الحضارة و الثقافة الإسلاميّة
|
رسالة التقريب - العدد ٥
حضارة
عبد العزيز الخياط
1415
في زحمة الصراع الحضاري العالمي تبرز كلّ أمة حضارتها، وتتمسك بها، وتعمل على نشرها وتثبيتها، وتتقدم بثقافتها المنبثقة عن حضارتها وإن كان لكل خصيصة متميزة لثقافته، تصطرع من أجلها، وتتزاحم بالمناكب في سبيل نشرها والمسلمون اليوم - وفي زحمة هذا الصراع الحضاري العالمي - لا ينشرون حضارتهم وثقافتهم إلاّ على استحياء، ولا يعملون على تثبيتها وبيانها إلاّ في المناسبات، وفي مؤتمرات قليلة تعقد هنا وهناك، وهو عمل تقوم به هيئات إسلامية أو أفراد، وقلما تشترك الحكومات، إلاّ في حدود ضيقة، أو حين تدعى من جهات غربية، ولا تتبنى في مؤتمراتها وسفاراتها بيان حضارة الإسلام ونشرها، ولعل مرجع ذلك إلى الخمول الذي أصابها، والتفرق على أساس العنصرية الضيقة أو الإقليمية المفرقة، والتعصب لهما على أساس التجزئة التي أصيب بها العالم الإسلامي، فاصبح ولاء كلّ دولة لقطرها، وانتماؤها لبلدها دون الانتماء للحضارة الإسلاميّة الواسعة وثقافتها. فالحضارة لغة: الإقامة في الحضر، قال القطامي: ومن تكن الحضارة أعجبته * * * * فأي رجال بادية ترانا وهي البداوة، وهي لغة كذلك: مرحلة من مراحل التطور الفعلي والانساني والاجتماعي ورقيها. وقد تعدد معناها في الاصطلاح: فهي بمعناها العام: ثمرة التفاعل بين الإنسان والكون والحياة، أي: ثمرة الجهود المبذولة من قبل الفكر الإنساني للاستفادة من الأجهزة الكونية المتناثرة حولنا [٢]. أو هي الجانب الآخر غير المادي في حياة الأمة، وهي العلم والتصورات والأفكار والسلوك والآداب، وكل المعاني التي تدخل في الجانب المادي. وقد عرفها بعضهم بأنها: نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والأمصار، ويضفي على حياة أصحابه فنوناً منتظمة من العيش، والعمل، والاجتماع، والعلم، والصناعة، وإدارة شؤون الحكم، وترتيب وسائل الراحة وأسباب الرفاهية [٣]. وهذا تعريف للحضارة وآثارها العامة، وليس تعريفاً دقيقاً يحدد معناها. ومن العلماء من عرفها بأنها: كلّ ما ينشئه الإنسان في كلّ ما يتصل بمختلف جوانب نشاطه ومعانيه، عقلاً وخلقاً، الفكري والمادي. أو باصطلاح آخر: الروحي والمادي. وبعض الباحثين يرى: أن الحضارة الحقة هي التي تطلب من الإنسان في مظاهر الحياة كافة أن يتذكر الله، ويتذكر فطرته هو بحيث يستطيع أداء دور خليفة الله، وهو الدور الذي وجد فيه على هذه الأرض [٤]. والمودودي يرى: أن الحضارة: مجموعة المبادئ والأفكار والأصول والتربية التي تثمر لوناً من ألوان الحياة الاجتماعية بمقوماتها المختلفة. وربما كان معناها العام أيضاً: طريقة الإنسان في الحياة، أو مجموعة أفكاره عنها، وأعني بالحياة: الأعمال اليومية التي يمارسها الإنسان في معيشته، ففكرته عنها ونظرته إليها يكيف سلوكه فيها ويحدد طريقة تصرفه في أعماله. يظهر من هذه التعريفات: أن معنى الحضارة قائم عند المفكرين، لكنهم يختلفون في سعة معناه أو في ضيقه. وبعبارة أخرى: هو غامض عند البعض غير محدد، فمنهم من جعله يشمل الأفكار والعقائد وما ينتج عنها من نتائج مادية. فالدكتور يوسف القرضاوي - مثلاً - يرى: أن الحضارة لها جسم وروح، وجسمها يتمثل في منجزاتها المادية: كالمخترعات والمصانع والطائرات والأسلحة والأبنية وغيرها، وروحها يتمثل في مجموعة العقائد والمفاهيم والقيم والآداب والتقاليد التي تتجسد في سلوك الأفراد والجماعات [٥]. وهو بهذا يتقارب في المفهوم مع "غوستاف لوبون" الذي يرى: أن الحضارة تشمل العقائد كما تشمل المنجزات العلمية والمادية، ولهذا نجده يعقد باباً ذا فصولٍ ثلاثةٍ يتحدث فيها عن مصادر قوة العرب من رسالة محمّد - صلى الله عليه وآله ـ، وفلسفة القرآن وأحكامه، وفتوح العرب وطبيعة هذه الفتوح ثم بعد ذلك يتحدث عن الدين والأخلاق، ويتناول حضارة العرب في شمولها للمعارف واللغة والفلسفة والآداب والتاريخ وعلوم الرياضيات والفلك والجغرافيا والطبيعيات والطب والفنون وغيرها [٦]. ويكاد يتفق معنا المستشرق الإنجليزي "أرنولد" الذي يرى: أن مفهوم الحضارة بمعناها المتخصص مقتصر على وجهة نظر الإنسان عن الحياة. وهذا هو الذي ينسجم مع تعريف الحضارة الإسلاميّة التي يمكن ملاحظتها بأنها: (مجموع الأفكار والمفاهيم الإسلاميّة عن الإنسان والحياة والكون)، وهي بهذا تحدد سلوك الإنسان وطريقته في الحياة، ونمط معيشته وتعامله مع الكائنات المحيطة به. ولا تشمل بهذا التحديد ما نتج عنها من أشكال مادية، فهي ثمرة الحضارة إذا كانت غير متعارضة معها فتصوير الأشياء الجامدة وتجسيدها منسجم مع نظرة الإسلام في إباحة رسمها وتصويرها، أما تجسيد الأشياء الحية كالإنسان في تماثيل وأصنام فلا يجيزه الإسلام؛ لأن حضارته قائمة على تحريم التصوير بهذا المعنى. وهذا يجرنا إلى أن نبين أن الأشكال المادية هي المدنية، وهي تنتج عن الحضارة أو العلم، فبناء البيوت والقصور شكل من أشكال المدنية الناتجة عن الحضارة، من حيث إنها مع مفهوم أي حضارة، وهو في الحضارة الإسلاميّة لا يتخذ فيه زخرفة الصليب، أو يوضع فيه مكان لشرب الخمر (بار) مثلاً، وقد راعى المسلمون في حضارتهم الإسلاميّة أن توجه البيوت نحو الكعبة التي هي قبلة المسلمين، بينما نجد أن صنع المنتجات الطبية والأثات والسيارات والطائرات والآلآت وبناء المصانع للنسيج واستخراج المعادن وغيرها أشكال مدنية ناتجة عن العلم. والتبرج - مثلاً - محرم في الإسلام، فكل شكل مدني من الملابس يظهر فيه التبرج لا يجوز شرعاً، والسينما والتلفاز شكل مدني ناشئ عن العلم، لكن مضمون الفلم الذي يعرض شكل مدني ناشئ عن حضارة فإذا تناقض مع حضارة الإسلام كالأفلام العارية فلا يجوز شرعاً. والحضارة خاصة، والعلم عام، وقد كان العلم يطلق على كلّ معرفة أياً كان نوعها ولونها، ثم أصبح يفيد المعرفة التي تستفاد من الملاحظة والتجربة والاستنباط: كعلم الهندسة والطب والكيمياء، وهو التحديد الدقيق لكلمة العلم، لكنها قد تطلق على المعارف الشرعية والتاريخ والآداب والفسلفة، وغيرها من باب التجوز والتوسع في معناها. معنى الثقافة: وإذا عرفنا معنى الحضارة فلا بد من تحديد معنى الثقافة والثقافة الإسلاميّة. فالثقافة من لفظة (ثقف) بمعنى: حذق وقوم، وهي بمعناها العام: مجرد المعرفة، أي: معرفة الآداب والفلسفة والتاريخ والفنون والمعارف النظرية، وهي بمعناها الخاص: النتائج التي تستخلص من مجموعة الآداب والفلسفة والتاريخ والمعارف النظرية من وجهة نظر خاصة عن الحياة. ويقول تايلو: (إنّ الثقافة: هي الكل المركب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات). والثقافة الإسلاميّة: هي الثقافة التي بنيت على العقيدة الإسلاميّة، أو كانت أثراً من آثارها أو اكتسبت صبغتها بموجبها. والفرق يبين العلم والثقافة: أن العلم عام لكل أمة، فهو ليس حكراً على أمة من الأمم، أو مختصاً بأناس دون أناس، فهو للناس كافة، تأخذه أمة عن أمة فالاختراعات العلمية والاكتشافات في الصناعة والأسلحة، والأبحاث العلمية تنقل من بلد إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، فإذا أخضع هذا العلم لوجهة نظر معينة أو لمصلحة أمة أو دولة أصبح ثقافة خاصة لتلك الدولة أو الأمة، لكن الثقافة تبقى خاصة، فلكل أمة أو شعب ثقافته التي يعتزّ بها؛ لأنها متصلة بوجهة نظره في الحياة، ولهذا نرى: أن الجامعات تفتح أبوابها لدراسة العلوم لكل الناس، لكنها تحاول أن تعطيهم ثقافتها الخاصة، فللمسلم ثقافته الإسلاميّة، وللإنجليزي ثقافته، ومثلهما الفرنسي والألماني والروسي وغيرهم، ومن هنا نجد حرص الدول المختلفة على نشر ثقافتها وفتح المعاهد والمراكز الخاصة بها. وعلى هذا، فالثقافة الإسلاميّة ثقافة خاصة، متميزة المعالم والاتجاهات، فهي المعرفة التي تتضمن العقيدة الإسلاميّة مثل: علم التوحيد، والمبنية على العقيدة مثل: الفقه والتفسير وعلم الحديث والسيرة وأصول الفقه، والمعرفة التي يوجبها الاجتهاد في الإسلام مثل: علوم اللغة العربية. وقد أحدث عدم التفريق بين العلم والثقافة والحضارة بلبلة في عقول المسلمين، إذ تعددت ثقافاتهم كلّ بحسب ما تلقى في البلدان غير الإسلاميّة. وكما أدى التباس فهم العلم والثقافة لدى المسلمين اليوم - فلم يعرفوا ما يأخذون وما يدعون - أدى عدم فهمهم للحضارة والمدنية الناشئة عنها. أو المدنية الناشئة عن العلم والصناعة إلى اضطراب حياتهم، وفوضى مسالكهم إذا انطلقوا في تقليد الغرب وحضارته والاقتباس عنه دون تفريق بين غث ما عنده وسمينه، وبين ما يؤثمهم أو يؤجرهم؛ لأن الحضارة هي مجموع مفاهيم الإنسان عن الحياة، وهي التي تعين طريقته في الحياة؛ ولأن المدنية هي الأشكال المادية المحسوسة التي تستعمل في شؤون الحياة. والحضارة والثقافة لا تكونان إلاّ خاصتين، والمدنية تكون خاصة وعامة، خاصة إذا كانت ناتجة عن حضارة، وعامة إذا كانت ناتجة عن علم وصناعة؛ لأن العلم والصناعة عالميان. وبحسب رقي الحضارة تكون المدنية الناتجة عنها راقية، وبحسب رقي العلم والصناعة تكون المدنية الناتجة عنهما راقية. أما إذا انحطت الحضارة وضعف العلم كانت المدنية الناتجة عنهما متأخرة. والمدنية الناجمة عن العلم والصناعة تؤخذ من الغرب اليوم كما أخذها الغرب عن المسلمين فيما مضى، وكما أخذها المسلمون عمن سبقهم من الشعوب حين اتصلوا بهم، ونقلوا عنهم أشكال أبنيتهم وملابسهم وأوانيهم وغيرها، مما ليس فيه شارة الكفر وعلامات دياناتهم، ومما لا يتناقض مع عقيدة الإسلام ومفاهيمه عن الحياة، وأخضعوها لوجهة نظرهم في الحياة. ذكر: أن خالد بن إبراهيم أحد قواد المسلمين غزا أهل "كثر" من بلاد الصين وأخذ منهم الأواني الصينية المنقوشة ما لم ير مثلها، ومن السروج ومتاع الصين شيئاً كثيراً، فحمل المغنم إلى أبي مسلم الخراساني وهو بسمرقند. كما أخذ المسلمون صناعة الورق من الصين، وزادوا عليها وعمموها حتّى انتشرت مصانع الورق في رقعة العالم الإسلامي: في "بورة" قرب دمياط، وسمرقند وبغداد والأندلس ودمشق وطرابلس وحماه وغيرها، وكان منه أنواع: الفرعوني، والسليماني والجعفري والطلحي والطاهري، وعن المسلمين انتقلت صناعة الورق إلى أوروبا عن طريق إسبانيا والرومانيين والصليبيين، واستقرت في ألمانيا. وذكر البلاذري في كتابه "فتوح البلدان": (أن القراطيس كانت تدخل بلاد الروم من أرض مصر، وتدخل الدنانير إلى بلاد العرب، وكانت الأقباط تذكر المسيح في رؤوس الطوامير وتضع الصليب، فأمر عبد الملك بن مروان - (الخليفة الأموي) - أن يكتب في رؤوس الطوامير "قل هو الله أحد" بدل المسيح، فكتب إليه ملك الروم في ذلك وهدده، وطلب إليه أن لا يوضع في الدنانير تعريف للنبي محمّد - صلى الله عليه وآله ـ، فكان من أثر ذلك ضرب عبد الملك للنقود. والحضارة الإسلاميّة تختلف عن الحضارة الغربية اختلافاً بيناً، فالحضارة الغربية تقوم على ما يلي: ١ - النزعة المادية التي تؤمن بالمادة وحدها، وتفسر بها الكون والإنسان والحياة، وتنكر الغيبيات، ولا تؤمن إلاّ بالمحسوس المنظور. ٢ - فصل الدين عن الحياة، أي: أن الإيمان بالله والغيبيات شيء لا علاقة له بالممارسات العملية اليومية للإنسان. والعلاقات إنّما تقوم على أساس الفصل. والذين يفصلون الدين يؤمنون بالتثليث والأقانيم الثلاثة ويتمسحون بالصليب، وولادة الإله وغيرها، فالدين في الحضارة الغربية عاطفة تظهر عندما تثار، وصلة بين الإنسان وربه تظهر في الصلاة والمعبد، ولذلك يقول "جون جنذر" الصحفي الأمريكي في كتابه "داخل أوروباً" حين صور حياة الإنجليز: (إنّ الإنجليز إنّما يعبدون بنك إنجلترا ستة أيام في الأسبوع، ويتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة). فالإيمان عندهم مهزوز؛ لأن الفكرة عن الألوهية تحيط بها الأوهام والخرافات، ويظهر هذا جلياً في تصورات الكتاب والمفكرين ورجال الدين الغربيين لله عز وجل. ٣ - النزعة العلمانية تابعة للنزعة المادية، ومنبثقة عنها؛ لأن نتيجة الإيمان بالمادة: إنكار لوجود الله، أو تحييد للذات الإلهية عن التشريع لحياة الإنسان وممارساته العلمية، وبالتالي يرضخ ذلك الإنسان إلى فصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن العلم، وفصل الدين عن الحكم فصلاً تاماً، والبحث العقلي التجريبي في مظاهر الكون. وظهرت نتيجة لذلك كلمة "العلمانية"، وتعني: إقامة الحياة على غير الدين [٧]. وتشعبث العلمانية إلى شعبتين: شعبة متطرفة تضاد الدين كلياً، وشعبة معتدلة لا تعادي الدين، وإنّما تتركه للإنسان في اعتقاده وعبادته، دون التدخل في شؤون الحياة، وأصبحت هذه العلمانية بشعبتيها من أسس الحضارة الغربية. ٤ - الصراع: وهو صراع البقاء، صراع الشعوب، صراع الإنسان مع الإنسان، وصراع الإنسان مع الطبيعة، ومن هنا كانت الحروب الدموية بين شعوب أوروبا من جهة، وصراع الاستعمار مع شعوب العالم وأممه [٨]. ٥ - النزعة التحررية: وتعني: إعفاء الإنسان العادي من قيود الشعائر والطقوس الدينية، أي: التحلل من الالتزام بالتعاليم الدينية، وتصوير الملتزمين بها بـ"الرجعيين"، وسبب التحررية في الغربية هو: أنها طرحت الدين جانباً، ولما ظهرت الاكتشافات الحديثة والأشكال الاقتصادية الجديدة وسيطرت التكنولوجيا أخذت الحرية معناها الواسع في الانطلاق في الحياة من غير قيود، فكانت التحررية، ولا سيما في الحرية الشخصية، وانتشرت الملذات والشهوات من غير قيدٍ ولا رقيب. ٦ - الديمقراطية: وتعني: السيادة للشعوب، أي أنها المصدر الحقيقي للتشريع والسلطة معاً، وإرادة الشعب هي إرادة الله الذي تركته الحضارة الغربية، وهو القوة. ونحن لا ننكر ما للحضارة الغربية من إيجابيات في التقدم العلمي في مختلف الميادين، وتسيير الحياة وتسهيلها بالمخترعات والمكتشفات التي أعانت الإنسان على الحياة الرخية، غير أنها انحطت بإنسانية الإنسان، ونشرت القلق والنزاع والصراع وأفقدته معاني القيم المثلى والطمأنينة والروحانية، وأدارت حياته على المنفعة والمصلحة، وجعلت ثقافته ثقافة خالية من عنصر الأمن والسمو الخلقي والفكري، وأدت بالأسرة إلى الانهيار، وبالجنس إلى الدمار، ودفعت الشباب إلى نيل الشهوات، وتعاطي المخدرات، واكتساب الأمراض والعاهات. إنّ من سلبيات الحضارة الغربية المادية: أن جعلت العالم مرتعاً للاستغلال: ألم تناد فرنسا بالحرية والإخاء والمساواة في الوقت الذي كانت القوات الفرنسية تسحق الشعوب في أفريقيا وجنوب آسيا؟ ! ألم تناد أمريكا بالسلام وهي تسحق الشعب الصومالي باسم الإغاثة، وتؤيد الصهيونية في القضاء على الشعب الفلسطيني، وتسكت عن جرائم الصرب والكروات والهنود في البوسنة والهرسك وكشمير؟ ! بل إنّ الحضارة الغربية المادية تعمل على طمس الحضارة الإسلاميّة والثقافة الإسلاميّة في العالم الإسلامي والعربي، وتقمع الإسلاميين، في الوقت الذي تنادي فيه بالتعددية والديمقراطية. ألم تجعل العالم على فوهة بركان متوتر الأعصاب، مقلق النفسية، مرتكزاً على كبسولة القنبلة الذرية وواضعاً يده على مفتاح الصواريخ؟ ! بل أدت الحضارة الغربية إلى أحادية الدولة القادرة في النظام العالمي الجديد. أسس الحضارة الإسلاميّة: إنّ أسس الحضارة الإسلاميّة هي التعاليم الإسلاميّة القائمة على ما يلي: ١ - توحيد الله، وهو الإيمان بأن الله هو الإله الواحد المتصرف في الكون والخلق، وهو الفرد الصمد الكامل القادر الخالق لكل الموجودات (لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة [٩] (هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً [١٠]. ٢ - الإيمان بالمغيبات كلها: الملائكة، والرسل، والأنبياء، والكتب السماوية، والجنة والنار، والقضاء والقدر…. ٣ - الإيمان بالعبادات والقيام بأدائها: من الصلاة وما يتعلق بها، والزكاة والصيام والحج والذبائح والمأكل والمشرب والملبس، والحلال والحرام في سلوك الإنسان وأخلاقه. وكل عمل يقوم به المسلم يبتغي به وجه الله فهو عبادة. ٤ - التشريع المتعلق بشؤون الحياة كلها: من المعاملات والأسرة والميراث والجهاد وأمثالها. ٥ - عالمية الإسلام (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين ( [١١] (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [١٢]. ٦ - التعقل ورفض ما يخالف الحقيقة، ورفض الأوهام والخرافات. ٧ - السعة واليسر، ورفع الحرج سعة الفكر واليسر في الأحكام، ورفع الحرج عن الناس في التزمت والتعصب (ما جعل عليكم في الدين من حرج [١٣]. ٨ - التناسق - لا الصراع - بين عناصر الكون بعضها مع بعض، وبينها وبين الإنسان. وهي الحضارة التي توافق الفطرة، وتسمو بالإنسان، وترقى بفكره، وتحترم عقله، وتهذب سلوكه، وتنهض بمجتمعه، وترشد مسيرته، وتقود العالم إلى الخير والمحبة والسلام، والى التكامل بين العلم والإيمان، وتسخير الكون مع الإبداع والاختراع في ظل العقيدة الإسلاميّة. وهي الحضارة التي فهمت المرأة والرجل والعلاقة السوية بينهما، وهي التي تؤمن للناس حقوقهم وكرامتهم وحريتهم وأخوتهم ومودتهم، وتوجب سيادة الشرع والحق والعدل، وتوجد العادات والأعراف الطيبة للأمة كلها، مع الحفاظ على خصوصية كلّ شعب وكل قوم في أي بقعة من البقاع التي تسودها حضارة الإسلام. فحضارة الإسلام: هي الحضارة التي تتحكم بالأسلحة المدمرة، وتسيطر على التكنولوجيا (التقنية) وتوجه استعمالها لخير البشرية، وهي التي تمنع الإسراف، والمجون، والإنفاق على الملذات غير المشروعة. وهي التي توفر الراحة البدنية والنفسية والسعادة المادية والمعنوية للإنسان أيا كان في ظلالها، مسلماً أو غير مسلم. الاختلاف بين الحضارتين: والاختلاف البين بين أسس الحضارتين: الإسلاميّة والغربية واضح في رقي العالم الإسلامي يوم تمسك بحضارته، وانحدار الحضارة الغربية المعاصرة التي تمجد المادة، واللذة والجنس، وتسلب الإنسان إنسانيته، وتمرغه في الوحل، بل تسحق إنسانيته حين يعبد المادة، ويحيا في الفجور، ويرتفع في مجتمعه أصحاب الرذيلة، ويكثر فيه الفقر والبطالة والطغيان، والسيطرة على الشعوب الضعيفة واستغلال خيراتها، وسلب حرياتها وأموالها وبترولها وذهبها، وإغراقها بأدوات الترف والرفاهية؛ لاستعبادها بالديون من صندوق النقد الدولي، والمصارف التي تسيطر عليها اليهود الّذين تحكموا من خلال هذه الحضارة الغربية المادية بمقدرات العالم، وأقاموا كيانهم الصهيوني في قلب العالم الإسلاميّ، وسخروا دول الغرب - ولا سيما أمريكا - لمصالحهم ومآربهم وسيطرتهم. أهذه حضارة ترقى بالإنسان، أم تجعله عبد المطعم والمشرب، والخداع والغش واللهو والظلم والتحرر والانطلاق في الشهوات؟ أهذه حضارة وهي التي تنحط بغرائز الإنسان، فيصبح كالحيوان في المراقص والشواطئ والأندية والخمرة والميسر - (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام [١٤]. (أفحسبتم إنّما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلاّ هو رب العرش الكريم ( [١٥]. ولا هم للإنسان فيها إلاّ التفاخر بالأسلحة الفتاكة، والتنافس في البنيان والقصور (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين [١٦]. قال - صلى الله عليه وآله ـ: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة [١٧].؟ إنّ ما يدعو إليه الإسلام هو: الحضارة الخيرة، والثقافة الموجهة، والمدنية المسعدة، والعلم المؤدي إلى رقي الإنسان وراحته وطمأنينته. التصور المستقبلي للحضارة والثقافة الإسلاميتين: يقف المسلمون اليوم أمام حضارة غربية طاغية بتقدمها المدني، أي: بأشكالها المادية وقوتها العسكرية، وسيطرتها المالية، لكنها - كما أسلفنا - حضارة تحمل في طياتها عوامل انهيارها؛ لأنها تشقي الإنسان ولا تسعده، وتضعه في حمأة الفساد والانحطاط في صورة من البهرجة المادية الزائفة. فواجبنا: أن ندرك خطورة الاندفاع وراء الحضارة الغربية الحديثة وثقافتها، وأن نفهمها بعمق وتفهم، ولا نقف جامدين أمامها، بل نتعامل معها من خلال حضارتنا، فنأخذ منها ما ينفعنا من العلم والمخترعات، ونتعلم لغات الغرب، ونفهم عقلياتهم وتصوراتهم عن الحياة، ثم نحكم حضارتنا وثقافتنا وتعاليم ديننا فيما نأخذ. وعلينا: أن نجهر - في قوة ووضوح - بسمو حضارتنا، وأنها هي المنقذة لما يتخبط فيه العالم، وأن نواجه التحديات الكبيرة، والمؤامرات المستمرة على حضارتنا وثقافتنا…، وقبل هذا وذاك: أن نفهم حضارتنا وثقافتنا، أي: نفهم ديننا وتعاليمه الحقة، وندرك سمو الإسلام وسمو تعاليمه وتشريعاته وأحكامه، وأن ننبذ الفرقة فيما بيننا، وأن نلتقي على مفاهيم الخير وإيجابيات الوفاق، وأن لا تؤثر فينا اختلافات الرأي والأحكام ما دمنا نلتقي على الأسس السليمة لحضارتنا وثقافتنا، وأن نتعاون بالمحبة والمودة في مجالات الأبحاث والعلوم ونشر الثقافة والحضارة، وأن نعمل على إنشاء الجيل المؤمن بربه ودينه وحضارته وثقافته. وأمامنا مشوار طويل في جهادنا بالكلمة الصادقة الواضحة البينة، حتّى يتبين للعالم الحق من الباطل، والسيء من الحسن وحتى يعود ضعيف الإيمان ليوطد صلته بالله الخالق. فنحن ما زلنا في صلابة الإيمان، مستعدين للتضحية والصبر والفهم والوحدة والتجمع، لا تخيفنا قوة المواجهة، ولا تحبطنا عوامل الضعف، ولا تبهرنا تقنيات الغرب. وما زالت ثقافتنا بأصالتها، وحضارتنا بشمولها وقوتها هي الأقوى في ميزان الحجة والعرض والموازنة، ونحن نرى انهيار المجتمعات الغربية وتفسخها وتآكلها في داخلها، على الرغم من القشرة الصلبة التي تغلفها قوة السياسية والتقدم العلمي… إنّ من واجبنا: أن نتعامل مع العلم والكون، وأن ندفع أبناءنا إلى العمل في بلادنا، وأن نحول دون هجرة الكفاءات العلمية والثقافية إلى الغرب. وأن نعمل على بناء ذاتنا في داخلنا، فأي محاولة لنشر حضارتنا وثقافتنا في العالم لا يمكن أن تؤتي ثمراتها مالم يكن العالم الإسلامي - حكومات وشعوباً - علماء ومفكرين، عاملين في داخلنا أوّلاً…. ومن هنا، إذ نبارك الخطوات الطيبة التي تقوم بها بعض الحكومات الإسلاميّة، وفي طليعتها الجمهورية الإسلاميّة في إيران، لتقوية الإيمان والتمسك بالحضارة الإسلاميّة، والثقافة الإسلاميّة وبناء الذات. ويسرنا أن نقترح على هذا المؤتمر ما يلي: أوّلاً: إيجاد هيئة دائمة لهذا المؤتمر، تستمر في نشر الحضارة والثقافة الإسلاميتين، وتزوده بالمال والكوادر اللازمة. وتتكون هذه الهيئة من شخصيات إسلامية من داخل إيران ومن العالم الإسلامي، تتابع تحقيق توصيات المؤتمر. ثانياً: الاتصال المستمر مع الهيئات والمراكز الإسلاميّة للتنسيق فيما بينها والتعاون المستمر. ثالثاً: تقوم هذه الهيئة بالاتصال بالحكومات في العالم الإسلامي؛ للعمل معها على نشر الحضارة والثقافة الإسلاميتين. رابعاً: وضع برنامج عملي محدد لعمل هذه الهيئة. وأخيراً: فنحن نؤمن بالمستقبل لحضارة الإسلام وثقافته أن تسود، ونؤمن بأن الأمة الإسلاميّة ستستعيد صدارة القيادة للعالم، وصدق الله تعالى: (إنّا نحن نزلنا الذكر و إنّا له لحافظون [١٨] (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبين لهم أنّه الحق أو لم يكف بربك أنّه على كلّ شيء شهيد [١٩]. ١ - بحث ألقي في ندوة الحضارة والثقافة الإسلامية التي عقدت في طهران في الأول من شهر شعبان (١٤١٤ هـ). (*) أستاذ في الفقه والأصول - الاردن. ٢ - الدكتور محمّد سعيد رمضان البوطي في "منهج الحضارة الإسلامية في القرآن": ١٩. ٣ - عبد الرحمان بن خلدون في المقدمة: ٢٢، وهو تعريف عام مستخلص من شرحه للحضارة. ٤ - الدكتور محمّد حسين في "الإسلام والحضارة العربية" ٤. ٥ - الدكتور سيد حسين نصر في بحث "تأملات حول الإنسان ومستقبل الحضارة": ٣٠. ٦ - كتاب حضارة العرب لغوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، طبع دار إحياء الكتب العربية سنة (١٩٥٤م). ٧ - سفر بن عبد الرحمان الحوالي في كتاب "العلمانية": ٢٤. ٨ - الدكتور يوسف القرضاوي في بحث "الإسلام حضارة الغد". ٩ - الحشر: ٢٢. ١٠ - الكهف: ٣٨. ١١ - الأنبياء: ١٠٧. ١٢ - التوبة: ٣٣. ١٣ - الحج: ٧٨. ١٤ - محمّد - صلى الله عليه وآله ـ: ١٢. ١٥ - المؤمنون: ١١٥. ١٦ - الشعراء: ١٣٠. ١٧ - سنن ابن ماجة: ٤١٣٥. ١٨ - الحجر: ٩. ١٩ - فصلت: ٥٣.
|
مقالات أخرى من هذا الكاتب |
• أسس الحوار الاسلامي - الاسلامي
(بازدید: 1350)
(موضوع: الوحدة الإسلامية)
• حقوق الإنسان في الإسلام و الإعلان العالمي
(بازدید: 1811)
(موضوع: فقه)
• وحدة الأمة و الدولة في الإسلام
(بازدید: 569)
(موضوع: الوحدة الإسلامية)
|