول - صلى الله عليه وآله - كل من الفريقين، أحدهما صلى العصر في الطريق، والآخر أخر العصر ولم يصلها في وقتها، بل صلاها بعد أن وصل بني قريظة يدل على اهتمام الرسول - صلى الله عليه وآله - البالغ بتعزيز وحدة المسلمين، حتّى لا ينشب الخلاف في صفوفهم لأتفه سبب. أموال هوازن وعطايا المؤلفة قلوبهم منها أعطى الرسول - صلى الله عليه وآله - من أموال هوازن المؤلفة قلوبهم، وكانوا أشرافاً من أشراف الناس يتألفهم ويتألف بهم قومهم، لما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وآله - ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء فوجد الأنصار في أنفسهم حتّى كثرت منهم القالة فدخل سعد بن عبادة على الرسول - صلى الله عليه وآله ـ، فقال يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، فأجمع الرسول - صلى الله عليه وآله - الأنصار وقال لهم يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم ووجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، الله ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، فبكى القوم حتّى اخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً. ولو لم يبال الرسول بهذا الموقف الخطر لأشعل الشيطان نار الحقد والبغض في قلوب الأنصار، وهذا الحقد يمزق وحدة صفوف المسلمين المتينة، فاهتم الرسول - صلى الله عليه وآله - بالموضوع باعتباره قائداً حكيماً وأجمع الأنصار وأزال الغضب وجميع أنواع الشكوك والريب من قلوبهم وحفظ وحدة الأُمة. (٥٧) معاملته مع المنافقين ومحاولته لحفظ الوحدة كان رسول الله - صلى الله عليه وآله - يعلم المنافقين بالوحي من الله تعالى، ولكنه لا يفضحهم ولا يقتلهم خوفاً من اضمحلال الوحدة الراسخة للامة الإسلاميّة حتّى تحدث البلبلة إن الرسول - صلى الله عليه وآله - يقتل أصحابه ويشعل الشيطان نيران الفتنة في صف المسلمين، فكان يصبر على إيذائهم إياه وتآمرهم ضده لصالح الوحدة بين الأُمة الإسلاميّة. حرص الرسول - صلى الله عليه وآله - على كل ما يعزز وحدة الأُمة الإسلاميّة بناءاً على حرصه البالغ على إيجاد الأُمة الإسلاميّة الواحدة وإرساء العلاقة المتينة، شرع الإسلام آداباً فاضلة وأخلاقاً سامية، وطبقها رسول الله - صلى الله عليه وآله - في حياته وحث المؤمنين على الالتزام بها، اذكر هنا بعض هذه الآداب الرفعية ولا أريد استقصاءها؛ إفشاء السلام والمصافحة وإطعام الطعام وعيادة المريض واتباع الجنائز ونصر الضعيف وعون المظلوم وحسن الظن بالآخرين والتفسح في المجالس والاستئذان وبشاشة الوجه عند اللقاء وما إلى ذلك، وهذه الخصال الحميدة والآداب الرفيعة تعزز أواصر الاخوة والمودة بين المسلمين، ومن ثم تلعب دوراً مهماً في إيجاد أمة واحد كالبنيان المرصوص، وتصبح هذه الأُمة كجسد واحد في الفكر والشعور والفرح والألم، واليه أشار الرسول - صلى الله عليه وآله - بقوله «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» وقال - صلى الله عليه وآله ـ: «مثل المؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضاً». وجاء تأكيد الآداب المذكورة شديداً في كثير من الأحاديث، أود أن أذكر بعضها: عن عبدالله بن سلام رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله - يقول: «ياأيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام»؛ رواه الترمذي. عن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله - بسبع؛ بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس ونصر الضعيف وعون المظلوم وإفشاء السلام»؛ (٥٨) متفق عليه. عن البراء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله ـ: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلاّ غفر لهما قبل أن يفترقا» رواه أبو داود. عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله ـ: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق»؛ رواه مسلم. عن ابن عمر رضى الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وآله ـ: «لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا»؛ متفق عليه. كراهية الرسول - صلى الله عليه وآله - كل ما يفتر وحدة الأُمة حرم الشرع كل ما يُفتر وحدة الأُمة الإسلاميّة ويضعف بنيانها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وآله - يكرهه كراهية شديدة، ورغّب عنه المسلمين وحذّرهم منه. حرّم الإسلام قطيعة الرحم وإيذاء الناس والبخل والشح والِكبَر والإعجاب وإفشاء سر الآخر والحسد والبغض وسوء الظن بالمسلمين واحتقارهم والغش والخداع والهجران والغيبة، وما إلى ذلك من الأوصاف الدنيئة التي تسبب انهيار بنيان الأُمة الإسلاميّة المرصوص، فجاءت أحاديث كثيرة في النهي عنها، أذكر هنا بعضاً منها: عن جبير ابن مطعم رضى الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال: «لا يدخل الجنة قاطع» يعني قاطع رحم؛ متفق عليه. عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم». عن عبدالله بن مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وآله ـ: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وآله - قال: «إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب». عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وآله - قال: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولاتدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال». (٥٩) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». هذا القليل من الكثير، اكتفي بذكره للإشارة إلى الموضوع. فقد ثبت من هذا العرض الموجز أن سيرة الرسول - صلى الله عليه وآله - العطرة من أولها إلى آخرها مصدر قوي لإيجاد الأُمة الإسلاميّة الواحدة، انطلاقاً من قول الله عزّوجلّ: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا…. ﴾ [١]، كان الرسول - صلى الله عليه وآله - دائماً يحث الأُمة على الجماعة ويحذرها من التفرق والخلافات؛ وأذكر هنا بعض الأحاديث الدالة على الجماعة والوحدة، قال - صلى الله عليه وآله ـ: «أنا آمركم بخمس؛ الله أمرني بهن؛ الجماعة والسمع الطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلاّ أن يراجع. قيل: وإن صلى وصام. قال: وإن صلى وصام ثلاث مرات وزعم أنّه مسلم». «من أراد أن يفرق أمر هذه الجماعة فاضربوه بالسيف كائناً من كان» رواه مسلم. «عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، عليكم بالجماعة فالشيطان مع الواحدة وهو من الاثنين أبعد»، فكان - صلى الله عليه وآله - شعاراً حياً للوحدة، وسيرته المباركة الطاهرة لعبت دوراً طليعياً في إنقاذ البشرية الضائعة من الهلاك والدمار، وإيجاد أمة واحدة على أساس متين قوي وهو الإسلام الذي هو أجلّ النعم وأعظمها على عباده، واليه أشار قوله تعالى: ﴿واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون﴾ [٢]. إن الإسلام يكره التفرق كراهة شديدة، فنهى المسلمين عن الفرقة والنزاع، قال تعالى ﴿ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم﴾ [٣]. ١ - آل عمران: ١٠٣. ٢ - آل عمران: ١٠٣. ٣ - آل عمران: ١٠٥. (٦٠) وقال تعالى ﴿وأطيعوا الله ورسوله ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ [١]. وختاماً لهذا البحث الموجز من خلال فهمي وإيماني بما اهتم إمامنا وقائدنا ورسولنا محمد - صلى الله عليه وآله - بالوحدة بين الأُمة الإسلاميّة أود أن أقدم بعض الاقتراحات للاعتبار بها: ١ - تحديد أعداء الإسلام والمسلمين وتوحيد صفوف المسلمين، بغض النظر عن المذاهب والاتجاهات ومدارس أفكارهم؛ فإن الأُمة الإسلاميّة جمعاء تمر الآن بأصعب مراحلها وأحرجها، وأعداء الإسلام مع وجود الخلافات والنزاعات فيما بينهم متحدون ضد الإسلام والمسلمين، فهم يحاولون ليل نهار القضاء على الإسلام وتقويض بناء الوحدة الإسلاميّة وتمزيق صفوف المسلمين ويصرفون لتحقيق غرضهم الخبيث هذا أموالاً طائلة، ويستخدمون وسائلهم الإعلامية بمختلف أنواعها وأشكالها، وكان يجب علينا أن نعرف أعداءنا ونكون على حذر منهم ونعد لهم ما استطعنا من قوة ونواجه مكائدهم ومؤامراتهم، ولكن مع الأسف الشديد نحن المسلمين نتنازع فيما بيننا، ونختلف في الأمور التافهة التي لا وزن لها؛ فتضيع قوتنا في مواجهة من يخالفنا من اخوتنا المسلمين، وأما عن أعدائنا الألداء فنحن غافلون. فمن أهم الواجبات علينا في العصر الذي نعيش فيه أن ننسى الخلافات والنزاعات فيما بيننا، ونجمع قواتنا ونوحد كلماتنا ضد أعدائنا الذين هدفهم الأُمة الإسلاميّة بأسرها، ليس مذهباً ما، بل كل من ينتمي إلى الإسلام بغض النظر عن مذهبه واتجاهه وبلاده. ولو لم نتخذ موقفاً موحداً ضدهم فسيكون مصيرنا بئس المصير ونعوذ بالله من ذلك. لابد أن نفهم أن الناس في العصر الحاضر منقسمون إلى صنفين هما: المؤمنون الذين يؤمنون بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وبالقرآن كتاباً، والكفار الذين يكفرون كل هذا وهم أعداء الإسلام والمسلمين وأولياء الشيطان ١ - الأنفال: ٤٦. (٦١) فيجب علينا باعتبارنا مسلمين أن نواجههم في صف واحد بنزع الخلاف والتفرق، قال تعالى ﴿الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً﴾ [١]. ٢ - تطورت في هذا العصر وسائل الإعلام المتنوعة من المقروءة والمسموعة والمرئية، ويستخدم أعداء الإسلام والمسلمين هذه الوسائل في محاربة الإسلام، ولهم سيطرة قوية على وسائل الأعلام الدولية فيبثون عن الإسلام والمسلمين ما يريدون وفي معظم الأحيان يهملون الأحداث التي تختص بمصالح المسلمين، فالمسلمون في الشرق لا يعلمون ماذا يحدث بالمسلمين في الغرب وبالعكس. فهم يشوهون الشريعة الإسلاميّة السمحة والشخصيات الإسلاميّة. ومن جانب آخر يبثون الأفلام الخليعة والبرامج اللاأخلاقية ويهدفون إلى هدم أخلاق الشباب الإسلامي ونشر الفحشاء في المجتمعات الإسلاميّة. ونظراً إلى خطر الإعلام وما يسيطر عليه أعداؤنا فلابد أن تمتلك الأُمة الإسلاميّة وسائل الإعلام القوية وتواجه مكائد الأعداء ومؤامراتهم الخبيثة، وتبث الأحداث التي تعنى بالإسلام والمسلمين، حتّى يعلم المسلم المقيم بأقصى الشرق ما يحدث بإخوانه في الغرب، وتبث برامج ترفع مستوى أخلاق الشباب الإسلامي. ٣ - لمواجهة الأعداء ولحفظ الأجيال الإسلاميّة تحتاج الأُمة إلى قادة أكفاء، فلابد من اتخاذ خطوة واقعية لبرنامج تدريب نخبة من الشباب من كل بلد إسلامي بغية جعلهم قادة مؤهلين. ٤ - لابد من بناء مركز إسلامي رفيع المستوى للدراسات والبحوث، ومكتبة دولية في كل بلد إسلامي، حيث يقوم الشباب المتفوقون بالبحث في مختلف الموضوعات الإسلاميّة المهمة ومن ثم تزداد مقدرتهم وموهبتهم، ويستطيعون أداء دورهم بكل كفاءة. ٥ - لابد أن يكون هناك مصرف إسلامي موحد للدول الإسلاميّة، ومع وجود ١ - النساء: ٧٦. (٦٢) البنك الإسلامي للتنمية لكنه غير فعال وهو دون مستوى الطموح، فلابد من وجود مصرف إسلامي موحد للعالم الإسلامي الذي يؤدي دوره ويقوم بأداء مسؤولياته بكامل الحرية دون أي قيود وضغوط من الخارج. ٦ - يمكن أن يكون هناك منبر عالمي للدول الإسلامية يسعى لتوحيد صفوف المسلمين وتقريب المذاهب الإسلاميّة، ويتم تعيين دعاة يدعون المسلمين إلى الوحدة وينهونهم عن التفرق والتمزق ويحذرونهم من الخلافات والنزاعات وينبهونهم على الأعداء بمختلف أنواعهم وأشكالهم. حفظنا الله من التفرق والتشتت، ورزقنا الوحدة والاعتصام بحبله، ووفقنا للعمل لتوحيد صفوف المسلمين، ومواجهة أعداءهم ومحاربة أولياء الشيطان في صف واحد كالبنيان المرصوص.
|
مقالات أخرى من هذا الموضوع |
• دور سيرة الرسول في إيجاد الشعور بالمسؤولية بين المسلمين
(بازدید: 500)
(نویسنده: الدكتور محمد طي)
• هوامش على سفر السيرة النبوية المطهرة
(بازدید: 590)
(نویسنده: عز الدين سليم)
|